الصفحة الرئيسية » تراجم » الحاج المفتي أمين الحسيني

الحاج المفتي أمين الحسيني

الحاج المفتى أمين الحسيني

ولد في القدس سنة 1897، ونشأ في عائلة الحسيني العريقة، وتربى في بيت والده الشيخ طاهر الحسيني مفتي القدس، الذي عرف بالعلم الواسع والتقوى والصلاح.

تلقى علومه الابتدائية والثانوية في مدارس القدس، التحق بكلية الفرير بالقدس لتعلم اللغة الفرنسية، بعدها التحق بجامعة الأزهر لتلقي المزيد من العلوم الدينية، وكان يتردد على (دار الدعوة والإرشاد) التي أنشأها محمد رشيد رضا (داعية الإصلاح) حيث نهل من علمه وسار في تياره الفكري الذي يمارس تأثيراً كبيراً على الجماهير. ومن خلال ذلك عرف الكثير عن الصهيونية وأطماعها في فلسطين، إلا أن دراسته في الأزهر لم تطل أكثر من عامين بسبب نشوب الحرب العالمية الأولى.

التحق بكلية الآستانة العسكرية وتخرج منها ضابطاً، والتحق بالجيش العثماني في ولاية أزمير، وعمل في مراكز عسكرية أخرى على البحر الأسود حتى نهاية الحرب مما أكسبه خبرة جيدة، كان لها الأثر الأكبر في شخصيته وحياته.

بعد نهاية الحرب، عاد الضابط الحسيني إلى القدس، وأصبح يعرف بين الناس بالحاج أمين الحسيني إذ كان قد اكتسب لقب الحاج عندما حج برفقة والدته. وهكذا كانت كتابات الحسيني تتلخص إثر عودته إلى بلده في كونه شاباً عربياً مؤمناً ومتعلماً، ملماً بالفكر الإسلامي النير، والعلوم المفيدة، والخبرة العسكرية، ويعرف من اللغات الأجنبية التركية والفرنسية، بالإضافة إلى ذلك كله كان بحكم انتمائه إلى أسرة آل الحسيني، ذات النسب والشرف مهيأ ليكون زعيماً وداعية مسموع الكلمة.

عندما احتل الإنجليز فلسطين، انصرف الحسيني إلى تنظيم الفلسطينيين في حركة وطنية شاملة ضد الاستعمار والصهيونية واستجاب له نفر من أصدقائه فكونوا في القدس أول منظمة سياسية عرفتها فلسطين وهي (النادي العربي) وانتخب الحسيني رئيساً لها، وكان لهذا النادي أثر كبير في انطلاق الحركة الوطنية، وقيام المظاهرات العنيفة ضد الاحتلال الإنجليزي.

تسلم الحسيني منصب الإفتاء رسمياً ـ بالرغم من مقاومة الإنجليز لذلك ـ فأعاد تنظيم المحاكم الشرعية، واختار لها القضاة، ونظم الأوقاف، وعين فيها عدداً من الشبان المخلصين المثقفين، وأخذ يعمل على تقوية المدارس الإسلامية القليلة وتنظيم أمورها، كما أنشأ مجلساً شرعياً إسلامياً لفلسطين تألف من مجموعة من العلماء، وعين الحسيني رئيساً لهذا المجلس الذي سمي (المجلس الإسلامي الأعلى)، الذي أصبح على مرّ الأيام أقوى قوة وطنية إسلامية في البلاد، وقام بعدد من الأعمال والإنجازات الهامة منها: إنشاء دار الأيتام الإسلامية الصناعية في القدس وفتح عشرات المدارس في البلاد، وقام باسترجاع أراضي الوقف الإسلامي التي كانت حكومة الانتداب تسيطر عليها، وتولى إدارتها، وأنشأ العشرات من المحاكم الشرعية، وعين المئات من الوعاظ والمرشدين، فضلاً عن إنشاء فرق الجوالة والكشافة الإسلامية والجمعيات الخيرية والنوادي الأدبية والرياضية، وإصلاح المسجد الأقصى المبارك والصخرة المشرفة وإنقاذها من الأخطار التي كانت تتهددها بالانهيار، وقد تم ذلك بأموال الأوقاف وتبرعات العرب والمسلمين في شتى أنحاء العالم.

