الصفحة الرئيسية » مقالات » مدى حاجة الفقيه إلى اللغة العربية

مدى حاجة الفقيه إلى اللغة العربية

مدى حاجة الفقيه إلى اللغة العربية
عبد الله بن بيه
مدخل:
الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وعلى آله وصحبه.
هذا العنوان اخترناه لتنبيه المهتدين باستنباط الأحكام من الكتاب والسنة والمتصدرين للقضاء والفتوى وأساتذة الجامعات إلى أهمية إتقان اللغة العربية كإتقان مصطلح الحديث أو أصول الفقه
وهذا المقال أيضاً إهابة بطلبة الدراسات الإسلامية وكليات الشريعة الذين قد يظن بعضهم أن اللغة العربية هي شأن طلاب كلية اللغة أو كلية الآداب، نهيب بأولئك ليعطوا اللغة العربية من العناية ما تستحق، فهي شرط أساسي ومفتاح ضروري لفتح أبواب الشريعة إذ بدون معرفتها تلتبس عليهم الوجوه وتلتوي بهم السبل، ويحزون في غير مفصل ويفزعون إلى غير معقل، لأن القرآن الكريم نزل بلسان عربي مبين قال تعالى:
{وَإِنَّهُ لَتَنزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ * نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ * بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ}(الشعراء: 192-195)
وقال تعالى: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا…} (الشورى: 7)
وقال تعالى: {إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} (الزخرف: 3).
إلى غير ذلك من الآيات التي تشير إلى عربية القرآن ولا أقول عروبية، فالقرآن هو رباني المبدأ، عالمي التطبيق.
قال تعالى:{وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا…} (سبأ: 28) فليس دعوة لأقوام عن أقوام، ولا لزمان عن زمان.
قال النبي – صلى الله عليه وسلم – “وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الأحمر والأسود” [1]
وإنه لشرف للعرب أن تنزل الرسالة الخاتمة بلسانهم وتكون مسؤولية يتحملها مؤمنهم ليبين للناس ما نزل من هذا الدين خير بيان، وحجة على كافرهم حيث بلغته الرسالة أحسن البلاغ، وفي البحث الذي نقدمه بلاغ وبيان لطلبة العلم .
أهمية الخطاب الملفوظ :
وكمقدمة لما نحن بصدده نقول إن الشريعة تتلقَّى عن الشارع من ثلاثة طرق:
الأول: القول، الثاني: الفعل، الثالث: الإقرار[2].
أما القول فهو أن يقول الشارع إفعل أو لا تفعل وهو شامل لما دلَّ عليه في محل النطق وهو المنطوق والنص والظاهر.
ويشمل دلالة الاقتضاء ودلالة الإشارة على الأصح.
وما دلَّ عليه لا في محل النطق وهو المفهوم الذي ينقسم على مفهوم موافقة ومفهوم مخالفة[3].
أما الفعل، فهو أفعال النبي – صلى الله عليه وسلم – حيث إنها تكون تارة بياناً للأقوال، فتنزل منزلتها على الصحيح، فإذا كان الفعل بياناً لقول واجب كأفعال الحج ، كان واجباً ، وإذا كان بياناً لمندوب كان مندوباً، وإذا كان بياناً لجائز كان جائزاً ،على خلاف بين الأصوليين في التفاصيل ، إذا لم يكن بياناً لقول فيختلف في دلالته بين قائل بالوقف لأنه لا صيغة له وبين قائل بدلالته على الإباحة فيما ليس من جنس القرب وعلى الندب فيما هو من جنسها[4].
أما الإقرار فهو أن يقرَّ النبي – صلى الله عليه وسلم – غيره على قول أو فعل بحضرته أو في مكان يبلغه فلم ينكره فيدل على الجواز.
مهما يكن من خلاف في الحكم الذي ينبغي أن يوصف به الفعل والإقرار، فإن الفعل والإقرار يرجعان إلى قول ولو لم يكن قول الشارع فهو قول راوٍ لحادثة من الحوادث ، كقولٍ لراوي وهو عبد الله بن عباس – رضي الله عنهما -:
“قضى رسول الله – صلى الله عليه وسلم – بالشاهد واليمين”[5]
وكقول عمران بن حصين – رضي الله عنه – فيما يروي أبو داوود:”سهى النبي – صلى الله عليه وسلم – فسجد”[6].
فهذه الحكايات وإن كان الأصوليون قد اختلفوا في درجة وضعها من حيث المدلول هل يعطى لها ما يعطى لكلام الشارع، فقالوا في الأول في مبحث العموم هل يعم أو لا يعم، وقالوا في الثاني إن التعقيب بالفاء يدل على العلية في كلام الشارع والراوي.
المراد بهذه المقدمة أن الشريعة ترجع إلى كلام وهذا الكلام جاء بلغة عربية سواء كان لفظاً للشارع أو حكاية لفعله أو تقريره. باعتبار آخر فإن الذي يتعامل مع النصوص الشرعية لاستخراج الأحكام وتقرير المسائل فإنه يتعامل معها على أساسين لا ثالث لهما، النصوص والمقاصد.
