الصفحة الرئيسية » كتب للقراءة والتحميل » المتفيهقون » خطر تلقِّى العلم عن كتاب دون معلم / وعناوين أخرى….

خطر تلقِّى العلم عن كتاب دون معلم / وعناوين أخرى….

المتفيهقون

أ. د. محمد حسن هيتو

خطر تلقي العلم عن كتاب دون معلم

إن من أعظم آفات الجهل أنه يوحي إلى صاحبه أنه عالم، بل يوحي إليه أنه من أكبر عباقرة الكون، فبتخيل أنه يتكلم بكلام العلماء، وأنه يلحن لحنهم وأن ما يقوله هو الحكمة، وما يسطره هو القانون فيتكلم ويسكت العلماء عنه . . . خشية من أن يصيبهم رُشاشُ جهله.

وهنا يعمل الغرور عنده عمله ، فيجتمع عليه الجهل مع الغرور ، ويوحيان إليه أنهم ما سكتوا عنه إلاَّ لإفحامه إياهم ، وأنه الآن سلطانهم وموجههم ولا سلطان عليه ، إذا شب عقله عن الطوق .

فيهذي بما يظنه علماً وحكمهَ ، ولا يزال يهذي ، حتى تفوح رائحة جهله ، ويضطرب أمره ، بما يكشفه الله من عواره ، ويفضحه من أباطيله ، وإذا به أمام مرآة الحقيقة عارياً ، يستغفر الله _ إن عاد إليه عقله _ مما كان يظنه تسبيحاً .

وإني لأذكر غرور من ذكرت ، ممن وصفت ، فأذكر قصة ” كفر الذبابة” التي صاغها أدب معجزة الأدب العربي ، مصطفى صادق الرافعي ، في كتابه ” وحي القلم ” وأتساءل ما الذي يغير العلماء من سفه الجهلاء، فيجيبني ” سقط الزند ” على لسان حكيم المعرة:

إذا وصف الطائي بالبخل ما در وعيَّرَ قِسَّاً بالفهـاهـة بـاقـل

وقال السها للشمس : أنت ضئيلة وقال الدجى : يا صبح لونك حائل

وفاخرت الأرض السماء سفاهة وطاولت النجم الحصى والجنـادل

فيا موت زُرْ ، إن الحياة ذميمة ويا نفس جدي ، إن دهرك هازل

لقد أخبرني شيخي أثناء طلبي للعلم في الأزهر ، أنه قرأ يوماً أثناء طلبه للعلم في كتاب المعاملات من الفقه ما نصه : ” ويحرم بيع برَمْبَلولٍ ببَرَمْبلول ” .

قال : فاستعصى علي فهم هذه الكلمة ، فنظرت في الشروح فلم أجد أحداً من العلماء قد شرحها أو علق عليها ، ونظرت في الحواشي ، فلم أجد من بيَّنها أو أوضحها ، وكدت أتهم المتون ، والشروح ، والحواشي والتقريرات ، بالعجز والقصور، لأنها ضاقت عن أن تشرح هذه العبارة، أو أتهم المؤلف بالخطأ .

ثم رأيت أن أتهم عقلي قبل اتهامها ، لأنه لو كان الخطأ في العبارة من المؤلف لتنبه له واحد على الأقل من العشرات الذين شرحوا الكتاب أو علقوا عليه ، فمن المحال أن يكون الجميع قد اتفقوا على هذا الخطأ ، ولا بد أن الخطأ في عقلي وفهمي .

قال فرجعت إلى شيخي أسأله عنها ، فقال لي : يا بني . ما أخذ أحد العلم من الكتاب – دون معلم – إلاَّ ضل، فلابد من المعلم، ليشرح الغامض، ويقيد المطلق، ويفصل المجمل، ويبين المراد من الاصطلاح، ولو كان الكتاب وحده ينفع ، دون احتياج لمعلم يشرح ، لما أرسل الله مع كل كتاب رسولاً يشرحه ، ويبينه ، ويبلغه ، ولَمَا أخذ الله العهد من الذين أوتوا الكتاب أن يبينوه للناس ، ولَمَا ألجمَ الله كاتم العلم بلجام من نار ، وكتب العلم متوفرة للقاصي والداني .

ثم قال لي : يا بني… إن الصواب العبارة ” ويحرُمُ بيعُ بُرِّمَبْلول بِبُرِّ مبلول “.

والأمر لا يحتاج لمعاجم وقواميس، وشروح وحواشي وإنما يحتاج لتواضع كتواضعك إذ سألتني.

قال لي شيخي، فوا لله يا بني ما نسيت منذ ذلك اليوم حكمة الشيخ، وذكرت قول الشافعي (( ما ضُحِكَ من خطأ امرئ قط إلاَّ وثبت صوابه في قلبه )).

