الصفحة الرئيسية » مقالات » الصوفية التى يجهلها الكثير

الصوفية التى يجهلها الكثير

يقول الحق عز وجل في محكم التنزيل «ولا تقف ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولا»
إن هذه الآية تحتم على المسلم أن يتحرى غاية التحري في ما يعتقد ويتبنى من مذاهب وأفكار واعتقادات، وتلزمه البحث والتقصي قبل العزم على أي قرار يتخذه، أو حكم يحكم به،
فهو مسؤول عن أحكامه التي طريقها السمع؛ هل سمع ما بني حكمه عليه؟
و هو مسؤول عن أحكامه التي طريقها البصر؛ هل رأى وأبصر ما بنى حكمه عليه؟
وكذلك القلب وما أودعه من اعتقادات هو مسؤول، هل بني ما اعتقده على البرهان والحجة؟
أم كان لمجرد التقليد واتباع كلام الغير الذي لم يقم عليه دليل؟
لهذا فإنني سأسير في مقالي هذا عن الصوفية عكس التيار السائد الذي يظهر الصوفية شرا محضا، نعم سأسير عكس هذا التيار ما دام قد جار عن القصد، وإن غضب الناس، ما دمت أرضي رب الناس.
إن الصوفية التي أصبحت اليوم عند الناس أصل كل بلية، هي في تاريخنا وتراثنا على النقيض من هذا، بذل وجهاد وذكر وأوراد وهدي وإرشاد وتسليك للبشر والعباد.

هذه الصورة الناصعة التي ينقلها لنا التاريخ عن الصوفية ما بالها أصبحت اليوم شركا وعبادة قبور واتحادا وحلولا وقعودا وتواكلا وتثبيطا عن الجهاد في سبيل الله؟

لعل أحدهم الآن ينبري لي صارخا قائلا: لأنها هي كذلك، أما ترى الصور المنتشرة في كل مكان عنهم؟
فنقول: إن هذه الصور تمثل أصحابها، ولا تمثل الصوفية في شيء، ترى أيحق لمن يرى تنكب المسلمين لطريق الإسلام وإعراضهم عنه.
وانتشار الكذب والرذائل بينهم أن يعيب الإسلام ويتهمه بأنه أصل البلاء؟ فكذلك الصوفية التي هي بريئة من كثير مما نسب إليها وممن انتسب إليها.

نحن نريد وندافع عن الصوفية التي بيّن أصولها الإمام القشيري في رسالته وأبو طالب المكي في قوت القلوب والسهر وردي في العوارف والغزالي في الإحياء وزروق في القواعد وابن عطاء الله في الحكم وما علق عليها العلماء من شروح، وغيرها من الكتب المعتبرة التي أصّلت الصوفية، نعم، هذه الصوفية التي نريد، وهذه الصوفية التي لم يزل العلماء والأئمة يذكرونها ويثنون على أصحابها، وهذه الصوفية التي تمتلئ المكتبة الإسلامية بشتى فنونها وعلومها بتراجم أكابرها، وهذه الصوفية التي انتمي إليها وسلك طريقها أكابر وأماثل من أئمة الإسلام.

أقوال العلماء

وإليك أيها القارئ الكريم طائفة من أقوال العلماء في الصوفية هذه التي ذكرت،لتعلم أنها على خلاف الصورة التي يعممها البعض ظلما للتاريخ:
قال الإمام تاج الدين السبكي رحمه الله:

«الصوفية حياهم الله وبياهم وجمعنا في الجنة وإياهم.. والحاصل أنهم أهل الله وخاصته الذين ترتجى الرحمة بذكرهم، ويستنزل الغيث بدعائهم، فرضي الله عنهم وعنا بهم»
(من كتاب معبد النعم ص/119).
وقال الإمام النووي رحمه الله:
«أصول طريق التصوف خمسة:
تقوى الله في السر والعلانية
إتباع السنة في الأقوال والأفعال
الإعراض عن الخلق في الإقبال والإدبار
الرضي عن الله في القليل والكثير
الرجوع إلى الله في السراء والضراء
(من كتاب المقاصد النووية).

