الصفحة الرئيسية » مقالات » فقه التيسير 1-20

فقه التيسير 1-20

فقه التيسير … لا حرج (1)
التيسير مقصد شرعي
اليسر سمة بارزة في الشريعة الإسلامية, تتجلى للعيان في أصول الشريعة الإسلامية وفروعها, في كلياتها وجزئياتها, ومن الألفاظ القريبة من معناه التخفيف بمعنى تيسير ما كان فيه عسر, ومنها الترخيص أو الرخصة وهي الحكم الثابت ميسرا, ومنها التوسعة وهي أعلى درجات اليسر, ومنها السماحة بمعنى السهولة والليونة, أما العسر فهو ضد اليسر, وهو منفي عن الشريعة, ومن الألفاظ المرادفة له الحرج وهي الأحكام المتضمنة مشقة فوق العادة, فيكون رفع الحرج بمعنى إلغاء الحكم أو تخفيفه أو التخيير فيه.
وقد تضافرت نصوص الكتاب والسنة على أن التيسير مقصد من مقاصد الشريعة, وأن الحرج مرفوع عنها, فقد قال تعالى: “يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر”, وقال تعالى: “يريد الله ليخفف عنكم وخلق الإنسان ضعيفا”, وقال تعالى: “لا يكلف الله نفسا إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت, ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا, ربنا ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا, ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به”, وقال تعالى: “هو اجتباكم وما جعل عليكم في الدِّين من حرج ملة أبيكم إبراهيم”.
وقال رسول الله r: “يسروا ولا تعسروا, وبشروا – وفي رواية: وسكِّنوا – ولا تنفروا” رواه البخاري ومسلم وأحمد, وقال r لمعاذ بن جبل وأبي موسى الأشعري ما بعثهما إلى اليمن: “يسرا ولا تعسرا, وبشرا ولا تنفرا, وتطاوعا ولا تختلفا” رواه البخاري ومسلم وأحمد, وقال r: “إن هذا الدِّين يسر, ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه, فسددوا وقاربوا وأبشروا ويسروا” رواه البخاري والنسائي – واللفظ له -, وقال r: “إن خير دينكم أيسره, إن خير دينكم أيسره” رواه أحمد, وقال r: “بعثت بالحنيفية السمحة” رواه أحمد, وقال r: “لو جاء العسر فدخل هذا الجُحر لَجاء اليسر فدخل عليه فأخرجه”, فأنزل الله تعالى: “فإن مع اليسر يسرا, إن مع اليسر يسرا” رواه الحاكم, وروي أنه لما نزلت هذه الآية خرج رسول الله r فرحا مسرورا وهو يقول: “لن يغلب عسر يسرين” رواه الحاكم والبيهقي مرسلا.
وبمناسبة دخول شهر رمضان المبارك فإنني أبارك لجميع المسلمين حلول هذا الشهر, وأتقرب إلى الله سبحانه وتعالى بإبراز بعض اليسر الذي يتجلى بخصوصه فيه وتتميز به هذه الشريعة على وجه العموم, خاصة إذا علمنا أن قوله تعالى: “يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر” نزل ضمن تفاصيل تشريع الصيام.

فقه التيسير … لا حرج (2)

أقسام التيسير في الإسلام 1
ينقسم اليسر في الشريعة الإسلامية إلى ثلاثة أقسام: أولها تيسير معرفة الشريعة والعلم بها وسهولة إدراك أحكامها ومراميها, ويدل لهذا قوله تعالى: “ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدَّكر” وقوله تعالى: “فإنما يسرناه بلسانك لتبشر به المتقين وتنذر به قوما لُدَّا”, ولهذا اليسر والسهولة أسباب متعددة, منها أن أول حملة للشريعة الإسلامية كانوا قوما أميين, ولم يكن لهم معرفة بكتب الأقدمين ولا بعلومهم, وقد جاءت هذه الحقيقة واضحة في كتاب الله U, قال تعالى: “هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين”, أما نبي هذه الأمة r فقد كانت أميته دليلا قويا على صدقه في تبليغ كتاب ربه وأنه لم يختلقه من تلقاء نفسه, قال تعالى: “وما كنت تتلو من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك إذا لارتاب المبطلون”, ومن أسباب اليسر والسهولة أن هذه الشريعة المباركة هي خاتمة الشرائع السماوية, وهي الشريعة الباقية إلى قيام الساعة, وهي الشريعة الواجبة على جميع البشر في مشارق الأرض ومغاربها, فاقتضت الحكمة الإلهية أن تكون الأحكام الشرعية ميسورة الفهم معقولة المعنى سهلة المأخذ.
ومن القصص الدالة على سهولة فهم النصوص الشرعية واستيعابها وإدراك معانيها ما حكاه الأصمعي قال: كنت أقرأ “والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاء بما كسبا نكالا من الله والله غفور رحيم” وبجنبي أعرابي، فقال: كلام من هذا؟ فقلت: كلام الله, فقال: أعد، فأعدت، فقال: ليس هذا كلام الله, فانتبهت فقرأت: “والله عزيز حكيم” بدل “والله غفور رحيم”، فقال أصبت, هذا كلام الله, فقلت له: أتقرأ القرآن؟ فقال: لا، فقلت: فمن أين علمت؟ فقال: يا هذا, عزَّ فحكم فقطع, فلو غفر ورحم لما قطع.
ثاني الأقسام تيسير العمل بالتكاليف الشرعية الكثيرة, فقد تناولت الشريعة حياة الإنسان بكل تفاصيلها ودقائقها, وشرعت له من أعمال الخير ما يعجز عن العمل به كله, فأرشدته الشريعة إلى التيسير على نفسه وعلى غيره, فمما أرشد إليه رسول الرحمة r قوله: “خذوا من الأعمال ما تطيقون, فإن الله لا يمل حتى تملوا” رواه مالك والبخاري ومسلم وأحمد والنسائي وأبو داود وابن ماجه, وقوله r: “إن هذا الدين متين, فأوغلوا فيه برفق” رواه أحمد, ولا يتعارض هذا التوجيه والإرشاد مع آيات وأحاديث كقوله تعالى: “كانوا قليلا من الليل ما يهجعون, وبالأسحار هم يستغفرون” وكقيامه r حتى تتفطر أو تتورم قدماه رواه البخاري ومسلم وأحمد والنسائي والترمذي وابن ماجه, ولكن المعنى أن لا يحمل الإنسان نفسه فوق طاقتها, بل يتعبد ما دام نشيطا لذلك, فإذا أحس بالمشقة والتعب أراح نفسه ويسر عليها, ويدل لذلك أنه النبي r دخل المسجد وحبل مربوط بين ساريتين, فقال: “ما هذا الحبل”؟ قالوا: حبل لزينب تصلي, فإذا كسلت أو فترت أمسكت به, فقال r: “حُلُّوه, ليصل أحدكم نشاطه, فإذا كسل أو فتر قعد” رواه البخاري ومسلم وأحمد والنسائي وابن ماجه, وجاء الهدي النبوي موضحا أن أحب الأعمال ما داوم عليه صاحبه وإن قل رواه البخاري ومسلم والنسائي وأحمد.

فقه التيسير … لا حرج (3)
أقسام التيسير في الإسلام 2
أما ثالث أقسام التيسير – وهو المقصود بهذه السلسلة من المقالات – فهو يسر أحكام الشريعة الإسلامية في نفسها, فإن الصفة المشتركة في جميع الأحكام الشرعية قدرة المسلم على فعل ما فرض الله عليه وقدرته على ترك ما نهى الله عنه, وهذا من معاني قول الله U: “لا يكلف الله نفسا إلا وسعها” وقوله تعالى في صفة نبينا محمد r: “ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم”.
قال القرطبي في تفسير هذه الآية: وقد جمعت هذه الآية المعنَيَين – أي الثِّقل والعهد -، فإن بني إسرائيل قد كان أخذ عليهم عهد أن يقوموا بأعمال ثقال, فوضع عنهم بمحمد r ذلك العهد وثقل تلك الأعمال, كغسل البول وتحليل الغنائم ومجالسة الحائض ومؤاكلتها ومضاجعتها, فإنهم كانوا إذا أصاب ثوب أحدهم بول قرضه – وروي جلد أحدهم -, وإذا جمعوا الغنائم نزلت نار من السماء فأكلتها، وإذا حاضت المرأة لم يقربوها، إلى غير ذلك مما ثبت في الحديث الصحيح وغيره.
وقال ابن كثير في تفسيرها: وقد كانت الأمم الذين كانوا قبلنا في شرائعهم ضيق عليهم، فوسع الله على هذه الأمة أمورها، وسهلها لهم, ولهذا قال رسول الله r: “إن الله تجاوز لأمتي ما حدثت به أنفسها، ما لم تقل أو تعمل” وقال: “رُفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه” انتهى, وهذا التجاوز والرفع يدل على أن الأمم السابقة كانت مؤاخذة بحديث النفس, وكانت مؤاخذة بالمعاصي الناتجة عن الخطأ والنسيان والإكراه.
وقد تكرر معنى اقتران التكليف بوُسع المكلف في عدد من الآيات القرآنية ضمن تضاعيف الأحكام الشرعية, وكل هذا للدلالة على الحرج والمشقة والعنت منفي عن أحكام الشريعة ومرفوع عن المسلمين, فعلى سبيل المثال قال تعالى: “والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة, وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف, لا تكلَّف نفس إلا وسعها, لا تضارَّ والدة بولدها ولا مولود له بولده”, وقال تعالى: “لينفق ذو سعة من سَعته, ومن قُدر عليه رزقه فلينفق مما آتاه الله, لا يكلف الله نفسا إلا ما آتاها, سيجعل الله بعد عسر يسرا”, وقال تعالى: “ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن حتى يبلغ أشده, وأوفوا الكيل والميزان بالقسط, لا نكلف نفسا إلا وسعها, وإذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربى, وبعهد الله أوفوا, ذلكم وصاكم به لعلكم تذكَّرون”.
ثم جاءت الآية الجامعة وهي قوله تعالى: “والذين آمنوا وعملوا الصالحات, لا نكلف نفسا إلا وسعها, أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون” لتدل على أن شريعتنا الإسلامية هي شريعة التيسير والرفق, قال ابن كثير في تفسير الآية: ينبه تعالى على أن الإيمان والعمل به سهل انتهى, ومثلها الآية الجامعة: “أولئك يسارعون في الخيرات وهم لها سابقون, ولا نكلف نفسا إلا وسعها, ولدينا كتاب ينطق بالحق وهم لا يظلمون”.
ولو تأملنا آية “ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن” مقارنة مع قوله تعالى: “ويسألونك عن اليتامى قل إصلاح لهم خير, وإن تخالطوهم فإخوانكم, والله يعلم المفسد من المصلح, ولو شاء الله لأعنتكم, إن الله عزيز حكيم” لاتضح لدينا بما لاشك فيه أن التيسير ونفي العنت مقصد شرعي أصيل, وذلك أن الله لما أمر الأولياء برعاية أموال اليتامى وفق المصلحة أذن لهم بعد ذلك في خلط أموالهم بأموالهم؛ لأن في عزل مال اليتيم وحده عسرا وعنتا على وليه, ولكنه نبه إلى علمه سبحانه بالمفسد منهم بالمصلح.

