الصفحة الرئيسية » مقالات » ميزان محبة رسول الله صلى الله عليه وسلم

ميزان محبة رسول الله صلى الله عليه وسلم

بسم الله الرحمن الرحيم
ميزان محبة رسول الله صلى الله عليه وسلم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على سيدنا ونبينا محمد، خاتم الأنبياء والمرسلين، والمبعوث رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه أجمعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد،
فمن المعلوم أن النفس البشرية قد جُبلت على حب من أحسن إليها، فالمريض يحب الطبيب الناصح، والطالب يحب المدرس الشفوق، والمظلوم يحب القاضي المقسط، والفقير يحب الغني السخي، إلى ما هنالك.
ومحبة الله تعالى فرض لا يعدله فرض آخر، لأن إنعامه وإحسانه على البشر دائم لا ينقطع ، قال الله تعالى: (وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللهِ لا تُحْصُوهَا إِنَّ الإنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ)(إبراهيم:34).
ومن المنظور ذاته تتأكد محبة النبي صلى الله عليه وسلم، فهو القدوة الحسنة للبشرية جمعاء، فما من خير إلا دل عليه، وما من شر إلا حذر منه، وهو _ صلى الله عليه وسلم _ صاحب الخلق العظيم، وهو المبعوث رحمة للعالمين، وهو أحرص على المؤمنين من أنفسهم ، (لأن أنفسهم تدعوهم إلى الهلاك، وهو يدعوهم إلى النجاة))[1](.
وعن أبي هريرة _ رضي الله عنه _ ” أَنَّ رَسُولَ اللهِ _ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ _… قَالَ: ” أَنَا أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ، فَمَنْ تُوُفِّيَ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ، فَعَلَيَّ قَضَاؤُهُ! وَمَنْ تَرَكَ مَالاً، فَهُوَ لِوَرَثَتِهِ! “)[2](.
فمحبتك للنبي _ أيها المسلم _ ينبغي أن تكون على قدر إحسانه إليك ، وإحسانه _ صلى الله عليه وسلم _ إليك لا ينتهي، ولهذا قُرنت محبته _ صلى الله عليه وسلم _ بمحبة الله تعالى، فلا تقبل من العبد محبة دون الأخرى، قال الله جل جلاله: (قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ)(التوبة:24).
وعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ _ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ _ عَنْ النَّبِيِّ _ صلى الله عليه وسلم _ قَالَ: ” ثَلاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ حَلاوَةَ الإِيمَانِ: أَنْ يَكُونَ اللهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا، وَأَنْ يُحِبَّ الْمَرْءَ لا يُحِبُّهُ إِلاَّ لِلَّهِ، وَأَنْ يَكْرَهَ أَنْ يَعُودَ فِي الْكُفْرِ كَمَا يَكْرَهُ أَنْ يُقْذَفَ فِي النَّارِ “[3].
وعن عبد الله بن هشام _ رضي الله عنه _ قَالَ: ” كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ _ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ _ وَهُوَ آخِذٌ بِيَدِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: يَا رَسُولَ اللهِ، لأَنْتَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِلاَّ مِنْ نَفْسِي! فَقَالَ النَّبِيُّ _ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ _: ” لا، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْكَ مِنْ نَفْسِكَ! ” فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: فَإِنَّهُ الآنَ، وَاللهِ لأَنْتَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ نَفْسِي! فَقَالَ النَّبِيُّ _ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ _: ” الآنَ يَا عُمَرُ! “([4]).
إذا كانت محبة النبي _ صلى الله عليه وسلم _ ينبغي أن تكون أكثر من محبة كل محبوب كمًّا وقدْرًا؛ فهي _ كما ثبت بالدليل القطعي _ أشد من محبة النفس والوالد والولد والأخ والزوجة والعشيرة والمال والديار. فكيف _ إذن _ تكون محبته _ صلى الله عليه وسلم _ بالكيف؟ أو كيف نكون صادقين في محبتنا له؟.
والجواب: حتى تكون نكون صادقين في محبتنا لابد أن يتوافر فيها ثلاثة شروط، وإلا كانت مجرد ادعاء لا بينة له:
الشرط الأول: معرفة هديه وسيرته صلى الله عليه وسلم:
قال الله تعالى: (أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ)(المؤمنون:69). ففي الآية الكريمة استفهام إنكاري معناه: ليس هناك من مبرر على الإطلاق للجهل بسيرة الرسول صلى الله عليه وسلم.
وعن إسماعيل بن محمد بن سعد[5] قال: (كان أبي يعلمنا مغازي رسول الله _ صلى الله عليه وسلم _ ويعدها علينا، وسراياه، ويقول: يا بَنِي هذه مآثر آبائكم فلا تضيعوا ذكرها)([6]).
وعن علي بن الحسين قال: (كنا نُعلَّم مغازي النبي _ صلى الله عليه وسلم _ وسراياه، كما نعلَّم السورة من القرآن)[7].
أما نحن فماذا نعلم أبناءنا؟
لو أننا الآن جعلنا من بيوتنا، من مساجدنا، من مدارسنا… قاعة امتحان، ثم طرحنا هذا السؤال: اكتب في صفحة واحدة ما تعرفه عن سيرة سيدنا محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ تُرى كم ستكون نسبة النجاح؟!