أما الأساس الأول فما يفهم من اللفظ ، سواء فهم في محل النطق وهو المنطوق أو فهم لا في محل النطق وهو المفهوم بشقيه على ما أسلفنا وهذا الجانب يرجع فيه حتماً إلى اللغة.
أما الأساس الثاني فهو المقاصد وهي لا تفتقر إلى اللغة افتقار الألفاظ إليها بل ترجع إلى حكمة التشريع ومعقولية النص وإلى جانب المصالح ودرء المفاسد، وهذا الأساس الثاني من ركائز الاجتهاد، وتدخل فيه أدلة كثيرة :
القياس، والاستحسان وسد الذرائع، والمصالح المرسلة التي تنبني على المقاصد وهي ثلاثة :
الضروري والحاجي والتكميلي أو التحسيني.
ويؤيد ما ذكرنا قول الشاطبي :
“الاجتهاد إن تعلق بالاستنباط من النصوص فلابد من اشتراط العلم بالعربية وإن تعلق بالمعاني من المصالح والمفاسد مجردة عن اقتضاء النصوص لها أو مسلمة من صاحب الاجتهاد في النصوص فلا يلزم في ذلك العلم بالعربية وإنما يلزم العلم بمقاصد الشرع من الشريعة جملة وتفصيلاً”.
وأطال النفس في الاستشهاد، وقد نبه المعلق الشيخ عبد الله دراز إلى احتياج المقاصد أيضاً للغة العربية ومهما يكن من أمر فإن احتياج الأساس الأول إلى العربية لا خلاف فيه.
وهذه المكانة التي تحتلها اللغة العربية في خطاب الشرع جعلت السلف الصالح يهتم باللغة اهتماماً بالغاً ويعيرها عناية فائقةً، فيحدِّثنا التاريخ عن الوقائع ذات مغزى عميق ولكنها طريفة في نفس الوقت.
فمن ذلك ما ذكره ابن يعيش في شرحه للمفصل من أن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب -رضي الله عنه – ورد عليه كتاب من أبي موسى الأشعري وكان قاضياً له بالكوفة وقد صُدِّر الكتاب بعبارة:”من أبو موسى إلى أمير المؤمنين”، برفع أبو، وكان لأبي موسى كاتب لا يحسن اللغة حيث لم يضع الياء علامة الجر موضع الواو علامة الرفع في الأسماء الخمسة. فلما ورد الكتاب على أمير المؤمنين عمر لفت انتباهه هذا اللحن ولعله اغتاظ للعواقب التي ستحيق بهذه اللغة إذا استمر الأمر على هذه الوتيرة، فما كان منه إلا أن كتب إلى أبي موسى يأمره بضرب كاتبه سوطاً وأن يعزله عن وظيفة الكتابة[7].
إنه تأديب شديد يلحق بموظف فينهي خدمته، ويمسه بلهيب السوط من إمام ملأ الدنيا عدلاً وبذ الحكام فضلاً.
هل انتهكت حرمة الشريعة حتى يغضب عمر؟
هل حدثت بدعة في الدين حتى يرفع السوط؟
حقاً إن تلك المعاني لم تكن غائبة عن ذهن عمر، فعلاقة الشريعة باللغة أكيدة والابتداع قادم إذا لم تستقم الألسنة والأقلام.
ونجد الخليفة الاول أبا بكر الصديق – رضي الله عنه – يأسف للحن العامة وعدم دقتهم في استعمال أوجه الكلام حيث جاء في ربيع الأبرار “أن أبا بكر الصديق – رضي الله عنه – مرَّ برجل يقال له أبو لفاقة في يده ثوب فقال له الصديق – رضي الله عنه – أتبيع هذا الثوب؟
فقال لا رحمك الله، فقال الصديق قد قومت ألسنتكم لو تستقيمون، لا تقل هكذا قل لا ورحمك الله”[8].
لأن الفصل أي: ترك الواو يوهم الدعاء عليه لا له. ومقتضى الأدب والذوق السليم وفقه اللغة يوجب إدخال الواو بين النفي الذي يمثل جملة خبرية وبين الدعاء الذي هو جملة إنشائية وردت بصيغة الخبر ويسمى إدخال الواو بينهما وصلاً.وذلك يدل أيضاً على أن تقويم الألسنة من مهمات خليفة المسلمين.
وبلغ اهتمامهم به أن أمير المؤمنين علياً – رضي الله عنه – علَّم أبا الأسود الدؤلي الاسم والفعل وأبواباً من العربية قائلاً:”انح هذا النحو”، فكان ذلك أصل النحو على قول، وقيل إن أصل النحو يوناني ومنه يوحنا الإسكندراني هكذا يقول الأزهري.
قال ابن سيدة فقال:”إنه من انتحاه إذا قصده لأنه انتحاء سَمْت كلام العرب في تصرفه من إعراب وتثنية وجمع وتحقير وتكسير”، وكلام ابن سيدة هو الظاهر عند كثير من النحاة[9].
