الصفحة الرئيسية » كتب للقراءة والتحميل » العقل والغيب » خوض العقل فيما وراء طاقاته عبث

خوض العقل فيما وراء طاقاته عبث

العقل والغيب

أ. د. محمد حسن هيتو

فمن أكبر العبث أن نخوض فى حقيقة ما أعد لنا مما عرفنا اسمه ، وأن نحكم عليه كما نحكم على نظيره فى الدنيا ، لمشابهته له بالاسم ، وذلك لمخالفته له فى الحقيقة .

وبناء على هذا يجب علينا أن نؤمن بالأمور الغيبية التى ذكرها الشارع الحكيم ، على النحو الذى ذكرها فيه ، سواء أوافق عقولنا أم لم يوافقها .

وليس هذا تعطيلاً للعقل كما ذكرت سابقاً ، وإنما هو تكريم له عن التناقض والفشل ، بالخوض فيما هو خارج عن دائرته ونطاق إدراكه .

الإيمان بالله يستلزم الإيمان بما أخبر به :

لقد ذكرنا قبل قليل أن الإيمان بالله يستلزم الإيمان بصفاته من القدم والوحدانيه ، والأبدية ، وغير ذلك .

وكذلك يستلزم الإيمان بالله الإيمان بكل ما أخبر عنه تعالى . فى كتابه الكريم ، أو سنة نبيه عليه أفضل الصلاة والتسليم .

فنؤمن مثلاً بحياة البرزخ وهى حياة الإنسان فى قبره ، حياة مغايرة لحياتنا الدنيا ، وللحياة الآخرة ، وأن القبر فى الحياة إما أن يكون روضة من رياض الجنة وإما أن يكون حفرة من حفر النار ، كما ورد ذلك الخبر عن النبى المعصوم r ، وإن كنا لا نرى نضارة الجنان ، ولا حرارة النيران حينما نفتح القبور ، ولا نرى جسداً حياً ، وإنما جثة متفسخة ، أو عظماً بالياً .

وإنما آمنا بما آمنا به من حياة البرزخ ، إيماناً منا بالغيب الذى أخبرنا عنه الشرع ، وأمرنا بالإيمان به .

ليس كل ما آمن به العقل جربه :

ولا يضرن فى هذا الإيمان أننا لم نتمكن من إخضاعه للتجربة والبحث ، لأنه فوق طاقاتنا ، وإمكانياتنا ، وقوانا التى نتمتع بها ، فإذا ما أردنا الخوض فى حقيقة هذه الحياة ، بهذه الطاقات ، دخلنا فى متاهات لا يمكننا أن نخرج منها ، ووقعنا فى متناقضات يجب أن ننأى عنها ، وكل ما يمكننا أن نذكره عن هذه الحياة إنما هو ضرب من الخيال ، قد يخرج إلينا تصور هذه الحياة تصوراً تقليدياً بسيطاً ساذجاً ، ولكنه لا يمكننا أبداً من أن نصل إلى حقيقتها .

الروح حقيقة آمن بها العقل ولم يجربها :

وإذا كان الإنسان قد آمن بأهم حقائق الحياة ألا وهى الروح فى حياته الدنيا، دون أن يراها ، أو يخضعها للبحث والتجربة ، فأن يؤمن بأبسط مبادئ الحياة ألا وهى حياة البرزخ ، فى بداية النقلة إلى الحياة الآخرة ، من باب أولى .

لقد آمن الإنسان فى جميع الأديان ، والمبادئ ، والملل ، والنحل بالروح ، وحاول الخوض فيها ، والبحث عنها ، ولقد جمحت النشوة فى بداية الثورة العلمية الحديثة بفلسفتها القائمة على عدم الإيمان إلا بما يمكن مشاهدته وتجربته ، لقد جمحت هذه النشوة ببعض العلماء الماديين على انكار الروح ، بأنهم لم يتمكنوا من معاينتها وتجربتها ، ولا هذه النشوى ما لبثت أن تبخرت وتلاشت حينما اصطدم أولئك العلماء الماديون التجريبيون بآلاف الحقائق العلمية التى آمنوا بها وبوجودها، بناءً على وجود آثارها فى الكون والحياة ، إلا أنهم لم يتمكنوا من معاينتها أو تجربتها وآل الأمر فى النهاية إلى أن سادة فكرة الروح فى أكثر الأوساط العلمية التى أنكرتها ، حتى أصبحت اليوم من أهم حقائق الحياة فى ميدان العلوم .

ولكن ما هى حقيقة الروح ، ما لونها ، ما طولها ، ما عرضها ، ما وزنها، كيف تدب فينا ، وتخرج منا ، كيف تسرى ببعضنا فى ملكوت الله أثناء الموت ، وتكشف لبعضنا عن بعض الغيب الذى يطلعها الله عليه ، إن كل ما وصلنا إليه من العلوم ، والمعارف ، والمخترعات ، وكل ما كشفناه من أسرار الكون فى أغوار الفضاء ، وأعماق المحيطات ، وباطن الأرض ، وكل ما عرفناه من أسرار الحياة فى أبسط الكائنات الحية ، كالأميبيبا ، وأكثرها تعقيداً كالإنسان ، لم يزد على أنه قال ما قاله الأقدمون منذ آلاف السنين عن الروح .. لقد قال الجميع أنها الروح ، فمن هذه الكلمة انطلقوا وإليها انتهوا ، لم يعرف الإنسان حقيقتها ، بل لم يقترب منها ، على أنه يؤمن بها ، على أنها أهم حقيقة من حقائق الحياة .