ولقد عرفت أن مراد شيخي فيما قص علي منى هذه القصة الواقعية – عرفتُ أنه – إنما أراد أن يعلمني كيف يجب أن يكون سلوكي في تلقي العلوم لأصل بالصواب إلى غايتها. . .

ولقد ابتلي المسلمون اليوم ، زيادة عما هم فيه من البلاء ، وفي هذا العصر الذي قبض فيه العلم بقبض العلماء ، وفشا فيه الجهل ، ابتُلوا بصنف من الناس ، أخذوا بعض العلم من الكتب ، دون الرجوع إلى المعلم والمرشد ، ففهموا النصوص خطأ ، وأولوها على هواهم جهلاً ، وليتهم سألوا إذ لم يعلموا ، فإنما شفاء العِيِّ السؤال ، ولكنهم أوغلوا في أوهامهم ، وجعلوا بلبلة العقول أكبر همهم ، بما أتوا به من عظائم الأمور التي أوحى بها جهلهم،زاعمين أنها هي الشرع الذي لا يجوز العدول عنه، ولا الابتعاد منه،رغم أنها الباطل، لمخالفتها لسيرة هذه الأمة منذ أن بعث الله نبينا محمد إلى يومها هذا ، وستبقى كذلك إن شاء الله ، لا تغير مسيرتها الأهوال ، ولا توقف مدها الأوهام ، إذ ضَمِنَ الله بقاءها ، وأخبر رسوله عليه أفضل الصلاة والسلام باستمرارها ، لا يضرها من خذلها حتى يأتي أمر الله .

صور من التصحيف

بسبب تلقي العلم عن الكتاب دون معلم

لقد كان الناس في الماضي يتندرون بما وقع من تصحيف، وتحريف ،وسوء فهم لمن أخذ العلم من الكتاب ،دون وجود المعلم أو المرشد ، مما صار حكاية أو طرفة يُتَنَدَّرُ بها في مجالس العلم ، وفي نفس الوقت تكون حكمة ، يُتَوخى بها التأكيد على التلقي السليم للعلم ، بالطرق السليمة .

ولقد دون أصحاب الحواشي الكثير من هذه النوادر في حواشيهم على الكتب، لما ذكرنا من الحكمة، وللترفيه عن طالب العلم إذا دقت المسألة، واحتدم حولها النقاش، واشتد النزاع.

فطالما قرأنا وسمعنا عن الذي حَرَّف قوله r : (( المؤمن كيِّسٌ فَطِنٌ )) ونقله بقوله: (( المؤمنُ كيسُ قُطن ))

وقرأ بعضهم قول الفقهاء عن صفة القبر ، وأنه يستحب أن يسوىَّ اللَّبِِنُ تحته ، فلما حضر دفن أحد الموتى ، أحضر معه قدر لبنٍ وأراقه في القبر ، فلما قيل له في هذا ، قال : لقد قرأت هذا في الكتاب ، وأنه يندب أن يسوى الَلَّبَنُ في القبر قبل الدفن … وليبرهن على صدق كلامه ، أحضر الكتاب ، فكان البرهان على سوء فهمه .

وقرأ بعضهم قول النبي r : ((إذا سمعتم النداء إلى الصلاة، فلا تأتوها وأنتم تَسْعَون، ولكن ائتوها بِسَكِيْنَةٍ ووقار )).

والكتابة في الماضي لم تكن منقطة كالكتابة في الوقت الحاضر، ولم يكن قد تلقى الحديث عن الشيوخ، وإنما بفهمه وهمته، فقرأه: (( ولكن ائتوها بِسَكِّيْنَةٍ وفار )) فوضع في جيبه سكينة وفأراً وذهب بهما إلى المسجد…

والنوادر من هذا القبيل كثيرة جداً ، يمكن أن يصنف فيها كتاب كامل ، يكون حافلاً بعجائب مما يمكن للجهل أن يظهره ويفعله ، وللعقل أن يقف عليه ويتأمله ، ليرى من خلاله أثر نعمة الله على عباده بنعمة العقل ، ونعمة الهداية بتثقيفه بالطريق السليم للعلم والثقافة .

وأنا لا أريد الاستطراد بضرب الأمثلة من هذا النوع، فحسبي ما ذكرت للوصول إلى ما أريد أن أقوله، أو أردت.

ولكني قبل أن أقول ما أريد قوله أحب أن أستدرك على ما قلت مما يمكن أن يقال: من أن التصحيف ، والتحريف ، وسوء الفهم كما يقع للجاهل، يمن أن يقع للعالم ، ولا يكون سبباً للذم.

