الصفحة الرئيسية » مقالات » أفينة العقل

أفينة العقل

أفَينَة العقل 1
حمد السنان

اشتُهرت مقولة لينين”الدين أفيون الشعوب”،وطارت بها شعوب الأرض من أقصاها إلى أقصاها لتصبح رمزاً لرفض سلطان الفرد.
ولقد قال لينين مقولته لما رأى أن كل محاولة إصلاح ينجح قيصر روسيا في إفشالها يكون لرجال الدين نصيب من هذا النجاح لترجع شعوب إمبراطوريته إلى غطيطها وخدرها.
ولاشك أن في كل دين ما يصلح للتخدير إذا ما”أحسن”رجال البلاط استعماله،فمفردات”الفتنة والخوارج ووجوب طاعة ولي الأمر”ذات مقصد ومعنىً واحد وإن تعددت الأديان وألسنتها،فهي “كبسولة واحدة لشركات مختلفة”.
ولاشك أن رجال ديننا وجدوا فيه ما لم يجده هؤلاء في توراتهم ولا إنجيلهم .
فعندنا من الكتاب أدلة ومن السنة أدلة ومما اختلف فيه من الأدلة أدلة ثم بعض النصائح أثناء”الاستعمال”،ما يمنع”الأعراض الجانبية”،كالصبر على البلاء،واحتساب الأجر،وغير ذلك من المهدئات.
ثم لم ينس البلاط أن يستعين بالأكابر لترويج الحاجة الماسة لمثل هذه الكبسولة.
وليس ذلك بمستغرب لأن من كان ضمن حاشية البلاط،أو كان ضمن وظائف الحاشية سيكون بيانه للدين، ما تقرره اللوائح الداخلية وما يتماشى مع “روح البلاط”لكن الغرابة فيمن يسلم عقله لهؤلاء يعبثون كيفما شاءوا بناصيته!!
إن ترويج الأكابر لبعض الآيات والأحاديث على إطلاقها،وحصر المسلم بين طاعة السلطان أو الفتنة لهو تفويض إلهي للسلطان باستذلال الإسلام،واسترذال المسلم.
إن من أعجب ما قرأت مما يروج له دعاة التفويض الإلهي هذا الحديث الذي رواه مسلم عن حذيفة :
يكون بعدي أئمة لا يهتدون بهداي، ولا يستنون بسنتي، وسيقوم فيهم رجال قلوبهم قلوب الشياطين في جثمان إنس
قال : قلت : كيف أصنع يا رسول الله – أن أدركت ذلك ؟
قال : (( تسمع وتطيع للأمير وإن ضرب ظهرك وأخذ مالك فاسمع وأطع . ))
لا أعلم أي دين بل أي مروءة، بل أي عقل يقبل بهذا الحديث على إطلاقه؟!
وأي ذلة سيبلغها هذا المسلم حين يتخلى عن حريته وملكه،بل ويلغي عقله لمجرد أمر من السلطان؟!!
ماذا لو أمر السلطان بأن يتخلى له الرجل عن زوجته؟!
سيقولون ما لم يأمر بمعصية…جميل.
وماهي ضوابط هذه المعصية التي تلغي هذا التفويض الإلهي الذي الأصل فيه الطاعة،والعقل فيه مُلغى،وباب التأويل مُشرع؟!
إن دعاة الطاعة سيتأولون لك من”الطاعة أو المعصية”ما يحصرونك بينه وبين الفتنة لتسمع وتطيع،فلو جار السلطان فأطعت وصبرت فلك الأجر،وإلا فلك الفتنة إن رفضت.
بهذه الاستغفالية في التأصيل لهذا التفويض اللا مشروط لولي الأمر،ستتعطل،وببساطة تعادل هذا الاستغفال أو تفوقه،رقابة الأمة على الحاكم في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر،لأن المعروف سيكون ما عرّفه السلطان،والمنكر سيكون ما أنكره،وبمعنىً يناسب هذا المعنى”إني أعلم مالا تعلمون”.
إن من أهم أعمال الأمة اليوم،إرجاع هذا التفويض إلى شروطه التي فُرّغَ منها،لتُنزع منه إلهيته ويعود تفويضاً مسؤولاً.
لكنًّ دوننا وذلك تفويض آخر قام عليه هذا التفويض،وهو تفويض من دعى لهذا التفويض،و هو أساس المصاب..وخشية الإطالة أرجئ الكلام إلى مقال آخر.

