الصفحة الرئيسية » مقالات » نقاش هادئ لمقولة ( الله فى السماء )

نقاش هادئ لمقولة ( الله فى السماء )

نقاشٌ هادئ لمقولةِ : ( الله في السماء)

توطئــة

الحمدُ لله ربِّ العالمين ، والصلاة والسلام الأتمَّان الأكملان على المبعوثِ رحمةً للعالمين ، سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .

أما بعد ،

فهذه كلماتٌ ليسَ فيها جديدٌ يضاف إلى المسألةِ المقتولةِ بحثاً ، ولكنّها محاولةٌ لتقريب الفهم وتيسيرِ العبارة ، وإعادةِ شرحِ عقيدةِ أهلِ السنّة والجماعة في ذا الشأن ، وهي في أغلبها نقولٌ أو تقييداتٌ لبعض ما سمعته من مشايخي من فوائد وإشاراتٍ وإحالاتٍ.

إنّي أعتقدُ أنَّ منشأ الكثير من الخلاف والاحتراب حول هذه العبارة هو عدم فهمٍ لعبارات علماء أهل السنة ومنطلقاتهم في تنزيه الله سبحانه وغاياتهم ، فهذه الكلمات هنا هي فقط محاولةٌ لإعادة تقديم عقيدة أهل السنة في هذه المسألة ، في عباراتٍ أرجو أن تكون سهلةً بينةً للجميع تناسب العصر، ويفهمها غير المتخصص، وهي موجهةٌ أصلا لعامةِ الناس ممن أكلتهم فتنة التجسيم في هذا الزمان ولذا تجد فيها إسهابا في الشرح والتمثيل، والقصد أولا وأخيرا لم شمل المسلمين والنصح في الدين، وليس مقصدي الجدل والمراء والله على ما أقول شهيد .

مدخلٌ وتأسيس

إنَّ المعنى الحرفي لـقولنا ( الله في السماءِ ) يعني أن الله في الحقيقة موجودٌ في داخل أحد مخلوقاته لأن السماء مخلوقة.

وغني عن القول أنه لا يجوز أبداً في الإسلام اعتقاد أن الله يكمن، أو يقيم، أو يحل في شيء من مخلوقاته كما يعتقد النصارى أن الله حلَّ في عيسى عليه السلام، أو كما يعتقد الهندوس والبوذيين أن الآلهة تتجسد وتتقمص أجساد أشخاص بعينهم ، ومن اعتقد أن الله ( في السماء ) حقيقة فقد ماثل قولُه قولَ النصارى والهندوس بلا شك.

اللهُ عند المسلمين الموحدين له حقَّ توحيده واحدٌ أحدٌ { ليسَ كمثلِهِ شيءٌ وهوَ السميعُ البصيرُ }.

يجبُ علينا كمسلمينَ أنْ نعتقدَ أن اللهَ هو ( الغَنيُّ ) الذي لا يحتاجُ إلى ما سواه من خلقهِ وكلُّ ما سواهُ محتاجٌ إليه قائمٌ بمنِّه وكرمه.

يقول الله بأوضح بيان في سورة العنكبوت :
{ إِنَّ اللهَ لغَنيٌّ عن العالَمِين } .
ويذكر الله صفةَ ( الغِنَى ) هذه عن نفسه في حوالي سبعةَ عشرَ موضعاً من القرآن.
إنَّ ( غِنَى ) الله هوَ نقطةُ رئيسةٌ في العقيدة الإسلامية ومحورٌ مهمٌ يقومُ عليه كلُّ إيمان المسلمين.

إنه بسبب هذا ( الغِنَى ) لا يمكنُ أبداٌ عند المسلمين أَنْ يكون الله هو عيسى عليه السلام، أو أي شخص آخر، أو أيَّ شيء آخر ذا جسدٍ وبدن أو شكل وكيف

لأنَّ الأبدان والأجساد والأجسام والأشكال وذواتِ الكيف، كلُّها تحتاج إلى الحيّزِ ( المكان ) الذي تحتله، ولا يمكنُ أن تتواجدَ بدونه

وإلى الزمانِ الذي تتحرك وتحيا فيه وخلاله، ولا يعقل وجودها دونه .

فالحيز والبعد الزمني كلاهما لازمين ذاتيَّينِ لوجودنا ولوجود أي جسم.

إذاً، كلّ ذي جسدٍ أو جسمٍ أو بدنٍ أو كيفٍ لا يمكن أن يتواجد دون توفر المكان والزمان، وهما في نفسيهما مخلوقان من خلق الله، فإذاً كل ذي جسم وكيفٍ ( هيئة ) يفتقر وجوده لوجود الزمان والمكان.

أمّا الله (الغَنِيُّ ) عندَ المسلمين، فلا يجوز أنْ يفتقرَ أو يحتاج إلى ما سواه، وهو الذي وَصَفَ نفسه بالغِنَى المطلق في الكتاب الكريم.

الله تعالى يقوم بذاته ولا يحتاج لما سواه وكلُّ ما سواه محتاجٌ له، لهذا السبب عينِه يستحيل أن يوصف الله تعالى بالجسم أو بالكيف والهيئة أو بالمكان والجهة والحيز أو بجريان الزمان عليه أو بأي شيء مما هو من صفات المخلوقات والأجسام.

هذه هي ” عقيدة القرآن ” ، وهي العقيدة التي صرح بها القرآن الكريم في أكثر من موضع، وهي العقيدة التي أبقاها السادة العلماء من السلف والخلف في ذهنهم خلال قراءتهم وفهمهم لآياتٍ قرآنيةٍ أخرى أو لأحاديث نبوية تتحدث عن الله تعالى

فلم يفهموا تلك الآيات والأحاديث بعيداً عن هذه العقيدة القرآنية المحورية بل فهموا كل تلك الآيات والأحاديث في ضوء هذه العقيدة المهمة التي تفرق المسلمين الموحِّدين المنزِّهين عن غيرهم من عبدة الأوثان والكفرة المجسِّمين من يهود ونصارى .

يرفعُ المسلمون أيديهم إلى السماء عندَ دعاءِ الله لأنَّ السماءَ هي ( قبلةُ ) الدعاء وليسَ لأنَّ الله – سبحانه – يحتلُّ تلك الجهة المعينة ويقبعُ في السماء

تماماًً مثلما أنَّ الكعبةَ هي قبلة الصلاة التي يتوجه إليها المسلمون في صلاتهم ولا أحدَ من المسلمين البتة، يعتقد أن الله في جهة الكعبة أو داخلها

بل كما إنَّ الله من خلال حكمته قد جعل القبلة علامةَ، وآيةَ، ورمزَ وحدةٍ للمسلمين بكافةِ طوائفهم وفرقهم ، فهو سبحانه قد جعل السماء علامةَ، وآيةَ، ورمزَ، وإشارةََ رفعتِهِ ومجدِهِ وعزِّهِ ولا تناهيه ولا محدوديته سبحانه وتعالى.

فكلما يأتي ذِكرُ السماء، يتذكر المسلمون رفعةَ الله وعزَّه ومجدَه ولا تناهيه، كما أنه كلما ذُكِرَت الكعبة، شعر المسلمون وتذكروا وحدتهم وتوحد مصيرهم وأصلهم وأمتهم ، وهذا المعنى الدال على رفعة الله وعلوه وعزته، هو الذي يتملك قلب كل مؤمن موحِّد حالَ رفعه يديه إلى السماء، ودعاءه رب السماء والأرض سبحانه وتعالى .