تصحيف العالِم والفرق بينه وبين تصحيف الجاهل

فها هو الجاحظ شيخ شيوخ العربية وآدابها، وإمام أئمتها وإمامها، يقرأ قول مالك بن أسماءَ بن خارجة :

وحـديـثٍ أَلَـذُّه وهـو ممـا ينعَـتُ النـاعتـون يـوزنُ وزنـا

منطـقٌ صـائبٌ وتلحنُ أحيـا ناً وخيـرُ الحـديـثِ ما كـان لحنا

ويفسرُ اللحن بأنه الخطأ في الإعراب، وإن من جملة محاسن المرأة أن تلحن في منطقها لحن الخلل بقواعد العربية ، إذ ذهب في البيتين على أنهما سيقا لمدحها بهذا .

وتنوقل عنه هذا الفهمُ والشرحُ ثم استدرك على نفس ، وانكشف له خطؤه فيما ذهب إليه من المعنى بزوال الغشاوة التي غطت على عقله في ذلك الوقت، لتبرهن له على الفرق بين المخلوق الذي له طاقات محدودة، يحيط بها العجز، ويتطرق إليها الخطأ، ويعتريها النسيان، وما شابه هذا من العيوب، والخالقِ الذي لا يتطرق الخلل ، في أبسط مادة من مواده، إلى كلامه، فلا يأتيه الباطل من بين يديه ، ولا من خلفه، وبهذا يعرف حقيقته، حتى لا يُغَرَّ بها، ويذهب بها مذهباً لا يليق بها، من تصور الإلهام والعصمة لها، وليفهم من جديد معنى قوله تعالى: ]وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا [ ]النساء/82[

وذلك أن مراد الشاعر باللحن في شعره هو اللحن الذي يراد به الكلام الإشاري، كالتورية عند علماء البلاغة، يقول الإنسان كلاماً له معنى ظاهرٌ، إلاَّ أن المتكلم يريد له معنى آخر غير هذا الظاهر، فيقال : لحن بقوله، إذا فعل مثل هذا ، ومنه قوله تعالى : ]فَلَعَرَفْتَهُم بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ ]محمد/30[

ومعنى ما قاله الشاعر : أن هذه المرأة تتكلم في بعض الأحيان كلاماً له معنى يختلف عن معناه الظاهر، لا يفهمه عنها إلاَّ من فطِن لمرادها ممن له صلة بها، فهي تلحن في منطقها لحن الإشارة والتعريض، لا لحن الإعراب، وخير الحديث في مثل هذه الحالة ما كان لحناً، لأنها تشير إلى ما تريد من مخاطبها بما لا يفهمه عنها أحد سواه .

فقيل للجاحظ: هلا تداركت هذا يا أبا عمرو.. فقال أنى وقد سارت به الركبان…(1)

وأقول : نعم، قد يقع مثل هذا لكثير من العظماء والكبار، إلاَّ أن الفرق بين وقوعه من مفكر، عبقري ، عظيم، أو إمام متقن جليل، وبين وقوعه من جاهل، أن وقوعه من الأول نادر، لا يتصور منه، ولذلك يصير نادرة ومثلاً، بينما وقوعه من الثاني، بل لا يتصور منه غيره .

وأن الأول إذا اجتهد فأخطأ ، فله أجر واحد على الاجتهاد، لأنه أهل له، والثاني ، إذا اجتهد فأصاب، فإنه يعاقب، لأنه ليس من أهل الاجتهاد، وإصابته خطأ من أخطائه، ورب رمية من غير رام.

وأن الأول يمتدح من هذا الخطأ:

فمن ذا الذي تحمد سجاياه كلها كفى المرء نبلاً أن تعد معايبه

وأما الثاني فإنه يذم بذاك الخطأ، ويقال له:

إذا لم تستطع شيئاً فدعه وجاوزه إلى ما تستطيع

وقد ذكر الأدباء هذا المثال عن الجاحظ للدلالة على علو قدره، بأنه ما يفوته شيء من كلام العرب . فكيف فاته هذا، وللدلالة على تواضعه، وذلك أنه أدرك خطأه، وندم عليه، ونبَّه الناس له

بينما يسوقون ما يصدر عن الجهال لبيان مدى ما يمكن للجهل أن يفعله بصاحبه فهم لا يذمون الجاهل على أنه أخطأ، فالخطأ منة طبيعته، بل من طبائع البشر، وإنما يذمونه على إصراره على جهله، وتصويره له على أنه الحق الذي يجب أن يتبع، كما يذمونه على الخوض فيما ليس هو أهلاً له، إذ من خاض في فن غير فنه أتى بالعجائب.

تصحيف طلاب العلم

وكما أن الخطأ قد يقع من العالم، فيغتفر له، ولا يعاب عليه، بل ربما قيل فيه: ” كفى المرء نبلاً أن تعد معايبه ” لأن الخطأ من لوازم البشر، كذلك قد يقع الخطأ من طالب العلم، فيصحف، ويحرف، ويصحح له الأستاذ، أو المرشد، ولا يعيب عليه أيضاً ، فشيء طبيعي في الطالب أن يقع في مثل هذا أثناء الطلب، وهو حينما جاء إلى الأستاذ أو المرشد، إنما جاء ليتعلم، ويخرجَ عما قد يقع فيه من مثل تلك الأخطاء، وإنما كان المعلم معلماً لأنه يعلمُ ويرشدُ ويدل على الصواب والخطأ .