أُفينة العقل 2
حمد السنان
ذكرت في ختام مقالي السابق “أفينة العقول” أن من أهم أعمال الأمة اليوم إرجاع ما اكتسبه الحاكم من تفويض غير مشروط إلى التفويض المسؤول، وإن دونها وذلك تفويضاً لا يقل خطورة عن هذا التفويض، بل هو الذي آزره ليستغلظ إلهياً غير منقوض.
إن هذا التفويض بالتفويض جاء نتيجةً لثقافة الألقاب، أعني ثقافة التلقي بسماع القائل لا بسماع المقول، أعني لولا هذا القائل لما سمع القول، ولولا هذا المؤلف لما قرأ أو اقتنى هذا الكتاب، أعني استضعاف العقل واستعباده باللقب.
إن فخامة لقب القائل تضفي على القول ما لا يضفيه قائله دونه، فإنك حينما تسمع حدثنا فلان، غير ما تسمع، حدثنا أمير المؤمنين في الحديث، خاتمة الحفاظ، بقية السلف، الإمام فلان، بغض النظر عن صدق اللقب وعدمه من وجوده، وكذا لا يستوي من يسمع الفتوى بـ”هذا لا يجوز” ومن يسمعها بـ”هذا بدعة وليس من الإسلام في شئ”.
إن الأولى تعطي للقول المخالف احتمالاً بالقبول، وأما الثانية فتنسفه نسفاً، وبالأخص حينما تكون صادرةً عن”علّامة”، فحينها سيكون منطوقه دليلاً، وفتواه قاعدة لا تتخلف.
إنني حينما أتناول قضيةً مثل طاعة ولي الأمر وضوابطها في مجلسي وأنازع بما أعلم منها وما يعلمه مثلي من”الخوارج”، كثيراً ما أسأل: لم لا نسمع من هذا الذي نسمع؟!
وإن في هذا السؤال تساؤلاً: هل يخفَى على أصحاب الألقاب ما أعلمه؟!
إنني أعجب لبعض”العلّامات” لمن يستدل لطاعة ولي الأمر بحديث: ((تسمع وتطيع للأمير وإن ضرب ظهرك وأخذ مالك فاسمع وأطع )) وإعمال هذا الحديث على إطلاقه، كيف يغيب عنه حديث: ((سيد الشهداء حمزة، ورجل قام إلى إمام جائر فأمره ونهاه فقتله))؟!!.
وكيف لم يصل إلى علمه وهو العلامة من سيرة أبي حنيفة لم سجن
ومالك لم ضرب، وغيرهم ممن خالف السلطان ممن لا يحصيهم العد؟!!.
إنني سأذكر مضطراً “مكافحةً للأَفْيَنَة” ما لا سأخشى بسببه الإطالة من بعض أخبار علماء السلف، ما يضرب عن ذكره صفحاً علماء البلاط.
قال الإمام الذهبي:
1-قد كان عبد الله بن علي ملكاً جبارا، سفاكاً للدماء، صعب المراس، ومع هذا فالإمام الأوزاعي يصدعه بِمُرِّ الحق كما ترى، لا كخلق من علماء السوء، الذين يحسنون للأمراء ما يقتحمون به من الظلم والعسف، ويقلبون لهم الباطل حقا – قاتلهم الله – أو يسكتون مع القدرة على بيان الحق.
سير أعلام النبلاء (7/ 125).
2-الترمذي من حديث أبي بكر الصديق رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ” إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه أوشك أن يعمهم الله بعقاب من عنده “.
تفسير القرطبي (9/ 114)
3-وكان مالك يقول: ضربت فيما ضرب فيه بن المسيب ومحمد بن المنكدر وربيعة ولا خير فيمن لا يؤذى في هذا الأمر.
(تاريخ الذهبي 9/331)
يعني مخالفتهم للسلطان الجائر.
لقد اعتمدت هذه الأفينة أو التخدير على صرف المتلقي عن القول الآخر ليستلب منه هؤلاء تفويضاً بتفويض السلطان.
إن سحب التفويض من مُفَوّضة السلطان يكون بتحرير هذه العقول المستعبدة بفخامة ألقاب هؤلاء بالعمل على إظهار القول المخالف، واختراق هذه القدسية، وإنزال صاحبها من سدة الحكم على غيره، إلى مكانه بينهم، وأقواله بين أقوالهم.

لاشك إن ما ذكرت ليس بالأمر الهين، وبالأخص أن شريحة هذه الثقافة، أعني ثقافة عبيد اللقب، يغلب على كثير من أصحابها التغفيل والافتتان، لكن ما نراه اليوم من تساقطٍ لرموز هذه الثقافة بعد حوادث الربيع العربي، كفيل بالتمهيد لانقلاب عليها، وتحرير أصحابها من عبودية ألقابها.

http://www.sabr.cc/inner.aspx?id=70174