الصفحة الرئيسية » مقالات » السلفية بين التأصيل والابتداع

السلفية بين التأصيل والابتداع

السلفية بين التأصيل والابتداع
بقلم مصطفى فرحات

إن منهج السلف لم يكن بحال وقيعة في الأعراض أو صدا عن سبل الخير في زمن كشّر فيه الباطل عن أنيابه، و لم يكن قطُّ في يوم ما ذريعة للتنفير من دعاة أخطئوا وزلت بهم الأقدام في مزالق لا يسلم منها حتى الكبار، بل إنه من تمام الإتباع أن يقوّم الخطأ، وتقال العثرة، فإن لكل جواد كبوة، ولكل سيف نبوة.

” السلفية ” كلمة تثير اشمئزاز كثير من الناس كما أنها في الوقت نفسه تجد حماة وأنصارا يدافعون عنها بحرقة وإخلاص، سواء أكان ذلك الدفاع عن علم وبينة أم عن جهل وتقليد، وفي غمرة الأحداث اللامتناهية التي عرفها العالم الإسلامي عموما، تجاذب هذا المصطلح فئام من الناس زعم كل واحد منهم أنه يملك مفاتحه وأنه وجماعته هم الذين يمثلون السلفية الحقيقية، على سنن الشاعر إذ قال:

وكل يدعي وصلا بليلى وليلى لا تقر لهم بذاكا

وبالمقابل، برز أناس أقض مضجعهم عودة الإسلام بهذا الكم والحجم إلى قلوب الناس، ورأوا من عجائب هذا الدين ما أخذ بألبابهم وهم يظنون أنه قد قُضي عليه فمضى إلى غير رجعة، فلم يجدوا سبيلا إلى التشويه والتدليس والكذب إلا انتهجوه، فألصقوا بدعاة الإسلام التهم و كالوا لهم بالباطل عسى أن يصرفوا عن دعوتهم كل أذن و قلب، لأن في عز هذا الدين مذلتهم، وفي قوته ضعفهم، و في فطنة أهله وبالٌ عليهم أجمعين.

و بين هؤلاء وأولئك، بين المدافعين عن أسماء ومصطلحات أُرضعوها وهم لم يعرفوا حقيقة كنهها ولا أصلها الصحيح القويم، اللهم إلا تقليدا للمشايخ وثقة بهم، وبين الذين يشوهون كل ما يرفع أعلام الإسلام فوق منارات الحق، ضاعت حقائق الأشياء وجواهرها، فلم تبق في نفوس مجملهم إلا أطلالا عفت رسومها، وجراحا لم تُشف كلومها
فما هي السلفية التي يدافع عنها البعض ويُقذع في سبها والتحامل عليها البعض الآخر؟

أصل نبوي

و ذلك أنه يجب أن يعلم المرء أن الله سبحانه و تعالى لما ختم الرسل برسالة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم لم يترك مسألة تحتاج إلى بيان إلا وبيّنها، ولم يترك حكما إلا أوضحه، مصداقا لقوله تعالى:
“اليوم أكملتُ لكم دينكم وأتممتُ عليكم نعمتي ورضيتُ لكم الإسلام دينا”
فما لم يكن يومئذ دينا فليس اليوم دينا.ثم إن الله عز وجل علق النجاة بالاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم والاهتداء بهديه، وجعل اتّباعه صلى الله عليه وسلم دليلا على محبة الله الصادقة، فقال عز وجل:
“قُل إن كنتم تحبون الله فاتّبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم”
فمن أعرض عن سنة نبيه صلى الله عليه وسلم فهو معرض عن شريعة رب العالمين.