لقد كان أحد الطلاب العلم يقرأ عندي الفقه، وكان يقرأ في مباحث الصلاة، فوصل إلى قول المؤلف: ” ويندب سَدَّ فُرْجَة في الصفِّ ” أي يندب للمصلي إذا وجد فرجة أي مكاناً خالياً في الصف أمامه أن يسدها، حتى يكون الصف متكاملاً متراصاً، إلا أن كلمة الفرجة كانت بدون نقط فوق التاء المربوطة، فتصحفت الكلمة عليه، وقرأها: ” ويندب سَدَّ فَرْجِِهِ في الصف ” .

فقلت له لأتأكد من سمعي لما سمعت: وما المراد بسد الفرج؟

قال: أن يسد فرجه

قلت: وبم يسده ؟

قال: بشيء من الورق أو القطن .

قلت: ولم يسده ؟

قال: حتى يتأكد من الطهارة، وعدم نزول شيء من البول في ثيابه.

فضحك كل من في المجلس لهذا التصحيف القبيح، إلا أنه رغم هذا لا يعاب على الطالب أن يقع في مثل هذا ـ كما ذكرت ـ لأنه مقر بالخطأ، راغب في تصحيحه، وقد سلك إلى ذلك الطريق السليم بالتلقي عن الأستاذ والمرشد، فلا حرج عليه، فيما قد يقع منه، لأن أستاذه سيصححه له .

فلما صححت للطالب العبارة، وعرف الحقيقة، استرجع واستغفر، وزاد حرصاً على طلب العلم، حتى لا يقع ثانية في مثل هذا الخطأ.

ولكن الأمر المعيب في الجاهل، أن يأخذ العلم من الكتاب، دون وجود المعلم، ويفهَمَهُ كما يزينه له جهله، وفوق هذا كله يريد أن يجعله دستور الحياة، والفهم القويم للدين، من تبعه رشد، ومن أعرض عنه غوى، وهنا تكون الطامة، ويكون ما يأتي به من التصحيف، والتحريف، والفهم الخطأ فاكهة المجالس، وأقل ما يناله ممن عرف الحقيقة من أهل العلم الذم، وهنا يقال فيه: من خاض في فن غير فنه أتى بالعجائب.

* * *

آثار الجرأة على الفتوى والاجتهاد بغير علم

إن كلمة الاجتهاد كلمة براقة، تستهوي العقول، وتستمل النفوس، وما من امرئ إلا ويتمنى الوصول إليها، والتحلي بها، فهي ذروة ما يصل إليه الإنسان في علوم الشرع من الكمال، ونهاية ما يبدع به العقل من الإتقان.

ولقد قدر سلفنا رضوان الله عليهم هذه الكلمة حق قدرها، فوضعوا لها الحدود، ورسموا لها الضوابط، وفهموا معناها الحقيقي الذي يستفاد منها، فما كان يدعيها إلا من هو أهل لها، إذا كانوا يدركون معنى اقتحام لجج الفتوى، وخطر في غمارها، بإدراكهم أن الجرأة على الفتوى جرأة علي النار .

فحرصوا علي الإتباع، دون الابتداع، والنَّصَفَةِ من النفس والهوى، إلاَّ أن هذه الكلمة برقت في عصرنا بريقاً لم تبرقه في يوم من الأيام، ولكنها في نفس الوقت، فقدت معناها فقداناً لم تفقده في يوم من الأيام، على قلة ما عندنا من العلم، وكثرة ما كان عند سلفنا منه، وهكذا يستسيغ الجاهل الكلام .

لأنه إن أخذ الكلمة بمعناها الحقيقي ثقلت في سمعه، ومن ثم ثقلت في عقله، ومن ثم لفْظِها، لأن أخلاط فكره لم تستطع التفاعل معها، كما يأبى الجسد المريض شربة العسل .

نعم…. لقد برقت هذه الكلمة في عصرنا، وصار يدعيها كل غِرٍّ جاهل، وكل مغالط مخادع.

حتى وصل الأمر في دعواها إلى أن ادعاها من لا صلة له بعلوم الشرع من قريب أو بعيد، بل ربما ادعاها بعض من لا خلاق له.

ونحن لا ننكر على من لم يدرس علوم الشرع أن يصير مجتهداً بعد أن يتعلم، فالعلم بالتعلم، وفضل الله واسع يؤتيه من يشاء، ولكننا ننكر عليه أن يكون مجتهداً قبل أن يصل إلى رتبة الاجتهاد في العلم

فمن تطبب بغير طب فقد برئت منه ذمة الإسلام، ومن قال في الدين برأيه وبما لا يعلم فقد أعظم الفرية علي دين الله، فليتبوأ مقعده من النار.