وقال أيضا معرفا بهم، في معرض الكلام عن الوقف عليهم بعد أن صححه:
«وهم – يعني الصوفية – المشتغلون في العبادة في أغلب الأوقات، المعرضون عن الدنيا» (الروضة 5/321) .
وكذا قال من قبله من الشافعية القاضي حسين والمتولي والرافعي، وصرحوا بأنه – أي الوقف – يصرف على المشتغل بالعبادة منهم في أغلب الأوقات، أما من يشتغل بالأكل والسماع والرقص فلا.
وقال قاضي القضاة أبو محمد الحارثي الحنبلي الحافظ في شرح المقنع:
«يصح الوقف على الصوفية، وهم المنقطعون للعبادة وتصفية النفس من الأخلاق المذمومة»
(من كتاب الموفي بمعرفة التصوف والصوفي للكمال الأدوفي ص/50) .
وكذا قال الحنفية بتصحيح الوقف عليهم، المصدر نفسه.

فهل يا ترى يصح الوقف على المبتدعة وأصحاب الحلول والاتحاد وعبادة غير الله تعالى؟!

وقال الإمام عبد القاهر البغدادي في سياق بيانه لأصناف أهل السنة: «
هذا الباب في بيان أصناف أهل السنة والجماعة، اعلموا أسعدكم الله أن أهل السنة والجماعة ثمانية أصناف من الناس» ثم أخذ ببيان هذه الأصناف، إلى أن قال:
«والصنف السادس منهم: الزهاد الصوفية الذين أبصروا فأقصروا واختبروا فاعتبروا، ورضوا بالمقدور وقنعوا بالميسور، وعلموا أن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك مسؤول عن الخير والشر ومحاسب على مثاقيل الذر..» (من كتاب الفرق بين الفرق) .

وقال الإمام وحجة الإسلام الغزالي رحمه الله: «ولقد علمت أن الصوفية هم السالكون لطريق الله تعالى خاصة، وأن سيرتهم أحسن السير، وطريقتهم أصوب الطرق، وأخلاقهم أزكى الأخلاق..» (من كتاب المنقذ من الضلال) .

وقال الإمام الكبير أبو المظفر الاسفراييني في سياق تعداده لمفاخر أهل السنة والجماعة ومآثرهم «وسادسها:
علم التصوف والإشارات، وما لهم فيها من الدقائق والحقائق، لم يكن قط لأحد من أهل البدعة فيه حظ، بل كانوا محرومين مما فيه من الراحة والحلاوة والسكينة والطمأنينة، وقد ذكر أبو عبد الرحمن السلمي من مشايخهم – يعني الصوفية – قريبا من ألف»
(التبصير في الدين) .
فانظر كيف لم يجعل للمبتدعة نصيبا من التصوف وقصره على أهل الحق، فهل هذا يستقيم مع إطلاق الذم فيهم وجعلهم أصل كل بلية؟!
ومن قبلهم قال الإمام القشيري رحمه الله: «جعل الله هذه الطائفة صفوة أوليائه، وفضلهم على الكافة من عباده بعد رسله وأنبيائه صلوات الله وسلامه عليهم، وجعل قلوبهم معادن أسراره، واختصهم من بين الأمة بطوابع أنواره فهم الغياث للخلق، والدائرون في عموم أحوالهم مع الحق بالحق» (الرسالة القشيرية).

التصوف علم شريف

وقال الحافظ السيوطي رحمه الله:
«إن التصوف في نفسه علم شريف، وإن مداره على اتباع السنة وترك البدعة والتبري من النفس وعوائدها وحظوظها وأغراضها ومراداتها واختياراتها، والتسليم لله والرضى به وبقضائه وطلب محبته واحتقار ما سواه..» (من كتاب تأيي الحقيقة العلية) .