الشرط الثاني: اتِّباع سُنَّته صلى الله عليه وسلم:
قال الله تعالى: (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ)(آل عمران:31).
أرأيتم كيف توسط اتباع النبي _ صلى الله عليه وسلم _ الحب المتبادل بين العبد وبين الرب جل جلاله! وهذا يؤكد أن لا حب بلا اتباع؛ فالذي لا يتبع النبي _ صلى الله عليه وسلم _ في أمره ونهيه لن يكون محبًّا لله تعالى، ولرسوله صلى الله عليه وسلم.
وصدق ابن المبارك _ رحمه الله تعالى _ حين قال:

لو كان حبك صادقًا لأطعته إن المحب لمن يحب يطيع

الشرط الثالث: التضحية من أجله صلى الله عليه وسلم:
قال الله تعالى: (مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللهِ وَلا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ)(التوبة: من الآية120).
وقال سبحانه: (النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ)(الأحزاب: من الآية6).
ومعناه: (أحق بالمؤمنين به من أنفسهم)[8].
وعن أنس _ رضي الله عنه _ قال: ” لَمَّا كَانَ يَوْمَ أُحُدٍ انْهَزَمَ النَّاسُ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَأَبُو طَلْحَةَ بَيْنَ يَدَيْ النَّبِيِّ _ صلى الله عليه وسلم _ مُجَوِّبٌ عَلَيْهِ بِحَجَفَةٍ لَهُ[9]، وَكَانَ أَبُو طَلْحَةَ رَجُلاً رَامِيًا شَدِيدَ النَّزْعِ؛ كَسَرَ يَوْمَئِذٍ قَوْسَيْنِ أَوْ ثَلاثًا[10]، وَكَانَ الرَّجُلُ يَمُرُّ مَعَهُ بِجَعْبَةٍ مِنْ النَّبْلِ فَيَقُولُ: انْثُرْهَا لأَبِي طَلْحَةَ! قَالَ: وَيُشْرِفُ النَّبِيُّ _ صلى الله عليه وسلم _ يَنْظُرُ إِلَى الْقَوْمِ؛ فَيَقُولُ أَبُو طَلْحَةَ: بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي! لا تُشْرِفْ؛ يُصِيبُكَ سَهْمٌ مِنْ سِهَامِ الْقَوْمِ، نَحْرِي دُونَ نَحْرِكَ!… “[11].
وفي مصنَّف ابن أبي شيبة ” أن امرأةً دفعت إلى ابنها يوم أُحُدٍ السيف، فلم يُطِق حملَه[12]؛ فشدتْه على ساعده بنِسْعَةٍ[13]، ثم أتت به النبي صلى الله عليه وسلم، فقالت: يا رسول الله، هذا ابني يقاتل عنك! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ” أي بُنَيَّ! احمل ها هنا. أي بنيَّ! احمل ههنا “. فأصابتْه جِراحة فصُرِع، فأتى النبيَّ صلى الله عليه وسلم، فقال: ” أي بُنيَّ! لعلك جَزِعت؟!. قال: لا يا رسول الله! “[14].
وقال القرطبي _ رحمه الله تعالى _ : (وأبيح له _ عليه الصلاة والسلام _ أخذُ الطعام والشراب من الجائع والعطشان، وإن كان مَن هو معه يخاف على نفسه الهلاك؛ لقوله تعالى: (النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ)(الأحزاب: من الآية6)، وعلى كل أحد من المسلمين أن يقي النبي _ صلى الله عليه وسلم _ بنفسه)[15].
وإذا لم يكن النبي _ صلى الله عليه وسلم _ الآن بين أظهرنا، فإن التضحية لأجله تكون بنصرة دينه، والدفاع عن شخصه الكريم، وسُنته المطهرة.
هذا، والله تعالى أعلم، اللهم اجعلنا ممن أحبك، وأحب نبيك محمدًا _ صلى الله عليه وسلم _ محبةً صادقةً، تورثنا رضاك والجنة.
أخوكم: كمال الدين جمعة بكرو

——————————————————————————–

([1]) القرطبي: أبو عبد الله _ الجامع لأحكام القرآن _ ط: 1405هـ / 1985م _ دار إحياء التراث العربي _ بيروت _ لبنان _ ج14 ص122.

([2]) البخاري: 2297 في ” الحوالات “، ومسلم: 1619 في ” الفرائض “، واللفظ له.

([3]) البخاري: 16 في ” الإيمان “.

([4]) البخاري: 6632 في ” الأيمان والنذور “.

([5]) سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه.

([6]) الخطيب البغدادي: _ الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع، تحقيق: د. محمود طحان _ ط: 1403هـ _ مكتبة المعارف _ الرياض _ ج2 ص195، رقم الخبر: 1590.

([7]) _ المكان نفسه _ برقم: 1591.

([8]) الطبري _ جامع البيان في تأويل القرآن _ ط1: 1420هـ / 2000م _ مؤسسة الرسالة _ ج20 ص208.

([9]) مُجَوِّبٌ عَلَيْهِ بِحَجَفَةٍ لَهُ: مُتَرِّس عَلَيه، يَقِيه بِهَا. ويُقال للتُّرس: جَوْبَة. والحَجَفة: التُّرْس إذا كان من جلودٍ، لـيس فـيه خَشَب. انظر: ابن الأثير _ النهاية في غريب الحديث والأثر _، وابن منظور _ لسان العرب _ مادة: حجف.

([10]) أي من شدة وكثرة ما رمى.

([11]) لبخاري: 4064 في ” المغازي “، ومسلم: 1811 في ” الجهاد “.

([12]) لصغر سنه.

([13]) حبل.

([14]) أخرجه ابن أبي شيبة: ج8 ص491 _ دار الفكر _، وإسناده صحيح، ولا تضره جهالة المرأة؛ لأنها صحابية؛ ثم إن مرسل الشعبي صحيح؛ لا يكاد يرسل إلا صحيحًا. انظر: المزي _ تهذيب الكمال في أسماء الرجال _ ط4: 1406هـ / 1985م _ مؤسسة الرسالة _ بيروت _ لبنان _ ج14 ص35.

([15]) _ الجامع لأحكام القرآن _ ج14 ص213.