الصفحة الرئيسية » مقالات » مجدد القرن الخامس والأقزام

مجدد القرن الخامس والأقزام

مجدد القرن الخامس و الأقزام

الحمد لله وليِ الصَالحين, والصلاة والسلام على سيِد الأوَلين والآخرين, سيِدنا و حبيبنا محمد إمام المتقين, وعلى آله الطاهرين وصحبه الأخيار من الأنصار والمهاجرين و من تبعهم وسار على نهجهم إلى يوم الدين.

(المـقـدمـة )

قال رَسُول الله صلى الله عليه وسلّم: «إنَّ الله يَبْعَثُ لِهَذِهِ الأمَّةِ عَلَى رَأْسِ كُلِّ مِائَةِ سَنَةٍ مَنْ يُجَدِّدُ لَها دِينَهَا».
(رواه أبو داود والحاكم) ( و صححه البيهقي في كتاب المعرفة و قال العراقي سنده صحيح).
فكان الأول على رأس المائة الأولى عمر بن عبد العزيز
وعلى رأس المائة الثانية الشافعي رضي الله عنه
وعلى رأس المائة الثالثة ابن سريج ، وقيل: أبو الحسن الأشعري، ويمكن الجمع بينهما، فإن الأشعري جاء لأصول الدين، لأن المعتزلة كانوا قد طبقوا الأرض فحجزهم رضي الله عنه في قموع السمسم، وابن سريج جاء لتقرير الفروع.
وعلى رأس المائة الرابعة أبو حامد الإسفراييني، وقيل: سهل بن أبي سهل محمد المقول فيه النجيب بن النجيب، كان أحد عظماء الشافعية الراسخين في الفقه والأصول والحديث والتصوف.
وعلى رأس المائة الخامسة حجة الإسلام أبو حامد الغزالي.
وعلى رأس المائة السادسة الإمام فخر الدين الرازي.
وعلى رأس المائة السابعة الشيخ تقي الدين بن دقيق العيد.

( أصناف الناس )

جاء عن الإمام علي رضي الله عنه في وصيته لكميل بن زياد ( القلوب أوعيةٌ خيرها أوعاها , النَاس ثلاثةُ :فعالمٌ ربَاني , ومتعلمٌ على سبيل نجاة , وهمجٌ رعاعٌ , أتباع كل ناعق يميلون مع كلِ ريحٍ , لم يستضيئوا بنور العلم , و لم يلجئوا إلى ركن شديد) .

( نبذة عن مجدد القرن الخامس)

اسمه ونسبه:هو حجة الإسلام , وفخر الأنام ,الإمام الحبر الهمام , زين الدين محمد بن محمد بن محمد بن أحمد الغزالي الطُوسي الطبراني الشافعي ,يكنى بأبي حامد .
مولده :ولد الإمام بطابران طوس سنة (450)

وفاته: قال التاج السبكي : (قال أبو الفرج الجوزي في كتاب ( الثبات عند الممات ) : قال أحمد أخو الإمام الغزالي : لما كان يوم الاثنين وقت الصبح .. توضأ أخي أبو حامد وصلَى , وقال: علَيَّ بالكفن , فأخذه وقبَله ووضعه على عينيه وقال: سمعاً وطاعة للدخول على الملك , ثم مدَ رجليه واستقبل القبلة , ومات قبل الإسفار قدَس الله روحه).
وكان ذلك يوم الاثنين 14- جمادى الآخرة سنة (505) ه ودفن بطابران في طوس مسقط رأسه .
ملاحظة:ومن أراد التوسع بأضواء سيرته فليرجع لكتب التراجم .

( ثناء أهل العلم على الإمام الغزالي )

وهذه جملة من شهادات العلماء بقدر وعلم الإمام وفضله :
قال فيه شيخه إمام الحرمين : ( الغزالي بحر مغرق ).
وقال عبد الغافر الفارسي: ( حجة الإسلام والمسلمين, وإمام أئمة الدين, من لم تر العيون مثله لساناً وبياناً ونطقاَ وخاطراً وذكاءً وطبعاً).
وقال الحافظ بن عساكر: ( كان إماماً في علم الفقه مذهباً وخلافاً, وفي أصول الديانات ).
وقال بن النجار : ( أبو حامد إمام الفقهاء على الإطلاق , ورباني الأمة باتفاق , ومجتهد زمانه , وعين أوانه , برع في المذهب والأصول والخلاف والجدل والمنطق , وقرأ الحكمة والفلسفة, وفهم كلامهم وتصدى للرد عليهم , وكان شديد الذكاء , قوي الإدراك , ذا فطنة ثاقبة وغوص في المعاني ).
ولما سئل عنه العارف أبو العباس المرسي ..قال : ( أنا أشهد له بالصديقية العظمى ).
وقال فيه العارف أبو الحسن الشاذلي: ( إذا عرضت لكم إلى الله حاجة.. فتوسلوا إليه بالإمام أبي حامد الغزالي ).
وترجم له الحافظ الذهبي فقال: ( الشيخ الإمام البحر, حجة الإسلام, أعجوبة الزمان….).
وقال فيه التاج السبكي : ( حجة الإسلام , ومحجة الدين التي يتوصل بها إلى دار السلام , جامع أشتات العلوم , والمبرز في المنقول منها و المفهوم ).
وغيرها من المدائح الكثير مما يقصر عن بيان حقيقة فضله, وسمو مكانته في هذه المقالة.

