الصفحة الرئيسية » مقالات » مقولات تأسيسية في الهوية المصرية ودفع صائلة الطائفة الانقلابية

مقولات تأسيسية في الهوية المصرية ودفع صائلة الطائفة الانقلابية

مقولات تأسيسية في الهوية المصرية
ودفع صائلة الطائفة الانقلابية..!
تتعرض الأمم في أوقات أزماتها أو في لحظات التطلع إلى المستقبل إلى سؤال الهوية .. وهو سؤال دائما ما يصحبه جدل مؤد إلى صخب نشهده في كل تحول مفصلي كما يحدث في مصر من ثلاث سنوات تقريبا .
لم يدفعنى للحديث الآن سوى ما رأيت من تنكر و إقصاء متعمد لهذه الهوية ، أو_في أحسن الأحوال_ قبول بها على مضض في مشروع الدستور الذى أُعد بعد (الانقلاب العسكري) !!
في هذه الكلمة سأذكر ست مقولات أرجو ألا تكون محل خلاف وأن تكون مؤسِّسة لما سواها من مفاهيم حين نتحدث عن (الهوية المصرية) .
هذه المقولات الست هي : مقولة الهوية ، ومقولة الاختيار ، ومقولة الاحتفاء ، ومقولة الانحصار ، ثم مقولة الإقصاء ، ومقولة الصراع.
1.مقولة (الهوية) .
(الهوية) هي مجمل السمات التي تميز شيئا أو شخصا أو مجموعة عن غيرها.
وعناصر الهوية متحركة (ديناميكية) طبقا لاختيارات الإنسان التي تتغير.
ومفهوم (الهوية) بالنسبة لأمة أو جماعة بشرية _إذا أردنا تحديده_ لا نستطيع أن نقطعه أو نفصله مهما تغير أو تحرك عن مفاهيم التاريخ ولا العرق ولا اللسان ولا الطبائع والأخلاق ولا الدين بالطبع، ومن ثم فإن الهوية “مزيج متراكم” من أمور متعددة، لكن أبرز قسمات الهوية : “الدين واللغة” ؛ نظرا لأثرها الكبير على ما سواهما من عناصر ، ولأنهما هما اللذان يحددان (الموقف) مما عداهما من عناصر الهوية المتراكمة المتعددة ، وباعتبار أن الدين_ بمعناه اللغوي أى مطلق ما يدين به الإنسان من عقائد ومذاهب حتى لو كان التدين باللادين!_ هو العامل الحاسم والنهائي الموجه لسلوك الإنسان وتكوين فلسفته أو رؤيته لكل ما يدور حوله ، أو بكلمة واحدة تكوين (نموذجه المعرفي) الذي يَصْدُر من خلاله عن كل رأي وفكر وسلوك، فهو العمود الفقري لـ”ثقافة” الإنسان والمجتمع . وباعتبار أن اللغة هى الوعاء الذي يتشكل فيه فكر الإنسان وعقيدته ومن ثم سلوكه وحركته في الحياة وبين الأحياء ..!
هذه الهوية بامتزاجها وتعددها وثرائها هي التي تُكَوِّن إنسانا له من العلائق النفسية والطبائع العملية ما يمتاز به عن غيره ، ويختص به عمن سواه !!
وفي حالتنا المصرية فإن الإسلام والعروبة هما العمود الفقرى لثقافة المصريين مسلمين وغير مسلمين على السواء ، لكنهما بالنسبة للمسلمين دين يتعبدون به ويتقربون به إلى الله، وبالنسبة لغيرهم ثقافة وحضارة شكلت وجدانهم وساهمت فى صناعة وعيهم.
وقد قرر الدكتور ميلاد حنا فى كتابه الشهير (الأعمدة السبعة للشخصية المصرية) أن الركيزة الأولى لهذه الشخصية تتمثل في: الإسلام حضارة ولغة ولسانا ..
2.مقولة (الاختيار):
إن كل تحديد للهوية يحاول إغفال الدين واللغة يعد تحديدا منفلتا لا يعبر بصدق عن جوانب شخصية الفرد أو الجماعة البشرية ؛ نظرا لما قلناه من اعتبارات سابقة.