لقد اقتضت حكمة الله البالغة أن تُضََمّنَ هذه المعاني في السنّة النبوية، لترفع من قلوب الناس الذين كانوا أول من سمعها، ولِتُوَجِّهَهُم ليلحظوا ويعرفوا مجد الله وعلوه ورفعته ولا تناهيه من خلال أعظم وأكبر آية إلهية محسوسة لهم : السماء المرئية التي رفعها الله فوقهم .

العديد من أولئك الذين سمعوا هذه المعاني أول مرةٍ من النبي صلى الله عليه وسلم، وبالأخص عندما كانوا حديثي عهد بكفر وفارقوا لتوِّهم الجاهلية ، كانوا مرتبطين بشدة ومنجذبين إلى الواقع المادي المحسوس ولم يكن لديهم أدنى تصور عن وجود غير مادي أو محسوس كما تشهد بذلك أوثانهم التي كانت تماثيلَ وصوراً منصوبةً على الأرض أمامهم، ذات جسم وجسد وجهة تتحيز فيها ويرونها أمامهم .

وبالطبع، كانت لغة المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم لإيصال معاني رفعةِ الله ومجدِه وعزِّه وعلوِّه وسموِّه ولا تناهيه إلى هؤلاء القوم الماديين حتى النخاع، كانت ولا بد أن تكونَ بمصطلحاتٍ وألفاظٍ ، يسهل عليهم إدراكها وفهمها .
ومن هنا كان استخدام مجاز السماء أمامهم ليقود عقولهم إلى إدراك لا تناهي الله ولا محدوديته وسموه وعلوه .
فاستُخدمت السماء كرمز يشير إلى كل هذه المعاني الغائبة عن عقول هؤلاء الوثنيين .

فكانت الإشارة إلى ما يعلمون لا تناهيه، ويرون ويحسون سموَّه وعلوَّه أمام أعينهم ( السماء ) ليسهل عليه إدراكَ سموِّ وعلوِّ ورفعةِ ولا تناهي ما لا يرون ولا يحسون ولا يعلمون ( الله عز وجل) وكل ذلك بالطبع مع قيام الفارق العظيم، وقيام معنى ( ليس كمثله شيء ) شاهداً على القلوب

فلا يقاس الله بسمائه سبحانه وتعالى، ولا يفهم من استخدام مجاز السماء للإشارة إلى رفعة الله ولا تناهيه العلو الحسي كما المخلوقات والعياذ بالله .

يقول الإمام القرطبي – مفسر القرآن الشهير والعالم الرباني القدير من القرن السابع – في تفسيره
( الجامع لأحكام القرآن ) في تفسير قول الله تعالى : {أأمنتم من في السماء } :

[ والأخبار في هذا الباب كثيرة صحيحة منتشرة، مشيرة إلى العلو، لا يدفعها إلا ملحد أو جاهل معاند ، والمراد بها توقيره وتنزيهه عن السفل والتحت ، ووصفه بالعلو والعظمة لا بالأماكن والجهات والحدود لأنها صفات الأجسام ] . انتهى
وقـال الشاطبي في (الموافقات) 4/154- تحت مسألة مالا بد من معرفته لمن أراد علم القرآن :

[ ومن ذلك معرفة عادات العرب في أقوالها وأفعالها ومجاري أحوالها حالة التنزيل، وإن لم يكن ثَمَّ سبب خاص لا بد لمن أراد الخوض في علوم القرآن منه، وإلا وقع في الشُبه والإشكالات التي يتعذر الخروج منها إلا بهذه المعرفة –…… ثم ذكر أمثلةً على ذلك ومنها قوله –

…..والثالث:
قوله تعالى (يخافون ربهم من فوقهم) (أأمنتم من في السماء) وأشباه ذلك ، إنما جرى على معتادهم في اتخاذ الآلهة في الأرض، وإن كانوا مقرِّين بإلهية الواحد الحق، فجاءت الآيات بتعيين الفوق وتخصيصه تنبيهاً على نفي ما ادَّعوه في الأرض ، فلا يكون فيه دليل على إثبات جهة البتة. ] انتهى من الموافقات.

ولكن …. الجاريةُ تقولُ : اللهُ في السماءِ !!!

حديث الجارية :

أورد الإمام مسلم في صحيحه عن معاوية بن الحكم قال :
( قلت: يا رسول الله، إني حديث عهد بجاهلية، وقد جاء الله بالإسلام. وإن منّا رجالاً يأتون الكهان. قال : “فلا تأتهم”. قال: ومنا رجال يتطيرون. قال : “ذاك شيء يجدونه في صدورهم. فلا يصدَّنَّهم
(قال ابن المصباح: فلا يصدَّنَّكم).

قال: قلت: ومنا رجال يخطُّون. قال : “كان نبي من الأنبياء يخط. فمن وافق خطه فذاك”.
قال: وكانت لي جاريةٌ ترعى غنماً لي قِبَل أحد والجوانية. فاطَّلعتُ ذات يوم فإذا الذيب قد ذهب بشاة من غنمها. وأنا رجل من بني آدم، آسف كما يأسفون، لكني صككتها صكة.
فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فعظم ذلك علي. قلت: يا رسول الله، أفلا أعتقها؟
قال : “ائتني بها” فأتيته بها. فقال لها: “أين الله؟
”قالت: في السماء.
قال: “من أنا؟”
قالت: أنت رسول الله.
قال: “أعتقها ، فإنها مؤمنة” .) صحيح مسلم
ويعلق الإمام النووي على الحديث في شرحه على مسلم قائلا :

[ هذا الحديث من أحاديث الصِّفات، وفيها مذهبان تقدَّم ذكرهما مرَّات في كتاب الإيمان:

أحدهما:
الإيمان به من غير خوض في ((( معناه )))، مع اعتقاد أنَّ الله ليس كمثله شيء، وتنزيهه عن سمات المخلوقات.
والثَّاني:
((( تأويله ))) بما يليق به.
فمن قال بهذا – أي التأويل – قال: كان المراد امتحانها هل هي موحِّدة تقرُّ بأنَّ الخالق المدبِّر الفعَّال هو الله وحده، وهو الَّذي إذا دعاه الدَّاعي استقبل السَّماء، كما إذا صلَّى المصلِّي استقبل الكعبة، وليس ذلك لأنَّه منحصر في السَّماء، كما أنَّه ليس منحصراً في جهة الكعبة، بل ذلك لأنَّ السَّماء قبلة الدَّاعين، كما أنَّ الكعبة قبلة المصلِّين.

أو هي من عبدة الأوثان العابدين للأوثان الَّتي بين أيديهم، فلمَّا قالت: في السَّماء علم أنَّها موحِّدة وليست عابدة للأوثان. ] انتهى من شرح النووي على مسلم.