وقال الإمام الفخر الرازي:
«الباب الثامن في الأحوال الصوفية: اعلم أن أكثر من حصر فرق الأمة لم يذكر الصوفية، وذلك خطأ؛ لأن حاصل قول الصوفية أن الطريق إلى معرفة الله تعالى هو التصفية والتجرد من العلائق البدنية، وهذا طريق حسن..»
وقال أيضا: «والمتصوفة قوم يشتغلون بالفكر وتجرد النفس من العلائق الجسمانية، ويجتهدون ألا يخلو سرهم وبالهم عن ذكر الله تعالى في سائر تصرفاتهم وأعمالهم، منطبعون على كمال الأدب مع الله عز وجل، وهؤلاء هم خير فرق الآدميين»
(من كتاب اعتقادات فرق المسلمين والمشركين ص/72) .

ولقد انتسب إلى الصوفية أعلام من أكابر الأمة يشار إليهم بالبنان وتعقد على كلماتهم الخناصر، مثل الإمام الحافظ أبي نعيم الاصبهاني صاحب طبقات الأولياء
والإمام الحافظ وشيخ الإسلام أبي عثمان الصابوني وقد تربى في بيت التصوف ونشأ في رعاية الإمام أبي الطيب الصعلوكي بعد وفاة أبيه
والإمام الحافظ أبي طاهر السلفي، فصحب الصوفية في حلهم وترحالهم ولبس الخرقة منهم كما هو ثابت ومبين عنه
والحافظ أن أبي جمرة
والإمام الحافظ ابن رشيد السبتي الفهري
والإمام سلطان العلماء العز بن عبد السلام
وشيخ الاسلام زكريا الأنصاري
وشيخه البلقيني
والحافظ السيوطي
والآلوسي صاحب التفسير
والحافظ المناوي وغيرهم.

وأثنى عليهم أكابر أيضا مثل الإمام التقي السبكي والتاج ابنه، والحافظ ابن حجر العسقلاني ومن طالع ترجمته الجواهر والدرر علم حبه للصوفية، والحافظ السخاوي، وغيرهم كثير يضيق المقام عن تعدادهم، وهذه كتبهم طافحة بالثناء العاطر على الصوفية

وكان أحدهم إذا ما أراد المبالغة في الثناء والتزكية على من يترجم له منهم قال
(هو من بيت صلاح وتصوف) أو نحو ذلك من العبارات الدالة على الإجلال والإكبار.

وإليك طائفة من هذا لتعلم علم اليقين بأننا لا نتقول ولا نضع عليهم ما لا يقولونه أو يعتقدونه،

قال الحافظ المنذري في كتابه التكملة لوفيات النقلة 2/150 في ترجمة أبي القاسم عبد المعز بن عبد الله الأنصاري الهروي (الشيخ الصالح الأصيل… وهو من بيت الصلاح والتصوف).

وقال أيضا في ترجمة الإمام أبي الحسن أسعد بن محمد السهروردي
(الشيخ الأصيل… الصوفي.. وهو من بيت الحديث والتصوف والصلاح) 2/404.

وقال أيضا في ترجمة أبي الفضل أحمد بن عبد المنعم الميهني
(الشيخ الصالح الأصيل.. وولي خدمة الصوفية برباط الخليفة، وهو من بيت التصوف والصلاح هو وأبوه وجده وجد أبيه وأخوه أبو البركات محمد، كلهم حدثوا، وسلفه كلهم مشهورون بين أهل الطريقة – يعني الصوفية – متقدمون في كل موضع) 2/405،
وكتابه زاخر بالثناء عليهم وجميل الذكر لهم.

وقال الحفاظ ابن الصلاح في طبقاته 1/232 في ترجمة الإمام محمد بن علي بن الحسين الاسفراييني
(أحد حفاظ الحديث الجوالين في طلبه، ومن المعروفين بكثرة الحديث والتصنيف له وبصحبة الصالحين من أئمة الصوفية في الأقطار) .