ومن حقائق التاريخ أن الهوية المصرية قد تشكلت ملامحها عدة مرات عبر تاريخ المصريين الممتد ، لكنها مع تعدد تشكلها وتحركها قد استقرت على وضعها الحالى منذ القرن الرابع الهجري تحديدا ؛ حيث غلب اللسان العربي على المصريين ، وكثر المسلمون حتى صاروا أغلبية للمرة الأولى!
وبيان ذلك أنه :
لما دخل الإسلام بلاد ما حول الجزيرة العربية كمصر وفارس وما ورائهما ، اختفت لغات هذه الأمم مع قبول أهلها للإسلام تدريجيا (لهذا اختفت القبطية واليونانية من مصر حيث كانت القبطية لغة التخاطب واليونانية لغة الأدب والشؤون الرسمية ، وتوارت البربرية من شمال أفريقية ، وانكمشت الفارسية في العراق وفارس ، وانزوت اللهجة النوبية من بلاد النوبة ، ثم بعد توارت اللهجة السودانية والكوشتية من السودان ، ولم تظهر واحدة من هذه بعد اختفائها ما عدا الفارسية التى استطاعت أن تسترد حياتها فى فارس منذ القرن الرابع للهجرة)(1)
وقد أكد الدكتور محمد عمارة قائلا:
(كان القرن الرابع الهجري _العاشر الميلادي_ نقطة تحول فى قيام مصر العربية واكتمال قسمة العروبة والإسلام فى نضج وحسم لهذا الوطن الذى فتحه العرب المسلمون على عهد الخليفة الثاني عمر بن الخطاب . ففي ذلك القرن بلغت حركة التعريب ذروتها حتى إن كتب العبادة والصلوات فى الكنيسة المصرية قد اتخذت من العربية لغة لها؛حتى يفهمها المصلون)(2)أ.هـ.
قلت : وكان هذا الاكتمال فيما يعرف تاريخيا بـ(العصر الفاطمي)، ولعل هذا يفسر بقاء بعض “النزعات” الفاطمية الاحتفالية منها والدينية حية فى وجدان المصريين حتى يوم الناس هذا.
ويعلل الدكتور عمارة خصوصية العهد الفاطمي وسر تقبل المصريين للعروبة وانتشار الإسلام فى عهدهم فيقول :
(إن الفتح الفاطمي كان بالنسبة لمصر والمصريين فتحا ، ولكنه من نوع جديد ، ففي كل الفتوحات والغزوات التى عرفتها مصر ..كانت مصر فى ظلها لا تزيد عن مجرد ولاية تتبع مقر كسرى أو قيصر أو عاصمة الخلافة فى المدينة ثم فى دمشق ثم بغداد .. أما الفاطميون فلقد كانوا فاتحين يريدون تحويل مصر إلى عاصمة للإمبراطورية العظيمة التى امتدت بطول بلاد العرب والمسلمين فى ذلك الحين . وإذا كانت مصر قد شهدت فاتحين يتبعون عملية الفتح باستنزاف خيراتها ليبعثوا بها إلى القواعد والمدن فإنها قد شهدت للمرة الأولى فاتحا لا يرسل خيراتها خارج حدودها)(3)أ.هـ.
ويلاحظ أنه فى الوقت الذي كانت الفارسية تسترد عافيتها فى فارس على حساب العربية، كانت القبطية واليونانية فى مصر فى طريقهما إلى الانزواء لحساب العربية ! .
أي أنه في الوقت الذى كانت فيه فارس وما حولها تتكلم العربية لم تكن مصر قد تَعَرَّبَت بعد ، ثم ارتدت فارس عن العربية وتبنتها مصر لما صار الإسلام هو دين غالبية المصريين فى أواخر القرن الرابع الهجري!
يقول بارتولد :
(ومنذ دخول الإسلام ظلت اللغة العربية على وجه التقريب هى اللغة الأدبية الوحيدة في العالم الإسلامي بأجمعه على مدى القرون الثلاثة الأولى للهجرة، ولكن منذ بدايات القرن الرابع الهجري أصبحت الفارسية شيئا فشيئا لغة الأدب فى القسم الشرقي من العالم الإسلامي)(4)
لقد غير الإسلام وجه مصر إلى الأبد بعد أن اختار المصريون العروبة والإسلام عن رضا وقناعة ..
