الصفحة الرئيسية » مقالات » الحوار الغائب

الحوار الغائب

الحوار الغائب

الحمد لله رب العالمين
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين

وقعت في يدي مذكرة تحليلية رصدية لشرائح المسلمين، تبين هذه المذكرة كيفية تعامل كل شريحة مع الحدث أو ما سيحدث، وكيفية تعامل واضع المذكرة مع كل شريحة، ثم رصد أي الشرائح يمكن الاستفادة منها أكثر من غيرها وانتقاؤها والعمل على تقوية هذه الشريحة على حساب غيرها، ثم العمل على التفريق بين الشرائح التي تشكل خطرا على واضع المذكرة…

وهذه هي أهم الشرائح

أولا: المتشددون
ويعنى بهم المتمسكون بدينهم والمنتمون إلى التنظيمات الإسلامية.

ثانيا: التقليديون
وهم المحافظون كذلك الغير منتمين إلى تنظيمات إسلامية ولكنهم موافقون للمتشددين في أن يكون الإسلام هو الحاكم في الدولة ولا يرضون غيره شرعا في المجتمع.

ثالث: الحداثيون
وهم الذين يريدون تحديث الإسلام وإدخال الإصلاحات عليه بحيث يواكب العصر (يعني الإسلام الموديل).

رابعا: العلمانيون
وهم الذين يريدون حصر الدين على النطاق الشخصي وفصل الدين عن السياسة… انتهى

لا يهمني من قريب أو بعيد أن أعلم مصدر هذه المذكرة أو حقيقة وضعها، ولكن الذي يهمني أنها تحكي بصدق حال المسلمين المبعثر وتبين أننا دائما تحت الرصد، و دوما تحت المجهر…

نحن مبعثرون بالخلاف، وخلافنا يشتد حول أمور لا تصلح لأن تكون سببا للخلاف… أو أن الخلاف فيها يمكن الاجتماع عليه، ومع كل ذلك فكثيرا ما استخدمت هذه الخلافيات للتصنيف أو ضابطا للاتباع والابتداع أو عكس الحقائق والمفاهيم…

نحن نعيش طبقية فكرية ترسبت حواجزها وتأسست على تغييب لغة الحوار… ولقد حرص مغيبو لغة الحوار أو من كان من مصلحته غيابها على أن يجعل لكل طبقة من طبقات المسلمين لغة تختلف عن لغة الطبقة الأخرى ليضمن بقاء العجمة واستحالة التخاطب…

فأقول له زيدا ويسمع خالدا ○○○ ويكتبه عمرا ويقرؤه بكرا

إذن والحال كذلك فلابد من إيجاد قسيم مشترك بين مفردات كل لغة حتى تتقارب مركبات كل لغة للأخرى فنحصل على المركب المزجي الذي يفهمه الجميع في التخاطب…

فما هو هذا المركب المزجي الذي من الممكن أن يكون قسيما مشتركا لمفردات الحوار…؟؟!

قبل أن نتعرف على هذا المركب لابد من معرفة حقيقة الخلاف، وهل ما نختلف عليه يستدعي هذا الخلاف وهذه الخصومة؟؟ وهل هو خلاف حقيقي أم خلاف مصنوع؟!..

أقول
الخلاف الحقيقي هو حول قضية لا يمكن الاتفاق بين طرفيها بحيث لو صدق الأول لكذب الآخر، أو كان الأول حقا لكان الآخر باطلا… فهل نزاعنا حول قضايانا من هذا النوع من التنازع، أعني نزاع المنافاة أو المعاندة… لاشك أن قضايانا لاتصل إلى هذا الحد من التنازع…

سواء في أصول الاعتقاد وفروعه أم في العبادات والمعاملات، إذن فخلافنا يمكن الاتفاق حوله ولا يستدعي ما نراه من خصومه واختصام… أي أنه خلاف غير حقيقي.. بل خلاف مصنوع،

وأعني بمصنوع أنه صنيعة المتحاورين عند غياب لغة الحوار بينهم، وهو خصام دون خصومة وقضية لا يتحمل موضوعها كل هذا المحمول….. بناء على ذلك أريد أن أقعد قاعدتين للنظر إلى الخلاف وبالتالي نؤسس عليها مفردات لغة الحوار….

القاعدة الأولى:
أن الأعم الأغلب في خلافنا حول قضايانا لا يتعدى كونه ترجيحا بين صحيح وأصح أو فاضل ومفضول.