استطاع الحسيني أن يجعل لنفسه من خلال المجلس نفوذاً سياسياً ساعد على مواصلة النشاط والجهاد، بالرغم من المعارضة القوية التي كانت موجهة إليه وإلى الحركة الوطنية معاً، وقد قامت هذه المعارضة في البداية على التنافس العائلي على منصب رئيس بلدية القدس، وكانت ركائز هذه المعارضة البلديات التي يسيطر عليها الإنجليز، وأركانها رؤساء هذه البلديات، والإنجليز كانوا يغذونها، وأطلق المعارضون على أنصار الحركة الوطنية اسم (المجلسيين) نسبة إلى المجلس الإسلامي الأعلى الذي رأسه الحاج أمين، واختاروا لأنفسهم اسم (المعارضون) ومن هؤلاء المعارضين عائلة النشاشيبي والشقيري، وهكذا انقسمت البلاد إلى فئتين وكان لهذا الانقسام أثره في حياة فلسطين، وفي حركتها الوطنية، حيث أثارت المعارضة الفتن، والشغب على المجاهدين، وكانت تستعين على هذا بما تتمتع به من عون من الإنجليز واليهود تحقيقاً لمبدأ فرق تسد !! فتستجيب لها وتقع في مصيدتها بعض النفوس الضعيفة.

كان الحاج أمين القوة الدافعة للحركة الوطنية، ومركز الثقل في المقاومة الفلسطينية، والعنصر الفعال الموجه في المحيط العربي الفلسطيني، السياسي والوطني على السواء، هذا بالإضافة إلى الدور العظيم الذي كان يقوم به في مضمار الشؤون الإسلامية، مما حفز الإنجليز وأعوانهم اليهود إلى مقاومته والتخلص منه.

في أواخر تموز 1929 وقع اصطدام عنيف بين الفلسطينيين واليهود في ساحة البراق الشريف بسبب محاولة اليهود اقتحامه وفرض سيطرتهم عليه، ووقف الإنجليز إلى جانب اليهود، وامتدت الاصطدامات وأخذت تتوالى حتى حصل الانفجار الكبير يوم الجمعة 23 آب والذي يعرف (بثورة البراق) حيث حدثت اشتباكات في جميع أنحاء المدينة وغدت الشوارع مسرحاً لقتال العرب واليهود، وكانت حصيلة هذه الاشتباكات التي انتهت في 30 آب مقتل وجرح 450 من اليهود و348 من العرب.

لما رأى الحسيني انحياز الإنجليز مع اليهود، لجأ إلى قوة العالم الإسلامي مستنداً إلى مكانته الدينية، ودعا إلى عقد مؤتمر إسلامي رسمي في القدس، يشعر سلطات الانتداب بأن عرب فلسطين ليسوا وحدهم، فهناك الملايين من العرب والمسلمين يساندونهم. وافتتح المؤتمر الإسلامي العام رسمياً يوم الإسراء 7/12/1931، حضره حشد كبير من العلماء والشخصيات السياسية، استنكروا فيه جميع أنواع الاستعمار وفي أي قطر من الأقطار الإسلامية، كما وضع المؤتمر قرارات رئيسية أهمها: وضع نظام لعقد المؤتمر كل سنتين، إنشاء جامعة إسلامية في القدس باسم (جامعة الأقصى)، التعاهد بالدفاع عن البراق، إيجاد دائرة معارف إسلامية، تأسيس شركة زراعية لإنقاذ الأراضي ومساعدة الفلاحين والقرويين وأرباب الحرف، وإيجاد شركات تعاونية للتسليف.

عندما تدفقت الهجرة اليهودية على فلسطين، ازداد نشاط الحركة الوطنية وقامت بعدة مظاهرات يترأسها الشيخ موسى كاظم الحسيني، وتعاقبت المظاهرات، وأخذ الوضع يتأزم بمرور الزمن خاصة بعد قيام اليهود بتهريب الأسلحة والأعتدة على نطاق واسع، وتوزيعها على المستعمرات اليهودية، وتشكيل عصابات سرية للإرهاب والتخريب، مما جعل الحاج الحسيني يؤلف لجان سرية من شبان فلسطين لشراء السلاح من داخل فلسطين ومن سورية ومن لبنان والعراق وشرق الأردن، ونقله إلى فلسطين، كما أقام المفتي مراكز سرية في عدة مناطق فلسطينية لتدريب الشبان المؤهلين على استعمال السلاح وحرب العصابات مستعيناً بعدد من كبار الضباط العرب المتقاعدين (من فئة الضباط الناجحين في العهد العثماني)، كما شكل مجموعات مسلحة من الوطنيين الصامدين في بعض أنحاء فلسطين في الشمال، وكان الشيخ علي رضا النحوي مسؤولاً عن هذا التنظيم، أما المناطق الجنوبية وخاصة القدس، فقد كون الشبان الوطنيون تنظيماً بقيادة عبد القادر الحسيني أطلقوا عليه اسم (الجهاد المقدس).