ونحن هنا لن ندخل فى النقاش الفقهي حول فتح مصر ، هل كان صلحا أو عنوة؟ ؛ لأنه لا علاقة لعملية (فتح الأرض) بـ (اعتناق الدين) ، ولا رابط بين(إدارة شؤون الناس) و(الإجبار على الاعتقاد) على الأقل فيما عرفناه نظريا من نصوص وما تستبطنه من توجيه أخلاق المحاربين، وما تمتلئ به من عدم جواز الإكراه، فضلا عن صحة الاعتقاد الناتج عن هذا الاكراه من الناحية العقدية إن وقع من بعض الناس. وهو ما أكدته عمليا سيرة الفتوح الإسلامية عبر التاريخ .
ومن ثم فهما أمران جد مختلفان ، والسيف قد يفتح أرضا لكنه لا يفتح قلبا .. !
نعم اختار المصريون الإسلام ، فأصبحوا جزءا من أمة أكبر ، لا يربطها رباط العرق ولا الصور، ولا غيرها من روابط المادة، بل على أساس أعمق جذورا وأوثق رابطة : الدين والمعتقد.
ثم قبلوا مع الإسلام أن يتحول لسانهم إلى العربية فزادت تلك الروابط وثاقة وقوة.
3.مقولة (الاحتفاء)
إذا كان الإسلام قد حل محل الأديان القديمة سماوية وغير سماوية فقبله غالب المصريين عدا بعض من بقى على المسيحية ، فلقد حلت اللغة العربية محل اللغة الأم وقبلها جميع المصريين مسلميهم وغير مسلميهم ، حتى إن كتب العبادة والصلوات فى الكنيسة المصرية قد اتخذت من العربية لغة لها ؛ حتى يفهمها المصلون كما نقلته سابقا ..
ومن ثم ، لم يتوقف الأمر عند حد (الاختيار) الساذج الذي ربما يفرضه الأمر الواقع أو الانبهار بالغالب ، بل تعداه إلى (الاحتفاء) الذي يعنى : (تبني الدين واللغة) حتى كأنه وكأنها ولدا من رحم هذه الأرض ومن قلب هذه الأمة المصرية..
ولك أن تتخيل علوم الإسلام أو تاريخه أو أن تتخيل تاريخ اللغة العربية وآدابها دون إسهامات المصريين ، وانظر بم ترجع ؟!
هل يمكن أن نتخيل الإسلام أو اللغة العربية دون مصر والمصريين ؟!!
لقد صارت القاهرة عاصمة الإسلام بعد سقوط بغداد عام 656ه وأوى إليها جل علماء الإسلام ، وظلت إلى يوم الناس هذا ركنا ركينا مكينا من أركان الإسلام لا يمكن للأمة أن تقرر شيئا في حاضرها أو مستقبلها دون أن تضع الوزن المصري فى حسبانها ..!
لقد كان باستطاعة المصريين أن يكونوا مسلمين صالحين وأن يخدموا الإسلام خدمات جليلة دون أن يتخلوا عن لغتهم _مثلا_كما فعلت شعوب كثيرة ، فما هو السر يا ترى ؟
لن نستطيع أن نضع تفسيرا لهذا الأمر إلا بمقولة (الاحتفاء) التي نقررها هنا . .
ولا أنكر أن هذه المقولة قد خَدَّمت عليها روافد أخرى ، من قبيل ما يذكره المتخصصون حول بعض ما يكمن فى اللغة العربية نفسها من عذوبة ورقة وبيان ، وفقا لما اختاره الشيخ رشيد رضا ووافقه العلامة محمود شاكر .
قال الشيخ رشيد رضا :
( الإنسان يمتاز بالعلم ، وإنما العلم بالتعلم ، والتعلم باللغة ، واللغات تتفاضل فى حقيقتها وجوهرها بالبيان ، وهو تأدية المعاني التى تقوم بالنفس تامة على وجه يكون أقرب إلى القبول وأدعى الى التأثير . وفى صورتها وأجراس كلمها بعذوبة النطق وسهولة اللفظ والإلقاء والخفة على السمع . وإن العربية من هذه المميزات الميزان الراجح ، والجواد القارح ، يعرف ذلك من أخذها بحق وجرى فيها على عرق ،فكان من مفرداتها على علم ، وضرب فى أساليبهم بسهم . ومن آية ذلك لغير العارف ، أن أولئك الشراذم والأوزاع من أهلها قد حملوها إلى الأمم التى كان للغاتها فى العلوم قدم ، ولم يحملوهم عليها بالإلزام ولا بالتعليم العام وكان من أمرها مع هذا أن نسخت بطبيعتها لغة المصريين من مصرهم ، والرومانيين من شامهم واستعلت على الفارسية العذبة فى مهدها وموطنها وامتد شعاعها الى الأندلس فى غربي أوروبة بعدما طاف ساحل أفريقيا الشمالي ، وإلى جدار الصين من الشرق كل ذلك فى زمن قريب لم يعرف فى التاريخ مثله للغة أخرى فى لغات الفاتحين الذين يتخذون كل الوسائل لنشر لغاتهم وتعميمها بالتعليم العام وضروب الترغيب والترهيب)(5)أ.هـ.