وقال الإمام النووي في ما ألحقه وأضافه على طبقات ابن الصلاح في ترجمة إبراهيم بن عيسى المرادي والأندلسي
«الفقيه الشافعي الإمام الحافظ المتقن المحقق الضابط الزاهد الورع الذي لم تر عيني في وقته مثله، كان رضي الله عنه بارعا في معرفة الحديث وعلومه وتحقيق ألفاظه ولا سيما الصحيحان،
ذا عناية باللغة والنحو والفقه ومعارف الصوفية، حسن المذاكرة فيها،
وكان عندي من كبار المسلكين في طرائق الحقائق – يعني التصوف – حسن التعليم، صحبته نحو عشر سنين لم أر منه شيئا يكره، وكان من السماحة بمحل عال على قدر وجده، وأما الشفقة على المسلمين ونصيحتهم فقل نظيره فيهما» (من طبقات ابن الصلاح).

وقال ابن الصلاح في ترجمة احمد بن علي بن الحسين الطريثيثي
«الصوفي المسند أبو بكر، قال الحافظ الأوحد أبو طاهر السلفي وبدأ به في معجمه في شيوخ بغداد: أبو بكر هذا أجل شيخ شاهدته ببغداد من شيوخ الصوفية وأكثرهم حرمة وهيبة عند أصحابه» 1/352.

وقال الحافظ ابن السمعاني في كتاب الانساب عند نسبة (صوفي) (واشتهر بهذه النسبة جماعة من الأكابر، وصنفوا فيهم التصانيف، ومن المحدثين الذين اشتهروا بهذه النسبة..) فأخذ رحمه الله في تعداد طائفة من أعلام المحدثين الصوفية.

الثناء على أعلام الصوفية

وكتب التراجم والتواريخ موشحة بالثناء على أعلام الصوفية، مثل سير أعلام النبلاء للذهبي وتاريخ الإسلام له وطبقات الفقهاء الشافعيين لابن كثير وطبقات الحنابلة والحنفية والمالكية والكتب التي ألفت في بيان طبقات الصوفية مثل طبقات السلمي وطبقات أبي نعيم وطبقات ابن الملقن وطبقات المناوي وغيرها.

ولعل في هذه الحادثة التي تنقلها كتب التواريخ عن الإمام العظيم أبي إسحاق الشيرازي رحمه الله تعالى، حين أوفده الخليفة المقتدي في سفارة إلى السلطان ملكشاه ووزيره نظام الملك ما يدلك أيها القارئ الكريم على مكانة الصوفية عند العلماء،

ولا سيما إذا علمت من كان بصحبة هذا الإمام في هذه الرحلة من أصحابه وتلاميذه الذين هم أعيان الأعيان وسمع الدنيا وبصرها،
مثل فخر الإسلام الشاشي
والحسين بن علي الطبري
وابن بيان
والميانجي
وأبي ثعلب الواسطي
وعبد الملك الشابر خواستي
وأبي الحسن الآمدي
وأبي القاسم الزنجاني
وأبي علي الفارقي
وأبي العباس بن الرطبي
وغيرهم من أعلام الأمة وحفاظها، فتلقى الناس أبا إسحاق في كل بلدة حل بها بالحفاوة والترحيب اللذين لا مثيل لهما، فكانوا يتلقونه بنسائهم وأولادهم فيمسحون أركانه تبركا والشيخ ينهاهم عنه تواضعا رحمه الله.

قال تاج الدين السبكي:
«وخرجت إليه صوفيات البلد وما فيهن، إلا من معها سبحة والقين الجميع إلى المحفة وكان قصدهن أن يلمسها فتحصل لهن البركة، فجعل يمرها على يديه وجسده ويتبرك بهن، ويقصد في حقهن ما قصدن في حقه».
وقال «ولما بلغ بسطام قيل للشيخ: قد أتى فلان الصوفي، فنهض الشيخ من مكانه وعدا إليه، وإذا به شيخ كبير هم، وهو راكب بهيمة، وخلفه خلق من الصوفية بمرقعات جميلة، فقيل له: قد أتاك الشيخ أبو إسحاق، فرمى نفسه عن البهيمة وقبل يده وقبل الشيخ أبو إسحاق رجله، وقال له الصوفي: قتلتني يا سيدي فما يمكنني أمشي معك، ولكن تتقدم إلى مجلسك، ولما وصل جلس الشيخ أبو إسحاق بين يديه، وأظهر كل واحد منهما من تعظيم صاحبه ما جاوز الحد» اهـ.