وتحتفظ ذاكرة كتب الشريعة والفقه بقصص لا تقل طرافة وظرفاً تقع بمحضر الخلفاء، بين الفقهاء والنحاة. فمن ذلك ما وقع بين الكسائي القارىء النحوي وأبي يوسف القاضي صاحب أبي حنيقة – رحمهما الله – حيث تحدى الكسائي أبا يوسف قائلاً هل لك في مسالة؟
ويستفهم أبو يوسف عن طبيعة المسألة نحو أم فقه؟ فيقول الكسائي فقه فيضحك الخليفة الرشيد حتى يفحص برجله كما تقول الرواية استغراباً لهذه الدعوى.
لكن الكسائي يبادر موجهاً خطابه إلى أبي يوسف ما تقول في رجل قال لزوجته : أنت طالق أن دخلت الدار. وفتح الهمزة فقال أبو يوسف تطلق إذا دخلت الدار.
فقال الكسائي : – وقد أمكنت رميته فلم تشو – أخطأت قد طلقت امرأته، ذلك لأن الزوج في هذا لم يعلق الطلاق وإنما علله بأن المفتوحة المصدرية كأنه قال أنت طالق من أجل دخولك الدار، فعجب أبو يوسف وصار يتردد على الكسائي.
يعلق الشاطبي على ذلك قائلاً:”هذه المسالة جارية على أصل لغوي لا بد من البناء عليه في العِلمين”[10].
ويجري هذا المجراى سؤال الرشيد لأبي يوسف عما يترتب على الرفع والنصب في لفظي : عزيمة وثلاث ، في قول الشاعر:
فإن ترفقي يا هند فالرفق أيمن *** وإن تخرقي يا هند فالخرق أشأم
فأنت طلاق والطلاق عزيمة *** ثلاث ومن يخرق أعق وأظلم
فما على هذا القائل إذ نصب ثلاث أو رفعها – مع ملاحظة أن رفع عزيمة أو نصبها سيدور في اتجاه معاكس حتماً –
فقال أبو يوسف : ” وهو يقلب رسالة الخليفة هذه مسالة فقهية نحوية فلا آمن الخطأ فيها إذا قلت برأي، فذهب إلى الكسائي وهو في فراشه فأجابه بأنه في حالة نصب ثلاث تطلق ثلاثاً وفي حالة الرفع تطلق واحدة.
وتأويل ذلك أنها في حالة النصب تكون تمييزاً للطلاق المنبهم في جملة فأنت طلاق، وفي حالة الرفع مع نصب عزيمة، تكون خبراً للطلاق وهو مبتدأ في الجملة الثانية فكتب أبو يوسف الجواب للخليفة فأعجبه وبعث إليه بهدية فأرسلها أبو يوسف إلى الكسائي[11].
وفي البيت أوجه أخرى يمكن الاطلاع عليها في مغني اللبيب لا بن هشام وغيره.
وأهمية اللغة والنحو جعلت بعض النحاة يتصدر للفتوى فيقول أبو عمر الجرمي :”إنه يفتي من كتاب سيبويه منذ كذا سنة”، وكتاب سيبويه كما هو معروف في النحو وليس في الفقه، وتأويل بعضهم كلامه على إنه كان يعرف الحديث وأن كتاب سيبويه كان يوضح له أساليب العرب ولطائف لغتها[12].
أما الفقهاء فإن مدار اختلافاتهم في كثير من المسائل الفقهية يرجع إلى مسائل نحوية أو لغوية في مسائل الشروط والأيمان والاستثناء وألفاظ الشارع وألفاظ المكلفين في عقودهم وخصوصاً في قضايا الأوقاف والوصايا.
ولهذا فقد ضمن محمد بن الحسن الشيباني كتابه الجامع الكبير في كتاب الأيمان منه مسائل فقهية تبني على أصول عربية لا تتضح إلا لمن له قدم راسخ.
ومن مسائله الغامضة أنه لو قال :”أي عبيدي ضربك فهو حر فضربه الجميع عتقوا.
ولو قال: أي عبيدي ضربته فهو حر، فضرب الجميع لم يعتق إلا الأول منهم”.
قال ابن يعيش موجهاً كلامه ذلك بأن الفعل في المسالة الأولى عام وفي الثانية خاص [13] .

وقد نبه الزمخشري على حاجة الفقيه إلى اللغة التي هي العلم بالكلم المفردة والإعراب التي هي اختلاف أواخرها لإبانة معانيها، قائلاً في
“فإن صح ذلك فما بالهم لا يطلقون اللغة رأساً وإعراباً” إلى أن قال :”ولا يتكلموا في الاستثناء فإنه نحو وفي الفرق بين المعرف والمنكر فإنه نحو وفي التعريفين تعريف الجنس والعهد فإنه نحو وفي الحروف كالواو والفاء وثم ولام الملك والتبعيض ونظائرها وفي الحذف والإضمار وفي أبواب الاختصار والتكرار وفي التطليق بالمصدر واسم الفعل وفي الفرق بين إن وأن وإذا ومتى وكلما وأشباهها مما يطول وكل ذلك نحو.
قال ابن يعيش شارحاً كلامه :
“يشير – أي الزمخشري – بذلك إلى شدة فاقة الفقية إلى معرفة العربية ، ألا ترى أن الرجل إذا أقر فقال لفلان عندي مائة غيرُ درهم يرفع غير ، يكون مقراً بالمائة كاملة لأن غير هنا صفة للمائة وصفتها لا تنقص شيئاً منها ، وكذلك لو قال عليَّ مائة إلا درهم كان مقراً بالمائة كاملة ، لأن إلا تكون وصفاً كغير.