فقه التيسير … لا حرج (4)
رسول الله نبي الرحمة
وصف الله U نبيه محمدا r بحرصه على المؤمنين ورأفته ورحمته بهم, قال تعالى: “لقد جاءكم رسول من أنفسكم, عزيز عليه ما عنِتُّم, حريص عليكم, بالمؤمنين رءوف رحيم”, وقد دلَّت السنة النبوية أنه r كان يتفادى ما يشق على المسلمين, فمن ذلك قوله r: “لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك مع كل صلاة” رواه البخاري وأحمد والنسائي وأبو داود والترمذي وابن ماجه, وقوله r: “لولا أن أشق على أمتي لأحببت أن لا أتخلف عن سرية تخرج في سبيل الله, ولكني لا أجد ما أحملهم عليه, ولا يجدون ما يتحملون عليه, ويشق عليهم أن يتخلفوا بعدي, فوددت أني أقاتل في سبيل الله فأقتل, ثم أحيا فأقتل ثم أحيا فأقتل” رواه مالك والبخاري وأحمد والنسائي.
بل كان رسول الله r أحيانا يترك ما تهواه نفسه من أعمال الخير خشية أن يفرض على أمته, قالت أم المؤمنين عائشة: “إن كان رسول الله r ليدع العمل وهو يحب أن يعمل به؛ خشية أن يعمل به الناس, فيفرض عليهم” رواه البخاري ومسلم وأحمد وأبو داود, ومن أبرز الأمثلة على ذلك تركه r قيام رمضان؛ خشية أن يفرضه الله U على أمته, فيشق عليها فتعجز عنه, رواه مالك والبخاري ومسلم وأحمد وأبو داود, ومنه قول رسول الله r: “إن الله كتب عليكم الحج”, فقام الأقرع بن حابس فقال: أفي كل عام يا رسول الله؟ فقال: “لو قلتها لوجبت، ولو وجبت لم تعملوا بها” رواه مسلم وأحمد والنسائي وأبو داود وابن ماجه, وفي رواية أن رسول الله r زاد: “ذروني ما تركتكم, فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم, فإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم, وإذا نهيتكم عن شيء فدعوه” رواه مسلم وأحمد والنسائي وابن ماجه, ومنها قوله r: “إني لأقوم في الصلاة أريد أن أطوِّل فيها, فأسمع بكاء الصبي فأتجوز في صلاتي كراهية أن أشق على أمه” رواه البخاري ومسلم وأحمد والنسائي وأبو داود والترمذي وابن ماجه, وقال r: “إذا أمَّ أحدكم الناس فليخفف؛ فإن فيهم الصغير والكبير والضعيف والمريض” رواه مالك والبخاري ومسلم وأحمد والنسائي وأبو داود والترمذي وابن ماجه.
إن هذه الأدلة أمثلة عملية لما يجب أن يتحلى به الدعاة من الرحمة بالمدعوين والتيسير عليهم وإلا نفر الناس عنهم بل ربما نفروا عن الشرع الحنيف بسبب تصرف متشدد من داعية غير حكيم, ومصداق ذلك قوله تعالى في وصف نبي الرحمة: “فبما رحمة من الله لنت لهم, ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك, فاعف عنهم واستغفر لهم”.

فقه التيسير … لا حرج (5)
مظاهر التيسير في الشريعة
مظاهر التيسير في الشريعة الإسلامية كثيرة جدا, وتنتشر أفقيا في كثير من معاملة المسلم مع الله ومعاملته مع الناس, وهي منة امتن الله بها على عباده المسلمين, فلا يجوز التنزه عنها بحجة أنها رخص للضعفاء العاجزين, بل إن الله سبحانه وتعالى يحب أن يرى عباده آخذين برخصه شاكرينه عليها مستشعرين منته عليهم, يقول رسول الله r: “إن الله يحب أن تؤتى رخصه كما يكره أن تؤتى معصيته” رواه أحمد.
فمن الرخص الشرعية الثابتة بنصوص الكتاب أو السنة أو كليهما التيمم بالتراب عند فقد الماء والمسح على الخفين بدل غسل الرجلين والصلاة قاعدا للعاجز عن القيام وقصر الصلاة وجمعها للمسافر والإفطار في رمضان للمريض والمسافر والحامل والمرضع, والرخص كثيرة يصعب حصرها في هذه العجالة.
ولبعض هذه الرخص قصص جاءت في كتب الأحاديث والسيرة, يظهر فيها بوضوح إرادة الله U تيسيره على عباده ورفع الحرج عنهم, فمثلا في تشريع التيمم تقول أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: خرجنا مع رسول الله r في بعض أسفاره, حتى إذا كنا بالبيداء أو بذات الجيش انقطع عقد لي, فأقام رسول الله r على التماسه وأقام الناس معه, وليسوا على ماء وليس معهم ماء, فأتى الناس إلى أبي بكر فقالوا: ألا ترى إلى ما صنعت عائشة, أقامت برسول الله r وبالناس معه وليسوا على ماء وليس معهم ماء, فجاء أبو بكر ورسول الله r واضع رأسه على فخذي قد نام, فقال: حبست رسول الله r والناس وليسوا على ماء وليس معهم ماء, قالت: فعاتبني أبو بكر وقال ما شاء الله أن يقول, وجعل يطعن بيده في خاصرتي, فلا يمنعني من التحرك إلا مكان رسول الله r على فخذي, فنام رسول الله r حتى أصبح على غير ماء, فأنزل الله آية التيمم فتيمموا, فقال أسيد بن الحضير وهو أحد النقباء: ما هي بأول بركتكم يا آل أبي بكر, فقالت عائشة: فبعثنا البعير الذي كنت عليه فوجدنا العقد تحته, رواه مالك والبخاري ومسلم وأحمد والنسائي, فتأمل وصف أسيد بن الحضير لهذه الرخصة بأنها بركة, وأن آل أبي بكر بركة على المسلمين.
وقد نهى الإسلام أن يبلغ التنطع بالمسلم إلى أن يتنزه عن الأخذ بالرخص الشرعية, فقد صح أن النبي r صنع شيئا فرخَّص فيه, فتنزه عنه قوم, فبلغ ذلك النبي r فخطب فحمد الله ثم قال: “ما بال أقوام يتنزهون عن الشيء أصنعه, فوالله إني لأعلمهم بالله وأشدهم له خشية” رواه البخاري, والحديث واضح ظاهر في أن الترخص بالرخص الشرعية لا يقدح في مقام خشية الله سبحانه.
وقد وصف رسول الله r الرخص التي امتن الله بها على عباده بأنها صدقة منه سبحانه إليهم, فقد فهم عمر بن الخطاب عندما نزل قوله تعالى: “ليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا” بأن رخصة القصر منوطة بالخوف, فسأل رسول الله r عن ذلك فقال: “صدقة تصدق الله بها عليكم, فاقبلوا صدقته” رواه مسلم وأحمد والنسائي وأبو داود والترمذي وابن ماجه.

