الصفحة الرئيسية » مقالات » تجديد الوصاية

تجديد الوصاية

تجديد الوصاية
كنتُ في مراجعة لإدارة المطبوعاتِ في وزارة الثقافة و الإعلام ، فتوافقتُ عند المصعدِ مع رجلٍ جاءَ بكتابٍ له من ورقاتٍ تسع ، يتكلم فيه عن العقائد التي في كتب سيد قطب ، رحمه الله ، و تجاذبنا حديثاً طويلاً بدءاً من نشر الكتاب و فسحه في البلاد إلى أن مررنا على الكلام عن كتابه في سيد قطب ، و ذكرت له بأن الكلام في نقد الأشخاص شيءٌ لا نحتاجه اليوم كثيراً ، إلا في حالتين :
الأولى : شخص له تأثيره و نفوذه إلى قلوب الناس و عقولهم ، و عليه من المآخذ القدر الكبير الضاربِ في ثوابت الدين ، و هذه الحالة لا تُقبل إلا بعد ثبوت :
الثانية: ألا يكون قَد انتُقِدَ قبلُ.
لأننا اليوم نحتاجُ إلى عرْضِ الثقافاتِ على أنفسنا و على مَن حولنا ، و في العرض يكون النقضُ للمعترضِ ، سوءاً نقضاً كلياً أو جزئياً ، و أصلياً أو فرعياً ، فلا يكون همُّ المثقف النقضُ لمن خالفه ، لأنَّ النقضَ حيلة العاجز الخاوي ، و العرضُ حلية القادر المليء ، و الردُّ إنما قيمته في توظيفه و كيفية صياغته ، لا في كمِّ المؤاخذات و لا في سلاطة اللسان .
تحججَ الأخُ بأنَّ فعلَه من باب النهي عن المنكرِ، و استدل لنفعله بالحديثِ الشهير ” إذا رأى أحدكم منكراً “، وافقته على حقِّ الإنكارِ، و لكن: متى، وممن، ولمن، وكيف، ولماذا ؟
إذا أدركنا أبعاد هذه الأسئلة كان للإنكارِ وزنا معقولاً ، و لكن هذا الشخصُ في إنكاره و انتقاده لسيد قطب لم يَسِرْ على وتيرةِ الإنكارِ الحقيقي الجوهري ، بل سار على شنشة أخزم التي عرفها التاريخ المعاصر ، و صارت وصمة العار فيه ، حين أقدم فئة لا يعرفون معروفاً و لا يُدركون معنى المنكر على كتبِ سيد و غيره فأحرقوها و أتلفوها ، واستخرجوا الفتاوي في ذلك من مجاريها ، و كل إناءٍ بما فيه ينضح
جمع سبعة أشياءَ أخذها الناسُ ، ليس كل الناس ، على سيد قطب ، و نقلها هو من تلك الردود
و برأَ ذمته و ديانته ، كما قال ، بأن ذهب إلى مصدرِ كل وثيقةِ قولٍ و قرأها بعينيه ، و لم يقرأ كتبَ سيد قطب كلها ، و لا كتاباً كاملاً ، و لا أظنه قرأ روايته ” أشواك ” ، وهذا خللُ الردِّ ، فلو كان أحدُ هؤلاءِ يردون بدينٍ و صدقٍ مع ذواتهم في المعرفة و العلم لقرأ ما كَتَبَ المردودُ عليه ، و لكن وجبةُ ردٍّ سريعة ، فهنيئاً مريئاً .
و هذا الإنكار منطلقٌ من منهج الوصاية على عقول الناس و أفكارهم ، فلا يقرأون إلا من يُملى عليهم في سِجلِّ الأقدمين ،و لا يكتبون إلا ما يتغيرُ في العنوان المبين مع ثبات المضمون المتين ، تكرارٌ بإمرارٍ .
عرض كتابه ذا التسع صفحات على مجموعة من أشياخ الدين و العلم عنده ، فأيده رجلانِ و عارضه واحد ، و قال : إن فلانا يقول هو مهم بالنسبة للعامة ، و العامةَ هم كل من دون ذاك الشيخ ، و حتى الكاتبَ من العامة ، و بيَّنتُ له جلافة و صلافة و جفوة و قسوة شيخه هذا ، و أنه من المنفرين عن الصواب بسبب ما فيه من سيءِ الأخلاقِ و الصفاتِ .
الشيخ الآخر المعارض قال له : مزقها ، لأن سيد من علماءِ الأمة !