إننا لا ندعي غلق باب الاجتهاد، ولا نريد أن نمنع الناس منه، ولكننا نريد أن نقول للناس: قبل أن تجتهدوا تعلموا.

فليس الاجتهاد بالتحلي، ولا بالتمني، ولكنه ببلوغ درجة معينة من العلم يستطيع المرء بواسطتها أن يستنبط الأحكام الشرعية من أدلتها.

ولقد كان العلماء في الماضي يبلغون الدرجة العليا في حفظ القرآن، والسنة، ولغة العرب، ويتقنون الفقه وأصوله، وما كان الواحد منهم يدعي الاجتهاد .

فلو درسنا سيرة حفاظ الأمة جميعاً، لوجدناهم متمذهبين بمذاهب الأئمة المتقدمين من أصحاب السنن، إلى الدارمي، والدارقطني، والحاكم، والبهيقي، وابن عساكر،وابن الصلاح، والعز بن عبد السلام، والنووي، والذهبي، والمزي، والعراقي، وابن حج، والسيوطي، وغيرهم ممن لا سبيل إلى حصرهم.

فما بال المغمورين الذين يدعون هذه المنزلة العالية الرفيعة، وماذا نقول إذ ما قرناهم بمن ذكرنا ومن لم نذكر، ممن كان الوجود يتشرفُ بهم.

إن الناظر في الساحة وفيما يتردد فيها ممن يدعون الاجتهاد وهم لما يصلوا بعد إلى أولى درجات طالب العلم يجد أمراً عجباً، لولا أن الإنسان يسمعه بإذنه،ويراه بعينه، لأنكر نقله، لأنه مما لا يصدق.

ومن سلك هذا المسلك يكون أحد رجلين :

الأول:

رجل يريد أن يتعلم، إلا أنه لم يجد المعلم، فنظر في الكتب، وأخذ منها ما توصل إليه بفهمه، ووقع منه ما ذكرنا من التصحيف، والفهم الخاطئ، إلا أنه معترف بعجزه، مقر بأنه لم يفهم الفهم السليم، يبحث عن المعلم ليتلقى عنه، كمن يسلم في ديار الغرب اليوم، أو في البلاد التي شح فيها العلماء أو انقرضوا، وهذا أيضا يغتفر له ما يصدر منه، أو يقع فيه، مما ذكرنا ريثما يصل إلى المعلم.

أما الثاني:

فهو رجل يعيش في ديار المسلمين، بين ظهراني العلماء، ولكنه مع هذا أعرض عنهم، وأخذ يعبث بنصوص الشريعة، يزعم أنه يجتهد فيها، فيحل حرام الله، ويحرم حلاله، وأخذ يجهل زيداً، ويفسق عمراً، ويكفر بكراً، ويعيث في الأرض الفساد .

ويزيد فوق هذا كلِّه أنه يجعل هذا الباطل الذي هو عليه منهجاً، يدعو إليه، ويحث عليه، وهو لا أقول: إنه لم يصل لدرجة الاجتهاد،بل أقول:إنه لم يصل لدرجة إتقان القراءة للنصوص قراءة صحيحة.

فهو يجوز لمثل هذا أن يعبث بنصوص الشريعة بدعوى الاجتهاد ؟

اللهم ـ وبلسان كل عالم من علماء المسلمين ـ أقول: لا .

وإلاَّ فما الفرق بين العالم والجاهل. ولم قال تعالى: ]وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ [ ]النساء/83[ ولم قال الله تعالى: ]فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ [ ]النحل/43[

ولم قال رسول الله r : ” العلماءُ ورثة الأنبياء ” .

وإذا كان يجوز لكل أحد أن يجتهد فلماذا دعا رسول الله r على الذين أمروا صاحبهم بالاغتسال وهو جريح، فاغتسل، فمات، لماذا دعا عليهم وقال: ” قتلوه قتلهم الله، هلا سألوا إذ لم يعلموا، فإنما شفاء العِيِّ السؤال” .

ولماذا كان سلف الأمة رضوان الله عليهم وخلفها يضربون أكباد الإبل، ويسيحون في مشارق الأرض ومغاربها بحثاً عن العلماء ؟

ولماذا كان خلف الأمة تبعاً لسلفها يحثون على الحيطة في تلقي العلم، ويحذرون من التلقي عن كل أحد إلاَّ من كان موثوقاً بعلمه…؟

إنه من أجل أن يستمر المنهج السليم في التلقين والتلقي، خشية من الانحراف والخلل، والتصحيف والزلل، فالخطأ في الدين ليس كالخطأ في غيره، ولذلك قال r : ” أجرؤكم على الفتيا أجرؤكم على النار” .