توالت الاشتباكات المسلحة بين العرب واليهود بسرعة فائقة، مما أدى إلى إعلان الإضراب العام الذي شمل البلاد كلها، وهو ردة فعل فورية إزاء الأخطار المحدقة بالبلاد إثر الهجرة المكثفة لليهود، وانتقال ملكية الأراضي لليهود، وحرمان العرب من أي نوع من أنواع الحكم الذاتي. واستمر الإضراب في تصاعد مستمر، ودعا المفتي إلى الوحدة الوطنية بين الأحزاب الفلسطينية وانتخبوا لجنة برئاسة الحاج الحسيني وعضوية ممثلي الأحزاب الستة أطلقوا عليها اللجنة العربية العليا، حيث أعلنت هذه اللجنة قرارها بالاستمرار في الإضراب العام إلى أن تمنع الحكومة البريطانية الهجرة اليهودية منعاً باتاً، وتمنع انتقال ملكية الأراضي لليهود، وتوافق على إنشاء حكومة وطنية مسؤولة أمام مجلس نيابي، إلا أن الحكومة البريطانية لم تأبه بمطالب اللجنة العليا، وأصدرت تقريراً يقتضي تقسيم البلاد إلى ثلاث مناطق (منطقة عربية تضم إلى شرق الأردن، منطقة يهودية تشمل أجود الأراضي الساحلية وتمتد من حدود لبنان إلى المجدل عبر سهل مرج بن عامر وبيسان والجليل، ومنطقة واقعة تحت الانتداب البريطاني).

أعلنت اللجنة العربية العليا رفضها قرار التقسيم، لذا اعتبرت بريطانيا المفتي العقبة الوحيدة أمام حل القضية الفلسطينية والتفاهم مع اليهود، ورأت ألا تترك الساحة خالية لنشاطه، بل عليها أن تقيله من مناصبه وخاصة رئاسة المجلس الإسلامي الأعلى، وأن تبطش به وبالفريق المتصلب من المتطرفين، فاقتحمت مقر اللجنة العربية العليا لاعتقال المفتي، لكنه نظراً للحراسة المشددة التي تحيط به تمكن من الإفلات والاختباء في بيته الواقع بين أروقة المسجد الأقصى مما تعذر على الإنجليز دخوله خوفاً من انتهاك حرمة المكان، ولفت الرأي العام العربي لعملهم هذا، واستمرت تحاصر المكان مدة 3 أشهر قطعت خلالها البريد والتلفون والكهرباء، فعاش المفتي في عزلة تامة عن العالم. وخوفاً من نشوب القتال في ساحة الحرم بين المجاهدين الذي جاؤوا لحماية زعيمهم وبين الأعداء، قرر المفتي مغادرة البلاد، وقبل مغادرته كان قد أعد بياناً دعا فيه الشعب لاستئناف حمل السلاح في 15 تشرين أول 1937.

استطاع المفتي التسلل والفرار ـ بعد تعرضه لمشاق كبيرة ـ إلى لبنان، وعند وصوله قامت مظاهرات تأييد له واحتجاجاً على السلطات الفرنسية التي قررت نفيه إلى باريس لكنهم تراجعوا، وفي هذه الأثناء حلت الحكومة البريطانية اللجنة العليا ونفت الزعماء إلى الخارج، لكن الحسيني قبل خروجه من فلسطين أعد لاستئناف الثورة، فلما نجح في الإفلات تفجرت الثورة مرة أخرى، وجعل يشرف على إدارتها من لبنان، ويتابع أخبار المجاهدين وبنفس الوقت يتابع أخبار وتحركات الإنجليز، كما كون اللجنة المركزية للجهاد من الشيخ حسين أبو السعود ومنيف الحسيني واسحق درويش في لبنان وعزة دروزة ومعين الماضي في دمشق، وقامت هذه اللجنة بتوجيه الثورة وإمدادها وإسعاف منكوبيها، كما أخذت تجهز بعض البارزين من المجاهدين وتسيرهم إلى فلسطين ليتولوا قيادة الحركة الجهادية في مرحلتها الجديدة، وتنشئ الصلات بين من بقي منهم في فلسطين وتمدهم بما تستطيعه من مال وسلاح، وتبذل جهودها في سبيل الحصول على التبرعات من مختلف البلاد العربية، ويذكر أنه تعاونت لجنة الدفاع عن فلسطين، برئاسة نبيه العظمة، والمجاهدون السوريون كل التعاون مع اللجنة المركزية، خاصة في المساعدات المادية وفي حماية رجال الثورة من عيون الفرنسيين.