واستنكرَ على الشيخ هذا الوصف لسيد قطب .
فقلت له : سيد من علماءِ الأمة ، لأن علوم كلِّ أمةٍ كثيرة فليست العلوم النقلية الدينية ، فهناك الأدب ، و سيد قطب أديب .
لنضعْ في بالنا أنَّ هذا الرجل قد ردَّ على سيد قطب من مُحصَّلِ ما قرأه لأولئك المنتقدين و الرَّادِّين عليه ، لأنَّ الأمرَ الأساسَ عنده إبراءُ ذمةٍ في الإنكارِ للمنكرِ على القائم به ، و لو كان قد سبقَ أن أُنكِر عليه ، فهو قد اعتبرَ الإنكارَ وظيفةً لازمةً له ، بل لكل مسلم ، يجب القيام بها كل حينٍ و لما نُمعن النظرَ في الحديثِ الشريفِ الذي استدلَّ به نجد أن الإنكارَ حالةٌ تعترضُ الإنسان حين يقع منكرٌ مرئيٌ .
كرر الكلام عن سيد قطب كثيراً، و بيَّن خطورته _ [ الله أكبر ] _، فقلت له: لن يقرأ لسيد إلا من يريد أن يقرأ الكتب الكبار الثقيلة
بالمعلومات، و كتابك هذا سيفتح باب شرٍّ أنت تريد سدَّه، لأنك ستُلفت أنظار أناسٍ إلى كتب سيد قطب فيتأثرون بها، بان على وجهه التردد، ولكنه استدرك أمره فاستدل عليَّ بحديثِ الإنكار.
في معرض كلامه عن سيد قطب كان يُريني مقاطع من كتابِهِ ذي التسع صفحاتِ (A4) ، و يقرأ ما ينقله عنه من كتبه ، ككتاب ” في ظلال القرآن ” و هنا قال : حتى تسميته القرآن ظِلالاً، لا تجوز لأنها لم تأتي في الكتاب و السنة ، و الله سمى القرآن نوراً ، و الظلُّ ظلمة ، فيكون تناقض ، فكيف يجرؤ سيد أن يسمي القرآن ظلالاً و هو نور ؟!
فقلت له: أذكر حديثَ السبعة المظللين يوم القيامة، في أي ظلٍّ سيكونون ؟
قال لي : في ظل الله .
فقلت له: و الله سمى نفسه نوراً، و أثبتَ لنفسه ظلاً، فهل تقول لي، بناءً على كلامك، أنك تثبت لله ظلمةً ؟!
فتراجع، لطف الله به ، عن كلمته ،و بينت له أنَّ تراجعه دليل على عدم وجود قاعدة يستند إليها في الإنكار ،و إلا فلو أنزلتُ الحالَ تنزيلاً علمياً لكنتَ في شكٍ من أمرك .
وفي تحليلي أن القضية ليست في الكتاب ذاته ، و إنما في المنهج التأثيري لسيد قطب في التيار الصحوي على شريحة كبيرة شباب الناصحين من المجتمع في وقت كان سادة و أشياخ هذا الكاتب لم يُلاقوا إقبالاً من أحد ، فتولَّى كِبَر الأمرِ ذي كِبْرٍ فتبعه آخرون ، و لا يصح في الأخير إلا الصحيح ، و هناك كتب أشد من كتاب سيد قطب منتشرة في بلادنا ، و كانت كتب سيد قطب قبل بروز الصحوة منتشرة و لا أحد يُنكرها أو يعترض عليها ، فالسبب الرئيس هو إسقاط لسيد قطب و المتأثرين به من خلال إسقاط الكتب التي ألفها ،و هذه حيلة العاجز الضعيف الخالي من كل برهان
و إيمان بمبدأه و عقيدته و فكره .
جرَّنا الحديثُ عن الإنكار إلى الحديثِ عن العقيدة ، و كان الرجلُ جداً مهتماً بها ومدققاً ، و هذا الذي جعله يقضي غالبَ وقته في مناقشة أصحاب المناهج ، لم أخالفه في كون الشخص يُدافع عن معتقداته ، حتى لو كانت باطلة ، فهي في نظره حق فله أن يدافع عنها ، و لكن أن تكون مجالسنا كلها في مناقشة المخالفين لنا أساساً أو فرعاً فهذه هي المشكلة التي تحتاج إلى حلٍّ ، اعترضت عليه بأن وقتَه كثيرٌ جداً في هذه المهمة ، و بإمكانه أن يكتفيَ بالقليلِ منه ، لم يُعجبه رأيي و رجعَ مستدلاً بحديثه الوحيد ” من رأى منكم منكراً ” ، و عجبي له ، على قدر تلك المجالس في الإنكار على القطبيين و السروريين و الحزبيين أخرج بعد مخاضٍ شديد ورقاتٍ صغيراتٍ لا تكشفُ شيئاً عنه ليُحكم من خلالها عليه أو له .