4.مقولة (الاختزال)
يعمد بعض الناس إلى التحرج وربما الاعتذار عن عروبة مصر وإسلامها باستدعاء مقولة (الأمة المصرية) ومحاولة حصر أو اختزال الهوية في اعتبار واحد هو: (المصرية) ، دون سواها !! باعتبار أن غيرها يعد دخيلا على (مصريتنا) التي هي أقدم من الإسلام والعربية .
إن أول ما يترتب على هذا المفهوم (المختزل) _بفتح الزاي وكسرها معا_ للهوية سيكون حصر الهوية المصرية في الاشتراك في الأرض أو الجوار الجغرافي للبقعة المسماة الآن (جمهورية مصر العربية) !
أما بقية العناصر المؤسسة للهوية كالعرق والتاريخ والدين واللغة والصور والأشكال فإنه سيتم استبعادها أما العرق والصور والأشكال ، فإن أسطورة نقاء العرق أو الدم من أساطير العصر الحديث ، وذلك ما ينطبق على كل أمم الأرض ..!!
أما التاريخ فمعلوم أن تاريخ مصر إنما هو مراحل متتابعة وحقب متوالية من الفرعونية إلى المسيحية إلى الإسلامية ، وكلها معبر فى مرحلته عن جموع المصريين ، فاختيار أحدها _الفرعونية مثلا_ وترك غيره على سبيل الانتقاء ، تَحَكُّم وضياع لجزء من تاريخ أمتنا لا نستطيع إغفاله إن قلنا بأهمية تلك الحقب كلها على التساوى بالنسبة لواقعنا ..!
أما اللغة فالثابت أن المصريين جميعا يتكلمون الآن اللغة العربية ، ومحاولة إحياء بعض اللهجات أو اللغات القديمة كالهيروغليفية أو الديموطيقية إن قلنا إن معلوماتنا عنها مكتملة ، وأنها بمجموعها تشكل لغة نستطيع إحلالها محل العربية = قد ينجح كما حدث ، لكن السؤال: إلى أى حد يمكننا الذهاب في هذا الشوط ؟ وهل سيكون أفضل لديننا ودنيانا أن نذهب إلى تلك المسالك ؟ وهل يمكننا التخلي عن تاريخنا وتراثنا العربي بهذه السهولة ؟ وما الذي سنجنيه حقا من وراء ذلك إلا مزيدا من العزلة والانقطاع ؟!
إن هذه الفكرة _أعنى فكرة حصر الهوية في معنى (المصرية) كما يريده المرددون لهذا_ فى مجملها تنزع ناحية الكمون والانزواء فى عصر يحتاج فيه الناس لنزع الحواجز وإزالتها وتحطيم ما يفصل بينهم..
وبالتالى فإن اختزال الهوية في مفهوم (المصرية) مضلل مُلْغِزٌ غير محدد يضيع كلما أمسكنا به ، وهو من باب (ترك يقين ما عندك لظن ما عند الآخرين) ، وأي ضلال وضياع يدعوننا إليه هؤلاء أكثر من هذا ؟!!
إن ما يرددونه حول (المصرية) _في أحسن الأحوال_ كلمة في بعضها حق يراد بها كلها باطل ..!!