فقه التيسير … لا حرج (6)
بين التيسير والرخص
عند الحديث عن مظاهر التيسير في الشريعة الإسلامية كالتيمم والمسح على الخفين والصلاة قاعدا للعاجز عن القيام وقصر الصلاة وجمعها للمسافر والفطر في رمضان للمعذور وغير ذلك من الرخص الثابتة بالنصوص الصريحة, عند الحديث عنها يرتفع إشكال بشأن حكم “تتبع الرخص” الذي نهى عنه العلماء, كقول سليمان التيمي: لو أخذتَ برخصة كل عالم اجتمع فيك الشر كله, قال ابن عبدالبر – معلقا على قول سليمان التيمي -: هذا إجماع لا أعلم فيه خلافا, وكقول النووي: لو جاز اتباع أي مذهب شاء لأفضى إلى أن يلتقط رخص المذاهب متبعا هواه, ويتخير بين التحليل والتحريم, والوجوب والجواز, وذلك يؤدي إلى الانحلال من ربقة التكليف, وكقول الذهبي: ومن تتبع رخص المذاهب وزلات المجتهدين فقد رقّ دينه, وكقول ابن النجار: (ويحرم عليه) أي على العامي (تتبع الرخص), وهو أنه كلما وجد رخصة في مذهب عمل بها ولا يعمل بغيرها في ذلك المذهب, (ويفسق به) أي بتتبع الرخص؛ لأنه لا يقول بإباحة جميع الرخص أحد من علماء المسلمين, فإن القائل بالرخصة في هذا المذهب لا يقول بالرخصة الأخرى التي في غيره, وكقول ابن حجر الهيتمي: يجوز للعامي أي من لم يتأهل لمعرفة الأدلة على قوانينها تقليد من شاء من الشافعي ومالك وغيرهما, ما لم يتتبع الرخص أو يحصل تلفيق لا يقول به أحد ممن قلدهم.
ولإزالة هذا الإشكال فإنه من المهم توضيح معنى الرخصة ومعنى التتبع في هذا المقام, إن الرخصة التي نهى العلماء عن تتبعها هي الرخصة التي أفتى بها أحد الفقهاء المؤهلين للاجتهاد والنظر في الأدلة الشرعية, وبالتالي فإن هذه الرخصة التي صدرت من هذا الفقيه هي خلاصة فهمه واجتهاده في نصوص الكتاب والسنة, ويبقى رأيه محتملا للخطأ والصواب, فإن كان رأيه خطأ فقد ضمن أجر اجتهاده, وسقطت عنه عهدة الخطأ, أما إن كان رأيه صوابا فقد أضاف لأجره الأول أجر إصابة الحق, فاجتمع له أجران, وكل خلاف الفقهاء المؤهلين داخل في هذه القاعدة ما دام خلافهم محصورًا في الفروع ومبنيًا على الأدلة الظنية في ثبوتها أو دلالتها.
ومما استدل به العلماء على حركة تتبع الرخص الصادرة عن الفقهاء المجتهدين أن الشرع الحنيف أمر المسلم باتباع ما يطمئن إليه قلبه, وتسكن إليه نفسه الباحثة عن الحق, فقد قال رسول الله r: “البر ما اطمأن إليه القلب, واطمأنت إليه النفس, والإثم ما حاك في القلب, وتردد في الصدر, وإن أفتاك الناس وأفتوك” رواه البخاري – في التاريخ – وأحمد, أي إن النفس لا تستقر متى شكَّت في أمر, أما إذا أيقنته سكنت واطمأنت, وقال r: “دع ما يريبك إلى ما لا يريبك” رواه أحمد والنسائي والترمذي, أي اترك ما يشككك ويؤدي بك إلى قلق النفس واضطرابها إلى ما يقود إلى طمأنينتها وسكونها.

فقه التيسير … لا حرج (7)
اختار أيسرهما
أما كون النبي r كان يحب التخفيف على أمته فليس المقصود به الأخذ برخص العلماء؛ لأن النبي r لم تكن أمامه أقوال للمجتهدين, فيأخذ منها الأيسر والأخف, بل كان r هو المشرِّع, ولكن معنى التخفيف الذي يحبه r فهو كالتخفيف في أفعال الصلاة وأقوالها على قدر صلاة الضعفاء والمرضى وكبار السن, فقد تقدم قوله r: “إذا أمَّ أحدكم الناس فليخفف؛ فإن فيهم الصغير والكبير والضعيف والمريض”, وقوله r: “إني لأدخل في الصلاة, وأنا أريد أن أطيلها, فأسمع بكاء الصبي, فأتجوز في صلاتي؛ مما أعلم من شدة وجد أمه ببكائه”, وكتركه r قيام رمضان في المسجد؛ خشية أن يفرض على أمته, وكنهيه r صحابته y عن وصل الصوم, رواه مالك والبخاري ومسلم وأحمد وأبو داود والترمذي, وغير ذلك من التيسيرات.
وقد أرشد رسول الله r إلى هذا المنهج القويم بقوله عليه الصلاة والسلام: “يسروا ولا تعسروا، وبشروا ولا تنفروا”, قال النووي: وفي هذا الحديث الأمر بالتبشير بفضل الله وعظيم ثوابه وجزيل عطائه وسعة رحمته، والنهي عن التنفير بذكر التخويف وأنواع الوعيد محضة من غير ضمها إلى التبشير, وفيه تأليف من قَرُب إسلامه وترك التشديد عليهم، وكذلك من قارب البلوغ من الصبيان ومن بلغ ومن تاب من المعاصي، كلهم يتلطف بهم ويدرجون في أنواع الطاعة قليلا قليلا، وقد كانت أمور الإسلام في التكليف على التدريج، فمتى يسر على الداخل في الطاعة أو المريد للدخول فيها سهلت عليه، وكانت عاقبته غالبا التزايد منها، ومتى عسرت عليه أوشك أن لا يدخل فيها، وإن دخل أوشك أن لا يدوم أو لا يستحليها.
وأما ما ورد عن أم المؤمنين عائشة أنها قالت: “ما خير رسول الله r بين أمرين إلا أخذ أيسرهما ما لم يكن إثما، فإن كان إثما كان أبعد الناس منه” رواه البخاري ومسلم وأحمد وأبو داود, فليس المقصود من التخيير المذكور فيه أن يخيَّر النبي r بين حكمين شرعيين من أحكام الدين: أحدهما حرام والآخر حلال, أو أحدهما واجب والآخر جائز, أو أن في المسألة عدة أقوال, فيختار النبي r أسهلها وأيسرها على نفسه, وذلك لأن النبي r هو المشرِّع.
ولذلك فالمقصود من التخيير المذكور في قول عائشة ثلاثة أمور: الأول التخيير في أمور الدنيا, كأن يأكل r من الطعام ما تيسر, فقد قال r لأبي الهيثم بن التيهان – لما جاءه بعذق, فيه بسر ورطب وتمر -: “ألا كنت اجتنيت” – أي انتقيت من العذق ما تيسر, فقال: أحببت أن تكونوا الذين تختارون على أعينكم، ثم أخذ الشفرة، فقال له النبي r: “إياك والحلوب” رواه مسلم والترمذي وابن ماجه, والثاني التخيير الذي يظهر فيه حسن الخلق, كعفوه r عن جهلة المسلمين, كعفوه r عمن تكلم في الصلاة, رواه مسلم وأحمد والنسائي وأبو داود, وعفوه r عمن بال في المسجد, رواه البخاري ومسلم وأحمد والنسائي وأبو داود والترمذي وابن ماجه, والثالث من معاني التخيير أن يخيره الله U بين عدد من الأمور الشرعية ليختار منها r ما شاء, فيختار النبي r الأيسر على الناس والأرفق والأرحم بهم, فقد اختار r العفو عمن آذاه من المشركين بعد رجوعه من الطائف على أن يهلكهم الله بإطباق الأخشبين عليهم, رواه البخاري ومسلم, واختار فداء أسارى قريش على قتلهم في غزوة بدر, رواه مسلم وأحمد والترمذي, واختار الاستغفار لرأس المنافقين عبدالله بن أبي بن سلول, والصلاة عليه على عدمه, رواه البخاري ومسلم وأحمد والنسائي والترمذي وابن ماجه.