القاعدة الثانية:
أن خلافنا لابد أن يكون داخل سور الأخوة…

فلنبدأ بالكلام حول برهان القاعدة الأولى…
روى البخاري عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال: “قال النبي صلى الله عليه وسلم يوم الأحزاب:
لا يُصَلِّيَنَّ أحد العصر إلا في بني قريظة فأدرك بعضهم العصر في الطريق، فقال بعضهم لا نصلي حتى نأتيها، وقال بعضهم بل نصلي، لم يرد منا ذلك، فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فلم يعنف واحدا منهم”…. (4119)

فالنبي صلى الله عليه وسلم نهى الصحابة عن الصلاة في الطريق لقوله: “لا يُصَلِّيَنَّ أحد العصر إلا في بني قريظة”…. والنهي في حقيقته أمر بالترك،
والأصل في الأمر الوجوب، أي يجب ترك الصلاة في الطريق…
والنهي يقتضي الحرمة، والحرمة تقتضي البطلان على تفصيل في المسألة واختلاف….
هذا هو ظاهر القضية… ومع هذا الظاهر قال بعض الصحابة: “لم يرد منا ذلك”… وصَلِّوْا في الطريق…
وما عَنَّفَ النبي صلى الله عليه وسلم من صلَّى في الطريق ولا أمرهم بإعادة الصلاة، ولو كان فعلهم باطلا، لوجب عليه البيان في حينه، فتحصل من ذلك حكمان:

فاضل ومفضول… الفاضل هو الصلاة في بني قريظة،
والمفضول هو الصلاة في الطريق، وكلاهما صحيح…
إذن فلابد أن ننظر إلى خلافنا من هذا الباب الواسع من الاحتمال حتى تضيق دائرة الخلاف والخصومة…
هكذا كان أئمة الهدى ينظرون إلى الاختلاف… وهكذا يجب أن ننظر.

القاعدة الثانية:
وهي كما قلت أن خلافنا لابد أن يكون ضمن سور الأُخُوَّة…
وبرهاني من قوله تعالى: “وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِن فَاءتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ، إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ” الحجرات (آية رقم 9- 10)

أقول:
القتال هو أفتك أنواع الخصومة… ففيه تزهق الأرواح، وتفصح القلوب عن مكنونها، و به تتقطع الأواصر وينقلب الحب بغضا والألفة نفرة والولي الحميم إلى عدو لئيم…
ورغم كل ذلك وصف المولى الطائفتين المؤمنتين المقتتلتين بأنهم إخوة عندما أمرهم بالاصطلاح بينهم، ليجعل هذا الاصطلاح داخل سور الأخوة…

واصطلاحهم هذا حول أعظم خصومة وأشدها وهو الاقتتال وإراقة الدماء، فإن كان سور الأخوة يسع خلاف الدم، فهو لابد أن يسع ما دونه من اختلاف…

ولاشك أن خلاف إخوة النسب حين يختلفون غيره عند غيرهم، ولهذا شبههم المولى بهذا الشبه، فالتَّشاحُّ بين الإخوة ليس كالتَّشاحِّ بين الغير، وكذا التسامح بينهم ليس كالتسامح بين غيرهم….

فعندما يخاصم الأخ أخاه ينظر إلى مصلحته ومصلحة أخيه، وما ينفعه لابد أن يكون بالضرورة مما لا يتضرر منه أخوه، وليس هو بالضرورة كذلك مع الغير…. فمصلحته مقدمة على غيره، وما ينفعه لا يكون بالضرورة مما لا يضر غيره….

ثم لما ختم المولى سبحانه الآية بقوله: “واتقوا الله لعلكم ترحمون”…
أراد أن يبقي الإيمان مرجع الاختصام بينهم، وكأنه الأب المهيب المطاع بين الأبناء والذي يرجعون إليه حال اختصامهم ويرتضون حكمه حال احتكامهم، وكأنهم أهل بيت واحد، يختصمون ثم لا يلبثون يصطلحون.