قال تعالى:{لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا…} (الأنبياء: 22)
ولو قال له عندي مائة غيرَ درهم أو إلا درهماً بالنصب، لكان مقراً بتسعة وتسعين درهماً لأنه استثناء والاستثناء إخراج ما بعد حرف الاستثناء من أن يتناوله الأول
وكذلك لو قال ماله عليَّ مائة إلا درهمين لم يلزمه شيء، كما لو قال ماله عليَّ ثمانية وتسعون درهماً ، ولو رفع فقال : ماله عندي مائة إلا درهمان لكان مقراً بدرهمين والمسائل في ذلك كثيرة .
ومن ذلك لو قال : إن دخلت الدار فأنت طالق، فإنه لا يقع الطلاق إلا بدخول تلك الدار المعينة، ولو قال: إن دخلت داراً فأنت طالق، وقع الطلاق بدخول أي دار دخلتها، لأنه علق الطلاق بدخول دار منكورة ولشياعها تعم ، وفي الأول علق الطلاق بدخول دار معهودة فلا يقع الطلاق إلا بدخولها.
أما الفرق بين لام العهد ولام الجنس فمن جهة المعنى وأما اللفظ فشيئ واحد وذلك أنك إذا قلت الرجل وأردت العهد فإنه يخص واحداً بعينه، ومعنى العهد أن تكون مع إنسان في حديث عن ثالث غائب ثم يقبل الرجل فتقول وافي الرجل أي الذي كنا في حديثه وذكره قد أوفى.
وإن أردت تعريف الجنس فإنه يدل على العموم والكثرة ولا يكون مخبراً عن إحاطة بجميع الجنس لأن ذلك معتذر غير ممكن ، فإذا قلت العسل حلو والخل حامض فإنما معناه العسل الشائع في الدنيا المعروف بالعقل دون حاسة المشاهدة حلو، وكذلك الخل ، والذي يدل على أن الألف واللام إذا أريد بهما الجنس تعمان قوله تعالى : {إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ* إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ…} (العصر: 2-3) فصحة الاستثناء من الإنسان تدل على أن المراد به الجماعة ومن ذلك حروف العطف نحو الواو والفاء وثم فإن الواو معناها الجمع المطلق من غير ترتيب والفاء تدل على أن الثاني بعد الأول بلا مهلة، وثم كذلك إلا أن بينهما تراخياً
فعلى هذا إذا قال لزوجته : أنت طالق إن دخلت الدار وكلمتك ، فهذه تطلق بوقوع الفعلين جميعاً بدخول الدار والكلام لا تطلق بأحدهما دون الآخر، فإن دخلت الدار ولم يكلمها لم تطلق وإن كلمها ولم تدخل الدار لم تطلق، ولكن إذا جمع بينهما طلقت ولا يبالي بأيهما بدأ بالكلام أم بالدخول، أي ذلك بدأ به وقع الطلاق بعد أن يجمع بينهما لأن المعطوف بالواو يجوز أن يقع آخره قبل أوله ، ألا ترى أنك تقول رأيت زيداً فيجوز أن يكون عمرو في الرؤية قبل زيد، قال الله تعالى:{…وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ} (آل عمران: 43).
وكذلك إن قال لخادمه إن دخلت الدار وكلمت زيداً فأنت حر، فإن قال ذلك لا يقع إلا بوقوع الفعلين جميعاً كيف وقعا ، ولا فرق فيه بين وقوع الأول قبل الثاني أو الثاني قبل الأول في اللفظ ، ولو قال ذلك بثم لكان في الترتيب مثل الفاء إلا أنه يكون بينهما تمادٍ وتراخٍ
ومن ذلك حروف الجر نحو من واللام فإن الرجل إذا حلف وقال : والله لا آكل من طعام زيد، فإنه يحنث بأكل اليسير منه، ولو قال لا آكل طعام زيد فإنه لا يحنث إلا بأكل الجميع، وكذلك لو كان عنده فقال: هو لزيد بفتح اللام والرفع لم يلزمه شيء، ولو قال لزيد: بكسر اللام والخفض لكان مقراً له به ، لأن اللام إذا فتحها كانت تأكيداً وكان مخبراً أن الخادم اسمه زيد. وإذا كسر اللام كانت لام الملك الخافضة وكان مخبراً أنه ملكه…
ومن ذلك مسائل الطلاق إذا قال : أنت طالق طلقت منه وإن لم ينوِ ، ولو أتى بلفظ المصدر فقال : أنت طلاق لم يقع الطلاق إلا بنيته لأنه ليس بصريح إنما هو كناية على إرادة إيقاع المصدر موقع اسم الفاعل على حد ماء غور، أي: غائر.ومنهم من يجعله صريحاً يقع به الطلاق من غير نية كاسم الفاعل لكثرة إيقاع المصدر موقع اسم الفاعل وكثرة استعماله في الطلاق حتى صار ظاهراً فيه…