ونحن لا ننكر أن يكون المصريون أمة قائمة برأسها بين الأمم ، وفقا لما يقرره المختصون والمؤرخون ، ومنهم القاضي أبو القاسم صاعد بن أحمد الأندلسي (ت462هـ) الذي جعل مناط التمايز بين الأمم ثلاثة أمور هي : الأخلاق ، والصور ، واللغات حيث قال :
(اعلم أن جميع الناس فى مشارق الأرض ومغاربها وجنوبها وشمالها وإن كانوا نوعا واحدا يتميزون بثلاثة أشياء : بالأخلاق والصور واللغات ، وزعم من عنى بأخبار الأمم وبحث فى سائر الأجيال وفحص عن طبقات القرون أن الناس فى سالف الدهور وقبل تشعب القبائل وافتراق اللغات سبع أمم)
ثم ذكر هذه الأمم السبع، وهي : الفرس ، والترك ، والكلدانيون (السريانيون والبابليون)، والقبط ، واليونانيون ، والهنود ، والصينيون.
ثم ذكر الأمة القبطية فقال : ( الأمة الرابعة : القبط وهم أهل مصر وأهل الجنوب وهم أصناف السودان من الحبشة والنوبة والزنج وغيرهم من أهل المغرب وهم البرابر ومن اتصل بهم إلى بحر قابس الغربي المحيط لغتهم واحدة ومملكتهم واحدة)(6)أ.هـ.
نعم ، المصريون لم يتكلموا العربية إلا مع تغيير عقيدتهم إلى الإسلام ، وهم فى الطبائع والعادات يختلفون عن غيرهم ، والأمة المصرية وفقا لما ذكره (صاعد) ليست هي تلك المساحة الجغرافية التى تسمى (جمهورية مصر العربية) الآن ، بل تشمل سائر شمال أفريقيا ومنهم الأمازيغ الذين هم فرع من القبط، والسودان وأثيوبيا والصومال وربما أبعد من ذلك!!(7)
أما أن الهوية المصرية بمعنى الطباع والصور والعادات كانت موجودة قبل دخول العروبة والإسلام فصحيح ضرورة ..أما أن العروبة والإسلام لا يمثلان جزءا من هويتنا الآن أو أهم أجزاءها فتدليس باطل ..
إن هذه المقولة تريد بوضوح فصل مصر عن محيطها الطبيعي أو امتداداها التلقائي ليتم إلحاق المصريين بأمم أخرى .. فيتم استغلال/ توظيف أقصى نَزَعات الاستقلال والتمايز لتكون سبيلا لأقصى درجات العبودية والتبعية !!
فضلا عما تتضمنه هذه المقولة من رائحة عنصرية نتنة ..!
وما أراه أن مقولة (الأمة المصرية) صحيحة لا غبار عليها إن تجنبنا محاذيرها ، بل نعدها ميزة لأن الاختلاف ثراء، وهى أمة ضمن أمة أوسع هى أمة الإسلام!
ومن هنا فلا تعارض بين كون المصريين أمة وكونهم يشتركون مع غيرهم من أمة العروبة أو أمة الإسلام في أجزاء من تلك الهوية أو أهم مكوناتها.
5.مقولة (الإقصاء) .
إذا كان الأمر على ما وصفنا فإن أي تغييب أو إقصاء لهوية المصريين _فى تلك الوثيقة التي تعد عند أهل الاختصاص كاشفة لمجموع اختيارات الأمم والمجتمعات في لحظة تاريخية معينة، أو بمثابة بطاقة تعريف لأمة أو لمجتمع ما، والتي تسمى : الدستور_ يعد عدوانا على اختياراتهم، فضلا عن أن يتصور عاقل أنه يمكن أن ينص فيه على خلاف ما اختارته الأمة ورضيته عبر قرون !!
فلننظر إلى أى مدى قَدَّر هؤلاء واحترموا خيارات المصريين وهويتهم في أهم سماتها ومكوناتها، أعني: العروبة والإسلام!!
قالوا: إننا حفظنا هوية مصر بالمادة الثانية التي هى كافية ، أما تفسيرها والذي ينص على أن (مبادئ الشريعة الإسلامية تشمل أدلتها الكلية وقواعدها الأصولية والفقهية ومصادرها المعتبرة فى مذاهب أهل السنة والجماعة.) = فتزيد مُضَمَّنٌ في المادة الثانية.
كما جعلوا تفسير المادة الثانية يختص به عدد من المحامين أو القضاة المعينين بالمحكمة الدستورية العليا لا هيئة كبار العلماء بالأزهر كما يجب أن يكون.. !!
سلمنا أنكم تغارون على هوية المصريين وأن المحكمة لن تَصْدُر إلا عن رأى الأزهر، وأن التفسير الملحق للمادة الثانية من قبيل التزيد الذى لا فائدة منه ..!!