نعود الآن إلى الكلام عن القسيم المشترك لمفردات الحوار…

أولا:
أن ندرك أن هذه الطبقات تستظل بمظلة الإسلام.. فمنهم من هو وسط المظلة ومنهم من هو في طرفها ومنهم من هو خارج ظلها ولكنه من أهلها إلا أن يقر بأن له مظلة أخرى، فذاك له شأن آخر ولغة أخرى…

ولما كانت كل طبقة تلزم حالة واحدة لا تبغي عنها حولا فلابد أن يتحرك من في الوسط إلى الطرف قليلا… ومن في الطرف إلى الوسط قليلا، وأن يأتي من في خارج المظلة إلى طرفها…. هذا التقارب من الممكن أن يكون أساسا لإيجاد مفردات مشتركة للحوار، ومن شأنه أن يذيب قليلا مما تَكَلَّسَ من الحواجز….

اعتاد البعض أن يطلق صفة (حامض) على الشخص الملتزم بدينه، وتعني هذه الصفة أن الشخص متشدد في جميع أحواله، وأن كل شيء عنده بمقدار، فالضحك بمقدار والكلام بمقدار والمجالسة بمقدار
وكثيرا ما يستغرب هؤلاء عندما يرون هذا الحامض يضحك أو يجالس الحليق أو يسير مع المدخن أو يتبنى مفهوما كمفاهيمهم، وربما انقلب هذا الاستغراب إلى السرور به وإزالة بعض ما بينه وبينهم من الجفوة…

وقريب من هذا ما حصل معي عندما انتدبتني وزارة الإعلام لعمل دورات تجويد القرآن للمذيعين والمذيعات، ودخلت عليهم بهيئتي…
وقال لي بعضهم بعد نهاية الدورة… كنا نقول لا نعلم كيف سيمرُّ علينا وقت المحاضرة، وماذا سيقول لنا هذا (الحامض)، إلى أن فوجئنا بأنك تمزح وتضحك وتعلق وتجمع ذلك مع الجد والحزم وإيصال المعلومة…

فأصبحنا بعد ذلك ننتظر المحاضرة ولا نشعر بمرور وقتها… ومما يسرني أنني استطعت كسب صداقات كثير منهم واستطعت من خلال ذلك تغيير كثير من مفاهيمهم
(هذا ما أعنيه من تقارب أعضاء المظلة بعضهم من بعض)

ثانيا:
أن ندرك حتمية الحوار وضرورة وجوده لأن هذه الحواجز نبتت وتسلقت بسبب غيابه…

نحن أهل بيت واحد، وقد أغلق كل واحد منا باب غرفته عليه وأضاع المفتاح، إذن لابد أن نجد منفذا ليسمع أحدنا الآخر، حتى وإن كان هذا المنفذ هو فتحة المفتاح في الباب، فربما استطاع من خلال هذا الفتحة أن يفتح الأبواب بين الجميع.

عندما ندرك هذه الحتمية وأعني حتمية الحوار لابد أن ندرك معها أن حوارنا لابد أن يؤدي إلى الاتفاق على قول أو على أكثر من قول مما من شأنه أن يفوت الفرصة على من يكون من مصلحته تهييج الخصومة وافتعال الخلاف…

ولا يخفى ما في تعدد الأقوال من سعة لا توجد في القول الواحد وبالأخص في فروع الشريعة المبنية على رفع الحرج والأخذ بالتيسير…

وفي هذا المعنى يقول موسى الجهني عن أستاذه طلحة بن مصرف وهو تابعي كبير قال:
“كان طلحة إذا ذكر عنده الاختلاف قال: لا تقولوا الاختلاف، ولكن قولوا السعة”.
(حلية الأولياء) 5:119

وفي “مجموع الفتاوى – صنَّفَ رجل كتاباً في الاختلاف فقال أحمد لا تُسَمِّهِ كتاب الاختلاف، ولكن سمِّه كتاب السعة”.

ثالثا:
أن ندرك أننا عندما نختلف في أمر لا يعني اختلافنا أننا لا نستطيع الاتفاق على غيره… بل إن ما يمكننا أن نجتمع عليه لهو أكثر بكثير مما نتوهم أننا مختلفون عليه.

من يقول أنه لا يجوز الخلاف إما أنه واهم لأن العقل والنقل والوقوع يجيزه وإما أنه يعني الخلاف حول الثوابت وذلك مما لا غبار عليه،

إذن فلابد من التغافل حينا، والتعاذر حينا آخر، وتبادل الأدوار بين الذكي والأذكى، والمصيب والمخطئ، وأن يكون فرش الحوار حين الحوار ما اتفقنا عليه، ثم الدخول إلى ما نختلف عليه.