تأزمت الحال في صيف 1939 في أوروبا، وتقاربت فرنسا وبريطانيا، وطلبت بريطانيا من فرنسا أن تضيق الخناق على المجاهدين الفلسطينيين في سورية ولبنان، ووضع المفتي تحت المراقبة الشديدة من مختلف طبقات المجتمع من موظفي الأمن العام حتى التجار إلى الباعة، لكن بفضل الله ورعايته استطاع في غفلة من الفرنسيين الفرار إلى العراق بعد مكوثه سنتين في لبنان.

كان العراق في تلك الفترة يتمتع باستقلال نسبي، وكان أكثر البلدان العربية ملاءمة لقبول لجوء المفتي إليه، وكان قد وصل إلى العراق قبله مائتا مجاهد فلسطيني، فأظهر لهم الشعب والحكومة العراقية كرماً عظيماً، وبانتقال سماحته إلى بغداد أصبح العراق مركز الثقل للقضية الفلسطينية. وفي العام الأول من وجوده في بغداد قام بتأسيس (حزب الأمة العربية) وقد كان للحزب دستور تلخصت أهدافه السياسية بالاستقلال للبلدان العربية من نير الاستعمار والوحدة بينها، وقد تألفت النواة الأولى للحزب برئاسة المفتي، فانضم إلى هذا الحزب السري عدد من السياسيين والعسكريين العراقيين وعدد من السياسيين العرب الذين كانوا في العراق في ذلك الوقت. حيث كان هذا الحزب القوة السياسية والأساسية المحركة للأحداث على الصعيدين السياسي والعسكري ومن هؤلاء العسكريين العراقيين: رشيد عالي الكيلاني، يونس السبعاوي، ناجي شكوت، وصلاح الدين الصباغ.

انتهز المفتي فرصة وجوده في بغداد، فطلب من السلطات العراقية أن تقوم بتدريب الفلسطينيين تدريباً عسكرياً، ودخل عدد كبير منهم في مدرسة ضباط الاحتياط وحصلوا على شهادتها، وكذلك في كلية الأركان والمعاهد العسكرية وأتموا تدريبهم فيها.

كان الحاج أمين يتمتع بسمعة وطنية كبيرة من جميع الأطراف في العراق، حيث قام بدور كبير في أحداث العراق، وعمد إلى إزالة أسباب الخلاف التي كادت تؤدي بالجيش إلى الصدام، الرابح منه الإنجليز وحدهم، حيث قامت في ذلك الوقت معركة سياسية ضارية قسمت الجيش إلى معسكر يتجمع حول (نوري السعيد) الذي يرى أن التعاون مع الإنجليز في الحرب يوصل العراق إلى حقوقه الوطنية، ومعسكر آخر يتجمع حول رشيد عالي الكيلاني الذي يرى أنه يستحيل الاعتماد على الإنجليز الذين تسيطر عليهم الصهيونية، وكان يذهب إلى التعاون مع الألمان. ازدادت نقمة الإنجليز على المفتي أمام هذا العمل الدؤوب الذي كان لصالح العراق وقضية فلسطين، وزاد هذه النقمة أنه استطاع أن يحسن الجو بين السعودية والعراق، مما أدى إلى تهيئة البلدين لتحقيق وحدة مستقبلية.

طلبت السلطات العراقية من المفتي الاتصال سرياً مع الألمان لطلب السلاح والحصول على تصريح من الحكومة الألمانية بشأن استقلال الأمة العربية وحريتها، وبالفعل تم ذلك حيث أرسل أمين وزارة الخارجية الألمانية رسالة إلى المفتي، بين فيها استعداد ألمانيا دعم الشعب العربي في حالة وقوع حرب مع الإنجليز، إذا مكنتها وسائل المواصلات من ذلك، وذكر أن الشعبين الألماني والعربي متفقان على الكفاح ضد العدو المشترك الإنجليز واليهود، وطلب بقاء هذه الرسالة سرية.