فالمذهبان المعتمدان عند أهل السنّة والجماعة في هذه النصوص – التي تسمى متشابهات لعدم التمكن من القطع بمعانيها – حسب كلام الإمام النووي – وهو من أئمة أهل السنة العارفين بمذهبهم – هما:
إما عدم الخوض في المعنى بالكلية وهو ما يسمى مذهب التفويض، أي تفويض علم حقيقة وكُنه معاني هذه الألفاظ المتشابهة إلى الله تعالى وعليه كان غالب حال السلف وإن كانوا يلجئون للتأويل أحياناً، وإما تأويل هذه الألفاظ بمعان تليق بالله تعالى ولا تقتضي إثبات شبه بينه وبين مخلوقاته ،

والتأويل هو إثبات معنى من معاني اللفظ المحتملة له دون المعنى الظاهر المتبادر إلى الذهن لأول وهلة، فالفوق مثلا قد يكون جهة حسية كما لو قائل قائل : ” السقف فوق رؤوسنا ”

وقد يكون معنويا كما لو قال قائل : ” القانون فوقنا ” لأن القانون لا وجود مادي له وإنما هو أمر اعتباري فيستحيل أن يكون فوق القائل حقيقة باعتبار الجهة الحسية فلا يليق الفهم الظاهري الحسي لهذه الجملة الصحيحة ويكون مراد القائل عند أي عاقل أن القانون حاكم على الجميع قاهر لهم مسيطر عليهم

فالمعنى الأول لا يليق بالله تعالى لاستلزامه وصف الله بالجهة والمكان والتحيز وهي كلها مخلوقة حادثة بعد أن لم تكن فلا يوصف بها الله الموجود قبل الجهات والأمكنة وكما كان موجودا قبلها فهو موجود بعدها دون تغيير لما أن التغير من أوصاف المخلوقات والله يُغيّرُ ولا يتغير سبحانه

وأما الثاني فهو لائق بالله تعالى ولا نقص في وصفه به، ويجوز حمل الفوق في حقه في النصوص عليه كما في قوله تعالى : { يخافون ربهم من فوقهم } .

وهذا هو مذهب التأويل وعليه أغلب المتأخرين من أهل السنة والجماعة وإن كانوا يلجئون للتفويض أحياناً.

فتلخّصَ أن لأهل السنّة والجماعة طريقتان اثنتان في مثل هذه النصوص: إما التفويض وإما التأويل، وكلاهما مرضيٌ مقبول.

جدير بالملاحظة هنا أن الإمام النووي لا يذكر فهم هذا الحديث حرفياً على ظاهره – كما يفعل الحشوية المجسمة كالوهابية عندما يقولون هو في السماء، تُفهم على ظاهر معناها الذي هو الجهة – كأحد أراء العلماء أو مواقفهم المعتبرة أبداً !!

وقد يتصورُ البعض أن موقف النووي هذا نابعٌ من كون هذا الحديث من أحاديث الآحاد[1] التي لا يستدل بها في العقائد لكونها ظنية الثبوت أو ظنية الدلالة، ولكن الأمر أبعد من ذلك وأعمق بكثير !!

فنوع هذه الأحاديث تقبل كأدلة في العقيدة – لدى بعض علماء أهل السنة والجماعة – إن توفرَ شرطٌ مهم وهو كون العقيدة المذكورة فيها سالمة من المعارضة.

وهذا الشرط غير موجود هنا في حديث الجارية هذا لعدة أسباب:

أولا :
القصة المروية في الحديث وألفاظها ومضمونها قد وصلت إلينا في عدة صور وألفاظ أخرى صحيحة ثابتة تختلف كثيرا عن نسخة وصورة ( أين الله ؟ .. الله في السماء.).

ففي نسخة أخرى من الحديث مروية في مصنّف عبد الرزاق بسند صحيح ، يسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم الجارية إن كانت تشهد أن لا إله إلا الله ، فتقول نعم ، فيسألها إن كانت تشهد أنه هو رسول الله ، فترد بنعم ، فيسألها إن كانت تؤمن بالبعث بعد الموت ، فترد بنعم فيأمر الرسول صلى الله عليه وسلم سيدها أن يعتقها .
( المصنف – المجلد 9 صفحة 175 طبعة المجلس العلمي 1970 ).

وهذه النسخة المغايرة من الحديث هي أوثق في الرواية من تلك التي في صحيح مسلم لارتفاع درجة من رواها عن تلك.
وهذه المسئول عنها في هذه النسخة من الحديث هي قواعد الإيمان الثلاثة المذكورة في القرآن في أكثر من موضع: الإيمان بالله ورسوله واليوم الآخر، ويناسب أكثر أن يُسأل عنها من يُراد أن يُتحققَ من إيمانه !

وكذا في مسند الإمام أحمد وموطأ الإمام مالك يسألها عن الشهادتين والإيمان بالبعث .

وفي نسخة أخرى في مسند الإمام أحمد وسنن أبي داود نجد الجارية بَكْماء لا تستطيع الكلام، ولكنها فقط تشير إلى السماء في الجواب .

ويعلق الحافظ أمير المؤمنين في الحديث ابن حجر العسقلاني أن هنالك تناقض عظيم في ألفاظ الحديث في نسخه المختلفة ( تخليص الحبير – المجلد الثاني طـ الكليات الأزهرية 1979 ) .

وعندما يكون لحديث ما هذا العدد من الصور والنسخ المتضاربة فإن هنالك احتمالاً قوياً أن يكون هذا الحديث قد رواه بعض الرواة في بعض طبقات السند بالمعني لا باللفظ ، خاصة وأن مخرج القصة ومصدرها عن الصحابي في السند واحد مما يعني وقوع التبديل في من بعده من الرواة !!

والمعنى هنا هو ما فهمه ذلك الراوي من الحديث لا حقيقة ما حدث فعلا وبالتالي فإن ( فهم) شخص ما، لا يصلح لتبنى عليه عقيدة في الله تعالى.

ثانيا :
هذا الاعتبار السابق مهم جدا لموضوع البحث، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قد بين بوضوح تام أركان العقيدة الإسلامية وقوائم الإيمان في الإسلام، وذلك في الحديث الذي رواه مسلم في كتاب الإيمان من صحيحه عندما أجاب على أسئلة جبريل عليه السلام قائلا :

( الإيمان : أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر و تؤمن بالقدر خيره وشره ) .

ولم يذكر الرسول صلى الله عليه وسلم أي شيء عن كون الله في السماء كركن من أركان الإيمان يعرف بها إيمان المرء من عدمه !!

لو كانت ( الله في السماء ) نقطةً حاسمةً وامتحاناً فاصلاً لإيمان المسلم من عدمه – كما تشير إلى ذلك نسخةُ ( أين الله ) من هذا الحديث – لكانَ لزاماً وواجباً حتمياً على النبي صلى الله عليه وسلم أن يذكر هذه النقطة في جوابه لسؤال جبريل عن ما هو الإيمان وإلا كان مقصراً ي أداء الرسالة وتبليغ الناس!!!

ثالثا :
لو سارَ شخص ما على الفهم الحرفي الظاهري لحديث الجارية واعتقد أنَّ ( الله في السماء ) حقيقة، فإن ذلك سيتناقض مع أحاديث أخرى صحيحة، لها هي الأخرى نفس الحق في أن تفهم حرفياً على ظاهرها كما فهم حديث الجارية على ظاهره، ولا تُؤوَلُ ولا تُصرف عن الظاهرِ ، ومن أمثلة هذه النصوص :

1 – مثلاً الله (قريب) منا حال سجودنا:
عن أبي هريرة أنَّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال:
(أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد، فأكثروا الدعاء) صحيح مسلم – كتاب الصلاة – باب ما يقال في الركوع والسجود.
بينما لو كان الله حرفياً ( في السماء ) لكان أقرب إلينا حال وقوفنا !!

2 – الله سبحانه (أمامنا) حال قيامنا وصلاتنا:
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :
( إذا كان أحدكم في صلاته فلا يبصق (( أمامه)) فإنّ (( ربه أمامه )) وليبصق عن يساره أو تحت قدمه فإن – قال سريج لم يجد – مبصقاً ففي ثوبه أو نعله .)