التيه و المخرج

ثم إن الناس بعد النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه الذين هم النجوم التي يهتدي بها قد تفرقوا وتنافروا، وصار لكل جماعة منهج معين يحكمها ويحكم حتى طريقة تفكيرها، وتطاول السفهاء على الدين وفشت البدع والأهواء، وظهر علم من أعلام نبوته صلى الله عليه وسلم إذ أخبر أن أمته تفترق على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة، وهي الجماعة التي تستمسك بما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، نابذة لأهوائها، مسلمة لله رب العالمين دون غيره،
وهذا ما تقتضيه شهادة الإيمان بأن محمدا صلى الله وعليه وسلم عبد الله ورسوله، أي أنه على المسلم أن يطيعه فيما أمر، و أن يجتنب ما عنه نهى وزجر، و أن لا يعبد الله إلا بما شرعه صلى الله عليه و سلم.
الإتباع لا الابتداع

و هذه القاعدة الجليلة هي التي سار عليها ونادي بها خير القرون التي زكاها الرسول صلى الله عليه وسلم من الصحابة والتابعين وتابعيهم، وكان هذا الشعار نفسه شعار الأئمة المقتدى بهم، أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد، كل يتبع النبي صلى الله عليه و سلم وأصحابه وينهج نهجهم ويتبع آثارهم، يعلمون أن البشر عرضة للخطأ فلا يرتضون بغير الوحيين بديلا: “الكتاب والسنة”
و لا أدل على ذلك من نصوصهم المجتمعة التي تشابهت على الرغم من تباعد الأوطان واختلاف الأزمان، والقاضية بأنه (ما من أحد إلا و هو راد أو مردود عليه إلا النبي صلى الله عليه و سلم)، فالواجب اتّباعه هو لا غيره

و لهذا رفض مالك حمل الناس على موطئه دون غيره بأمر من الخليفة أبي جعفر المنصور، وذلك لأن أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم تفرقوا في البلدان، ولكل بلد علم لم يبلغ غيرهم.
ونقدم هذا الكلام لمالك إمام الأئمة باقة لكل من تدثر بدثار مذهبه على طريقة المتأخرين لا المتقدمين من أصحابه، والذين يريدون حمل الناس على آراء تنسب لمذهب مالك وليس لمالك منها شيء
فإذا رفض المخالف الإذعان طُعن ورُمي بتهمة التعالم والطعن في العلماء، ناسين أنهم أول الناس خروجا على مذهبهم إذا اقتضت الأهواء ذلك، فإن أغلبهم لا يعرف من مذهب مالك إلا السدل في الصلاة، وأكثر الرواة عنه يذكرون القبض، بل ودليله رواه هو نفسه في الموطأ، وليت شعري أين مذهب مالك منهم وأين هم منه إذا نص على حرمة حلق اللحى وحرمة الغناء؟!
حينئذ يُخلع لباس التقليد ليحل محله لباس الاجتهاد زورا و بهتانا، و الله المستعان.

السلفية والسلفي

و من الغريب أن يظن بعض من كتب عن السلفية أنها من المحدثات التي لا أصل لها، أو من يظن أنها من اختراع ابن تيمية، إذ أن السلفية أرسخ من ذلك بكثير، وهي قديمة قدم الإسلام. السلف في لغة العرب هم المتقدمون من الآباء والأجداد، فكل من تقدمك فهو سلفُك
وفي اصطلاح العلماء هم أهل القرون المشهود لها بالخيرية من طرف النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: “خير القرون قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم”
ولذلك، فالمراد من كلمة السلفي هو النسبة إلى من يتّبع أصحاب القرون المزكاة المشهود لها بالخيرية اتباعا في أصول الدين وعقائده، واتباعا في فروعه ومقاصده.

هل “السلفية” مصطلح حادث؟

لا أجد تفسيرا لمن يكتب عن السلفية فيحشو كلامه زورا وجهلا وبهتانا، فكثير ممن تناول هذا الموضوع لم ينطلق من بحث علمي أو تأصيل شرعي، وإنما كان له الهوى قائدا والزور حاديا والجهل مطية، فيُوهم الكتّاب الجميعَ أن السلفية شيء مبتدع لم يكن له ذكر عبر مدار التاريخ، وأنه دُجّن في مصانع السعودية وصُدّر من خلالها إلى شتى أصقاع الأرض.