اقترحتُ عليه أن يأخذ ببروتوكول صهيوني و هو:
مسايرة الخصم في صفه و الهدم في الخفاء ، بمعنى : أن يعيش مع من يعتقد أنهم خصومه و أنهم مخالفون للدين ، و في أثناء معايشته إياهم يعملُ في بيان الخللِ ، و هذا أنسب من المواجهة المُصادمة
و لكن لم يقتنع، لأن الحديث فيه ” فليُغَيِّرْه ” لا” فلْيُسَايرْه “، و هذا فهم عجيبٌ !!!
بيَّنتُ له أن الاهتمام الزائد ببعض العلوم يورثُ ضعفَ قيمتها في نفوس الناس ، و يحولها من حقائق إلى صور ، و هذا حاصل في العقيدة ، فكثيرون اهتموا بها كمادة معلومة لا معمولة ، و لهذا نلحظ كثيراً من المواقف التي تتطلَّب حضور العقيدة فعلاً لا ترى العقديَّ المتقن المتعمقَ في علوم العقائد إلا فاراً هارباً خواراً ، وذكرت له أن بعض العوام الأميين في العقيدة رجالَ موقفٍ ، تعرف أنهم يؤمنون بعقيدتهم فعلاً و عملاً بعكس الكثير من الأكاديميين في هذا الشيء .
في هذه الأثناء كان يذكرُ نعمة الله عليه بحفظه للقرآن ، و بَدئه بالسنة ، و من أحبَّ شيئاً أكثرَ من ذكره ، فكانت هذه الميزة كالفواصل الإعلانية في القنوات ، فذكرت له الكمَّ الكبير المُخرَّج سنويا من حفظة القرآن ، و ليس عيباً و لا يقف ضد حفظه أحد ، و لكن ليس من حفظَ يصبح عالماً .
حلل الرجلُ شخصيتي بأنني أقرأ كثيراً، و أنني شموليٌ في القراءةِ، و أنني أقرأ للفلاسفة، و خشي علي الزندقةَ و الإلحادَ !!!
فابتسمتُ و أطلتُ ابتسامتي، و قلت له لا تخف عليَّ ضلالاً فإن ربي سمى نفسه هادياً و لم يُسمها ضالاً، فأنا في بُحبوحة هدايته و حفظه.
فقال لي : أنت تتبع هواك .
وهذه لم ترُقْ لي ، فاعترضت عليه منتقداً و قاسياً في العبارة : أرجو ألا تعيدها مرة أخرى ، لأنني لا أقبل لأي أحد أن يصفني بهذا الشيء ، و لو تركت لنفسي الهوى لأسقطت رأيك في وريقاتك هذه و أنت لا تستطيع شيئاً ، فأعادها مرةً أخرى ، فأدركت أنني كنت أتحدثُ مع مسلوب عقلٍ و ذكاء
فقلت له : أتؤمن بأن الله يجمع الخصمين يوم القيامة فيقضي بينهما بعدله ؟
قال : نعم .
فقلت له : فأنا سأجعل هذه الكلمة محلَّ خصومتي لك عند الله،فيقضي بالحق و هو أحسن الحاكمين .
فضرب على صدره و قال : وأنا مستعد للمخاصمة و المقاضاة يوم القيامة أمام الله ، لأنني أؤمن أنني على الحق المبين 100% و أنت لا .فزاد يقيني بأنني أمام جاهل ، فقلت له : من عظم الله سقط من هيبة ذكر الاسم ، فكيف تجرؤ أن تقول بالموافقة و الاستعداد للمخاصمة أمام الله ،ولكن ضعف الإيمان مُلبَّسَا بزينة الديانة و الصلاح .

فنفضت يدي من يده و تركته أمام جموع الموظفين الخارجين من وزارة الثقافة و الإعلام، و أخذت أوراقَه المليئة بالحبرِ بِلا علمِ حَبْرٍ.