مسند الإمام أحمد بن حنبل – المجلد الثالث – مسند أبي سعيد الخدري رضي الله عنه .
فهل الله فوقنا في السماء أم هو أمامنا أو هو قريب منا !!؟؟؟

3 – الله ((معنا)) حال ذكرنا له:
عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: يقول الله تعالى: ( أنا (( مع )) عبدي ما ذكرني وتحركت بي شفتاه ). رواه أحمد في مسنده وابن ماجه والحاكم في المستدرك وصححه الحاكم والسيوطي كذلك في الجامع الصغير .
فأين الله بالضبط ؟؟
في السماء أم معنا – على الفهم الحرفي لـ ( مع ) – أم أمامنا أم قريب منا !!!؟؟

4 – الله ليس (في السماء):
وأخيرا.. في حديث المعراج يمرُّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم بكل السماوات السبع ويقصُّ علينا ما شاهدَ في كل سماء ومن التقى وهو بصحبة جبريل عليه السلام ، ولكنَّه لا يأتي على ذكر التقائه بالله سبحانه وتعالى في أي من تلك السماوات السبع.

فلو كان الله تعالى ( في السماء ) حقيقة لأخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم أنه التقى رب العزة في السماء كذا وكذا !!!

والآن..

عندما يقرأ المسلم كل هذه الأحاديث وغيرها الكثير الكثير ويفهمها كلها حرفيا على ظاهرها – كما تقول وتريد طائفة المجسمة الحشوية[2] – فإنه يصيبه الارتباك ولا شك ويتبادر إلى ذهنه وجود التناقض بين نصوص الدين الحنيف ، والحقيقة أن ما من تناقض ولكن التناقض يكمن في عقله فقط.
فإذاً، الفهم الحرفي الظاهري يؤدي بالمسلم إلى الحيرة والتناقض، فلا يستطيع تحديد مكان ربه بالضبط – تعالى سبحانه عن المكان – ولا يمكنكَ الجمع بين كل هذه النصوص البتة إِنْ فُهمتْ كلها ظاهرياً وحرفياً دون اللجوء إلى التأويل في بعضها على الأقل ، ومن فهم هذه النصوص وغيرها ظاهريا فإنه سيتصور إلهاً يتحرك هنا وهناك، مرةً قرب العبد، ومرةً معه، ومرةً فوقه ومرةً أمامه وووووووووو ، ومثل هذا الإله المتوهم هو قطعاً ليس الله سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون ، وفساد هذا الاعتقاد بيّنٌ لا يحتاج إلى كثير كلام .

رابعاً :
الفهم الحرفيُّ لكون الله في السماء يتناقض مع أصلين من أصول العقيدة الإسلامية أصَّلَهما القرآن الكريم:

الأصل الأول:
هو كون صفاتِ الله مخالفةً لصفات الحوادث[3] ( المخلوقات ) فلا تماثل شيئا من خلق الله البتة لقول الله تعالى في سورة الشورى: (ليس كمثله شيء ).

فلو كان الله حرفياً في السماء، لكان هنالك عدد لا يحصى من الحوادث مماثلة له في كونها في السماء ولها ارتفاع ومكان وجهة وتحيز وهلم جرا كالطائرة والملائكة والشمس والقمر والكواكب، وبما أن الله ليس كمثله شيء فهو قطعاً ليس بجسم متحيز، لأن ما سواه أجسام متحيزة، وهو ليس كمثله شيء فليس جسماً قطعاً وتحقيقاً، وكل ما تبادر إلى ذهنك كونه الله فالله خلافه!!

الله تعالى يقول: { تبارك الذي جعل (في السماء) بروجا وجعل فيها سراجاً وقمراً منيرا } !!

فهاهي البروج والشمس والقمر ” في السماء ” بنص الآية ، فلو كان الله أيضاً ” في السماء ” لماثلها ولكننا نعلم أن ليس كمثله شيء، فنتج انتفاء كونه في السماء على ظاهر اللفظ كما هو الحال مع البروج ووجب تفويض المعنى أو تأويله في حديث الجارية كما هو مذهب علماء أهل السنة الذي نص عليه الإمام النووي أعلاه .

الأصل الثاني:
الأصل الثاني الذي تخالفه هذه العقيدة التجسيمية هو صفة ( غِنَى ) الله وعدم احتياجه البتة لشيء من خلقه سبحانه ، وهو أصلٌ مبثوثٌ في عدد من آي القرآن الكريم ، لذا وبموجب اعتقاد غِنَى الله المطلق، فإنّه يستحيلُ كون الله جسماً أو ذا كينونةً جسمية، وذلك لأن الأجسام تحتاج المكان والزمان لتتواجدَ فيهما، والله لا يحتاج البتة إلى زمان أو مكان، بل هو سبحانه قبل أن يكون زمان ومكان، والزمان والمكان خلقٌ من خلقه كما قال تعالى: { الله خالق كل شيء }.

خامسا :
الفهم الحرفيّ الظاهري لمقولة الله (( في)) السماء ، يعني ويفيد حرفيا وظاهرياً أنّ السماء تحيط بالله سبحانه وتعالى من كل الجهات بحيث يكون سبحانه أصغر منها لتحويه ، أي أن السماء كالظرف له وهو مظروف داخلها ، وهو بالطبع تصور متهافت يرفضه حتى الأطفال الذين لم يبلغوا السعيَ .

وصرفُ معنى مقولة الله (( في )) السماء إلى ((على السماء )) كما يفعل المجسمة عندما يُغلبون ويُحرجون في المناظرات، هو في الحقيقة نوعٌ من التأويل الذي يفر منه هؤلاء الظاهرية ليقعوا فيه ولا بد!!

فإن (( في )) غير (( على )) وجعل أحدهما بمعنى الآخر هو تأويل وإن ادَّعوا أنه ليس تأويلا.

لكل هذه الأسباب ولأسباب أخرى يطول ذكرها ، رأى السادة العلماء ضرورةًَ ولزوم الفهم المجازي الرمزي لهذا الحديث ولغيره من النصوص الحاوية لمثل هذه التعابير والاستعارات الموهمة للتشبيه والتجسيم، بحيث يتوافق المعنى مع استعمالات اللغة العربية دون أن يعارض الثوابت القرآنية أو الحديثية الدالة على تنزيه الخالق سبحانه وتعالى .

أأمنتم من ( في السماء) !!

لنأخذ مثلا على ذلك قول الله سبحانه وتعالى : { أأمنتم من في السماء أن يخسف بكم الأرض فإذا هي تمور }.

لننظر كيف فهمه وفسّره أئمة أهل السنة والجماعة، ومدى توافق فهم المجسمة الحشوية كالوهابية مع فهمهم أو اختلافه عنه وبناء عليه نستطيع أن نحكم من هم أهل السنة حقاً لا ادعاءً :

القرطبي :

[ قال المحققون: أمنتم من فوق السماء؛ كقوله : { فسيحوا في الأرض } أي فوقها لا بالمماسة والتحيز لكن بالقهر والتدبير. وقيل : معناه أمنتم من على السماء ؛ كقوله تعالى: { ولأصلبنكم في جذوع النخل } أي عليها. ومعناه أنّه مُديرها ومالكها؛ كما يقال : فلان على العراق والحجاز؛ أي واليها وأميرها. ] انتهى من الجامع لأحكام القرآن (تفسير الإمام القرطبي).