وهذا لعمري جهل فاضح، آفة صاحبه أنه يحارب ما لا يعلم كنهه، و أنه (يهرف بما لا يعرف)، فكانت كتاباته سقطا لا ميزان لها في العلم أو الفن.
والمتأمل لسير العلماء القدامى يعلم أن هذه الكلمة مما كان له ذكر شائع عندهم، يُمدح بها المتتبع للآثار والسنن، المجانب للبدع و الأهواء، ولا نطيل هنا فنستقصي ما ورد، وإنما نذكر كلمة للإمام الذهبي رحمه الله في ترجمة الإمام العلم أبي الحسن الدارقطني رحمه الله حيث قال:
“وصح عن الدارقطني أنه قال: ما شيء أبغض إلي من علم الكلام، قلت (أي الذهبي): لم يدخل الرجل أبدا في علم الكلام ولا الجدال ولا خاض في ذلك، بل كان سلفيا”
إهـ ج16 ص457.
ها هو الإمام الذهبي (المتوفى سنة 748 هـ) يقر هذا المصطلح الذي كان معروفا قبله.

بين السلفية و المالكية

ومن المغالطات البينة وضع السلفية في كفة والمالكية في كفة أخرى، مظهرين أنهما ضدان لا يجتمعان، كُتبت بينهما العداوة والبغضاء أبدا ما قامت السماوات والأرض، بينما تأبى الطبيعة العلمية إلا تفنيد هذا كله، وتقر في ثبات راسخ لا يلين أن الإمام مالكا رحمه الله إمام السنة والسلفية، وذلك لأن السلفية بمعنى اتباع النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه وسلف الأمة الخيرين هو الدين الذي يريده الله تعالى لعباده شرعا، ويرتضيه منهجا

ومالك رحمه الله من الأئمة الذين نبذوا البدع واتبعوا السنن وحظوا عليها، ونفروا الناس من التقليد ونهوهم عنه إن كانت لهم أهلية الاستنباط، أما من لم يملك هذه الأهلية فإن الله لا يكلف نفسا إلا وسعها، و لا يُخرجه تقليد إمام من الأئمة المشهود لهم بالفضل والعلم وحسن المعتقد عن السلفية كما يظن البعض.

إشكالية المصطلح

فإذا تقرر ما سبق، وجب التنبيه على مسألة مهمة أخرى، وهي أن هذه الأسماء والمصطلحات التي لم ترد في كتاب الله ولا سنة نبيه صلى الله عليه وسلم لا يجوز بحال أن يُبنى عليها ولاء أو عداء إذا كان المسلم ممن يسلّم بالمضمون، فإن الله تعالى ذكر عباده ونسبهم إلى الإسلام لا إلى غيره، فلما كثرت الفرق المنتسبة إلى الإسلام احتيج إلى التمييز فقيل: “أهل السنة و الجماعة”،

فلما انتسب إلى السنة من لم يكن من أهلها احتيج إلى تمييز آخر، فقيل: “السلفية” إشارة إلى أن أصحابها يتبعون السلف الصالح في الأصول والفروع، كما ذكرنا آنفا.

فإذا وجد من يسلّم بمضمون السلفية فلا يجب أن يلزم بتبني هذا الاسم أو تلك النسبة، بل متى ما تحقق المضمون لم يلتفت إلى الألقاب، ليس من قبيل الندب بل من قبيل الإلزام، وذلك لما يحدثه التعصب للألقاب والأسماء دون التلفت إلى المقاصد من مفاسد نهى الله سبحانه عنها وحذّر من الوقوع فيها.

و للناس فيما يعشقون… سلفيات!!