( رجال متعددون في رجل واحد )

ذكر الأستاذ الأكبر المرحوم الشيخ محمد مصطفى المراغي , شيخ الأزهر في وقته , تقديمه لكتاب الدكتور/ أحمد فريد الرفاعي عن الغزالي , قال :
{ إذا ذكرت أسماء العلماء اتجه الفكر إلى ما امتازوا به من فروع العلم , وشعب المعرفة , فإذا ذكر ابن سينا , أو الفارابي خطر بالبال فيلسوفان عظيمان من فلاسفة الإسلام , و إذا ذكر البخاري و مسلم و أحمد , خطر بالبال رجال لهم أقدارهم في الحفظ , والصدق , والأمانة , والدقة , ومعرفة الرجال ….الخ

أما إذا ذكر الغزالي فقد تشعبت النواحي , ولم يخطر بالبال رجل واحد , بل خطر بالبال رجال متعددون , لكل واحد قدرته, وقيمته .. يخطر بالبال الغزالي الأصولي الحاذق ,الماهر , والغزالي الفقيه الحر , والغزالي المتكلم , إمام السنَة و حامي حماها , والغزالي الاجتماعي , الخبير بأحوال العالم وخفيات الضمائر فيها , إنه يخطر بالبال رجل هو دائرة معارف عصره , رجل متعطش إلى معرفة كل شيء, نهم إلى فروع المعرفة } .

( مجدد القرن الخامس والأقزام )

لقد كان لهذا الإمام المجدد كغيره من عظماء الإسلام و التاريخ و قادة الفكر مادح له و محب, كذلك كان له قادح له ومبغض
وينقسمون إلى
1- المتقدمين 2- المتأخرين 3- المعاصرين.

1- فأما المتقدمون: فمنهم علماء أجلاء لم يكونوا أصحاب هوى و غرض دنيوي , ولكن ذلك راجع إلى اختلاف المشارب و الأمزجة و الثقافات , كما أشار إلى ذلك الإمام تقي الدين السبكي وابنه التاج السبكي , و كما قيل كلام الأقران يطوى و لا يروى .

2و3- و أما المتأخرون و المعاصرون : فهؤلاء الأقزام الذين يرهفون بما لا يعرفون , ويطلقون ألسنتهم وأقلامهم ولا يكفون , عن إلصاق الباطل بالحق بما يصفون , يتبجحون بالكلام على علماء الإسلام و عن الكفار هم معرضون , كبرت كلمةٌ تخرج من أفواههم إذ يقولون , عن حجة الإسلام مجدد القرن الخامس الإمام الغزالي (أنه أساء وظلم وتعدى) وكثير من الباطل إليه ينسبون .

ولقد أحسن الحسن بن حميد حيث يقول :
يا ناطح الجبل العالي ليلكِمه *** أشفق على الرأس لا تشفق على الجبل.

( أهم الأوهام التي ألصقت به والرد عليها )

مما لا ريب فيه أن الغزالي رحمه الله لم يكن معصوماً عن الزلل والخطأ, شأنه في ذلك شأن الناس جميعاً حاشا الرُسل والأنبياء , و لكن تعرضه للخطأ لا يعني ذلك السماح للأقزام أن يتخذوا من ذلك ثغرة لبث السموم والاتهامات الباطلة إليه, و إليك ملخص بعض هذه الأوهام في نقطتين , و فيها كفاية لمن له أدنى نظر و تأمل و عناية .