الشربيني الخطيب :

يذكر أن هنالك عدة وجوه تأويل لقول الله { من في السماء } ، منها أنها تعني : الذي في السماء سلطانه وسيادته ، لأن السماء هي حيث تقطن الملائكة وتسكن وهناك عرشه أعظم المخلوقات وكرسيه واللوح المحفوظ الذي منه تتنزل أحكامه وقضاءه وكتبه وأوامره ونواهيه .
ويذكر كذلك تأويلا آخر وهو أن { من في السماء } حذف منها إضافة وتقديرها:
( أأمنتم من “خالق” الذي في السماء ) ، ويقصد به الملائكة الذين يقطنون السماء وبالأخص منهم جبريل عليه السلام – لأنهم هم المأمورون بإيقاع الرحمة الإلهية (إرادته سبحانه الخير ) أو الغضب والانتقام الإلهي ( إرادته سبحانه الشر ) .[4]
( راجع السراج المنير طـ دار المعارف بيروت المجلد الرابع )

فخر الدين الرازي :

يذكرُ أنّ { من في السماء } تعني المَلَكَ الموكّل بإيقاع العذاب والعقاب – جبريل عليه السلام -، وقوله { يخسف بكم الأرض } يعني بأمر الله وإذنه.
( تفسير الإمام الفخر الرازي ط دار الفكر بيروت 1985 )

أبو حيان النحوي:

يذكرُ أن سياق هذه الكلمات قد يكون وفق معتقداتِ المُخاطَبينَ بهذا الوعيد ( أي المشركين ) لأنهم كانوا مجسمة يجسمون الله ويتصورنه جسماً كما يجسّمون بقية آلهتهم في شكل أوثان وأصنام وتماثيل ، فخاطبهم وفْقَ معتقدهم لا موافقةً لهم وإقراراً بل تنبيهاً على خطله وزيفه ، وعلى هذا يكون المعنى :
(أأمنتم ممن تزعمون وتعتقدون كونه في السماء بينما هو أعلى وأرفع من سائر المكان والزمان . )
(تفسير النهر المدد من البحر المحيط ط دار الجنان ومؤسسة الكتب الثقافية 1987 بيروت )

القاضي عياض:

ينقل الإمام النووي في شرحه على صحيح مسلم في شرح حديث الجارية بعد أن بَيَّن موقف السلف من أحاديث الصفات – وهو الموقف الذي أوردته أعلاه – كلامَ القاضي عياض في ذلك ، فقال :

[ قال القاضي عياض :
” لا خلاف بين المسلمين قاطبةً فقيههم ومحدِّثهم ومتكلِّمهم ونظَّارهم ومقلِّدهم أنَّ الظَّواهر الواردة بذكر الله في السَّماء كقوله تعالى: { أأمنتم من في السماء أن يخسف بكم الأرض } ونحوه ليست على ظاهرها بل مُتَأوّلةً عند جميعهم ، فمن قال بإثبات جهة فوقٍ ، من غير تحديد ولا تكييف من المحدِّثين والفقهاء والمتكلِّمين تأوَّل ( في السَّماء ) أي : على السَّماء.
ومن قال من دهماء النظَّار والمتكلِّمين وأصحاب التَّنزيه بنفي الحدِّ واستحالة الجهة في حقِّه سبحانه، تأوَّلوها تأويلات بحسب مقتضاها” وذكر نحو ما سبق – أي ما سبق للنووي إيراده من مواقف العلماء من أحاديث الصفات –
قال: أي القاضي عياض :
” ويا ليت شعري! ما الَّذي جمع أهل السُّنَّة والحقُّ كلّهم على وجوب الإمساك عن الفكر في الذَّات ، كما أمروا وسكتوا لحيرة العقل ، واتَّفقوا على تحريم التَّكييف والتَّشكيل، وأنَّ ذلك من وقوفهم وإمساكهم غير شاكٍّ في الوجود والموجود، وغير قادح في التَّوحيد بل هو حقيقته، ثمَّ تسامح بعضهم بإثبات الجهة خاشياً من مثل هذا التَّسامح ، وهل بين التَّكييف وإثبات الجهات فرق؟!!.
لكن إطلاق ما أطلقه الشَّرع من أنَّه القاهر فوق عباده، وأنَّه استوي على العرش مع التَّمسُّك بالآية الجامعة للتَّنزيه الكلِّي، الَّذي لا يصحُّ في المعقول غيره، وهو قوله تعالى: { ليس كمثله شيء } عصمة لمن وفَّقه اللَّه “. وهذا كلام القاضي رحمه اللَّه. ] انتهى من شرح النووي على مسلم .

هل يكفر من يقول أن الله في السماء حقيقة الآن ؟؟

نأتي الآن إلى مثال أخير .. الحديث المروي في صحيح مسلم:
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
( ينزل ربُّنا تبارك وتعالى كل ليلة إلى السماء الدنيا، حين يبقى ثلث الليل الآخر. فيقول : من يدعوني فأستجيب له! ومن يسألني فأعطيه! ومن يستغفرني فأغفر له! .) صحيح مسلم – الجزء الأول – كتاب صلاة المسافرين وقصرها – باب الترغيب في الدعاء والذكر في آخر الليل والإجابة فيه .

لو أنّا تأملنا هذا الحديث للحظة، لفهمنا أنه لا يتعلق ولا يقصد بيان عقيدة وليس موضوعه عن العقيدة، ولكنه يقصد تأسيس نقطة عملية تعبدية: أنه يفترض بنا فعل شيء ما في الثلث الأخير من الليل: أن نقوم ونصلي وندعو الله!!

لهذا السبب عندما عَنْوَنََ الإمام النووي صحيح مسلم، وبَوََّبهُ تبويبه وتقسيمه الموجود عليه حالياً، عَنْوَن لهذا الحديث بـ:
( باب الترغيب في الدعاء والذكر في آخر الليل والإجابة فيه )
ولم يترجم له بـ ( باب نزول الله ) مثلا ..

أما فيما يتعلق بمعنى ( ينزل ) الواردة في الحديث فإن الإمام النووي يعلق قائلا:

[ هذا الحديث من أحاديث الصِّفات وفيه مذهبان مشهوران للعلماء سبق إيضاحهما في كتاب الإيمان ومختصرهما أنَّ:
أحدهما:
وهو مذهب جمهور السَّلف وبعض المتكلِّمين:
أنَّه يؤمن بأنَّها حقُّ عَلَى ما يليق باللَّه، وأنَّ ظاهرها المتعارف في حقِّنا غير مراد، ولا يتكلَّم في تأويلها، مع اعتقاد تنزيه الله عن صفات المخلوق وعن الانتقال والحركات وسائر سمات الخلق.
والثَّاني:
مذهب أكثر المتكلِّمين وجماعات من السَّلف، وهو محكيٌّ هنا عن مالك بن أنس والأوزاعيِّ: أنَّها تتأوَّل عَلَى ما يليق بها بحسب مواطنها، فعَلَى هذا تأوَّلوا هذا الحديث تأويلين:
أحدهما:
تأويل مالك بن أنس وغيره معناه: تنزل رحمته وأمره وملائكته، كما يقال: فعل السُّلطان كذا إذا فعله أتباعه بأمره.
والثَّاني:
أنَّه عَلَى الاستعارة، ومعناه: الإقبال عَلَى الدَّاعين بالإجابة واللُّطف، واللَّه أعلم. ] انتهى من شرح الإمام النووي على مسلم.

ويلاحظ العلامة الملا علي قاري في كتابه ( مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح ) : أن الإمام مالك والإمام الأوزاعي واللذين هما من السلف قد تأول كلاهما ( ينزل ) تأويلا مفصلا دقيقا ، وكذلك فعل الإمام جعفر الصادق !!
بل إن جمهور السلف والخلف قالوا بأن كل من يؤمن بأن الله يوجد في جهة حسية هو كافر كما نص على ذلك الحافظ العراقي بكل وضوح قائلاً أن هذا هو موقف أبو حنيفة ومالك والشافعي والأشعري.
( مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح – ط بيروت طار إحياء التراث المجلد الثاني صفحة 137 ).