فقه التيسير … لا حرج (8)
تتبع الرخص
ومن المهم التنبيه على أمر آخر يتعلق بهذا الموضوع وهو أن المحرَّم أن يتتبع المسلم رخص الفقهاء, وليس المقصود حرمة الأخذ بها على الإطلاق, ومعنى التتبع الذي نهى عنه العلماء هو أن يتحرى المستفتي تسهيلات العلماء والمذاهب ورخصهم الاجتهادية المحتملة للصواب والخطأ, فتارة يأخذ بقول أبي حنيفة, وتارة بقول مالك, وتارة بقول الشافعي, وتارة بقول أحمد, أو قول غيرهم من الأئمة والعلماء؛ تتبعا لرخصهم والتقاطا لتسهيلاتهم وتطلبا لتيسيراتهم وهروبا من التكاليف وتخلصا من المسؤولية؛ بحيث يكون دافعه إلى ذلك تغليب هوى النفس ورغباتها وشهواتها, ولم يبعثه على تقليد أحد من أولئك العلماء أي مرجِّح, كاعتقاده أنه أعلم من غيره أو أورع أو أقرب أو – على الأقل – مجرد المحبة والعاطفة؛ لأنه لو كان الأمر كذلك لاتبعه في كل – أو معظم – فتاواه, سواء في ذلك يسيرها وشديدها, ولكن متتبع الرخص لا يجعل لأي عالم منزلة في قلبه إلا بمقدار ما يرخص له وييسر عليه, فلا يأخذ من المذاهب إلا أسهلها ولا من الأقوال إلا أيسرها, فهذا هو معنى التتبع الذي نهى عنه العلماء, وحذروا منه.
ولكي لا يطول الموضوع فقد استقرأت نصوص كثير من العلماء, وخرجت بملخص لأقوالهم حول مجرد الأخذ بالرخصة أو تتبعها من جهة, وبين كون العامل بها متقيدا بمذهب فقهي أو غير متمذهب من جهة ثانية, وبين كونه يملك أهلية الترجيح أو لا يملكها من جهة ثالثة, وملخص ما وصلت إليه أن الأخذ بالرخصة لا يخلو من الأحوال التالية: الأولى أن يكون الآخذ بالرخصة عاميا, لم يتقيد بمذهب معين, وإنما يأخذ بأقوال العلماء حسبما اتفق له, بدون تتبع لرخصهم, فيجوز له الأخذ بالرخصة, أما إن كان يتتبع رخصهم فيحرم عليه, الثانية أن يكون الآخذ بالرخصة متقيدا بمذهب معين, وكانت الرخصة في مذهبه, فيجوز له الأخذ بها, ما لم يعتقد مرجوحيتها, الثالثة أن تكون الرخصة في غير مذهبه, ولكنه اعتقد رجحانها؛ لقوة دليلها مثلا, فيجوز أيضا, الرابعة أن تكون الرخصة في غير مذهبه, واحتاج إلى الأخذ بها؛ لضرورة أو حاجة, فيجوز أيضا, الخامسة أن تكون الرخصة في غير مذهبه, ولم تدعه حاجة أو ضرورة للأخذ بها, بل قصد مطلق الترخص, فيحرم عليه الأخذ بها؛ لأنه حينئذ متبعٌ لهواه, السادسة أن تكون الرخصة في غير مذهبه, ويكثر من الأخذ بالرخص, ويجعل تتبعها ديدنه, فيحرم عليه ذلك, ويفسق به؛ لتغليب هواه على حكم الشرع.

فقه التيسير … لا حرج (9)
أمثلة على تتبع الرخص
وإذا أردت أن تتصور شناعة تتبع رخص العلماء فتصور رجلا تتبع الرخص التالية من المذاهب الأربعة:
1. أخذ بقول جمهور العلماء – إلا الحنابلة – في أن صلاة الجماعة سنة مؤكدة أو فرض كفاية, فأخذ يؤدي صلاة الفريضة منفردا في بيته دائما.
2. وأخذ بقول الحنفية أن صلاة الجمعة لا تجب إلا على أهل بلد يوجد فيها أمير وقاض, فكان في بلد لا يوجد فيها أمير, فلم يؤد صلاة الجمعة مع المسلمين, وقد يبلغون آلافا.
3. وأخذ بقول الجمهور أن صلاة العيدين سنة مؤكدة أو فرض كفاية, فلم يشهدها مع المسلمين.
4. وأخذ بقول الجمهور – إلا الحنفية – في عدم وجوب زكاة الحلي وعدم وجوب زكاة الفواكه والخضروات, فلم يؤد زكاة حلي امرأته, ولم يخرج زكاة الفواكه والخضروات.
5. ثم رجع إلى الأخذ بقول الحنفية في عدم وجوب الزكاة في مال الصبي والمجنون, فلم يخرج زكاة الأموال غير النامية لأولاده الصغار.
6. وأخذ بقول الجمهور – إلا المالكية – في عدم وجوب زكاة الأنعام غير السائمة.
7. وأخذ بقول الحنفية والمالكية بسنية العمرة, فلم يؤدها كما يراه الشافعية والحنابلة.
فهذا عدد قليل من رخص العلماء, وينتج من تتبعها أداء صلاة الفريضة منفردا في البيت, ومثلها أداء صلاة الجمعة ظهرا, وترك صلاة العيدين, وعدم أداء زكاة الحلي والفواكه والخضروات والأنعام غير السائمة وأموال الصبي والمجنون, وعدم الإتيان بالعمرة, …, إلخ.
وينبغي أن يعلم أن كل تلك الرخص السابقة أقوال صحيحة معتمدة في مذاهب أهلها, وليست أقوالا شاذة أو ضعيفة أو مهملة, كما أن الأخذ بها لا ينتج عنه تلفيق في التقليد, بل كل رخصة منفكة عن الأخرى, ومع ذلك فإن تتبعها ينتج عنه انحلال عن التكاليف الشرعية, وبناء على هذا فقد اتفق جمهور العلماء على حرمة تتبع رخص العلماء, ونقل بعضهم الإجماع عليه, وقد قدمنا سابقا بعض نصوصهم.
أما الرخص الثابتة بالنصوص الشرعية المعتبرة, كالتيمم والمسح على الخفين والصلاة قاعدا للعاجز عن القيام وقصر الصلاة وجمعها للمسافر والفطر في رمضان للمعذور, فليست داخلة فيما نحن فيه؛ لأن هذه الرخص الشرعية ثابتة بالنصوص الصحيحة, ولا مجال للخطأ فيها, ولم يختلف العلماء في أصلها, وإنما اختلفوا في بعض تفاصيلها, كصفة الخف الذي يجوز المسح عليه وصفة التيمم وشروطه وصفة السفر المبيح للقصر والجمع والأعذار المبيحة للفطر في رمضان, فهذه هي الرخص التي يحب الله U من عبده المسلم أن يترخص بها؛ ليشهد فضل الله عليه ورحمته به.

فقه التيسير … لا حرج (10)
تدرج تشريع الصيام
تدرج الصيام منذ بدء تشريعه إلى استقرار أحكامه في ثلاث مراحل تدل على التيسير الذي يكتنف أحكام الشريعة الإسلامية في العموم, قال معاذ بن جبل: إن رسول الله r قدم المدينة, فجعل يصوم من كل شهر ثلاثة أيام, …, وصام يوم عاشوراء, ثم إن الله U فرض عليه الصيام, فأنزل الله U: “يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون, أياما معدودات, فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر, وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين, فمن تطوع خيرا فهو خير له, وأن تصوموا خير لكم إن كنتم تعملون”, قال: فكان من شاء صام, ومن شاء أطعم مسكينا فأجزأ ذلك عنه, قال: ثم إن الله U أنزل الآية الأخرى: “شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان, فمن شهد منكم الشهر فليصمه, ومن كان مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر, يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر, ولتكملوا العدة ولتكبروا الله على ما هداكم ولعلكم تشكرون”, قال: فأثبت الله صيامه على المقيم الصحيح, ورخص فيه للمريض والمسافر, وثبت الإطعام للكبير الذي لا يستطيع الصيام, فهذان حولان, قال: وكانوا يأكلون ويشربون ويأتون النساء ما لم يناموا, فإذا ناموا امتنعوا, قال: ثم إن رجلا من الأنصار يقال له صرمة ظل يعمل صائما حتى أمسى, فجاء إلى أهله فصلى العشاء ثم نام فلم يأكل ولم يشرب حتى أصبح, فأصبح صائما, قال: فرآه رسول الله r وقد جهد جهدا شديدا, قال: “ما لي أراك قد جهدت جهدا شديدا”؟ قال: يا رسول الله إني عملت أمس, فجئت حين جئت فألقيت نفسي فنمت وأصبحت حين أصبحت صائما, قال: وكان عمر قد أصاب من النساء من جارية أو من حرة بعد ما نام, وأتى النبي r فذكر ذلك له, فأنزل الله U: “أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم, هن لباس لكم وأنتم لباس لهن, علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم, فتاب عليكم وعفا عنكم, فالآن باشروهن وابتغوا ما كتب الله لكم, وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر, ثم أتموا الصيام إلى الليل, ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد, تلك حدود الله فلا تقربوها, كذلك يبين الله آياته للناس لعلهم يتقون”, رواه أحمد – واللفظ له – وأبو داود.
وملخص المراحل الثلاث المذكورة في تشريع صوم شهر رمضان أن النبي r – قبل فرض رمضان – صام ثلاثة أيام من كل شهر بالإضافة إلى صوم يوم عاشوراء, ثم تدرج تشريع صوم رمضان كما يلي:
1. التخيير في صوم شهر رمضان بين صومه أو إفطاره مع إطعام مسكين عن كل يوم.
2. وجوب صوم شهر رمضان على المقيم الصحيح, وجواز إفطاره للمريض والمسافر مع القضاء, وإطعام مسكين عن كل يوم للكبير العاجز عن الصيام, وكان الصوم يبدأ من نومهم في الليل.
3. جواز إتيان سائر المفطرات من أكل وشرب ومس للزوجة في الليل إلى الفجر.