النقد الأول :
ما ألصق بالغزالي و هو منه بريء , ما قيل من أنه كان يعكف على قراءة (رسائل إخوان الصفا) وهي رسائل مزج فيها القليل من الحق بالكثير من الباطل و قراءة( آراء ابن سينا) وإدخال ( آراء الفلاسفة ورموز الحلاج )

الجواب :
نقول ما هو محط الإنكار في هذا على الغزالي ؟ أهو قراءة هذه الرسائل والاطلاع على ما فيها ؟ فهذا لا غبار عليه ولا إنكار فيه , وذلك لمن يريد أن يكشف الباطل و يرد عليه .
و إن كان الإنكار على أنه متأثر بها و قبول ما فيها من الباطل ؟ فأين مصداق هذه الدعوى ؟ وما هي المسائل التي قبلها فاقتنع بها و تقبلها ؟

فإن وجدوا ولن يجدوا إلى ذلك سبيلا سوى عكس ذلك من التحذير من الإقبال على هذه الرسائل و أمثالها والركون إليها , فإن تعجب فعجباً لمن يأخذ على الغزالي بما يجب شكره عليه , و شبيه بما ذكرنا من ينكر عليه قراءته لآراء ابن سينا , ولكن من نظر إلى نتيجة قراءة الغزالي آراء ابن سينا و أفكاره في أن أثبت موجبات كفره ودلائل زيغه عن المحجة و شروده إلى أودية التيه وتوغله في الأوهام الباطلة وتحذير الناس من زيفه . (ملاحظة) إن لم يتب عن ذلك.

و مما قيل عنه بأنه تصوف وهجر العلوم وأهلها, ودخل في علوم الخواطر وأرباب القلوب ووساوس الشيطان, ثم شابها بآراء الفلاسفة و رموز الحلاج, وجعل يطعن على الفقهاء و المتكلمين, و لقد كاد ينسلخ من الدين…!!!
وكما ترى أخي القارئ كل هذا مجرد اتهام باطل للغزالي بعموميات ولا يوجد من ورائه أي مثال تفصيلي ينهض شاهداً على صدق هذا الاتهام .

النقد الثاني :
هو ما أُخذ على الغزالي من تقصيره في علم الحديث , وما قيل عنه من أنه حاطب ليل , يأخذ كل ما وجده من غير تمحيص و لا انتقاء , و كثرة الأحاديث الواهية والموضوعة .

الجواب :
إن الإمام الغزالي نشأ في مدرسة يغلب عليها الطابع العقلي الجدلي , و كان أهم ما يدرس فيها علوم الكلام و الأصول و الفقه و المنطق و الجدل ولم تكن لها عناية كافية بالحديث وعلومه , و قلما يسلم المرء من تأثير بيئته, وقد قال عن نفسه في كتابه قانون التأويل ( وأعلم أن بضاعتي في علم الحديث مزجاة ) , ولكن هذا لا يعني عدم معرفته بعلم الحديث فهناك فرق من أن يكون الإنسان متبحر في علوم الحديث ومن إنسان مطلع عليه عارف به

ثم أنه في أخريات حياته أقبل على علم الحديث و الصحيحين , ولكن يسيء الأقزام في العلم بفهم العبارة السابقة للغزالي في أنه بضاعته مزجاة إذ انه يحسب أن الإمام الأصولي الفقيه البارع الغزالي رحمه الله خالي من علوم الحديث , ويغفل عن مراد الإمام الغزالي من أنه ما أراد إلا أنه لم يكن إماماً في هذا الفن مع علو شأنه في كل فن, فمن نظر إلى كتابه (المستصفى) الذي أفرد فيه باباً تحدث عن السنة وأصولها, وعن تقسيم الخبر من حيث العدد , والتصديق والتكذيب , وأخبار الآحاد و حجم الاستدلال بها , وشروط الراوي وصفاته , والجرح والتعديل , ومستند الراوي وضبطه ….الخ, يدرك أن الإمام كان على دراية أصولية في أصول الحديث والسنة, ولكن يأبى الأقزام في العلم من المعاصرين ويظنون أن الإمام الغزالي يجهل بعلوم الحديث كجهلهم هم به!!

ويريد ذاك القزم في العلم أن يرفع نفسه إلى أفق علم الإمام الغزالي كمن يقول أمسكت النجم و هو يراه بعيد عنه ويظنه صغير, ولم يدرك أن المسافة البعيدة هي التي جعلته صغير!!, ثم أن ناقل الكفر ليس بكافر , فإن الإمام الغزالي نقل من كتب المتصوفة و كتب الفقهاء و لم يتعهد بإخراج الصحيح فقط كما فعل البخاري في صحيحه,

و كما أن الإمام البخاري في تاريخه و الإمام ابن جرير الطبري في تاريخه لم يتعهدا بإخراج الصحيح فقط و هما العارفين المتبحرين في علم الحديث , ولذلك تجد الغث والسمين في كتابيهما , وكتب التفسير حشيت بما لا يصح و لا يثبت من الحديث و الإسرائيليات بل إن كتب الحديث ذاتها فيها كثير من المردود لدى صيارفة الحديث , حتى كتاب سنن ابن ماجه و هو سادس الكتب الستة المشهورة , فيه أحاديث حكموا بوضعها !
فلماذا التحامل على الإمام الغزالي هل للنقد العلمي ؟
أم لشيء وقر في الصدر من الحسد و الضغائن؟