ويجدر بنا هنا أن ننبه أن العراقي قد وصل رتبة حافظ ، ( أي شخص قد حفظ أكثر من مائة ألف حديث عن ظهر قلب ) ، بينما الملا علي قاري هو محدث له أعمال مرجعية في الأحاديث الموضوعة ، ما يعني أن كلاهما كان له المؤهلات والمقوّمات الكافية للتأكد من سندِ أي موقفٍ يرويانه، ولهذا السبب فإن روايتهما لموقف العلماء من القائل بالجهة الحسية والحاكم بتكفيره لها وزنها واعتبارها ووجاهتها .

ولكن ، لعله من المناسب اليوم أنْ نقولَ أنَّ المسلمَ الذي يعتقد أنَّ الله تعالى موجود في السماء، أو في جهة أعلى ليس كافراً، وذلك لأن شبهة نشر بدعة التجسيم من قبل البعض بأموال البترودولار بهذا الشكل المكثف الذي يقلب الليل نهاراً والنهار ليلا تجد له عذرَ الجهل وعموم البلوى الذي يخرجه من دائرة الكفر.

وقد كانت بدعة التجسيم هذه محصورة فيما مضى في بضعة أسماء تُعدُّ على اليد من مجسمة الحنابلة الذين تم فضحهم ودفعهم مرة تلو الأخرى من بقية فضلاء الحنابلة المتقدمين أنفسهم من أمثال ابن الجوزي الذي خاطب رفقائه الحنابلة في كتابه النفيس القيم ( دفع شبه التشبيه بأكف التنزيه ) قائلا :

[ وقد أخذوا – أي بعض الحنابلة – بالظاهر في الأسماء والصفات.. ولم يلتفتوا إلى النصوص الصارفة عن الظواهر إلى المعاني الواجبة لله تعالى ، ولا إلى إلغاء ما توجبه الظواهر من سمات الحَدَث ، ولم يَقْنَعُوا بأن قالوا : ( صفة فعل ) حتى قالوا: (صفة ذات)، ثم لما أثبتوا أنها صفات، قالوا : لا نحملها على توجيه اللغة ، مثل ( يد ) على معنى نعمة وقدرة ، ولا ( مجيء وإتيان ) على معنى بِرٍّ ولطف ، ولا ( ساق ) على شدة ، بل قالوا : نحملها على ظواهرها المتعارفة !!

والظاهر هو المعهود من نعوت الآدميين .. ثم يَتَحرَجُونَ من التشبيه ، ويَأْنَفُون من إضافته إليهم ، ويقولون : ( نحن أهل السنَّة ) !! ، وكلامهم صريح في التشبيه ، وقد تبعهم خلقٌ من العوام ، وقد نصحت التابعَ والمتبوعَ ، فقلت لهم : يا أصحابنا ، أنتم أصحاب نقل واتِّباع ، وإمامكم الأكبر أحمد بن حنبل رحمه الله يقول وهو تحت السياط : كيف أقول ما لم يُقَل ؟!!
فإياكم أن تبتدعوا في مذهبه ما ليس منه ، ثم قلتم في الأحاديث :
(تُحْمَل على ظاهرها ) !! ، وظاهر القدم، الجارحة ، فإنه لما قيل في عيسى عليه الصلاة والسلام : ( روح الله ) ، اعتقدت النصارى لعنهم الله تعالى أن لله سبحانه وتعالى صفةً هي روح وَلَجَت في مريم !! ، ومن قال : (استوي بذاته المقدسة ) فقد أجراه سبحانه مجرى الحِسِّيَّات !! ، وينبغي أن لا يُهْمَل ما ثبت به الأصل، وهو العقل، فإنا به عرفنا الله تعالى، وحكمنا له بالقِدَم، فلو أنكم قلتم: (نقرأ الأحاديث ونسكت )، لما أنكر أحد عليكم، وإنما حَمْلُكُم إياها على الظاهر قبيح !!
فلا تُدخلوا في مذهب هذا الرجل الصالح السلفي ما ليس منه، ولقد كسيتم هذا المذهب شيناً قبيحاً حتى صار لا يُقال حنبلي إلا وقيل مجسم، ثم زينتم مذهبكم أيضا بالعصبية ليزيد بن معاوية، ولقد علمتم أن صاحب المذهب أجاز لعنته !!
وقد كان أبو محمد التميمي يقول في بعض أئمتكم : لقد شانَ المذهبَ شيناً لا يُغسل إلى يوم القيامة ] .
انتهى كلام الإمام ابن الجوزي منتقدا مجسمة الحنابلة في كتابه النفيس ( دفع شبه التشبيه بأكف التنزيه ) طـ المكتبة التوفيقية 1976 .

ويبدو – من استقراء التاريخ – أن هذه العقائد الخربة الفاسدة المجسِّمة تمكنت من البقاء حية لبضعة قرون في نواحي خراسان وأفغانستان وبعض المواضع الأخرى من الشرق ، وقد لاحظ الإمام العلامة الكوثري قدَّس الله سره أن ابن تيمية الحنبلي قد وقع على تفاصيل هذه العقائد الفاسدة من بعض المخطوطات عن النحل والفرق عندما تدفقت مكتبات العلماء على دمشق مع القوافل الهاربة من غزو المغول والتتار الهمج القادمين من الشرق .
وقد قرأ ابن تيمية – غفر الله له – هذه المخطوطات دون معونة أستاذ أو شيخ متوقد الذهن ثاقب الفكر ، ونتيجة لذلك غاب عنه فساد ما في هذه المخطوطات، وآمن واعتقد بما فهمه منها وتطور به الأمر إلى أن أصبح داعية لهذه العقائد ومنافحا عنها في كتبه وأعماله .
( راجع مقدمة السيف الصقيل في الرد على ابن زفيل باعتناء الإمام الكوثري ط الكليات الأزهرية).

وقد حوكم ابن تيمية الحراني وسجن بسبب هذه العقائد الفاسدة عدة مرات قبل موته ، وقد نقل الإمام النويري وكذلك الحافظ ابن حجر العسقلاني في الدررِ الكامنة عنه أنَّه تاب عن هذه العقائد الفاسدة وعاد إلى اعتقاد أهل السنة والجماعة بعد محاكمته واستتابته من قبل علماء زمانه وشهد على نفسه أنه يعود أشعريا رحمه الله وغفر له خطأه إن صدقت توبته.

وقد صنفت مصنفات من قبل علماء من أمثال:
أبو حيان النحوي ( ت 745 هـ )
و تقي الدين السبكي ( ت 756 )
وبدر الدين ابن جماعة ( ت 733 )
و الأمير الصنعاني صاحب سبل السلام ( ت 1182)
وتقي الدين الحسني صاحب كفاية الأخيار ( ت 829 )
والحافظ ابن حجر الهيثمي ( ت 974 هـ )
في الرد على عقيدة ابن تيمية ..

وقد ظلتْ عقيدته مرفوضةً من قبل جمهور المسلمين، وكلِّ أهل السنة والجماعة لمدة أربعة قرون أخرى بعده، حتى ظهرت حركة محمد بن عبد الوهاب في القرن الثامن عشر الميلادي ، وكما هو معلوم فقد اتَّبعت هذه الحركة ابن تيمية في عدة مسائل من العقيدة واتخذت منه مرجعيتها وسلفها الوحيد الذي تتحاكم إليه وتريد أن تحاكم الآخرين إليه بدعوى اتباع السلف .

ولكنَّ هذه العقائد لم تلقََ انتشاراً ويتفاقم أمرها إلا بعد وصول الطباعة إلى العالم العربي وطباعة كتب ابن تيمية وإغراق السوق بها بأسعار جد قليلة.