ومن ذلك الفرق بين أن المكسورة مخفضة وبين المفتوحة، وذلك أن المكسورة معناها الشرط والمفتوحة معناها الغرض والعلة، ولو قال أنت طالق إن دخلت الدار لم يقع الطلاق حتى تدخل الدار؛ لأن معنى تعليق الشيء على شرط هو وقوف دخوله في الوجود على دخول غيره في الوجود ، ولو فتح لكانت طلاقاً في الحال ، لأن المعنى أنت طالق إن دخلت الدار أي من أجل أن دخلت الدار، فصار دخول الدار علة طلاقها لا شرطاً في وقوع طلاقها كما كان في المكسورة وكذلك لو شدَّد أنَّ يقع الطلاق في الحال كانت دخلت الدار أو لم تكن
ومن ذلك إذا ومتى وكلما ، تستعمل في الشرط كما تستعمل إن، إلا أن الفرق بين هذه الأشياء وبين إنَّ أنَّ إنْ تعلق فعلاً بفعل، وإذا وكلما للزمان المعين ، فإذا قال: أنت طالق إن دخلت الدار، أو قال : أنت طالق إذا دخلت الدار لم تطلق حتى تدخل الدار، أما إن فشرط لا يقع الطلاق إلا بوجود ما بعدها، أما إذا فوقت مستقبل فيه معنى الشرط فكأنه قال : أنت طالق إذا جاء وقت كذا وكذا، فهي تطلق وقت دخول الدار فقد استوت إن وإذا في هذا الموضع في وقوع الطلاق وتفترقان في موضع آخر
فلو قال: إذا لم أطلقك أو متى لم أطلقك فأنت طالق، وقع الطلاق على الفور بمضي زمان يمكن أن تطلق فيه ولم تطلق ، ولو قال: إن لم أطلقك فأنت طالق، كان كأنه على التراخي يمتد إلى حين موت أحدهما، وذلك لأن إذا ومتى اسمان لزمان المستقبل ومعناهما أي وقت. ولهذا تقع جواباً عن السؤال عن الوقت، فإذا قيل متى ألقاك؟
فيقال: إذا شئت كما تقول يوم الجمعة أو يوم السبت ونحوهما ، وليست كذلك إن ، ترى أنه لو قيل متى ألقاك لم يقل في جوابه إن شئت وإنما تستعمل إن في الفعل، ولهذا يجاب بها عن السؤال عن الفعل، فإذا قيل: هل تأتيني؟
فيقال في الجواب: إن شئت
ومتى حالها كحال إذا في أنها للزمان وليس في هذه الكلم ما يقتضي التكرار إلا كلما، وذلك انك إذا قلت كلما دخلت الدار فأنت طالق طلقت بكل دخول إلى أن ينهي عدد الطلاق؛ لأن ما من كلما مع ما بعده مصدر، فإذا قال: كلما دخلت فمعناه كل دخول يوجد منك فأنت طالق وكل معناه الإحاطة والعموم فلذلك يتناول كل دخول [14].
وهذا كلام جيد نقلته على طوله للتدليل على أهمية اللغة والنحو للفقيه وهو طل دون وبل، وغيض من فيض.
ويرجع الخلاف بين الفقهاء إلى مدلولات الألفاظ اللغوية، ويمكن للفقيه أن يستفيد من تطور اللغة عرفاً في مسائل فقهية معاصرة كمدلول القبض والتقابض في البيع وكمدلول الحوز والحيازة في الهبات إلى غيرها ولو أن هذا المبحث لا يهتم بهذا الموضوع وإنما يهتم فقط بلفت الانتباه إلى علاقة اللغة بصفة عامة بالفقه لذكرنا من ذلك الكثير ولعلنا في بحوث قادمة نتعرض إلى ذلك كما نتعرض بتفصيل إلى كثير من الألفاظ اللغوية التي وردت في كلام الشارع وتسبب عنها الخلاف بين الفقهاء كالغسل بين المالكية والجمهور والتبيع في الزكاة بينهم وبين الجمهور والبيات بين الحنابلة في مسألة أين باتت يده، وغيرهم والقائمة طويلة.
ولعلنا الآن نكتفي بمثالين فقط خيفة التطويل وقد اخترتهما من الكلمات المرتبطة بالحياة اليومية، فهما من الأغذية وما كان ينبغي أن يختلف فيهما لو حكمنا الاستعمال العرفي للغة.
ولقد اخترت هذا المصطلح على المصطلح الذي يستعمله الأقدمون وهو الحقيقة العرفية، المجاز اللغوي [15] ، لتجنب المقابلة بين الحقيقة اللغوية من وجه والمجاز من وجه آخر، لأن الإطار العام الذي نقترحه هو اعتبار الحقيقة العرفية تطوراً للحقيقة اللغوية من حيث الاستعمال وقد يقال إن هذا هو المجاز بذاته ولكن المجاز يقابل الحقيقة، ومن هنا ينشب الخلاف بين المتمسكين بالأصل أو الفرع في حين نحاول تحقيق ذلك عن طريق الاعتراف بتطور الاستعمال اللغوي كأساس ومرجع عند الاختلاف.