والمتأمل لواقع الدعوة الإسلامية اليوم يجد الكثير من الجماعات التي تنتسب إلى “السلفية” وتظن كل جماعة أنها على صواب دون غيرها، وهذا مما أدى إلى احتدام الخلاف وتأجج نار الصراع بينها، فكانت النتيجة أننا لا زلنا نسمع بين الفينة والأخرى بظهور جماعة جديدة تنتسب إلى السلفية
فطلعت علينا السلفية العلمية والجهادية والحركية، وأراد أحد الصحفيين الذين إخالهم من المهووسين بحمى السبق الصحفي أن يبتكر اسما لم يكن موجودا فأحدث ما أسماه بالسلفية الكلاسيكية، وكأنه يظن نفسه في معرض التأريخ لمراحل الأدب التي مرت بها أوروبا!

و يمكن أن نحصر جوهر الخلاف بين هذه الجماعات فيما يطلق عليه علماء الأصول “تحقيق المناط”، فتتجلى بذلك أهم القضايا التي يقع فيها النزاع..
هل تعد مناهج الدعوة توقيفية إجمالا وتفصيلا أم لا؟
هل تعتبر قضايا التحزب والانتخابات ودخول البرلمانات من القضايا التوقيفية أم أنها من مسائل السياسة الشرعية التي تخضع لتقدير المصالح والمفاسد؟

إلى غير ذلك من المسائل التي لو تُركت للعلماء لفصل فيما يجب الفصل فيه، وترك الخلاف قائما في المسائل التي تختلف فيها أنظار المجتهدين، و لوُفّر كثير من الجهد والوقت والمال على كثير من الساعين لنصرة رأي مّا، ظانين أنه الحق الذي لا محيد عنه، وهم من الذين لم يبلغوا بعد مستوى علميا يمكّنهم من النظر والاستنباط، بل وحتى الفهم السليم.

إذا دخل الصغار في شيء فسد

و لا ننسى أن نعرج على ما يجري في الساحة الإسلامية اليوم من انتهاك للأعراض وطعن في العلماء و الدعاة، والحط من قيمتهم وصد الناس عنهم وتزهيدهم فيهم، وكل ذلك يتم تحت غطاء “السلفية” و”منهج السلف”

و نود أن نؤكد أن منهج السلف لم يكن بحال وقيعة في الأعراض أو صدا عن سبل الخير في زمن كشّر فيه الباطل عن أنيابه، و لم يكن قطُّ في يوم ما ذريعة للتنفير من دعاة أخطئوا وزلت بهم الأقدام في مزالق لا يسلم منها حتى الكبار، بل إنه من تمام الإتباع أن يقوّم الخطأ، وتقال العثرة، فإن لكل جواد كبوة، ولكل سيف نبوة.

ولا يعني هذا بحال من الأحوال السكوت عن الباطل أو ترك البدع لتعشش في عقول الناس، بل يجب النصح والتحذير، إلا أن المقصود أن هذا الباب يقوم به أهل العلم الذين سارت بعلمهم وفضائلهم الركبان، أما أن يتصدى لذلك من كان عن العلم بمنأى أو معزل، فإن هذا من أعظم الظلم وأقبح الباطل، وإذا دخل الصغار في شيء فسد.

و بعد،
فهذا مجمل ما أردنا ذكره والتنبيه عليه، وذلك لأن الحابل اختلط بالنابل، وصار من هب ودب متصدرا للعلم والفتوى والتجريح والتعديل، كما أن جُلّ من كتب حول السلفية لم يكتب لا بعلم ولا بإنصاف، بل أضاف إلى ذلك تزويرا وتلبيسا لم يحمل عليه إلا الكيد للإسلام وأهله،
و إنما ذكرنا هنا ما تيسر ليحذر الخائض غمار الحياة دخول الفيافي بغير زاد، ويعلم أنه ليس كل ما يكتب حق، وأنه “ليس كل ما هو حق مما يجب نشره” مثلما ذكر الإمام الشاطبي رحمه الله في كتابه الماتع (الموافقات)، وإن كثيرا من الأقلام لتحركها مطامع وتنفخ فيها، وليستيقظ الوسنان وينشط الكسلان، لعل الله يُحدث بعد ذلك أمرا.