فقه التيسير … لا حرج (11)
التيسير في ثبوت رمضان
بُعث رسول الله r في أمة أمية, لا تقرأ ولا تكتب ولا تحسب, فقد قال تعالى: “هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم, يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم في الكتاب والحكمة, وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين”, وقال r: “إنا أمة أمية, لا نكتب ولا نحسب, الشهر هكذا وهكذا وهكذا – وعقد الإبهام في الثالثة -, والشهر هكذا وهكذا وهكذا – يعني تمام الثلاثين -” رواه البخاري ومسلم وأحمد والنسائي وأبو داود, هكذا كانت صفة العرب زمن البعثة النبوية, بل كان النبي r أميا, فقد قال تعالى: “فآمنوا بالله ورسوله النبي الأمي الذي يؤمن بالله وكلماته, واتبعوه لعلكم تهتدون”, وقال تعالى: “الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل”, والأمية في رسولنا الكريم r مظهر من مظاهر حكمة الله U في دفع شبه المفترين بأن القرآن اختراع من الرسول أو منقول من الكتب السماوية المتقدمة, قال تعالى: “وما كنت تتلو من قبله من كتاب, ولا تخطه بيمينك, إذا لارتاب المبطلون”.
وفريضة الصوم مقترنة بشهر رمضان بدءا وانتهاء, فكان من مظاهر التيسير أن يثبت دخول شهر رمضان بوسائل يسيرة, يعلمها الكبير والصغير والعالم والعامي والرجل والمرأة, فأناط الشرع الحكيم دخول شهر رمضان برؤية الهلال أو باستكمال شعبان ثلاثين يوما, فقال رسول الله r: “صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته, فإن غم عليكم فأكملوا العدد ثلاثين” رواه البخاري ومسلم وأحمد والنسائي والترمذي وابن ماجه.
ولا يجب – بل ولا يصح – أن يعتمد المسلمون في دخول شهر رمضان وخروجه على مجرد الحساب الفلكي؛ لمنافاته للحديث السابق, ولأن الحساب الفلكي لا يعلمه إلا المتخصصون, الأمر الذي يتنافى مع يسر الشريعة.
ولكن السؤال الذي يطرح نفسه: ما ذا لو تعارضت الرؤية البصرية مع الحساب الفلكي, كأن شهد رجل بأنه رأى الهلال, وأثبت الحساب في الوقت نفسه استحالة الرؤية؟ أو العكس كأن أثبت الحساب ولادة الهلال, وفي الوقت نفسه لم يتقدم أحد لأداء الشهادة؟ لعلماء الشريعة والمنظمات الإسلامية – خصوصا في الدول الغربية – ثلاثة أقوال مختلفة: أولها الاعتماد على رؤية الهلال فقط حتى لو تعارض مع الحساب, ثانيها الاعتماد على الحساب حتى لو تعارض مع الرؤية, وثالثها – وهو الذي أراه رأيا صحيحا قويا – الاعتماد على الرؤية إذا اتفقت مع الحساب, وهذا الرأي يتفرع عنه أربع احتمالات:
1. أن يثبت الحساب ولادة الهلال وإمكانية رؤيته, ويشهد رجل – بصفة الشهادة المعتبرة شرعا – برؤيته, فيثبت دخول شهر رمضان لاتفاق الحساب والرؤية.
2. أن يثبت الحساب ولادة الهلال, ولم يشهد أي رجل برؤيته, فلا يثبت دخول شهر رمضان بمجرد الحساب.
3. أن يثبت الحساب استحالة رؤية الهلال, ولم يشهد أي رجل برؤيته, فلا يثبت دخول شهر رمضان لاتفاق الحساب والرؤية.
4. أن يثبت الحساب استحالة رؤية الهلال, ويشهد رجل برؤيته, فلا يثبت دخول شهر رمضان لتعارض الحساب والرؤية, وهذا ما يعبر عنه البعض: الاعتماد على الحساب في النفي دون الإثبات.

فقه التيسير … لا حرج (12)
نية الصوم
مظاهر التيسيرات الشرعية المتعلقة بصوم شهر رمضان كثيرة ومتعددة, وسأبدؤها بالحديث عن نية الصوم, فقد اتفقت كلمة العلماء على وجوب النية للصوم لعموم قوله r: “إنما الأعمال بالنيات, وإنما لكل امرئ ما نوى” رواه البخاري ومسلم وأحمد والنسائي وأبو داود والترمذي وابن ماجه, ولخصوص قوله r: “من لم يُجْمع الصيام قبل الفجر فلا صيام له” رواه أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي, وقوله r: “من لم يبيت الصيام قبل الفجر – وفي رواية: من الليل – فلا صيام له” رواه النسائي.
وقد اختلف العلماء في وقت نية الصوم لكل يوم من أيام رمضان, فيجب عند الشافعية والحنابلة تبييتها في كل ليلة؛ لأن صوم كل يوم عبادة منفصلة عن الآخر, ويتخللها إتيان بعض منافيات الصوم, ولا يفسد بعضها بفساد بعض, ويجوز عندهم إنشاء نية الصوم أي وقت من الليل, فلا يجب مقارنتها مع دخول وقت الفجر, ولا يجب تأخيرها إلى نصف الليل الأخير, فلو أفطر الصائم بعد غروب الشمس ثم نوى صوم يوم الغد عن رمضان فقد صحت نيته, وإذا نوى الصائم فإنه يجوز له رغم نيته أن يأكل ويشرب ويأتي ما أحل الله له, ولا يقدح فعله لشيء منها في نيته.
أما الحنفية وإن كانوا يشترطون التعيين لصوم كل يوم إلا أنه لا يجب عندهم تبييت النية من الليل, بل يجزئ عندهم تأخير النية إلى الضحوة الكبرى بحيث يكون معظم اليوم مسبوقا بالنية, وقد استدلوا بأن النبي r أرسل غداة عاشوراء إلى قرى الأنصار: “من أصبح مفطرا فليتم بقية يومه, ومن أصبح صائما فليصم” رواه البخاري ومسلم وأحمد والنسائي, وكان صوم عاشوراء واجبا, ثم نسخ بفرض صوم شهر رمضان.
وأما المالكية فيكفي عندهم نية واحدة في أول ليلة من ليالي شهر رمضان, ولا يجب إعادة تبييت النية في كل ليلة؛ لأن كل صوم وجب تتابعه كصوم رمضان وصوم شهرين متتابعين في الكفارة يكفيه النية أول ليلة منه.
أما صوم النفل فيمتد فيه إنشاء النية إلى زوال الشمس بشرط أن لا يسبقها إتيان أي شيء من المفطرات, ودليل ذلك حديث أم المؤمنين عائشة قالت: قال لي رسول الله r ذات يوم: “يا عائشة هل عندكم شيء”؟ فقلت: يا رسول الله ما عندنا شيء, قال: “فإني صائم”, قالت: فخرج رسول الله r, فأهديت لنا هدية أو جاءنا زَوْر, قالت: فلما رجع رسول الله r قلت: يا رسول الله أهديت لنا هدية أو جاءنا زور, وقد خبأت لك شيئا, قال: “ما هو”؟ قلت: حَيْس, قال: “هاتيه”, فجئت به فأكل, ثم قال: “قد كنت أصبحت صائما” رواه مسلم والنسائي, فقد أفاد الحديث مسألتين متعلقتين بالنية في الصوم: الأولى جواز إنشاء النية في النهار, والثانية جواز قطع صوم النفل, ويؤيده قوله r: “الصائم المتطوع أمير نفسه, إن شاء صام وإن شاء أفطر” رواه أحمد والترمذي.

فقه التيسير … لا حرج (13)
المريض
تعتري المسلم عوارض المرض والسقم والضعف والعجز, الأمر الذي يشق معه صوم رمضان مشقة ظاهرة, ونظرا لأن شريعتنا هي شريعة التيسير فقد جاءت عدة نصوص في القرآن والسنة مرخصة للمريض بالإفطار في رمضان إلى أن تزول عنه عوارض المرض, قال تعالى: “فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر, …, ومن كان مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر, يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر”.
وقد أجمع العلماء على جواز إفطار رمضان للمريض إذا كان الصوم يسبب له مشقة ظاهرة أو يزيد في مرضه أو يؤخر شفاءه, أما المرض الذي لا يشق على الصائم ولا يزيده الصوم ولا يؤخر شفاءه فلا يؤثر في وجوب الصوم, ثم إذا شفاه الله وزال مرضه فإنه يجب عليه أن يقضي الأيام التي أفطرها, وهذا الوجوب وجوب موسع بمعنى أنه يجوز له أن يقضي تلك الأيام في أي أيام السنة شاء, ولا يلزم أن يقضيها فورا؛ لأنه معذور بفطره, ودليل ذلك قوله تعالى: “فعدة من أيام أخر”, ومن المهم أن لا يؤخر المريض قضاء ما أفطره من أيام رمضان إلى أن يأتي رمضان آخر, وقد استدل أولئك العلماء بحديث عائشة قالت: كان يكون علي الصوم من رمضان, فما أستطيع أن أقضيه إلا في شعبان, الشغل من رسول الله أو برسول الله r, رواه البخاري ومسلم, فإن أخر القضاء حتى دخل رمضان آخر فقد رأى بعض العلماء كالمالكية والشافعية والحنابلة – إضافة إلى القضاء – إطعام مسكين عن كل يوم مستشهدين بآثار عن بعض الصحابة y, فإن أخر القضاء سنتين فإنه يطعم عن كل يوم مسكينين وهكذا, وفي الوقت نفسه رأى بعض العلماء كالحنفية وجوب القضاء فقط مهما أخر المريض قضاء ما فاته من الأيام مستشهدين بآثار أخرى عن بعض الصحابة y, والأمر فيه واسع إن شاء الله, وطرق الاحتياط لا تخفى, والمهم أن لا يتراخى القضاء وتتراكم الأيام تلو الأيام.
فإن كان المرض الذي يشق معه الصيام مستمرا لا يزول حسب تقرير الأطباء – وهو الذي يصفه الفقهاء الأقدمون بالمرض الذي لا يرجى برؤه -, أو بلغ الصائم سن الهرم والكبر وتعذر عليه الصوم, فإن المريض والكبير في هذه الحالة يفطر, ثم يطعم عن كل يوم مسكينا بمقدار مُدٍّ من غالب طعام أهل البلد, ودليله قوله تعالى: “وعلى الذين يطيقونه فديةٌ طعام مسكين”, ومعنى الآية أن الذين يصعب عليهم الصيام فلا يطيقونه إلا بمشقة شديدة, فإنهم يفطرون ويطعمون, قال عبدالله بن عباس عن هذه الآية: ليست بمنسوخة, هو الشيخ الكبير والمرأة الكبيرة, لا يستطيعان أن يصوما, فيطعمان مكان كل يوم مسكينا, رواه البخاري.
فإن تحمل المريض على نفسه وصام مع مرضه فقد ترك تخفيف الله عليه ولم يأت رخصته, ومع ذلك فإن صومه صحيح, ويجزئه عن فرضه, ومن المهم التنبيه إلى أن الصوم المؤدي إلى الهلاك لا يجوز للصائم؛ لأنه لا يجوز للمسلم أن يضر نفسه أو يضر غيره, فقد قال رسول الله r: “لا ضرر ولا ضرار” رواه مالك وأحمد وابن ماجه.