والمثالان هما لفظ الإدام :
فقد اختلف في مدلوله ، ولا خلاف بينهم أن كل ما يصطبغ فيه من المائعات كالزيت والسمن والعسل والروب والخل وغير ذلك من الأمراق أنه إدام، وفي الحديث : “نعم الإدام الخل”، رواه تسعة من الصحابة سبعة رجال، وامرأتان، وإنما الخلاف هل لفظ الإدام يطلق على الجامد أو هو خاص بالمائع؟
فذهب الجمهور إلى أن الإدام يجوز إطلاقه على الجامد كاللحم والتمر وهذا قول مالك والشافعي وأحمد ومحمد بن الحسن الشيباني صاحب أبي حنيفة.
وقال أبو حنيفة وهي رواية عن أبي يوسف صاحبه أنه لا يجوز إطلاق على الجامد كاللحم والتمر، لأن حقيقة الإدام عنده من الموافقة على الاجتماع على وجه لا يقبل الفصل كالخل والزيت ونحوهما، وأما البيض واللحم وغيرهما من الجامدات فلا يوافق بل يجاوره ، لأنه يؤكل على حده فلا يكون إداماً [16] .
والمسالة مفروضة في اليمين لو حلف لا يأكل إداماً فأكل هذه الجوامد هل يحنث أو لا؟
فذهب الجمهور إلى الحنث واستدلوا بالدلالة اللغوية وبحديث أبي داوود : “أنه – صلى الله عليه وسلم – أخذ كسرة من شعير فوضع عليها تمرة فقال: سيد إدامكم الملح”، رواه ابن ماجه [17].
وذهب أبو حنيفة على أنه لا يحنث بأكل الجوامد لما أسلفنا من المناسبة اللغوية.
وإليك كلمة أخرى هي كلمة الفاكهة ، وسنكتفي بنقل كلام القاموس ممزوجاً بشرحه تاج العروس : “الفاكهة الثمر كله”، هذا قول أهل اللغة وقال بعض العلماء : كل شيء قد سمي من الثمار في القرآن نحو التمر والرمان فإنا لا نسميه فاكهة ، وقال: لو حلف أن لا يأكل فاكهة وأكل تمراً أو رماناً لم يحنث.
وبه أخذ الإمام أبو حنيفة واستدل بقوله تعالى : {فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ} (الرحمن: 68)، وقال الراغب: وكأن قائل هذا القول نظر إلى اختصاصهما بالذكر وعطفهما على الفاكهة في هذه الآية
وأراد المصنف ردَّ هذا القول تبعاً للأزهري فقال :
وقول فخرج التمر والعنب والرمان منها مستدلاً بقوله تعالى: {فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ}، باطل مردود وقد بينت ذلك مبسوطاً في كتابي : اللامع المعلم العجاب، في الجمع بين المحكم والعباب.
وقد تعرًّض للبحث الأزهري فقال : “ما علمت أحداً من العرب قال إن النخل والكروم ثمارها ليست من الفاكهة وإنما شذَّ قول النعمان بن ثابت في هذه المسالة عن أقاويل جماعة الفقهاء لقلة معرفته بكلام العرب وعلم اللغة وتأويل القرآن العربي المبين، والعرب تذكر الأشياء جملة ثم تخص منها شيئاً بالتسمية تنبيهاً على فضل فيه
قال تعالى :{مَن كَانَ عَدُوًّا لِّلّهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ…} (البقرة: 98)، فمن قال إن جبريل وميكال ليسا من الملائكة لإفراد الله عز وجل إياهما بالتسمية بعد ذكر الملائكة جملة فهو كافر لأن الله تعالى نص على ذلك وبينه ومن قال إن ثمر النخيل والرمان ليس فاكهة لإفراد الله تعالى إياهما بالتسمية بعد ذكر الفاكهة جملة فهو جاهل وهو خلاف المعقول وخلاف لغة العرب”
ورحم الله الأزهري لقد تحامل في المسالة على الإمام – رضي الله تعالى عنه – ولقد كان له في الذب عنه مندوحة ومهيع واسع قال شيخنا وقد تعرض الملَّا علي في الناموس للجواب فقال : “هذا الاستدلال صحيح نقلاً وعقلاً فأما النقل فلأن العطف يقتضي المغايرة، وأما العقل فلأن الفاكهة ما يتفكه به ويتلذذ من غير قصد الغذاء أو الدواء، ولا شك أن التمر من جملة أنواع الغذاء والرمان من جملة أصناف الدواء.
وقال شيخنا هذا كلام ليس فيه كبير جدوى وليس لمثل المصنف أن يعترض على أبي حنيفة في أقواله التي بناها على أصول لا معرفة للمصنف بها، ولا لمثل القاري أن يتصدى للجواب عنها بما لا علم له به من الرأي المبني على مجرد الحدس ولو علمت أقوال أبي حنيفة – رضي الله تعالى عنه – في ذلك وأدلته لأغنت وأقنت ، على أن التعرض لمثل هذا في مصنفات اللغة إنما هو من الفضول الزائدة على الأبواب والفصول”
قلت : وقد أنصف شيخنا – رحمه الله تعالى – وسلك الجادة وما اعتسف و{…إِن يَنتَهُواْ يُغَفَرْ لَهُم مَّا قَدْ سَلَفَ…} (الأنفال: 38)، انتهى كلام الزبيدي وفيه من التحامل من الجانبين ما لا يخفى.