أضف إلى ذلك فهناك من قام بخدمة الدين و خدمة الكتب و سد ما فيها من خلل و زلل , كما قام الحافظ العراقي بخدمة كتاب الإحياء للإمام الغزالي خدمة جليلة , بتخريجه الموجز لأحاديثه وقد طبع بحاشيته و هو المسمى ( المغني عن حمل الأسفار , بتخريج ما في الإحياء من الأحاديث و الأخبار ) و بذلك خدم العلم و العلماء , لا كما يفعل أقزام هذا العصر , بذم العلماء و كتبهم , وتشويه صورهم أمام العامة و أقول العامة لأن العلماء يعرفون قدر العلماء و مكانتهم , و كما قيل و ليس يصح في الأذهان شيء إذا احتاج النهار إلى دليل!

وثمة أوهام أخرى هي أوهى من بيوت العنكبوت , حول هذه الشخصية الفذة و هذا شأن العظماء , و الإحاطة بها تلج بنا إلى إسهاب تضيق المقالة عنها .

نقول ليت المنتقد سلك المسلك العلمي في تتبع و تلقف هذه الانتقادات , ليجد بعد تمحيص و تحقيق أن غالب شبهه ناشئة عن عدم فهمه و سوء تقديره للظروف المؤلف فيها تلك الكتب , و سيجد أنه تسرع في الحكم وإلقاء الكلمة هكذا دون أدنى روية , وكأنه أراد الانتقاد و كفى !!

( كلمة الخِتام )

في الختام نقول كما قيل :
و عينُ الرضا عن كلِ عيبٍ كليلةُ *** ولكنَ عين السُخطِ تُبدى المساويا.

وقيل أيضاً:
وإذا الحبـيـب أتى بذنبٍ واحد *** جـاءت محـاسنه بألـف شفيـع !

نصيحة :
المرءُ إن كان عاقلاً ورعاً *** أشغلهُ عن عيوب غيره ورعُه
كما العليلُ السقيمُ أشغلهُ *** عن وجع النَاس كلِهم وجعُه.

ومما قيل من شعر في رثاء الإمام الغزالي قول أبي المظفر الأبيوردي :

بكى على حجة الإسلام حين ثوى *** من كل حيٍ عظيمُ القدر أشرفهُ
فما لمـن يمتري في الله عبرتـهُ *** على أبي حامد لاح يعنـِفُـهُ

تلك الرزية تستوهي قُوى جـلدي *** فالطرف تُسهرهُ و الدمعَ تنزفُهُ
فمالـه خلـةٌ في الزهـد تنـكرهُ *** ومالـه شبهةٌ في العلم تعرفهُ
مضى فأعظمُ مفقودٍ فُجعـتُ بـه *** من لا نظير له في الناس يخلُفُهُ

وقيل فيه أيضاً:
بكيـتُ بعيني واجم القلب والهٍ *** فتىً لم يوالي الحقَ من لم يُواله
وسيَبتُ دمعاً طالما قد حبستُهُ *** وقلتُ لـجفني: وَالـِهِ ثُمَ وَالـِهِ
أبا حامدا محيِ العلوم و من بقي *** صدى الدِين و الإسلام وَفقَ مقاله

رحم اللهُ هذا الإمام العظيم بقدر ما أسدى للبشرية من عطاء, و بقدر ما أخلص لدينه و لإخوانه, رحمهُ الله رحمةً واسعةً وطيَب ثراه, ونفعنا بعلمهِ, إنَه سميعٌ مجيبُ الدعاء وصلي اللهم وسلم على سيدنا محمد و آله و من تبع هداه إلى يوم الدين و آخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين .
************
بقلم / الفقير إلى مولاه محمد الجيماز
al_jemaz_4@hotmail.com
____________________________________________
المراجع :
1- الإمام أبو حامد الغزالي- سلسلة الدراسات الإسلامية-الإيسيكو-دار التقريب بين الدراسات الإسلامية.
2- الإمام الغزالي بين مادحيه و ناقديه – د.يوسف القرضاوي-مؤسسة الرسالة.
3- شخصيات استوقفتني – د. محمد سعيد رمضان البوطي – دار الفكر.
4- مقدمة كتاب الاقتصاد في الاعتقاد –دار المنهاج.
5- مقدمة كتاب الوجيز- دار الأرقم .
6- الجزء الأول من كتاب إتحاف السادة المتقين- دار إحياء التراث العربي .
7- ديوان الإمام الشافعي .