فقه التيسير … لا حرج (14)
المسافر
ومن الأعذار التي يجوز الفطر في رمضان بسببها السفر, فقد جاءت نصوص عديدة في القرآن والسنة مرخصة للمسافر بالإفطار في رمضان, فقد تقدم قوله تعالى: “فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر, …, ومن كان مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر, يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر”, وقال رسول الله r: “إن الله تعالى وضع عن المسافر الصوم وشطر الصلاة” رواه أحمد والنسائي والترمذي وابن ماجه.
وقد دل مجموع عدد من الأحاديث الشريفة على أنه يجوز للمسافر الصيام والإفطار على حد سواء, فإن كان السفر يؤدي إلى مشقة – ولو خفيفة – فالأفضل للمسافر الفطر أخذا بالرخصة, ثم يقضي ما أفطره من الأيام, وإن كان السفر لا تترتب عليه أي مشقة فالأفضل للمسافر الصوم إبراء للذمة, ومما يدل لهذه الخلاصة أن حمزة بن عمرو الأسلمي قال: كنت أسرد الصيام على عهد رسول الله r, فقلت: يا رسول الله إني أسرد الصيام في السفر, فقال r: “إن شئت فصم, وإن شئت فأفطر” رواه مالك والبخاري ومسلم وأحمد والنسائي – واللفظ له – والترمذي وابن ماجه, ومن الأدلة أيضا قول أنس مالك: سافرنا مع رسول الله r في رمضان, فصام بعضنا وأفطر بعضنا, فلم يعب الصائم على المفطر, ولا المفطر على الصائم, رواه مالك والبخاري ومسلم وأحمد والنسائي وأبو داود – واللفظ له – والترمذي.
وبناء على هذا فكل ما ورد من أحاديث تحث المسافر على الفطر في السفر كقوله r: “ليس من البر الصيام في السفر” عندما رأى رجلا أجهده الصوم, رواه أحمد والنسائي وأبو داود والترمذي وابن ماجه, وقوله r: “أولئك العصاة, أولئك العصاة” عندما بلغه أن بعض الناس صاموا في خروج النبي r عام الفتح في رمضان رغم إفطاره r على مرأى منهم, رواه مسلم والنسائي والترمذي, فهذا محمول على من أجهده الصوم أو وجد في نفسه شيئا من قبول رخصة الفطر في رمضان.
وكذلك فكل ما ورد من صيام النبي r في رمضان حالة كونه مسافرا كما قال أبو الدرداء: لقد رأيتنا مع رسول الله r في بعض أسفاره في يوم شديد الحر, حتى إن الرجل ليضع يده على رأسه من شدة الحر, وما منا أحد صائم إلا رسول الله r وعبدالله بن رواحة, رواه مسلم وابن ماجه, فمحمول على القدرة على الصوم بدون مشقة.
قال الترمذي: واختلف أهل العلم في الصوم في السفر, فرأى بعض أهل العلم من أصحاب النبي r وغيرهم أن الفطر في السفر أفضل, حتى رأى بعضهم عليه الإعادة إذا صام في السفر, واختار أحمد وإسحق الفطر في السفر, وقال بعض أهل العلم من أصحاب النبي r وغيرهم: إن وجد قوة فصام فحسن وهو أفضل, وإن أفطر فحسن, وهو قول سفيان الثوري ومالك بن أنس وعبد الله بن المبارك, وقال الشافعي: وإنما معنى قول النبي r: “ليس من البر الصيام في السفر” وقوله حين بلغه أن ناسا صاموا فقال: “أولئك العصاة” فوجه هذا إذا لم يحتمل قلبه قبول رخصة الله, فأما من رأى الفطر مباحا وصام وقوي على ذلك فهو أعجب إليَّ.

فقه التيسير … لا حرج (15)
الحامل والمرضع
وللنساء رخص متعددة في رمضان مراعاة من الشرع الحنيف لخصوصيتهن وحالهن, إذ قد يطرأ عليها أثناء صيامها حيض أو حمل, وقد تكون في حالة نفاس أو رضاع, ونظرا لأن هذه الحالات تؤدي إلى تغيرات في نفسية المرأة وطبيعتها فقد راعى الشرع الحكيم هذا التغييرات, فأوجب على المرأة أن تفطر إذا كانت في حالة حيض أو نفاس, وأجاز لها أن تفطر إذا كانت في حالة حمل أو رضاع.
أما الحامل والمرضع فقد قال رسول الله r: “إن الله U وضع عن المسافر شطر الصلاة, وعن المسافر والحامل والمرضع الصوم” رواه أحمد والنسائي والترمذي وابن ماجه, والحكمة في هذا التشريع واضحة, إذ كل من الحامل وجنينها والمرضع ووليدها بحاجة إلى الغذاء, فإذا رغبت الحامل والمرضع في الإفطار إما لخوفهما على نفسيهما أو لخوفهما على الجنين والولد أو للاثنين معا فقد أجاز لهما الشرع الحنيف ذلك, ثم اختلف العلماء بعد ذلك في كيفية تدارك ما فاتهما على ثلاثة أقوال رئيسية:
1. متى ما أحست الحامل والمرضع بقدرتهما على الصوم بعد ذلك فإنه يجب عليهما قضاء ما أفطرتاه من الأيام قضاء موسعا كما ذكرنا في أحكام المريض, ولا يجب عليهما كفارة حتى لو كان سبب إفطارهما خوفهما على الجنين والولد, وهو منقول عن بعض الصحابة كعلي بن أبي طالب, وهذا هو مذهب الحنفية, وقد وافقهم المالكية في الحامل دون المرضع, ودليلهم الحديث المتقدم “إن الله U وضع عن المسافر شطر الصلاة, وعن المسافر والحامل والمرضع الصوم”, فكما أن المسافر لا يجب عليه إلا القضاء فكذلك الحامل والمرضع.
2. لا يجب على الحامل والمرضع قضاء ما أفطرتاه من الأيام, بل يجب عليهما كفارةٌ إطعام مسكين عن كل يوم, وهو منقول عن بعض الصحابة كعبدالله بن عباس, وقريب منه مذهب إسحاق بن راهويه بتخييرهما بين القضاء أو الإطعام بدون إيجابهما جميعا أو إيجاب أحدهما بعينه, ودليلهم قوله تعالى: “وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين” وهو الذين يطيقون الصوم بمشقة, فقد أوجب الله عليهم الكفارة إذا أفطروا, قال عبدالله بن عباس: قال كانت رخصة للشيخ الكبير والمرأة الكبيرة وهما يطيقان الصيام أن يفطرا ويطعما مكان كل يوم مسكينا, والحبلى والمرضع إذا خافتا, رواه أبو داود.
3. إذا كان سبب إفطار الحامل والمرضع خوفهما على نفسيهما فيجب عليهما القضاء فقط, أما إذا كان سبب إفطارهما خوفهما على الجنين والولد فإنه يجب عليهما – مع القضاء – إطعام مسكين عن كل يوم, وهو منقول عن بعض الصحابة كعبدالله بن عمر, وهذا هو مذهب الشافعية والحنابلة, وقد وافقهم المالكية في المرضع دون الحامل, ودليلهم مركب من الآية والحديث السابقين.