لا أريد أن أقول كما قال الفرزدق لابن أبي إسحاق الحضرمي: علينا أن نقول وعليكم أن تتأولوا…
ولكن أقول: عَلَيَّ أن أقول وعليك أن تقول، وعلينا أن نتأول.

رابعا: معرفة فيم نختلف…
لابد من معرفة مواضع الخلاف هل نختلف في القطعي من الأحكام أم المظنون منها…. فإن كنا لا نختلف على القطعي منها أو ما أجمع عليه… إذن فالخلاف لابد أن يكون يسيرا في المظنون من الأحكام…
والمظنون من الأحكام ما كان مبينا على دليل قطعي الثبوت ظني الدلالة كقوله تعالى:
“والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء”…
فهذا دليل من القرآن قطعي الثبوت ولكنه ظني الدلالة، لأن القرء من أسماء الأضداد فهو بمعنى الطهر والحيض،

أو ما كان مبنيا على دليل ظني الثبوت ظني الدلالة كقول النبي صلى الله عليه وسلم:
“من غسل ميتا فليغتسل”…
أو ظني الثبوت قطعي الدلالة كقول النبي صلى الله عليه وسلم: “من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت”..

ولما كان الظن في الدال والمدلول يقتضي حتمية الظن في الحكم… فالترجيح بالقطع منتف، إذ لو كان الترجيح بين الأحكام المظنونة مبنيا على القطع لما صَلِّى شافعي خلف حنفي، أو حنفي خلف شافعي، فيما لو أتى أحدهم ما ينافي صلاة الآخر….
لكن خلافنا الراقي يجيز صلاة كل واحد منهما خلف الآخر حسب ما يعتقده من مذهبه وما يراه في رأيه….

هذه هي أهم مفردات الحوار فما هي لغة هذا الحوار…؟؟؟

لاشك أن اللغة التي تكون متركبة من هذه المفردات، لاشك أنها لغة التخاطب بين الرفقاء لا الفرقاء وإلى الاتفاق لا إلى الشقاق وإلى التقارب وليس إلى التباعد، فهيا نستمع إلى هذه اللغة…

هذه اللغة تقول:
أولا: قولي خطأ يحتمل الصواب، وقولك صواب يحتمل الخطأ

حقيقة لابد أن تكون قانونا في لغة الحوار وليست قولاً (مجاملاتيا) لدعوة الآخرين إلى التحاور أو ترغيبهم إليه،
نعم… لماذا يكون الغلط دائما من نصيبي أو يكون من نصيبك؟؟
أليس من الممكن أن يصيب المخطئ ويخطئ المصيب؟!
أليست تصدق الساعة الواقفة مرتين في اليوم؟؟ اعتبرني ساعة واقفة….
هذه الحقيقة تحتاج إلى تهيئة نفسية، وترويض لهذه الذات الوحشية المفترسة بـ(أنا)
هذه الذات التي تعترف بهذه الحقيقة قولا وتأباها وترفضها عملا وفعلا….
ولأن الجميع فارس آرثري يمتنع عن الجلوس إلا إلى مائدة مستديرة…
إذن فلابد من تفعيل هذه الحقيقة وإنزالها إلى أرض الواقع، وحينئذ سيكون هناك براح فسيح ومضمار واسع يمنع تدافع الأحصنة، ولن يحتاج فرساننا لمائدة مستديرة بل تكفيهم أي مائدة يترأس فيها الجميع أي واحد من الجميع.

ثانيا: النظر إلى الحق كهدف نتسابق للوصول إليه لا كهدف نتعارك عليه

والفارق كبير بين الوصول والحصول… فالوصول إلى الحق يبقي الحق ملكا للجميع، وأما الحصول على الحق فيعني احتكاره دون الجميع…..