ويذكر الإمام الكوثري في (مقالاته) وفي كتابه (تأنيب الخطيب) أن تاجراً غنياً من وجهاء جدة دفع تكاليف طباعة كتاب (منهاج السنة) لأول مرة ومعه عدة كتب أخرى لابن تيمية في العقيدة في مصر في نهايات القرن التاسع عشر الميلادي لتخرج تلك الكتب التجسيمية لأول مرة من عالم المخطوطات المنسية إلى واجهة الكتب المطبوعة المتاحة للجميع

وتكفل أيضا بطباعة العديد من كتب التجسيم التي نسيها الناس وعفا عنها الزمن ككتاب (الرد على بشر المريسي) للسجزي الدارمي وكتاب (السنة) المنسوب إلى عبد الله بن الإمام أحمد بن حنبل – وهي نسبة لا تصح لوجود كذابين ووضاعين في سند الكتاب – ، كل هذه الجهود الفردية والرسمية من قبل الوهابية أفرادا وحكومة أثمرت بعثَ هذه العقائد الفاسدة مجدداً بعد موتها واندثارها تحت اسم السلفية .

ومنذ ذلك الحين حُمِلتْ هذه الكتبُ والعقائدُ إلى كلِّ الأنحاء مدفوعةً بفيضانٍ عارم من التمويلِ الغزيرِ المتدفق من قبل دولة أو اثنتين من دول الخليج البترولية الغنية. و نتيجةً لهذه الجهود امتلأت المساجد في أنحاء العالم كلِّه بكتبٍ ومطوياتٍ وكتيباتٍ تشرحُ هذه العقائدَ الفاسدة وتنشرها .
وامتلأت المساجد أيضاً بشبابٍ غِر متحمسين يدفعون بهذه العقائد وينسبونها جهلاً إلى السلف الصالح من التابعين وتابعيهم وأئمة المسلمين الأوائل ، بمعونة سند ابن تيمية المشكوك فيه أصلاً ، أو في كثير من الأحيان دون أي سند !!

ومن هنا تبرز لنا أهمية عدم تكفير عامة المسلمين إن قالوا بهذه العقائد الفاسدة، لأنَّ مثل هذا النوع من الدعم المادي الضخم، يشتري النفوذ والإعلام والدعاية التي تقلب الحقائق وتُلبِّسها على الناس البسطاء، والذين هم في أغلبهم لا يملكون القدرة أو الوقت على البحث والتنقيب والتعلم بأنفسهم للتحقق من صدق دعاوى تمثيل السلف وأهل السنة التي يطلقها أنصار هذه العقائد.

لذا فإنه من المناسب، بل من الضروري عذر الناس بالجهل هنا إلى أن يُعَلَّموا أن الربَّ في الإسلام هو بشكل لا محدود أعظم وأعلى وفوق أن يكون رجلاً ضخما أو شاباً أمرداً كما يصفه هؤلاء ، وإلى أنْ يفهموا أن الله سبحانه أعظم من أن يكون محدودا بمكان وزمان هما في النهاية أيضا مجرد خلق من خلقه سبحانه وتعالى .

الخلاصـــة

فإذاً، نخلص إلى أن أهل السنة والجماعة يأخذون النصوص على ظاهرها، ويفهمونها حرفياً إلا إن كان هنالك سببٌ مصاحبٌ، وقرينةٌ صارفةٌ تمنعهم من فهم تلك النصوص على ظاهرها.

وفي حالة ( نزول ) الله أو كونه ( في السماء ) فإنَّ هنالك ما لا يحصى من الأسباب والقرائن الصارفة لهذه النصوص عن ظاهرها :

فأولاً :
إنَّ الفهم الحرفي لهذه النصوص، يجعل الجمع بينها وبين الكثير من النصوص الصحيحة الأخرى أمراً مستحيلاً، وتلك النصوص الأخرى ينبغي أن تفهم هي أيضاً على ظاهرها كما فهمت تلك التي تحدد الله بأنه في السماء أو ينزل على ظاهرها إذ ما هذه بأولى من تلك في الإجراء على الظاهر والتفرقة بينها تدل على الهوى وعدم الموضوعية والعلمية .

هنالك نصوص تتحدث عن كون الله (( مع )) العبد عند ذكره لله!!
(( أقرب )) إليه من حبل الوريد !!
(( أمامه )) حال صلاته !!
((أقرب )) إليه حال سجوده !!
(( في السماء )) عندما سأل رسول الله الجارية !!
((معكم )) أينما كنتم !!

ووووووهذه النصوص، إن جُمعتْ وفُهمتْ كلها حرفيا على ظاهرها ، فإنها غير واضحة ومتناقضة تماما !!
ولا ينتفي هذا التناقض إلا بفهمها مجازيا ورمزيا، وبتأويلها على مقتضى لغة العرب كما فعل علماء أهل السنة والجماعة منذ السلف إلى الخلف.

ثانيا :
إن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم قد فصَّل كل العقائد التي يجب على المسلم الإيمان بها في جوابه على سؤال جبريل عليه السلام، ولم يأت على ذكر كَوْنِ الله في السماء أو في أي مكان آخر كعقيدة واجبة الإتباع في ذات الله ، فهل يغفل رسول الله عن تحديد مكان الله إن كان له مكان سبحانه .

ثالثا :
إن كوَْنَ الله ( في السماء ) كما الطيور والسحاب والطائرات والكواكب والملائكة والأنبياء والجنان إلخ ، على المعنى الظاهر لـ ( في السماء ) ، تنافي بشكل قاطع عقيدة القرآن القائلة بـ { ليس كمثله شيء }!!

كما أنها تنافي عقيدة ( غِنَى ) الله المذكورة في عدة مواضع من القرآن، لأن ما احتاج إلى خلق من خلقه ( السماء ) ليكون فيه أو يستوي عليه حقيقة ( العرش ) فهو قطعا ليس الله الموصوف بالغنى التام في محكم التنزيل وإنما وثن يعبده الجاهلون وإن ظنوا وادعوا أنه الله تعالى.

هذا ، والله وحده الغني ، وأنتم الفقراء ، وهو وليُّ التوفيق وعليه التكلان .

اللهم اهدنا لما اختلفوا فيه، وأنر بصائرنا وعقولنا، وَنَقِّ سرائرنا ونفوسنا بجاه الواسطة العظمى سيدنا محمد النبي الأمي.. آمين !!
انتهى
كتبه : هاني على الرضا الجعفري المالكي الأشعري.
صل يا قديم الذات عدد الحوادث .. على المصطفى المعصوم سيد كل حادث

المصدر:
http://www.aslein.net/showthread.php?t=2583

——————————————————————————-

· هامش :