فهل حفظت تلك المادة من قبل _وهي المدونة فى دساتير مصر المتعاقبة_ حياض الشريعة من المعتدين عليها ، أو كانت كلمتها هى العليا إن تعارض معها قانون ؟ أم أن الواقع يقول : إن الشريعة قد أقصيت عن الحكم ، وكان هذا هو أقسى ضربة وجهت لعلوم الإسلام ، وكانت سببا فى انصراف الناس عن العلوم الاسلامية واللغة العربية واقتصرت تلك العلوم على الوعظ والخطابة فى علمانية مقنعة أو صريحة لا تخجل !!
سلمنا أنكم تعملون على تحكيم الشريعة أو هى بالفعل تحكم كما يحلو لبعضكم أن يردد ..!!
لكن قل لي بربك ماذا يعنى حذف المادة رقم (11) التي تنص على أن (ترعى الدولة الأخلاق والآداب والنظام العام، والمستوى الرفيع للتربية والقيم الدينية والوطنية، والحقائق العلمية، والثقافة العربية، والتراث التاريخي والحضاري للشعب؛ وذلك وفقا لما ينظمه القانون.) ؟
وماذا يعنى عندكم إلغاء المادة رقم (12) التي تنص على أن : (تحمى الدولة المقومات الثقافية والحضارية واللغوية للمجتمع، وتعمل على تعريب التعليم والعلوم والمعارف.) ؟
وماذا يعنى لديكم إلغاء المادة رقم (25) التي تنص على أن : (تلتزم الدولة بإحياء نظام الوقف الخيرى وتشجيعه. وينظم القانون الوقف، ويحدد طريقة إنشائه وإدارة أمواله، واستثمارها، وتوزيع عوائده على مستحقيها، وفقا لشروط الواقف.) ؟
وماذا يعنى فى دينكم إلغاء المادة رقم (44) التي تنص على أن: (تُحظر الإساءة أو التعريض بالرسل والأنبياء كافة.) ؟
وماذا يعنى في شرعتكم إلغاء الهيئة العليا لشئون الوقف ، ومادتها رقم (212) ، والتي نص على : (تقوم الهيئة العليا لشئون الوقف على تنظيم مؤسساته العامة والخاصة، وتشرف عليها وتراقبها، وتضمن التزامها بأنماط أداء إدارية واقتصادية رشيدة، وتنشر ثقافة الوقف في المجتمع.) ؟
وماذا يعنى في عقولكم إلغاء الهيئة العليا لحفظ التراث ، ومادتها رقم (213) والتى تنص على : (تُعنى الهيئة العليا لحفظ التراث بتنظيم وسائل حماية التراث الحضاري والعمراني والثقافي المصري، والإشراف على جمعه، وتوثيقه وصون موجوداته، وإحياء إسهاماته فى الحضارة الإنسانية. وتعمل هذه الهيئة على توثيق ثورة الخامس والعشرين من يناير.) ؟
إن كنتم تريدون الحفاظ على الهوية أو تنوون الحفاظ عليها ، فما معنى حذف تلك المواد كلها دفعة واحدة والرابط بينها جميعا لا يخفى على ذي لب ؟!
وإن كانت غير متعارضة مع المادة الثانية أو يمكن تفعيلها من خلال الثانية ، فما الذي يضيركم من وجودها ، خاصة مع ما يثار من أغاليط وما يدور حول نياتكم من شُبَه ؟!
6.مقولة (الصراع).
إن الصراع على تحديد هوية مصر ، ورسم ملامحها لا ينكره إلا غافل لا يقرأ تاريخ مصر ولا يعرف عنه شيئا في المائتي عام الأخيرة ، ويكفى الغافل أن يقرأ كتبا من قبيل (رسالة فى الطريق إلى ثقافتنا) و(أباطيل وأسمار) للعلامة محمود شاكر . ويمكن للساذج أن ينظر في كتاب (حصوننا مهددة من داخلها) أو كتاب (الاتجاهات الوطنية في الأدب المعاصر) للدكتور محمد محمد حسين . ويمكن للنائم الوسنان أن يجول جولة فى كتب الأستاذ محمد جلال كشك وغيرهم ..!