وحقيقة الحال أننا لا يكاد يخلو منا أحد من ممارسة هذا الاحتكار، فكلنا مكتتبون في هذه الشركة المساهمة القديمة، إذن لابد من إعادة التشكيل….
لابد من جمعية عمومية لهذه الشركة تتغير فيها اللوائح ويستبدل فيها الأعضاء ويراجع فيها النظام الأساسي …
لابد من فك الاشتباك وإبطال الاحتكار، وذلك لا يتأتى إلا بإصلاح ٍ نفسي، لا أعني إصلاحا بين فلان وفلان، بل إصلاحا بين نفسي ونفسي…

لا أريد أن أطلسم بل أريد أن أترجم، الذي أعنيه أن الواحد منا عندما يسمع قول المخالف تعتريه النفرة من قوله، وبالتالي نفرة منه. هذا ما تسارع إليه النفس بطبيعتها…

لا أريد إرخاء الغارب لهذه النفس وتركها تسرح على سجيتها وترعى على شهيتها، لابد أن أفاتش هذه النفس وأصرخ فيها وأقول:

ما قال فلان هذا القول إلا لأنه يريد الاتباع، وهل أنا إلا أريد الاتباع، فهو يريد الاتباع وأنا أريد الاتباع فلماذا يغضبني ما أريد؟

وكذلك أقول:
اللهم إن فلانا يقول كذا، اللهم إن كان يريد اتباعا فثبته وأثبه، وإن كان يريد غير ذلك، اللهم فاهده واغفر له…
أنا الآن أكتب بالمغالبة لأنني أحس من نفسي تململا واستنكافا ورغبة في إيقاف هذا التقريع، ولكن لابد من المغالبة والكتابة والقول ثم لابد من الفعل.

ثالثا: النظر إلى المخالف كنظير مساند، لا كمناظر معاند…
وكذلك الفرق لا يخفى هنا…. فأين النظير المساند الذي يدفعك للوصول إلى الحق، من المناظر المعاند الذي يقصيك عن الوصول إلى الحق بل وربما فرح بعدم وصولك إليه

لا أريد أن أقول، أريد أن أصل إلى الحق.. بل لابد أن أقول: أريد أن يصل الجميع إلى الحق، لابد من توافر هذه النية لأن غيرها ربما شابه الاحتكار الذي ذكرت آنفا، أريد أن تكون صورة طلبنا للحق كصورة من يبحث عن ضالة فقدها

ألا يفرح الذي ينشد ضالته بمساعدة الآخرين له بالبحث عن ضالته؟
أليس في ذلك توفيرا لوقته، واختزالا لجهده، وتضييقا لمساحة بحثه..
ما المانع وما المحظور بإضافة عقل إلى عقلي وبحث إلى بحثي… ليس من الضروري أن تتشابه أصابع اليد الواحدة، المهم أن تتعاون.. نعم..

لماذا الإصرار على توظيف كل إصبع على حده، وإرهاقه بما لا يرهقه لو أنه تعاون مع باقي الأصابع؟؟
عندما نتفق على الحق وتستبين سبله لا يهمنا بعد ذلك اختلاف السبل مادامت هذه السبل توصل إليه… فاركب طائرتك ودعني لسيارتي، ولنترك فلانا على دابته….

رابعا: النظر إلى ما يعنيني لا النظر إلى ما يرضيني..
وما يعنيني هو ظهور الحق لا إظهاره، وهو مقام جميل يغيب دوما عن مائدة الحوار….
إذن لابد من النظر إلى كيفية ظهور الحق لا إلى جهة ظهوره، لأنه كيفما ظهر فلابد أن يرضيني، فلا آبه لظهوره على لساني أو على لسان خصمي، فغاية غايتي ظهوره….

وأما إظهار الحق فغالبا ما يدخل القول في قنوات حظوظ النفس فيخرج متلوثا بالهوى، مشربا في الانتصار له، مغلفا بحب الظهور، وليس ذلك من شيم طالب الحق…
يقول الشافعي (وددت لو نشر هذا العلم ولم يعرف صاحبه)…

هكذا تكون طِلبة طالب الحق في نظر هذا المثال العزيز.

لست مثاليا بل عملي، أو خياليا بل واقعي… ولكني عملي يريد بعض المثاليات، وواقعي يريد تحقيق شيء من الخياليات….
لو رجع الواحد منا إلى نفسه بعيدا عن حظوظها، لوجد أنه بعض من أبعاض الحق التي يمثلها غيره، وأن إصراره مع إصرار غيره على التنافس، وانتصار كل لقوله دون اعتبار لقول غيره كل ذلك يؤدي إلى تمزق الحق بيد أهله، وضياعه بين أيديهم…
وما أجمل قول المعتصم العباسي (إذا نُصِرَ الهوى بطل الرأي).