قلت: إنه لا ينبغي أن يظل هذا الخلاف مؤبداً جامداً في كتب الفقه لا يبرح مكانه لأن أصل المسألة هو لغوي فكان الرجوع على اللغويين جديراً بحل العقدة إذ أن العودة إلى تطور الاستعمال العرفي للغة كفيل أن يجعل فرقاناً لأهل الفقه وبياناً لأن اللغة كائن متطور بتطور العرف الاستعمالي للمتكلمين
وقد تفطن الأصوليون لذلك وهم يتعاملون مع التعريف الظاهر في مقابل النص والمجمل الذين يكتنفانه حيث علقوا الظهور تارة بالحقيقة اللغوية قبالة المجاز كما انتحاه القاضي أبو بكر الباقلاني، إلا أن الأستاذ أبا إسحاق الإسفرائيني انتبه فنبه إلى أن الحقيقة اللغوية الأصلية قد لا تكون الأساس الوحيد للظهور إذا تطور الاستعمال العرفي ليصير معنى آخر يتبادر إلى الفهم من اللفظ وربما أصبحت الحقيقة الأصلية مهجورة ويصبح رد كلام المتكلم إليها من باب التأويل.
قال إمام الحرمين بعد ذكر تعريف القاضي أبي بكر للظاهر:
“ويخرج مما ذكره المجازات الشائعة المستفيضة في الناس المنتهية في جريانها حائدة عن الحقيقة إلى منتهٍ لا يفهم منها حقيقة موضوعها، كالدابة من دب يدب، قطعاً وهي على بناء فاعل مترتب على قياس مطرد في الفعل المتصرف وحملها على الدبيب المحض حيدٌ عن الظاهر. انتهى محل الاستشهاد وأطال في ذلك مستعرضاً كلام الأستاذ أبي إسحاق[18].
ونحى الباجي هذا المنحى في بحثه في دلالة الأمر قائلاً : “لأن اللفظ إنما يستغني عن قرينة فيما شهر بالاستعمال فيه ويفتقر إلى قرينة فيما عرف أنه يستعمل في غيره أكثر كالغائط فإنه حقيقة في المطمئن من الأرض ، مجاز في قضاء الحاجة، ثم مع ذلك يفتقر إلى قرينة في استعماله في حقيقته ، ولا يفتقر إلى قرينة في استعماله في مجازه، وإنما ذلك بحسب عرف الاستعمال”.

وأطال في الشرح مستعرضاً بعض الألفاظ كلفظ الوطء، فلو قال وطئت الجارية لا يحتمل أن يكون وطئها برجله أو جامعها، ثم لو أطلق اللفظ لحمل على الجماع [19].
ولهذا فإن الرجوع إلى الاستعمال العرفي للغة ، وهو مصطلح اخترناه كما أسلفنا حتى لا نقابل بين الحقيقة اللغوية والحقيقة العرفية لأن الواقع يدل على أن الثانية إنما هي نتيجة لتطور الأولى إلا أن الاستشهاد بالأحاديث النبوية يدخل عنصراً جديداً وهو اعتبارها حقيقة شرعية وهذه مقدمة على الحقيقة اللغوية عند بعضهم كما هو مشهور مذهب مالك وإن كان خليل في مختصره قدم العرف القولي – الحقيقة العرفية على المقصد اللغوي – الحقيقة اللغوية وقدم المقصد اللغوي على المقصد الشرعي – الحقيقة الشرعية فقال : “ثم بساط ثم عرف قولي – ثم مقصد لغوي، ثم شرعي، وقد رد عليه الشروح”[20]
وأشار في المغني إلى أن تخصيص العام بالنية هو مذهب مالك وأحمد خلافاً للشافعي وأبي حنيفة، حيث قالا بإبقائه على الوضع الظاهر لغة وقد رد عليهما بأن العرب تعرف ذلك مستشهداً بشواهد[21]
ومثله في خليل وشروحه عند قوله : “وخصصت فيه الحاف وقيدت إن نافت وساوت”[22].
وفي رأينا أن الرجوع إلى اللغة باعتبار الحقيقة العرفية هي تطور للاستعمال اللغوي من شانه أن يلغي هذا الخلاف في عشرات المسائل في باب الأيمان وهي مسائل منتشرة في كتبهم يكفي أن تراجع المغني من ص763 حتى ص824.
وورود هذه الألفاظ في الأحاديث لا يمنع حملها على الاستعمال العرفي في اللغة، ويكفي أن تعرف أن اللفظ إذا ورد في كلام الشارع دون تعليق حكم عليه لا يصبح حقيقة شرعية بل يتصرف فيه بالعرف اللغوي كما نص عليه السيوطي[23] وغيره فلو حلف لا يأكل لحماً وأكل سمكاً ما حنث عند من لا يطلق عليه اللحم مع أنه سمي في القرآن لحماً، وقد اختلف الشافعية فيما يتعلق بالمعاني العرفية للغة هل تقدم على المعاني الأصلية؟ فذهب إلى تقديم العرفي البغوي وإلى تقديم الوضع الأصلي القاضي حسين[24].