فهل يعقل أن يصدر عن هذا الإمام كل هذا التعظيم والتبجيل لمبتدعة ضالين؟!
وهلا قال له أحد هؤلاء الأئمة الكبار من أصحاب الحديث الذين كانوا بصحبته: ما هذه البدع يا إمام؟!

يا قوم اتقوا الله!

كل هذا الذي ذكرناه – وغيره كثير طويناه خشية الإملال – يعطينا صورة ناصعة مناقضة غاية التناقض للصورة القاتمة السوداء التي تلقى على الناس وترسم في أذهانهم للصوفية، والتي ليس فيها إلا الشرك والخرافات والقول بالاتحاد والحلول واستحلال المحرمات وإتيان الموبقات، فكيف تلتئم هذه الصورة المشرقة مع ما يشاع ويعمم عن الصوفية، مما لا يقره عاقل فضلا عن عالم؟

وبعد…
فلعل أحد المتحمسين الذين تأثروا بشيء مما ينشر اليوم عن الصوفية – أو بالأصح عن أدعياء الصوفية – ينبري قائلا: هذا الذي نقلته لنا إنما كان في السابق، أما اليوم فالصوفية خلو من كل خير وما فيها إلا البدع والشرور.

فأقول: كلا، وهذا الكلام أيضا ليس بصحيح، وإلا فلماذا يثني عليها المعاصرون من أعلام الدعاة والمرشدين والعلماء.

قال الأستاذ العلامة أبو الحسن الندوي رحمه الله عن الصوفية في الهند
«إن هؤلاء الصوفية كانوا يبايعون الناس على التوحيد والإخلاص واتباع السنة والتوبة عن المعاصي وطاعة الله ورسوله، ويحذرون من الفحشاء والمنكر والأخلاق السيئة والظلم والقسوة ويرغبونهم في التحلي بالأخلاق الحسنة والتخلي عن الرذائل…». ثم تحدث عن مدى تأثير أخلاقهم وإخلاصهم وتعليمهم وتربيتهم ومجالسهم في المجتمع والحياة.
(من كتاب «المسلمون في الهند» للشيخ الندوي) .

وتحدث الشيخ الندوي أيضا رحمه الله تعالى، في معرض كلامه عن زيارته الفيلسوف والشاعر الإسلامي محمد إقبال بعد أن ذكر إقبال التصوف ورجاله والتجديد الإسلامي في الهند بواسطتهم، وبعد أن أثنى على الشيخ أحمد السرهندي والشيخ ولي الله الدهلوي والسلطان محيي الدين أورنك زيب رحمهم الله تعالى
قال الشيخ «إنني أقول دائما لولا وجودهم – يعني الصوفية – وجهادهم لابتلعت الهند وحضارتها وفلسفتها الإسلام» (من كتاب روائع إقبال للشيخ الندوي) .

قال العلامة محمد الحامد رحمه الله
«فاعلم أن التصوف هو تنقية الظاهر والباطن من المخالفات الشرعية، وتعمير القلب بذكر الله تعالى، ومراقبته وخشيته ورجائه، والسير في العبادات والأعمال على النهج الشرعي طبق السنة الشريفة، وخلافا للبدعة السيئة التي يحظر الإسلام التلبس بها»
(من كتاب العلامة المجاهد الشيخ محمد الحامد لعبد الحميد طهماز).

وقال الأستاذ الأديب عباس محمود العقاد:
«ظل المتصوفة والمنتسبون إلى الطرق الصوفية من المتأخرين يبرؤون من القول بالحلول ووحدة الوجود وإسقاط التكاليف، ويعتزلون من يقول بها على وجوهها المنقولة من الديانات الوثنية..