فقه التيسير … لا حرج (16)
الحائض والنفساء
ومن التيسرات الشرعية المتعلقة بصيام النساء في شهر رمضان الأحكام المتعلقة بالحائض والنفساء, فيجب على كل منهما إذا طرأ عليها هذا العذر الذي كتبه الله على بنات آدم كما رواه البخاري ومسلم وأحمد والنسائي وابن ماجه, يجب عليهما في هذه الحالة الإفطار وقطع الصوم, فلو نزل الدم أثناء النهار بطل صوم ذلك اليوم وسائر الأيام التي تليه إلى نزول الطهر, ثم إذا طهرت المرأة في النهار فيستحب لها إمساك بقية اليوم, ويجب عليها قضاء صيام تلك الأيام سواء اليوم الذي نزل فيه الدم واليوم الذي رأت في الطهر والأيام الواقعة بينهما, أما إذا طهرت المرأة في الليل فإنه يجب عليها صوم اليوم التالي حتى لو تأخر غسلها إلى ما بعد دخول الفجر.
ويجوز للحائض والنفساء أن تقضيا ما أفطرتاه من الأيام على التراخي كما ذكرنا سابقا في أحكام المريض, فقد قالت أم المؤمنين وفقيهة النساء عائشة: كان يكون علي الصوم من رمضان, فما أستطيع أن أقضيه إلا في شعبان, الشغل من رسول الله أو برسول الله r, رواه البخاري ومسلم, وفي كلامها دليل واضح على مراعاة حال الزوج قبل الشروع في قضاء أيام رمضان, أما صوم النفل فهو أولى في وجوب استئذان المرأة لزوجها قبل البدء به, فقد قال رسول الله r: “لا يحل للمرأة أن تصوم وزوجها شاهد إلا بإذنه, ولا تأذن في بيته إلا بإذنه” رواه البخاري, وهذا النهي مخصوص بصوم غير شهر رمضان, فقد قال رسول الله r: “لا تصوم المرأة وزوجها شاهد يوما من غير شهر رمضان إلا بإذنه” رواه أحمد والترمذي وابن ماجه.
ولا يجب على الحائض والنفساء قضاء الصلوات التي فاتتهما سواء ما كان منه في رمضان أو في غيره من الشهور, وذلك أن معاذة سألت أم المؤمنين عائشة: ما بال الحائض تقضي الصوم ولا تقضي الصلاة؟ فقالت عائشة: أحرورية أنت؟ قالت: لست بحرورية, ولكني أسأل, فقالت: قد كان يصيبنا ذلك مع رسول الله r, فنؤمر ولا نؤمر, فيأمر بقضاء الصوم, ولا يأمر بقضاء الصلاة, رواه البخاري ومسلم وأحمد والنسائي وأبو داود والترمذي وابن ماجه.
ومن المهم التنبيه إلى أن الحائض والنفساء إذا طهرتا قبل غروب الشمس وجبت عليهما صلاتا الظهر والعصر, وإذا طهرتا قبل الفجر وجبت عليهما صلاتا المغرب والعشاء؛ لأن وقت الصلاة الثانية وقت صحيح للصلاة الأولى في حالة الجمع, وهو مذهب المالكية والشافعية والحنابلة – مع اختلاف يسير بينهم – , ومعظم الآثار الواردة عن الصحابة تؤيد هذا الرأي, وذهب الحنفية إلى وجوب الصلاة الثانية فقط.

فقه التيسير … لا حرج (17)
فليتم صومه
لشهر رمضان حرمة عظيمة مؤكدة, فلا يجوز إفطار يوم منه إلا بعذر شرعي, فمن أفطر منه يوما بدون أي عذر فقد ارتكب كبيرة من كبائر الذنوب, وتجرأ على حدود الله تعالى, يقول رسول الله r: “من أفطر يوما من رمضان من غير رخصة ولا مرض لم يقض عنه صوم الدهر كله وإن صامه” رواه أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجه, ومعنى الحديث أن من وجب عليه صوم رمضان بتوافر شروط الوجوب فيه – وهي الإسلام والبلوغ والعقل والقدرة -, فتعمد الإفطار في نهاره من غير عذر شرعي كمرض أو هرم أو سفر أو حيض أو نفاس أو حمل أو رضاع, فقد ارتكب إثما لا يرفعه عنه صيام الدهر كله بدون توبة, بل يجب عليه أن يتوب إلى الله توبة نصوحا مقترنة بالندم على جرأته على مخالفة أمر الله وعزمه الأكيد على الخضوع لأمر الله والوقوف عند حدوده, ويجب عليه أن يقضي الأيام التي أفطرها بدون عذر.
ولكن قد يرتكب الصائم بعض المفطرات نسيانا منه للصوم أو جهلا منه بحرمة إتيانها أو قد يكون مكرها عليها, ففي هذه الحالة فإن الإثم مرفوع عنه لعموم قول النبي r: “إن الله تجاوز – وفي رواية: وضع – عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه” رواه ابن ماجه, ولخصوص قول النبي r: “من نسي وهو صائم, فأكل أو شرب فليتم صومه, فإنما أطعمه الله وسقاه” رواه البخاري ومسلم وأحمد وابن ماجه, وقد اتفقت كلمة جمهور العلماء على صحة صومه, وأنه لا يلزمه أن يقضيه, ورأى المالكية أنه يلزمه قضاء ذلك اليوم, وأن المرفوع عنه هو الإثم فقط.
ومن منافيات الصيام التي يعفى عنها إذا وقعت للصائم رغما عنه:
1. الاحتلام وهو الإنزال أثناء النوم, وقد اتفقت كلمة الفقهاء على أن الاحتلام لا يبطل الصوم, واختلفوا في الإنزال المقترن بالنظر, ولذلك فإنه مما يجدر التنبيه إليه أن ينزه الصائم بصره وسمعه عما يثير شهوته وغرائزه, فقد يفضي به الأمر إلى مس الزوجة, وقد قال رسول الله r: “الصيام جُنَّة, فإذا كان أحدكم صائما فلا يرفث ولا يجهل, فإن امرؤ قاتله أو شاتمه فليقل: إني صائم إني صائم” رواه مالك والبخاري وأحمد والنسائي وأبو داود, وقد ورد أن شابا جاء إلى النبي r, فقال: يا رسول الله أقَبِّل وأنا صائم؟ قال: “لا”, ثم جاء شيخ فقال: أقَبِّل وأنا صائم؟ قال: “نعم”, فنظر بعض الصحابة إلى بعض, فقال رسول الله r: “قد علمت لم نظر بعضكم إلى بعض, إن الشيخ يملك نفسه” رواه أحمد, وهذا ما أشارت إليه أم المؤمنين عائشة عندما ذكرت تقبيل رسول الله r لها, فإنها قالت: وأيكم يملك إربه كما كان رسول الله r يملك إربه, رواه مالك والبخاري ومسلم والنسائي وأبو داود والترمذي وابن ماجه.
2. خروج القيء, فقد قال رسول الله r: “من ذرعه القيء فلا قضاء عليه, ومن استقاء عمدا فليقض” رواه أحمد والترمذي وابن ماجه, وقد اتفقت كلمة الفقهاء عليه.

فقه التيسير … لا حرج (18)
اذهب فأطعمه أهلك
قدمنا سابقا بعض الأدلة على شفقة رسول الله r بأمته ورحمته بهم, وهي لفتة مهمة للدعاة ليتعاملوا مع الناس من منطلق الرحمة بهم والتيسير عليهم, وقد حدثت في زمن النبي r واقعة تدل على كمال رحمته r بأمته وشفقته عليهم, فقد جاء رجل إلى النبي r فقال: هلكت يا رسول الله, فقال r: “وما أهلكك”؟ قال: وقعت على امرأتي في رمضان, فقال: “هل تجد ما تعتق رقبة”؟ قال: لا, فقال: “فهل تستطيع أن تصوم شهرين متتابعين”؟ قال: لا, فقال: “فهل تجد ما تطعم ستين مسكينا”؟ قال: لا, فجلس الرجل, فأُتِي النبي r بعَرَق – أي زبيل أو مكتل – فيه تمر, فقال r: “تصدق بهذا”, قال: على أفقر منا؟ فما بين لابتيها – أي حرَّتا المدينة – أهل بيت أحوج إليه منا, فضحك النبي r حتى بدت أنيابه, ثم قال: “اذهب فأطعمه أهلك” رواه البخاري ومسلم وأحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجه.
إن مظاهر التيسير في هذه الواقعة كثيرة جدا, فرغم أن الإفطار العمد في رمضان كبيرة من الكبائر, ورغم أن معاشرة الزوجة في نهار رمضان أعظم في انتهاك حرمة رمضان من غيرها من المفطرات, إلا أنه يتجلى بوضوح حسن خلق النبي r ويسره في التعامل مع المخطئين حتى لو كان خطؤهم كبيرة من الكبائر, ومن مظاهر التيسير:
1. أمر النبي r ذلك الرجل بالكفارة, ولم يعزره على معصيته, فاستدل بعض العلماء من هذا على أن المسلم إذا ارتكب معصية ليس فيها حد, وجاء تائبا نادما مستفتيا, أنه لا ينبغي للعالم أو القاضي تعزيره, قال الحافظ ابن حجر: واستدل بهذا على أن من ارتكب معصية لا حد فيها وجاء مستفتيا أنه لا يعزر؛ لأن النبي r لم يعاقبه مع اعترافه بالمعصية، وقد ترجم لذلك البخاري في الحدود, وأشار إلى هذه القصة، وتوجُّهُه أن مجيئه مستفتيا يقتضي الندم والتوبة، والتعزير إنما جعل للاستصلاح, ولا استصلاح من الصلاح، وأيضا فلو عوقب المستفتي لكان سببا لترك الاستفتاء, وهي مفسدة, فاقتضى ذلك أن لا يعاقب, انتهى.
2. حلم النبي r على ذلك الرجل كثيرا, فقد ذكرت بعض روايات الحديث أن الرجل كلما عرض عليه النبي r خيارا للكفارة كان يرد عليه ردا جريئا, فعندما عرض عليه النبي r العتق قال: والذي بعثك بالحق ما ملكت رقبة قط, وعندما عرض عليه الصوم قال: وهل لقيت ما لقيت إلا من الصيام, وعندما عرض عليه الإطعام قال: والذي بعثك بالحق ما أُشبِع أهلي, بل وعندما أمره بالصدقة بالتمر عن كفارته قال: على أفقر منا, فما بين لابتيها أهل بيت أحوج إليه منا.
3. ثم جاء تبسم النبي r وإذنه له بإطعام أهله تتويجا لحلمه r ورحمته بأمته, ولا عجب فقد كان الحلم فيه سجية, فقد جاء في وصفه r أنه كان دائم البشر سهل الخلق لين الجانب، ليس بفظ ولا غليظ ولا صخاب ولا فحاش ولا عياب, رواه الترمذي في الشمائل والبيهقي في شعب الإيمان ودلائل النبوة.