وجعل العلم مختصاً بأهله، ممن هو قادر على فهمه وصيانته فقال r :” يحمل هذا العلم من كلِّ خَلَفٍ عدوله، ينفون عنه تحريف الضالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين “.

التحذير من الجرأة على الفتوى بغير علم

إن مما يترتب على الخطأ في الفتوى بغير علم أن يحمل المفتي وزر خطئه، ووزر من عمل به إلى يوم القيامة .

وقد حذر النبي r من هذه الظاهرة، مما يكون آخر الزمان، من انقراض العلم، وانتشار الجهل، والفتوى بغير علم فقال عليه الصلاة والسلام ” إن الله لا يقبض العلم انتزاعًا ينتزعه من صدور العلماء، ولكن يقبض العلماء، فبقبضهم يقبض العلم ، حتى إذا لم يبق عالماً ، اتخذ الناس رؤساء جهالاً، فأفتوا بغير علم ، فضلُّوا وأضلُّوا ”

* * *

عجائـب الفتــوى

وإني سأذكر هنا بعض هذه الفتاوى، مما افترى به المتفيهقون في هذا العصر، لنرى مدى ما أودت إليه الدعوة العامة إلى الاجتهاد، سواء أكان الإنسان عالماً أم جاهلاً، بلغ رتبة الاجتهاد أم لم يبلغها، مما جعل الناس شيعاً وأحزاباً، يضلل بعضهم بعضاً، ويفسق بعضهم بعضاً، بل يكفر بعضهم بعضاً، بجهل ما رأى بصيص العلم، وحمق ما لمسته يد الرشاد .

وقد غلا بعضهم في دعوته هذه فقال لمن تبق منهم: إنه يستطيع أن يجعلهم مجتهدين بجلسة واحدة، وبنصف ساعة……

فقلت: هذا تفاعل كيماوي، وليس ببرنامج علمي، لأنه لا العقل القديم، ولا العقل الحديث يؤمن بهذا، إلاَّ إن كان القائل قد أوتي المعجزة، وأصبحت كفه ككف عيسي عليه السلام تبرئ الأكمة والأبرص، وتحيي الموتى بإذن الله .

ولعل إحياء الموتى أقرب في مجوًّزات العقول من أن يصبح الإنسان عالماً مجتهداً بثلاثين دقيقة، لأن العقل البشري يفكر في إحياء الموتى، ويهجم عليه، ولكنه ما فكر بعد في أن يجعل الإنسان عالماً بدقائق.

وقال آخر: إن الإنسان يكفيه ليصير مجتهداً أن يحوز سنن أبي داوود في الحديث، ومختار الصِّحاح في اللغة .

وأنا أريد أن أرشده إلى كتاب أقرب إلى الغاية من مختار الصحاح، ألا وهو المصباح المنير للفيومي، أو الزاهر للأزهري، فإنهما معجمان فقهيان، ولعلهما أمس بالمقصود من المختار، ولا يكبرانه حجماً، ولا أريد أن أرشده إلى القاموس ، أو الصحاح ، أو تهذيب اللغة ، أو المحكم ، أو العباب ، أو لسان العرب ، أو تاج العروس ، أو ما شابه هذه الكتب الواسعة ، لأن الإحاطة بهذه الكتب يحتاج لأكثر من نصف ساعة ؟!

ومما بنوه على هذه القواعد الأصولية المحكمة عندهم أن وصل بعضهم باجتهاده المتقن إلى أن قال:

1 – إن أكل السكر حرام، ولذلك فهو يشرب الشاي بدون سكر، أو بسكر نبات.

2 – وقال بعضهم إن الدراسة في المدارس والجامعات حرام، لا لشيء، وإنما لأنه يوجد فيها جرس، ومدرس حليق.

3 – وقال بعضهم إن القول بأن الأرض تدور يتنافى مع العقيدة، وأن قائل هذا القول كافر، وقد كُفِّرت يوما ما بعد أن ألقيت محاضرة عامة في أحد المساجد، تعرضتُ فيها للكواكب وحركاتها وحركة الأرض، فقام أحد الأطفال المجتهدين وحكم بكفري، ولكنني لم أدر هل قرأ مختار الصحاح قبل أن يكفر أم لا… ؟!

4-وقال بعضهم: إن صلاة المغرب تقصر في السفر، ولعل السامع يظن أني أغالي في أقوالي هذه، إلاَّ أنها الحقيقة، وقد قصروا صلاة المغرب حقيقة فصلاها بعضهم ركعتين، فلما روجع في هذا، قـال: إنه مسافر، فقصر الصلاة.

5-وقد رأيت أحدهم يصلي العشاء بعد المغرب بساعة واحدة، صيفا شتاء، وقال لي: إنه على هذا منذ عدة سنوات، منذ أن وقف على الدليل، فقلت له: وما الدليل ؟

فقال : ” إنه قرأ في فقه اللغة ” للثعالبي أن العرب قسمت اليوم إلى أربع وعشرين ساعة، وعدت منها ساعة المغرب وساعة العشاء، فاجتهد فيما قرأ، فتوصل إلى أن الزمن بين المغرب والعشاء ساعة واحدة، ولذلك فهو يصلي العشاء بعد المغرب بساعة.