وهذا الفارق الفاصل بين الصوفية الإسلامية والصوفية الدخيلة الذي أوهم فريقا من المستشرقين أن التصوف كله مستعار من الهند وفارس أو من الأفلاطونية الحديثة»
(من كتاب التفكير فريضة إسلامية) .

أما عن جهادهم في نشر الإسلام والذود عن حياضه بالغالي والنفيس وبذل النفس رخيصة في سبيل الله تعالى فالحديث يطول، وبحسب القارئ أن يعلم أن الصوفية كانوا – وإلى عهد قريب – عدة الملوك والخلفاء للقتال، ينفرون خفافا وثقالا.
قال الشيخ محمد راغب الطباخ رحمه الله:
«ومن جليل أعمال الصوفية وآثارهم الحسنة في الأمة الإسلامية أن الملوك والأمراء متى قصدوا الجهاد، كان كثير من هؤلاء بإيعاز وبغير إيعاز يحرضون اتباعهم على الخروج إلى الجهاد، ولعظيم اعتقادهم فيهم وانقيادهم كانوا يبتدرون إلى الانتظام في سلك المجاهدين، فيجتمع بذلك عدد عظيم من أطراف ممالكهم، وكثيرا ما كان أولئك يرافقون الجيوش بأنفسهم ويدافعون ويحرضون؛ فيكون ذلك سببا للظفر والنصر، وإذا تتبعت بطون التاريخ وجدت من ذلك شيئا كثيرا»
(الثقافة الإسلامية للشيخ رحمه الله) .

وقال أمير البيان شكيب أرسلان:
«فالقادرية – إحدى طرق الصوفية – هم أحمس مبشري الدين الإسلامي في غربي إفريقيا من السنغال إلى بنين.. وهم ينشرون الإسلام بطريقة سلمية بالتجارة والتعليم.. فيلقنون صغار الزنج الدين الإسلامي أثناء التعليم ويرسلون النجباء من تلاميذهم على نفقة الزوايا إلى مدارس طرابلس والقيروان وجامع القرويين بفاس والجامع الأزهر بمصر.. وبواسطة أنوار هذه الطريقة زالت البدع من بين البربر وتمسكوا بالسنة والجماعة»
(من كتاب حاضر العالم الاسلامي) .

وقال الدكتور عبد الرحمن بدوي: «للصوفية وخصوصا للطرق الصوفية المنتظمة دور هائل في نشر الدعوة الإسلامية في خارج دار الإسلام»
(تاريخ التصوف الإسلامي ص/25).
وقال أيضا: «دور الصوفية في الجهاد، المرابطة في الثغور الاسلامية لحمايتها ضد المعتدين على حدود دار الإسلام، والتصوف الاسلامي نشأ وتطور واستمر الى عهد قريب مجاهدا أو مرابطا، والرباطات وهي قلاع حربية حصينة، كانت في أصلها وتطورها خانقاهات للصوفية المرابطين فيها للجهاد ضد أعداء المسلمين» (من المصدر السابق).

وما جهاد المسلمين في الهند للاستعمار البريطاني منا ببعيد، وذلك بقيادة سيد الطائفة الصوفية الحاج امداد الله وخلفائه الإمام النانوتوي والإمام الكنكوهي والحافظ ضامن الشهيد وغيرهم رحمهم الله وألحقنا بهم معافين.
وجهاد الصوفية المشرف في آسيا ضد الروس القياصرة والبلاشفة من بعدهم لا يخفى على من طالع كتب التاريخ.

يقول الأستاذ الدكتور محمد علي البار:
«يجهل أكثر المثقفين الأدوار البطولية العظيمة التي قام بها علماء الإسلام ومشايخ الطرق الصوفية في نشر الإسلام في المناطق الشاسعة التي دخلت في الإسلام على امتداد القرون، في ما يعرف اليوم بالاتحاد السوفياتي… وعندما توقف المد العسكري في القرن الرابع الهجري، وتوقفت الفتوحات عند حدود الصين والتركستان الشرقية، قام العلماء ومشايخ الطرق الصوفية ومريدوهم من التجار بنشر الإسلام في الأصقاع الواسعة…»
(من كتاب «المسلمون في الاتحاد السوفياتي» للدكتور محمد علي البار 1/389 – 390).