إنني على المستوى الشخصي لا أصدق أن المعركة الواقعة على أرض مصر مجرد خلاف سياسي، بل الحقيقة التي لا أجد منها فكاكا والتى تصدقها الأحداث بلا أي (فكاكة!!) هي : أن الخلاف في مصر إنما هو خلاف بين مشروعين .
هذان المشروعان يتنازعان الواقع ، لرسم صورة المستقبل ، وتأويل الماضي بناء عليه ..!!
لقد قلت مرارا إن : المعركة الحادثة فى مصر أصلها عقدى ديني فكرى وله تجليات سياسية وتطبيقية وإجرائية..!!
إننا بنظرة سريعة إلى بلاد وسط وجنوب آسيا ومعها تركيا_مثلا_ سنعلم أن هذه البلاد كانت تكتب بالحروف العربية حتى دخول الاستعمار تلك البلاد فتحولت الحروف من العربية إلى اللاتينية، ودارسي اللغة التركية مثلا في كليات (اللغات) يدرسون ما يسمى (التركي العثماني) الذي يكتب بالحروف العربية، و(التركي الحديث)الذي يكتب بالحروف اللاتينية.
وإننا نظرة سريعة مماثلة إلى القارة السمراء التى كانت تسمى قارة الإسلام لأن نسبة المسلمين فيها تمثل ما يقرب من 70% سنعلم أن نسبة المسلمين فيها الآن يقل عن 50% أو يزيد قليلا !!
وقراءة سريعة فى تاريخ روسيا أو الهند أو أفريقيا جنوب الصحراء أو الأندلس ستضع المتتبع أمام نتائج مذهلة وربما مبكية ..!
كل هذا يشى بوضوح أن حرب تغيير الهوية قائمة .. لكن السير البطيء يجعل الغافل الوسنان = يظن السكون !!
وكلمة السر هى : الاستعمار وأعوانه ومصالحه ، هذا الاستعمار الذي يأخذ أشكالا متعددة ويستخدم كل ألوان البشر فى التواء و(ثعلبية) تليق بمكائده..!!
وليست مصر ولا غيرها من بلاد الإسلام ببعيدة عن هذه المصائر إن خجلنا من مواجهة الحقيقة ، أو حاولنا تغييبها ، أو خفنا من مواجهتها .
حفظ الله مصر وبلاد الإسلام من كل مكروه ، ورد الغافلين إلى رشدهم ..
كتبه
أبوحمزة
أحمد سعد الدمنهوري
القاهرة يوم الاثنين
4 ربيع الأنور 1435ه
الموافق 6 يناير 2014م

الهوامش
(1) تيارات ثقافية بين العرب والفرس ، الدكتور أحمد محمد الحوفي ، ص 227 ، 228، بتصرف يسير ، دار نهضة مصر للطبع والنشر ، ط3 ، دون تاريخ
(2) عندما أصبحت مصر عربية إسلامية،ص5، دار الشروق ، ط1 ، 1997م
(3) السابق ، ص 25 ، 26 ، باختصار
(4)تركستان ، ص 60 ، وانظر مقدمة كتاب (تاريخ طبرستان) ، بهاء الدين محمد بن حسن اسفنديار ، ترجمة وتقديم أحمد محمد نادي ، حيث أكد الفكرة نفسها. ولاحظ أن مزاحمة الفارسية للعربية إنما حدثت مع نشوء الدويلات الفارسية والتركية في المشرق الإسلامي كالصفارية والسامانية وغيرها ، ص 5 ،6 ، ط المجلس الأعلى للثقافة ، ط1 ، سنة 2002م .وانظر : تيارات ثقافية بين العرب والفرس ، ص 174 و175
(5) مقدمة أسرار البلاغة ، ص9،10، دار المدني بجدة
(6) طبقات الأمم ، بعناية الأب لويس شيخو ، ص5: 7 ، المطبعة الكاثوليكية ، بيروت ، 1912 م .
(7) ولم يذكر صاعد من تلك الأمم (العرب) بل جعلهم فرع الكلدانيين وأعتقد أنه يريد بهم العرب العاربة ، أما العرب المستعربة فالثابت أنهم فرع العائلة المصرية الكلدانية معا، فإسماعيل عليه السلام الذى هو جد العرب المستعربة:أمه هاجر المصرية وأبوه هو إبراهيم عليه السلام البابلي ، ومن ثم فالعرب خليط من الأمتين !!