6- وقال بعضهم: إن حلق شعر الرأس، وإن كان عاماً لجميع الرأس حرام، لأنه تغيير لخلق الله، ما لم يكن في حج أو عمرة…؟!

7- وقال بعضهم : إن رفع اليدين في الدعاء حرام .. علماً بأنه قد ثبت في الصحيحين أنه رفع يديه في الدعاء … ؟

8- وقال بعضهم إن صلاة التراويح عشرين ركعة بدعة ، وحرام ، علماً بأنها مما أجمعت عليه الأمة قولاً وفعلاً ، منذ عهد الخليفة الراشد عمر بن الخطاب إلى يومنا هذا ، وصرح به كل من كتب في الفقه الإسلامي ، مما لا داعي للإطناب فيه وقد صار من بديهيات الدين ، وشعائره المعلومة منه بالضرورة .

9- ثم تمادى الأمر ببعضهم فقال: إن صلاة التراويح في المسجد وراء الإمام بدعة، ولا تجوز.

ولذلك امتنع بعضهم عن صلاتها في المساجد … ؟

10-قال بعضهم: إذا قال القارئ وراء قراءته صدق الله العظيم، فإن هذا القول بدعة وحرام.

وليته ذكر قوله تعالى: ]قُلْ صَدَقَ اللّه[ُ ]آل عمران/95[.

وقول رسول الله r للرجل الذي أمره أن يسقي ابن أخيه عسلا وقد استطلقت بطنه : ” صدق الله ، وكذب بطن ابن أخيك ” .

11- وقال بعضهم : إن أصول الفقه بدعة .

12- وقال بعضهم : إن التجويد بدعة .

13- وقال بعضهم : إن علم التوحيد بدعة .
14 – وقال بعضهم : إن الأذان الأول في الفجر بدعة وحرام .

15 – وقال بعضهم: إن قول المؤذن في صلاة الفجر ” الصلاة خير من النوم ” بدعة وحرام.

16- وقال بعضهم : إن التكبير الجماعي في المسجد يوم العيد حرام ، حتى إنه أصبح مما يلغز به بين الشباب ” ما أصول الشيء الذي إذا فعله الإنسان منفرداً دخل الجنة ، وإذا فعله مع الجماعة استوجب النار .. ؟ ” .

17- وقال بعضهم وهو ما لا يكاد يصدق : إن لعن الشيطان لا يجوز، ولما لعن أحد الحاضرين الشيطان أمامه، قال له : لا تلعنه ، فإن لعنه غير جائز، وعلل ذلك بأن الشيطان إذا لعن افتخر وسر ، ولذلك فإنه لا يجوز لعنه ، لأن لعنه يؤدي إلى سروره .

18- وإن من أعجب ما رأيت في أمور الإجهاد المعاصر، هو أنني رأيت في ألمانيا أحد المسلمين الجدد، فتحدثت معه عن الإسلام وعما قد قرأه منه وعنه، وعما قد قرأه من التشريع الإسلامي في كتبه ومصادره، فأخبرني بما لا أريد أن أعلق عليه وهو لا يعرف اللغة العربية بعد،أخبرني بأنه ليس بحاجة إلى دراسة الإسلام في مصادره الفقهية ، لأنه مجتهد … ؟!

أمـورٌ تضحـكُ السفهـاءُ منهـا ويبكـي مـن عـواقِبهـا الحليـمُ

وآخر ما أريد ذكره مجملاً ، من غير تعليق عليه ، من هذه العظائم ، في جرأة الجهلة على الفتوى ، مما أدى إلى تحريف الشرع أن صلَّى أحد الأئمة الظهر وقت المطر ، فجمع بين الظهر والعصر ، وِّهذا لا إشكال فيه – رغم ما يقع في هذا الجمع من أخطاء لم يقل بها عالم – إلا أن المفاجأة أنه لم يجمع فقط ، بل جمع وقصر فصلى الظهر ركعتين والعصر ركعتين . . . ؟

وبعد انتهاء الصلاة قام إليه المصلون وقالوا له : نحن لسنا مسافرين حتى تقصر لنا الصلاة ، فتنبه لخطئه ، إلاَّ أنه بدلا من أن يصححه بإعادة الصلاة ، بدلا من هذا زاد خطأه ضلالا وانحرافا ، وأتى بما لم يأت به موحد ، مما لو فعله الإنسان عالما عامداً لكفر .. فقال للمصلين :

نلصق ركعتي العصر إلى ركعتي الظهر . فيصير المجموع أربع ركعات، ونجعلها ظهراً… ؟ ثم صلىَّ بهم العصر أربعاً… ؟

فنقل إلي بعض المصلين هذه الصورة ، وبينت له أن هذا غير جائز ، وأنه يجب عليه وعلى المصلين إعادة الظهر والعصر ، فلما بلغ الإمامَ المجتهدَ ما قلتُه ، احتد وانفعل وكتب هذه الفتوى التي سأنقل هنا صورتها بخط يده ، وأحذف منها فقط توقيعه … فإن من وقائع الجهل المعاصر اليوم ما لا يكاد يصدق لولا أنه واقع. . .