وقد أغرب أصحابنا المالكية فجعلوا أي لفظ يستعمله بنية الطلاق يقع به الطلاق حتى ولو قال لها : اسقني الماء، مع أن الطلاق لا يقع في المذهب بالنية وحدها فكيف يقع بهذه الكلمة إذا انضمت إليها؟ إن لم يكن معنى ذلك أن ألفاظ اللغة قابلة للحركة في مهب رياح المقاصد والنيات، فقال خليل المالكي في مختصره : “بكا سقني الماء وبكل كلام لزمه”. وناقش شروحه كون هذا من باب الكناية أم لا [25] ؟
ويرجع هذا جزئياً إلى قاعدة خلافية مؤصلة في علم الأصول وهي : هل اللغة توقيفية بمعنى أن الباري جلَّ وعلا علمها لخلقه وحياً ووضعها وضعاً فلا يجوز فيها التصرف بالنقل والتغيير إلا طبقاً لقوانينها المنضبطة وأسسها الثابتة أم أن اللغة اصطلاحية راجعة إلى ما يصطلح عليه الناس ويتواطئون عليه فلو شاؤوا وضعوا لفظ الأسود للأبيض والعكس والماء للنار وهكذا بدون قيد إلا ما يتفق عليه العقلاء.
والأول: مذهب الأشعري وابن فورك وجماعة مستدلين بقوله تعالى: {وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا…} (البقرة: 31).
والثاني: مذهب أبي هاشم وأتباعه وأطالوا البحث في هذه المسألة التي يرى بعض الأصوليين أنها لا يترتب عليها شيء كبير فالخطب فيها يسير[26]، إلا أن بعض المالكية رتبوا على هذا الخلاف مسألة الطلاق باسقني الماء فيقع الطلاق فيه بناء على أنها اصطلاحية.
قال سيدي عبد الله في مراقي السعود:
واللغة الرب لها قد وضعا **** وعزوها للاصطلاح سمعا
يبنى عليه القلب والطلاق **** فكا سقني الشراب والعتاق
كل ما أشرنا إليه يدل على اضطراب وتباين في الآراء وتفاوت نظرتهم حول اللغة ومدلولات الألفاظ وعلاقة ذلك بالعرف والقصد.
وكل هذا في ألفاظ المكلفين دون ألفاظ الشارع التي أناط بها أحكاماً إلا أننا نجد أبا حنيفة هنا أيضاً يعمد إلى عرف الاستعمال في زمن الشارع ولو خالف ظاهر اللغة كالعموم مثلاً فيخصص بالعرف ولهذا فإن بعض أصحابه يقولون في نهيه – صلى الله عليه وسلم – عن بيع الطعام بالطعام أن هذا النهي منصب على البر فقط ، لأنه الطعام في عرف الاستعمال ويجادلهم الشافعية في ذلك جدالاً شديداً[27]، لأنهم – الشافعية – يقولون أن علة الربا الطعمية.
ولعل مخرج اللغة الذي اقترحناه سيلغي هذه الخلافات أو يؤدِّي إلى اجتهاد ترجيحي فيها والله أعلم.

الهوامش والمراجع

[1] – رواه الشيخان والنسائي، جمع الفوائد ص277.
[2] – بداية المجتهد، لابن رشد، ج1 ص1، ومختصر الروضة للطوفي، ج2 ص62.
[3] – نشر البنود على مراقي السعود، ج1 ص89 وما بعدها.
[4] – بداية المجتهد، ج1 ص3.
[5] – أخرجه مسلم، ج5 ص128، وأبو داوود(3608).
[6] – رواه أبو داوود، 1039والترمذي، 2/241، الضياء اللامع لابن حلول، ج3 ص6.
[7] – شرح المفصل، لابن يعيش ج2 ص 95.
[8] – شرح عقود الجمان، للسيوطي، ص63.
[9] – تاج العروس، لزبيدي، ج10 ص360.
[10] – الموافقات، ج1 ص84، وهو منقول عنه بتصرف.
[11] – مغني اللبيب، لابن هشام ج1 ص53.
[12] – شرح مختصر الروضة، لطوفي ج3 ص39.
[13] – شرح المفصل، لابن يعيش ج1 ص14.
[14] – راجع أبي يحيى على المفصل، ج1 ص11-13.
[15] – الاستغناء للقرافي، ص17.
[16] – جامع أحكام القرآن، القرطبي، ج12 ص116-117، بتصرف.
[17] – نفس المرجع، وتخريج الحديث سنن أبي داوود، ج3 ص363.
[18] – البرهان للإمام الحرمين، ج1 ص417.
[19] – أحكام الفصول، أبو الوليد الباجي، ص82-83.
[20] – الزرقاني على الخليل، ج3 ص69.
[21] – المغني لابن قدامة، ج8 ص764.
[22] – الزرقاني، ج3 ص64.
[23] – الأشباه والنظائر لسيوطي، ص67.
[24] – الأشباه والنظائر لسيوطي، ص67.
[25] – الزرقاني على الخليل، ص103.
[26] – هذا كلام الطوفي في شرح مختصر الروضة، ج1 ص 471، وما بعده.
[27] – البرهان لإمام الحرمين، ج1 ص446.