مكامن الخلل في الحوار

نحن ندعو ونريد الحوار، حواراً خالياَ من الخلل… وحتى لا يتعثر حوارنا الواعد، لابد أن نتعرف على مكامن الخلل حتى يسير حوارنا كما نريد له أن يسير.. وأول مكامن الخلل

التراشق بالآراء من بعيد…
نحن نصدر أحكاما غيابية من محاكم ليست بذات اختصاص، أو ليست محاكم للموضوع، والمتهم لا يحضر الجلسات، ولا محام…
والقضاة هم الخصوم، والدعوة محكومة سلفا قبل النظر فيها، والأحكام ذات درجة واحدة غير قابلة للاستئناف و النقض، فكيف سنتصور الأحكام الصادرة من هذه الدائرة؟؟!..
هل من المجدي أن نبحث عن براءة المتهم بين حيثيات الاتهام..؟؟

أقول..
نحن نريد فتح باب المرافعة، وسماع الدعوى، وإعطاء المتهم الفرصة للدفاع حتى تصح الأحكام الصادرة…
وإليك هذه الواقعة التي تبين الخطل وأثر التباعد بين الأبدان على صحة الأحكام …

قال ابن المبارك: “قدمت الشام على الأوزاعي، فرأيته ببيروت فقال لي يا خراساني من هذا المبتدع الذي خرج بالكوفة يكنى أبا حنيفة؟…
فرجعت إلى بيتي فأقبلت على كتب أبي حنيفة، فأخرجت منها مسائل من جِياد المسائل، وبقيت في ذلك ثلاثة أيام، فجئت يوم الثالث إلى الأوزاعي والكتاب في يدي
فقال: أي شيء هذا الكتاب؟
فناولته في مسألة وَقَّعْتُ عليها: قاله النعمان

فمازال قائماً بعد ما أذَّن حتى قرأ صدراً من الكتاب، ثم وضع الكتاب في كمه، ثم أقام وصلى، ثم أخرج الكتاب حتى أتى على المسائل كلها
فقال لي: يا خراساني من النعمان بن ثابت هذا؟
قلت: شيخ لقيته بالعراق… فقال: هذا نبيل من المشايخ.. إذهب فاسكتثر منه،
قلت: هذا أبو حنيفة الذي نهيت عنه…

و في رواية أخرى من كلام ابن المبارك نفسه “قال: ثم التقينا بمكة، فرأيت الأوزاعي يجاري أبا حنيفة في تلك المسائل، والإمام يكشف له بأكثر مما كتبت عنه، فلما افترقنا
قلت للأوزاعي: كيف رأيته؟
قال: غبطت الرجل لكثرة علمه ووفور عقله، وأستغفر الله تعالى، لقد كنت في غلط ظاهر، إلزم الرجل فإنه بخلاف ما بلغني عنه”… انتهى …
(أوجز المسالك إلى شرح موطأ مالك) 89-88\1 للعلامة محمد زكريا الكاندهلوي.

فانظر كيف يكون تأثير البُعد على إجراء الأحكام وتغيير حقيقتها… فإن كان البعد يؤثر في الحكم بين الأكابر، فكيف سيكون أثره على الحكم بيننا نحن الأصاغر…. الأصاغر قدراً والأصاغر علماً والأصاغر خشية..

ثانيا: الجهل بأسباب الخلاف
أولها:
اختلاف العقول مما يقتضي اختلاف إدراك المُدرك
فما يفهمه زيدٌ مثلاً من النص ليس بالضرورة أن يفهمه بكر …
وما يقرره بكر لا يلزم أن يوافقه عمرو …وهكذا.

ثانيها:
طبيعة النصوص التكليفية وما يعرض لها من احتمال أو يطرأ عليها من إجمال، ما يجعلها تقتضي التقلب بين راجح ومرجوح،ومجمل ومبين، وخاص وعام، مما يدور حول المظنونات فلا سبيل للقطع في الرجحان فيتخرج من ذلك أكثر من رأي وقول.