وقال أيضا: «وقد انتشرت بينهم – التركمان – الطرق الصوفية التي كان لها دور كبير في إسلامهم ثم في تعميق الاسلام فيهم وإبقاء جذوته مشتعلة في قلوبهم، والتي يوجهها ويقودها السادة من آل بيت النبي صلى الله عليه وسلم» (1/368).

وقال أيضا عن الطريقة النقشبندية:
«تتمتع بشعبية واسعة في جميع الاتحاد السوفياتي.. ومركزها الرئيس في بخارى، وقد قاد رجال هذه الطريقة الجهاد ضد الغازين البوذيين الأوبروت في القرنين السابع والثامن عشر الميلادي في قرغيزيا، ما جعل لهذه الطريقة شعبية كبيرة بين القرغيز تشبه الى حد كبير إكبار الناس لهذه الطريقة في القوقاس، حيث أخرجت الإمام الملا محمد والإمام محد شامل وحركة المريدين التي قاومت الغزو الروسي للداغستان والقوقاس لأكثر من 137 عاما، والذي كان من آخر ابطالها الإمام نجم الدين غوستو الذي أعلن استقلال الداغستان سنة 1337 هـ 1918 م» (1/378).

رسائل النور

ولا ننسى ما قام به العلامة بديع الزمان النورسي، وهو من أعلام الصوفية الكبار، من إصلاح أفنى فيه حياته لكي يشعل النور في غياهب الظلمات التي تلت إسقاط الخلافة الإسلامية العثمانية، وها هي رسائل النور إلى يومنا هذا تبعث النور والدفء في قلوب النشء الإسلامي في تركيا والعالم الإسلامي أجمع.

وكذلك جهاد الصوفية السنوسية ضد الاستعمار الإيطالي وبطولاتهم التي صارت مضرب المثل في الفداء والبسالة، والتي توجت باستشهاد الليث عمر المختار رحمه الله تعالى.
وقريب منه الحركة الجهادية في الجزائر التي كانت بقيادة الأمير المجاهد العالم الصوفي عبد القادر الحسني الجزائري رحمه الله.

كل هذا الخير والعمل المبارك المبرور للصوفية، يجعلنا نصدع بأن ما يشاع على سبيل الإطلاق من ذم الصوفية ظلم للحقيقة وجناية على التاريخ.

نعم لقد شاب التصوف الإسلامي بعض الانحرافات والمخالفات والبدع، ولكن عند التحقيق نجد أن الصوفية الحقة بريئة كل البراءة مما ألحقه فيها بعض من ينتسبون إليها زورا، أو بعض الغلاة الذين ابتعدوا بفهمهم عن الصوفية الحقة القائمة على نهج القرآن والسنة.

قال العلامة زروق:
«فغلاة المتصوفة كأهل الأهواء من الأصوليين، وكالمطعون عليهم من المتفقهين، يرد قولهم ويجتنب فعلهم، ولا يترك المذهب الحق الثابت بنسبتهم إليه وظهورهم فيه»
(من كتاب قواعد التصوف القاعدة 35).

وقال الحافظ السيوطي بعد أن ذكر أصل علم التصوف وأثنى عليه:
«وعلمت أيضا أنه كثر فيه الدخيل من قوم تشبهوا بأهله وليسوا منهم، فأدخلوا فيه ما ليس منه فأدى ذلك الى إساءة الظن بالجميع، فوجه أهل العلم للتمييز بين الصنفين ليعلم أهل الحق من أهل الباطل، وقد تأملت الأمور التي أنكرها أئمة الشرع على الصوفية، فلم أر صوفيا محققا يقول بشيء منها، وإنما يقول بها أهل البدع والغلاة الذين ادعوا أنهم صوفية وليسوا منهم»
(من كتاب تأييد الحقيقة العلية ص/57).