قامت الثورة العراقية في أيار عام 1941، وكان للمفتي دور كبير في الحث عليها والوقوف معها، حيث أقنع القادة العراقيين أن هذه حركة تحريرية وطنية هدفها تحرير العراق من براثن الاستعمار البريطاني، ليمارس سيادته واستقلاله الوطني كاملاً غير منقوص، وصمم العراقيون على الدفاع عن حريتهم وكرامتهم، في حين صمم الإنجليز على الاعتداء على العراق وقامت هذه الثورة بقيادة رشيد عالي الكيلاني، ووقف المفتي إلى جانبه فحشد المئات من المجاهدين الفلسطينيين والعرب الملتفين حوله، وكان يتصل بكبار الضباط ويقوم بتوجيههم، ويثير فيهم روح الجهاد ويعمل على تقوية روح المقاومة عند أبناء الشعب العراقي، إلا أنه ولأسباب عدة لم يكتب لهذه الثورة النجاح.

حاول الإنجليز اعتقال المفتي، لكنه استطاع الإفلات من أذاهم والهروب إلى إيران، ولم تطل إقامته هناك بسبب احتلال القوات الروسية والبريطانية المشتركة للعاصمة طهران حيث كان يقيم، واستطاع بعد جهد ومشاق، السفر إلى إيطاليا عبر تركيا بمساعدة الطليان، ومن إيطاليا توجه إلى ألمانيا، حيث حل ضيفاً على الحكومة الألمانية.

وأثناء إقامة المفتي في ألمانيا، وصل إليها رشيد عالي الكيلاني، فتقدم الاثنان بعدة مشاريع لتصريح رسمي أو معاهدة بين العرب والمحور تضمن للعرب الاعتراف من قبل المحور بالحرية والاستقلال للأقطار العربية الواقعة تحت الحكم البريطاني، وبالعمل للقضاء على الوطن القومي اليهودي في فلسطين، وبعد موافقة هتلر تمكنا من الحصول على تعهد رسمي من ألمانيا وإيطاليا موقع عليه من وزيري الخارجية الألماني والإيطالي، مؤيداً مطالبهم وموضحاً استعداد الحكومة الألمانية للمشاركة مع العرب في الكفاح ضد العدو المشترك الإنجليز واليهود حتى يتحقق النصر.

كما طلب المفتي من السلطات الألمانية أن توسع مجال عملها بشكل يتمكن فيه كل العرب المقيمين في بلاد المحور من الانضمام إلى الجيش الألماني للتدريب وتكوين جيش عربي، وبالفعل قررت الحكومة الألمانية إنشاء (الجيش العربي) ومد هذا الجيش بالأسلحة اللازمة، ولتحقيق هذا بنى الألمان مستودعاً كبيراً تخزن فيه الأسلحة الخفيفة، ووضعوا تحت تصرف الجيش أربع طائرات لنقل العتاد ووضعه في مخابئ سرية لتدريب المجاهدين في فلسطين.

أثناء إقامة المفتي في ألمانيا سمع بالمآسي التي حلت بالشعب البوسني المسلم عندما تصارعت عليه القوميتين الكرواتية والصربية، حيث اجتمع بزعماء بوسنة وهرسك، وبعد البحث معهم ومع قيادة القوات الألمانية في كيفية المحافظة على حياة البشانتة ومنع وقوع المذابح فيهم، وافقت الحكومة الألمانية على تجنيد الشبان منهم وتسليحهم للدفاع عن أنفسهم وعائلاتهم، كذلك اتفق المفتي مع السلطات الألمانية على إنشاء معهد للأئمة لتوزيعهم على وحدات الفرق البوسنية الذين زاد عدهم عن 100 ألف مقاتل، وقد أنشأ المعهد واختير له عدد من علماء البشناق لتوجيه أولئك الأئمة، وأنشأ المفتي كذلك بالاتفاق مع الألمان معهداً آخر في (دردسن) لتخريج الأئمة الأذربيجانيين والقوقازيين وغيرهم، وبذلك زاد عدد المجندين في بلاد المحور من عرب وبوسنيين وأذربيجانيين وغيرهم على مائتي ألف مقاتل، استطاعوا أن يمنعوا المجازر عنهم وعن جميع مسلمي البلقان وشرق أوروبا.

اشتدت غارات الحلفاء على ألمانيا عام 1943، فكانت بعض الغارات تهاجم برلين بألف طائرة أو أكثر، ولما شرع الحلفاء بالزحف على الأراضي الألمانية عام 1945 انتقل المفتي إلى باريس، ومن باريس إلى مصر حيث حل ضيفاً على الملك فاروق.