ثالثها:
طبيعة اللغة العربية وما يقتضيه اختلاف المعاني من اختلاف في المدلول …
فتجد اللفظ يشترك فيه الجمع من المعاني، مترادفات كانت أو متغايرات ومتضادات… وذلك راجع إلى اتساع الساحة المجازية في اللغة كاحتمال لفظ القرء للطهر والحيض … واحتمال لفظ العين للباصرة والجاسوس والشيء …

وهكذا مما لا يحصى كثرة في اللغة و الكتاب والسنة…
هذه هي أسباب الاختلاف والتي تجعل ممن يدركها يعلم أن الاختلاف واقع مسلم، وحتمية صحية، لابد من تأصيلها والتأكيد عليها وما تقتضيه الطباع السليمة …

ولو قال قائل … فما توجيه قوله تعالى إذا في سورة هود “ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك” نقول …
توجيه الآية أن الاختلاف المذكور في الآية يتناول الاختلاف المذموم في أصول الدين لا الفروع … أو بما كان قطعي الثبوت و الدلالة بما لا يحتمل غيره… كقوله تعالى “ليس كمثله شيء”… و قوله تعالى “ما كان لله أن يتخذ من ولد”…

وأما الاختلاف في الفروع فهو رحمة واسعة للأمة، وقد وقع بين الصحابة رضي الله تعالى عنهم على عهد النبي صلى الله عليه وسلم و أقره كما في غزوة بني قريظة في أمره للصلاة
كما وقع كذلك في جميع العصور … وقد فقه السلف ذلك وفرحوا به وارتضوه …

قال الإمام الحجة القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق رضي الله عنهم
“لقد نفع الله باختلاف أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في أعمالهم، لا يعمل العامل بعمل رجلٍ منهم إلا رأى أنه في سَعَة، ورأى أن خيراً منه قد عمله …
” جامع بيان العلم وفضله “ابن عبد البر”

بل إن عمر بن عبد العزيز يقول : “ما أحب أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يختلفوا لأنه لو كان قولا واحدا كان الناس في ضيق، وإنهم أئمة يقتدي بهم، فلو أخذ رجل بقول أحدهم لكان في سعة”…
المصدر السابق.

وذلك ما دعي الموفق ابن قدامة الحنبلي وغيره أن يقول :
“اتفاقهم حجة قاطعة، واختلافهم رحمة واسعة”.

ثالثا:
منطق الثقافة الواحدة
عندما تركب السيارة في الصيف اللافح، وتلبس النظارة الشمسية ذات اللون الرمادي الضارب إلى الزرقة مع برودة هواء المكيف، وتنظر إلى الخارج تظن الجو غائما جميلا… فهل هو كذلك؟!
هذا ما يتصوره صاحب الثقافة الواحدة، وأعني صاحب الأخذ من مشرب واحد، والمستأسر للرأي الواحد…. فهو لا يرى إلا من خلال هذه الثقافة، فالصحيح صحيحها، والخطأ ما صح عند غيرها..
ولا يكاد ينجو أحد منا من مثل ذلك…
هناك تظليل على الحقيقة، إذن فلابد من نزع النظارة أو تبديل العدسات لتبدو الأشياء كما هي على الواقع، الألوان هي الألوان، والأحجام هي الأحجام، والمساحة هي المساحة.

إن أظهر ما يميز منطق الثقافة الواحدة هو منهج العكس، وأعني به عكس الحقائق والمفاهيم أو تغييرها أو إقصاؤها… وهذا العكس إما يكون بالعفوية نتيجة للتمحور حول القول الواحد أو التقوقع داخله
أو يكون بالقصد، ولا يكون إلا بسبب طول الأمد على المفهوم واستقراره في الوعي واللاوعي ومن ثم الاقتناع بعدم الاقتناع
وبناءً على العكس من الممكن أن ينقلب المندوب واجبا، و المكروه حراما، و ينكر المعروف، أو يلغى الجمهور بقول الواحد، أو يُجمع الإجماع ويلقى في سلة المخالف.

هذه الرؤية من شأنها أن تعطي صورة ضيقة لساحة الحوار الفسيحة، وحجما يغاير الحجم الحقيقي للخلاف، وتحجيما لما هو من الممكن أن يكبر أو يصغر، هذا المنطق من الممكن أن يحمل بين طياته “ما أريكم إلا ما أرى”
وهو السوءة السوآء، والعقبة الكأداء في طريق الحوار.

ختاما…
أريد التنويه إلى أنني لا أعني بدعوتي إلى الحوار دعوة المناقشة على الطاولة – وإن كنا نحتاج أحياناً إليها – ولكنني أعني إفساح المجال أمام العقول للانتقال من مكانها، وتحريرها من مكامنها لتبحث هي بنفسها لتجد الحق لا بأن نوجدًه نحن لها….

وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
بقلم: حمد السنان