أوزار الأوعياء
وقال العلامة ابن عابدين في معرض بيان البدع الحادثة في مجالس العزاء والمآتم والختمات والتي ابتدعها أشخاص تزيوا بزي الصوفية وانتحلوا اسمهم، قال بعد إنكاره لها:
«ولا كلام لنا مع الصدق من ساداتنا الصوفية المبرئين عن كل خصلة ردية»
(من رسالة شفاء العليل لابن عابدين).

وقال الأستاذ العقاد رحمه الله بحق: «وليس من الإنصاف أن تحمل على التصوف أوزار الأدعياء واللصقاء الذين يندسون في صفوفه نفاقا واحتيالا أو جهلا أو فضولا، فإنه ما من نحلة في القديم والحديث سلمت من أوزار اللصقاء الذين ينتمون إليها من غيرها أهلها»
(من كتاب التفكير فريضة إسلامية).

إلى هنا أرجو أن أكون جليت الأمر، وأوصلت الصورة الحقيقية الناصعة للصوفية الحقة للقارئ، ولا يعكر على ما مر، ما ينسب إلى بعض أعلام الصوفية من كلمات وأقوال تناقض في ظاهرها الشرع، كلا، وللعلماء المحققين توجيهات صحيحة لأكثرها؛ على أن أغلب ما ينسب إلى أكابر الصوفية من هذه الكلمات مكذوب ومنحول ومدسوس عليهم زورا وبهتانا وحسدا من أجل إيغار صدور ولاة الأمر والعامة عليهم، وقد كذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم ووضعت عليه أحاديث ركبت لها أسانيد باطلة، فلا غرابة إن وضع على هؤلاء العلماء.

ثم نقول لمن يحتج علينا بالأشخاص، دع عنك الأشخاص ولنتكلم في الأفكار والمبادئ، فهذه مبادئ الصوفية مبينة موضحة في أمهات كتبهم، التعرف للكلاباذي، والرسالة للقشيري، والقوت لأبي طالب المكي، والإحياء وقواعد التصوف والحكم والعوارف، فإن كان لكم اعتراض عليها، فخصمكم في هذا النزاع ليس نحن، بل التاريخ الإسلامي بأجمعه، وقد نقلنا طرفا من أقوال أعلامه.

أما إذا كنتم تقرون هذه المبادئ – وهو ما نأمله – فميزاننا وميزانكم هي، كل ما خالفها من أفعال المنتسبين للصوفية مرفوض من قبلنا وقبلكم.
والذي يلزم المسلم في دينه أن يبادر بنفي كل ما يشين عمن ثبتت فضيلته وفاح شذا صدقه من العلماء العاملين الذين شهد لهم التاريخ والأمة بالفضل والعلم.
ثم عليه أن يعلم أن كل ما خالف الكتاب والسنة هو مرفوض مردود كأننا من كان قائله، وأن الصوفية الحقة بريئة من كل ما ناقض الشرع وخالف طريق الرسول صلى الله عليه وسلم.

وأخيرا..
فإنني أذكر نفسي وإخواني بقول الحق تبارك وتعالى:
«ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى واتقوا الله»،
وقوله سبحانه: «وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل»،
وقوله عز من قائل: «وإذا قلتم فاعدلوا».

وأقول: إن لأولياء الله تعالى حرمة عند ربهم، وإن الله تعالى لم يتوعد على ذنب بالحرب إلا على ذنبين، الربا وإيذاء الصالحين، فقال لأكلة الربا بعد أن وعظهم وحثهم على التوبة:
«فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله»،
وقال في إيذاء أوليائه في الحديث القدسي: «من آذى لي وليا فقد آذنته بالحرب».

فلنحذر غاية الحذر من إيذاء أولياء الله تعالى، ولنكن لهذه النصوص على ذكر، ولا يجرنا اللدد إلى غمط الناس وبطر الحق.
اللهم اهدنا وإخواننا المسلمين بهداك واجعل عملنا في رضاك، واملأ قلوبنا بحب أوليائك الصالحين، وارزقنا الأدب معهم، واجعلنا من أهل الغيرة عليهم وعلى أعراضهم. آمين.