في مصر قام المفتي بتشكيل الهيئة العربية العليا لفلسطين برئاسته حيث نظم الحركة الوطنية الفلسطينية تنظيماً حديثاً، وقرر إعداد الشعب لخوض الكفاح المسلح ضد الصهيونيين والإنجليز، وألف لجنة من قادة المجاهدين الفلسطينيين وبعض الضباط السوريين والعراقيين والمصريين لوضع الخطط وتحديد المطلوب من الأسلحة والمعدات للجهاد الذي كان أوانه قد اقترب بعد بروز فكرة التقسيم من جديد في الأوساط الأمريكية والبريطانية والصهيونية ومحيط الأمم المتحدة، كما أعاد تنظيم جيش الجهاد المقدس وأسند قيادته إلى عبد القادر الحسيني وأنشأ المفتي كذلك منظمة الشباب الفلسطيني التي انصهرت فيها منظمات الفتوة والجوالة والكشافة وأسند قيادتها للمجاهد الصاغ محمود لبيب ـ وهو قائد بارز من قادة الحركة الإسلامية بمصرـ وكلفه بمهمة تدريب الشباب على القتال.

وبالرغم من الاستعدادات العربية إلا أن ميزان القوى بين العرب واليهود في كل النواحي لم يكن متكافئاً، وحدثت النكبة في 14 أيار 1948، ظل المفتي بعدها يعمل للدفاع عن قضية فلسطين حيث ألف حكومة فلسطينية في منطقة غزة برئاسة أحمد حلمي عبد الباقي أطلق عليها (حكومة عموم فلسطين) لتتولى شؤون الكفاح. لكن التواطؤ والمؤامرات على القضية ظل مستمراً يجمد نشاط وعمل هذه الحكومة بعد أن أرغمت على الانتقال إلى مصر، وكذلك حُرمت الهيئة العربية العليا من حرية العمل والنشاط، وأغلقت في وجهها الصحف والمجلات ومحطات الإذاعة، بينما واصل الأعداء مساعيهم لتصفية القضية وكانت خطتهم الجديدة نقل القضية من أيدي أصحابها إلى الجامعة العربية، فتقرر إنشاء (إدارة خاصة بفلسطين) في مجلس الجامعة تتولى القضية الفلسطينية من جميع نواحيها.

قامت في مصر ثورة يوليو 1952 فاستبشر المفتي خيراً، ورحب بالعهد الجديد برئاسة جمال عبد الناصر، إلا أن روائح الحل السلمي للقضية بدأت تطل من جديد، فخمدت قضية فلسطين وتحولت إلى قضية لاجئين، واتفقت الأمم المتحدة مع الرئيس جمال عبد الناصر على حل القضية خلال عشر سنوات مقابل ثلاثة آلاف مليون دولار تدفع لمصر وسورية والأردن ولبنان مقابل توطين اللاجئين من فلسطين.

وفجأة وبدون سابق إنذار، هبت الصحف المصرية الخاضعة لإشراف الحكومة تشن حملة قاسية ضد الهيئة العربية العليا ورجالها، وتعرضهم لاتهامات باطلة وافتراءات كاذبة جزاء تنبيههم الفلسطينيين والرأي العام العربي لذلك الاتفاق الذي تم بين عبد الناصر وهيئة الأمم المتحدة، مما اضطر المفتي ورجاله مغادرة القاهرة إلى لبنان عام 1959.

استأنف المفتي نشاطه في سبيل فلسطين من العاصمة اللبنانية، وظل ينبه الزعماء العرب إلى الخطر الصهيوني والمطامع اليهودية التي ستتعدى فلسطين إلى الأقطار المجاورة، ومد نشاطه إلى الدائرة الإسلامية حيث كان يرأس مؤتمرات إسلامية في مكة المكرمة، نشأت عنها مؤسسة دائمة باسم (مؤتمر العالم الإسلامي) برئاسته، وظل يشغل هذا المنصب طيلة حياته، إلى أن توفي ـ رحمه الله ـ في بيروت يوم الخميس 4/7/1974 ودفن في مقبرة الشهداء بالحرج.

عقبت الصحف البريطانية على وفاة الحاج المفتي أمين الحسيني ـ رحمه الله ـ بهذه الكلمات (مات عدو الصهيونية والإمبراطورية البريطانية).

المراجع:

ـ كتاب (الحاج أمين الحسيني، رائد جهاد)، للكاتب حسني أدهم جرار.