فقه التيسير … لا حرج (19)
قضاء رمضان
قد تخترم المنية حياة الإنسان, ويكون في ذمته قضاء أيام من رمضان, أفطرها لأي سبب من الأسباب كالمرض أو السفر, أو أفطرتها المرأة بسبب الحيض أو النفاس أو الحمل أو الرضاع, فإن لم يتمكن من القضاء كأن باغته الموت في رمضان أو بعد العيد مباشرة أو استمر المرض المتوقع شفاؤه فإن الصوم يسقط عنه, ولا يستقر في ذمته قضاء لعدم تمكنه منه, إما إن تمكن من القضاء فأخره إلى فرصة مناسبة فمات قبل القضاء فهنا يتجلى يسر الشريعة الإسلامية في إمكانية قضاء الأيام الثابتة في ذمة الميت بطريقتين:
1. إطعام مسكين عن كل يوم فاته من رمضان, فقد قال رسول الله r: “من مات وعليه صيام شهر فليطعم عنه مكان كل يوم مسكين” رواه الترمذي وابن ماجه, وتخرج قيمة الطعام من تركته أو من تبرع أقاربه.
2. صيام الأيام التي فاتته, فقد قال رسول الله r: “من مات وعليه صيام صام عنه وليه” رواه البخاري ومسلم وأحمد وأبو داود, وجاءت امرأة إلى النبي r فقالت: يا رسول الله إن أني ماتت وعليها صوم نذر, أفأصوم عنها؟ فقال r: “أرأيت لو كان على أمك دين فقضيتيه, أكان يؤدي ذلك عنها”؟ قالت: نعم, فقال: “صومي عن أمك” رواه البخاري ومسلم – واللفظ له -, وجاء في رواية الإمام أحمد: إن أمي ماتت وعليها صوم شهر رمضان, وبناء على ذلك فيجوز لأقرباء الميت أن يصوموا عن ميتهم, ويجزئ صومهم عنه.
وهذا اليسر في قضاء ما على الميت من صيام يمتد في قضاء ما على الميت من حقوق أخرى كالنذر والعتق والحج والصدقة والدَّين, فقد استفتى سعد بن عبادة رسول الله r فقال: إن أمي ماتت وعليها نذر ولم تقضه, فقال r: “اقضه عنها” رواه مالك والبخاري والنسائي وأبو داود, وجاء في رواية عند مالك وأحمد والنسائي أن نذرها كان عتق رقبة, فقال له النبي r: “أعتق عن أمك”, وجاء في رواية عند البخاري وأحمد والنسائي أن أم سعد بن عبادة توفيت وهو غائب فقال: يا رسول الله إن أمي توفيت وأنا غائب عنها, أينفعها شيء إن تصدقت به عنها؟ فقال r: “نعم”, قال: فإني أشهدك أن حائطي – أي مزرعتي – المخراف صدقة عنها, وجاءت امرأة إلى النبي r وقالت: إن أمي ماتت ولم تحج, أفيقضي عنها أن أحج عنها؟ فقال r: “نعم حجي عنها” رواه أبو داود والترمذي, وقال رجل لرسول الله r: إن أمي افتلتت نفسها, وأراها لو تكلمت تصدقت, أفأتصدق عنها؟ فقال r: “نعم” رواه مالك والبخاري ومسلم وأحمد والنسائي وابن ماجه, وجاء في رواية عند أبي داود أن السائل كان امرأة.
ومن هذه النصوص الكثيرة رأى كثير من العلماء أن الميت ينتفع بكل قربة يعملها الحي عنه أو يهدي ثوابها إليه, قال الشيخ منصور البهوتي الحنبلي في شرح منتهى الإرادات: (كل قربة فعلها مسلم وجعل) المسلمُ (ثوابها لمسلم حي أو ميت حصل) ثوابها (له ولو جهله) أي الثواب (الجاعل) لأن الله يعلمه كالدعاء والاستغفار وواجبٍ تدخله النيابة وصدقة التطوع إجماعا وكذا العتق وحج التطوع والقراءة والصلاة والصيام, انتهى, وقال أيضا في كشاف القناع: (وكل قربة فعلها المسلم وجعل ثوابها أو بعضها كالنصف ونحوه) كالثلث أو الربع (لمسلم حي أو ميت جاز) ذلك (ونفعه ذلك لحصول الثواب له حتى لرسول الله r) ذكره المجد (من) بيان لكل قربة (تطوع وواجب تدخله النيابة كحج ونحوه) كصوم نذر (أو لا) تدخله النيابة (كصلاة وكدعاء واستغفار وصدقة) وعتق (وأضحية وأداء دين وصوم وكذا قراءة وغيرها), انتهى, وانظر مطالب أولي النهى للشيخ مصطفى السيوطي الرحيباني الحنبلي.

فقه التيسير … لا حرج (20)
غفر له ما تقدم من ذنبه
ندب رسول الله r إلى قيام رمضان ورغب فيه ورتب الأجور العظيمة عليه, فقال r: “من قام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه” رواه مالك والبخاري ومسلم وأحمد والنسائي وأبو داود والترمذي, وقد قام النبي r في شهر رمضان, وصلى في المسجد ذات ليلة فصلى بصلاته ناس, ثم صلى من القابلة فكثر الناس, ثم اجتمعوا من الليلة الثالثة أو الرابعة فلم يخرج إليهم رسول الله r, فلما أصبح قال: “قد رأيت الذي صنعتم, فلم يمنعني من الخروج إليكم إلا أني خشيت أن تفرض عليكم” رواه مالك والبخاري ومسلم وأحمد وأبو داود, ثم قبض رسول الله r وليس لقيام رمضان صلاة جماعة, إنما يصلي الرجل وحده والرجلان والرهط, واستمر الحال في خلافة أبي بكر t وصدر من خلافة عمر t, فخرج ذات ليلة في رمضان إلى المسجد فإذا الناس أوزاع متفرقون, يصلي الرجل لنفسه, ويصلي الرجل فيصلي بصلاته الرهط, فقال عمر: إني أرى لو جمعت هؤلاء على قارئ واحد لكان أمثل, ثم عزم فجمعهم على أبي بن كعب, ثم خرج ليلة أخرى والناس يصلون جماعة واحدة بصلاة قارئهم, فقال عمر: نعمت البدعة هذه, والتي ينامون عنها أفضل من التي يقومون, يريد صلاة آخر الليل, وكان الناس يقومون أوله, رواه مالك والبخاري.
إن مظهر التيسير في تشريع قيام رمضان ظاهر جلي, فقد رغب رسول الله r فيه, ولكنه خشي إن أداه المسلمون كشعار ظاهر أن يفرض عليهم, فامتنع r من الخروج لهم في الليلة الرابعة لكي لا يستقر العمل به في حياته, فلما قبض – بأبي هو وأمي – واستقر التشريع فطن الخليفة الراشد الملهم عمر بن الخطاب إلى جمع المسلمين جماعة واحدة خلف إمام واحد بدل تفرقهم منفردين أو جماعات صغيرة, وقد قدمنا سابقا نماذج من هذا.
ومن التيسير المتعلق بالقيام قوله r: “من صلى العشاء في جماعة فكأنما قام نصف الليل, ومن صلى الصبح في جماعة فكأنما قام الليل كله” رواه مسلم وأحمد, وبناء على هذا فإن المسلم إذا صلى العشاء والفجر في جماعة فإنه يحرز فضيلة القيام, وفضل الله واسع, ومن التيسير المتعلق بالقيام أيضا أن قيام ليلة القدر يعادل قيام الشهر كله, فقد قال رسول الله r: “من قام ليلة القدر إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه” رواه البخاري ومسلم وأحمد والنسائي وأبو داود والترمذي.
وهذه الأجور العظيمة على الأعمال القليلة كرامة للأمة الإسلامية المخصوصة بأكمل تشريع وأفضل نبي وأهدى كتاب, يقول رسول الله r: “مثلكم ومثل أهل الكِتابَين كمثل رجل استأجر أجراء, فقال: من يعمل لي من غدوة إلى نصف النهار على قيراط؟ فعملت اليهود, ثم قال: من يعمل لي من نصف النهار إلى صلاة العصر على قيراط؟ فعملت النصارى, ثم قال: من يعمل لي من العصر إلى أن تغيب الشمس على قيراطين؟ فأنتم هم, فغضبت اليهود والنصارى فقالوا: ما لنا أكثر عملا وأقل عطاء؟ قال: هل نقصتكم من حقكم؟ قالوا: لا, قال: فذلك فضلي أوتيه من أشاء” رواه البخاري وأحمد والترمذي.
تقبل الله صيامكم وقيامكم وطاعاتكم.