[1] أحاديث الآحاد هي الأحاديث التي نُقلت إلينا عن طريقة راوٍ واحد أو اثنين أو ثلاثة في أحد طبقات سلسلة السند إلى الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ، فمثلا قد يكون الرسول صلى الله عليه وسلم تكلم بكلام في محضر مجموعة كبيرة من الصحابة ربما تبلغ مائة ، فكلهم شاهده وسمع كلامه ورواه عنه ، ولكن هؤلاء المائة لم يرو وينقل عنهم هذا الحديث عن الرسول إلا واحد او اثنان أو ثلاثة من التابعين فيكون الحديث حيث آحاد رغم أن صدر السند فيه مائة صحابي ، وكذا لو روى عن المائة صحابي مائة تابعي ولكن روى عن المائة تابعي راوٍ واحد أو راويين من تابعي التابعين فيكن الحديث حديث آحاد أيضا وهكذا ، ولو كان الراوي عن الرسول أول السند صحابي أو اثنان أو ثلاثة فالأمر واضح . وحديث الآحاد لا يفيد إلا الظنّ فقط بأن الرسول قال ما روي عنه فيه لاحتمال الخطأ والسهو والنسيان والزيادة والنقصان على الواحد والإثنين والثلاثة لذا لا يعمل به في العقائد إلا بقرينة قوية تدعمه وتزيل الظنية والضعف عنه ليصبح في حكم المقطوع بحصوله وقول الرسول له . ويقابل الآحاد الحديث المتواتر وهو ما رواه جمع غفير عن جمع غفير من أول السند إلى منتهاه بحيث تحيل العادة خطأهم أو اتفاقهم على الكذب ، وهويفيد العلم القطعي بأن الرسول قاله وبالتالي يعمل به في العقائد ، وسبب عدم العمل بالظني في العقائد أنك لا يمكن أن تصف الله أو تنسب إليه شيئا بناء على ظن تظنه ولا تعلم حقيقته لخطورة ذلك ، وقد ذم الله المشركين بقولهم على الله بالظن بغير علم في أكثر من آية من القرآن ، وغني عن القول أن القرآن متواتر ثابت ، وللمتواتر والآحاد أحكام وبحوث أخرى محلها كتب أصول الفقه ومصطلح الحديث فلتراجع

[2] الحشوية هو الاسم لذي أطلقه أهل السنة والجماعة على مجموعة من جهلة المشتغلين بالحديث ممن تقاصر فهمهم عن فهم معاني الأحاديث التي يروونها والتي تتحدث عن نسب وإضافات لله ، ففهموها كلها على ظاهرها ووقعوا في اعتقاد التجسيم في حق الله تعالى والعياذ بالله وحملوا بجهلهم تلك النسب والإضافات على أن ظاهر معناها مراد في حق الله فجعلوا لله يدا ورجلا وعينا ووجها وغيرها ، وهؤلاء الحشوية لا يفرقون بين حديث آحاد ومتواتر في إثبات عقيدة في الله ، بل في أحيانٍ كثيرة يروون الأحاديث الضعيفة بل والموضوعة بغية إثبات عقيدتهم الفاسدة في الله تعالى . وقد أطلق عليهم لقب “الحشوية” لما أنّ سلفهم كانوا يحضرون حلقة الإمام الحسن البصري ، فلما سمع سي كلامهم ورأى فحش أخلاقهم وألفاظهم قال : رُدوا هؤلاء إلى حشا المجلس ولا يجلسون في صدره !! فسموا حشوية ، وقيل بل لأنهم يحشون كتبهم بكل ساقط من الآثار بغية نصرة عقيدتهم ، وقد كان أسقط المعتزلة هذا اللقب على أهل السنة أيضا فصاروا ينبزون أهل السنة بـ”الحشوية” كنوع من النبز والشتم وإن كان اللقب لا يصدق عليهم فوجب ، وإليه وجب التنبيه حتى لا تختلط الأمور على البعض . والحشوية من طوائف التجسيم في الأمة الإسلامية وإن كان التجسيم لا ينحصر فيهم بل يشمل كذلك طوائف من الشيعة وغيرهم كالهشامية من الشيعة والكرّامية من غير الشيعة ، والذي يظهر أن التجسيم تسرب إلى المسلمين من عقائد أهل الكتاب وبالأخص اليهود وذلك عبر تسرب بعض المرويات إلى التراث الإسلامي مع بعض م أسلم من أهل الكتاب . وقد خمدت فتنة الحشوية وكادت أن تندثر فرقتهم المبتدعة حتى ظهر ابن تيمية الحراني وعمل على إحياء تلك العقائد من جديد عبر مجموعة من المؤلفات التي انتهج فيها التعقيد والتمويه والتدليس للأسف مستعملا نسبة عقائد الحشوية إلى السلف كسلاح ماضٍ حتى اشتبه الأمر على البعض وتبنوا عقيدته وصاروا ينافحون عنها ، ثم بعد ابن تيمية بدأت شمس الحشوية بالأفول حتى لم يبق منهم إلا شرذمة يتوارون عن الناس ويتجمعون في مجتمعات صغيرة بعيدة إلى أن ظهر محمد بن عبد الوهاب مجددا وأعاد بعث هذه العقائد بالحديد والنار كما هو معلوم من كتب التاريخ . هذا وإن ورثة الحشوية اليوم هم فرقة الوهابية ، وقد زادوا على قدماء الحشوية فمزجوا الحشو بمعتقدات الكرامية وكان رائدهم في ذلك المزج هو ابن تيمية ، فمجسمة اليوم هم في الحقيقة خليط من عقائد قدماء الحشوية والكرامية وليظر في ذلك كتاب سيدي الشيخ سعيد فودة حفظه الله (الكاشف الصغير عن عقائد ابن تيمية ) فقد أجاد في عرض ذلك ورده إلى أصوله ، ومن مشاهير الحشوية ابن الزاغوني والبربهاري وابن بطة العكبري وعثمان بن سعيد السجزي الدارمي صاحب (الرد على بشر المريسي) وبالإضافة إلى ابن تيمية وجمع من تلامذته .

[3] الحادث عند علماء الكلام والعقيدة هو : ما لوجوده ابتداء يبتدئ عنده بعد أن كان عدما. وهو يشير إلى كل الموجودات – أي المخلوقات – عدا الله سبحانه وتعالى ، ويقابله في مصطلح علماء العقيدة (القديم ) وهو ما لا أول لوجوده ، وهو (أي القديم) الله سبحانه وتعالى فقط ولا قديم سواه إذ أن عدم ابتداء الوجود يعني عدم وجود صانع وخالق لذلك الشيء ، وكل ما عدا الله فهو مخلوق كائن بعد أن لم يكن ، جاء في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم : ( كان الله ولم يكن شيء غيره). وبالطبع فإن ما كان عدما محضا ثم وُجد (الحادث) فإنه قابل للعدم والعدم أصله فوجوده بإيجاد الله تعالى له ، وكما وجد بعد عدم فإنه يمكن أن يعدم بعد وجود ، أما القديم فكما أنه لا يقبل العدم ابتداء فإنه لا يقبله انتهاء فليس لوجوده نهاية سبحانه وتعالى بل هو باق أبدا كما كان موجودا أزلا ، ومن هنا تعلم غلط ابن تيمية وأتباعه الكبير في اعتقادهم أن هذا الكون قديم بالنوع لم يزل موجودا مع الله تعالى الله عن ذلك كما صرّح ويصرحون بذلك في كتبهم ، وهم يقولون بوجود حوادث لا أول لها ، ومجرد أن يكون حادثا يستلزم أن له أولا فيكون قولهم “حوادث لا اول لها ” ضرب من اللغو والكلام الذي لا معنى له ، وهذه عقيدة الفلاسفة الملاحدة وإن زعم ابن تيمية أنها عقيدة السلف فتنبه رعاك الله .

[4] إنما قلتُ أن رحمة الله هي إرادته الخير وأنّ غضبه هو إرادته الشر بالخلق لما أن هذه هي طريقة جمهور أهل السنة في فهم الرحمة والغضب في حقه تعالى ، وذلك أن الرحمة والغضب لهما مبدأ ومنتهى ، فمبدأ كل منهما تغير يحصل في القلب ، ومنتهى كل منهما هو أثر ذلك التغير الناتج عن فعل ما مشاهد من خير أو شر ، وبما أن التغير في القلب لا يجوز على الله ويستحيل أوّل أهل السنة الرحمة والغضب بمنتهاهما أي إرادة الخير أو الشر أو الخير والشر الواقعان فعلا والعائدان إلى صفتي الإرادة والقدرة .