* * *

بسم الله الرحمن الرحيم

وصلى الله على سيدنا محمد وآله الطيبين الطاهرين وبه نستعين

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

وبعد : أيها الأخ الكريم : في أحدى الأيام كانت السماء ممطرة ، فسألني أحد المصلين الجمع بين الظهر والعصر : فأجبته لذلك وصليت الظهر مع العصر جمع تقديم غير أنني سهوت فقصرت الظهر إلى ركعتين والعصر أيضا ركعتين فتقدم أحد المصلين فقال لما قصرت الصلاة الرباعية فقلت سهوت فاجعلوا ظهر : أي ركعتي الظهر وركعتي العصر ثم أقام المؤذن وصلينا العصر أربع وفعلت هذا استناداً إلى ما صح من هديه عليه الصلاة والسلام في مختصر زاد المعاد لابن الجوزي رحمه الله وما حققه زهير الشاويش في ص 30 – 31 ما نصه : وثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال إنما أنا بشر أنسى كما تنسون فإذا نسيت فذكروني وكان سهوه من تمام النعمة على أمته وإكمال دينه ليقتدوا به فقام من اثنتين في الرباعية فلما قضى صلاته سجد قبل السلام فأخذ منه أن من ترك شيئا من أجزاء الصلاة التي ليست بأركان سجد له قبل السلام وأخذ من بعض طرقه أنه إذا ترك ذلك وشرع في ركن لم يرجع . وسلم من ركعتين في إحدى صلاتي العشاء ثم تكلم ثم أتمها ثم سلم ثم سجد ثم سلم ، وصلى وسلم وانصرف وقد بقي من الصلاة ركعة فقال له طلحة نسيت ركعة فرجع فدخل المسجد فأمر بلالاً فأقام فصلى للناس ركعة ذكره احمد ،وصلى الظهر خمساً فقالوا صليت خمسا فسجد بعد ما سلم وصلى العصر ثلاثاً ثم دخل منزله فذكّره الناس فخرج فصلى بهم ركعة ثم سلم ثم سجد ثم سلم هذا مجموع ما حفظ عنه وهي خمسة مواضيع .

وأنا أقول فوق كل ذي علم عليم: ومن أجتهد فأصاب فله أجران ومن أخطأ فله أجر.

وأما ما بلغني من الأخ الناقل المسألة من قبلكم أن الصلاة باطلة أرجو إفادتي بذلك وجزآكم الله عنا خيرا

إمام مسجد المهنا بالنقرة

نحو جديد

(( وهو قوله تعالى ))

إن من حقائق الجهل التي لا يمترى فيها أن الجاهل يفهم الأمور معكوسة كعقله المعكوس ، فيتراءى له الحق باطلاً، والباطل حقاً، والصواب خطأ ، والخطأ صواباً، ولا تكون الحقائق عنده إلاَّ ما يرى ، ولذلك فلا لقاء بينه وبين كل من يرى على بصيرة ، بل لا لقاء بينه وبين الحقائق .

وما الحمق الذي يأنف الناس منه ، ويتنزهون عنه ، ويعيبون صاحبه – ما الحمق في كل معانيه إلاَّ صفة من صفات الجهل في بعض معانيه .

والجهل وإن كان ذماً للمرء ، وإزراء به ، ونقصاً له ، إلاَّ أنه لا يكون عيباً لصاحبه إذا كان صاحبه يعرف جهله ، ويستخزي به ، ويحاول التخلص منه ، بالتواضع للعلماء ، ومجالستهم ، والتقرب إليهم ، وملازمة مجالسهم ، ليمسح بعلمهم جهله ، ويكمل بفضلهم نقصه ، ويسمو بإرشاداتهم إلى صفهم ، بل ربما فاقهم ، وهو كلما ازداد علماً ازداد توضعاً وأدباً وحياء، ولكن قاصمة الظهر عند الجاهل الذي لا يعلم أنه جاهل ، بل يظن بجهله أنه أعلم علماء الأرض ، ولذلك تجده يترفع على العلماء لأنه يرى نفسه أعلم منهم ، فيحرمُ علمهم ، ويمنعُ إرشادهم وفضلهم ، ويسقطُ في حمأة الجهل ليصطبغ به ، وتفوحَ منه رائحته ، حتى ينفر منهم كل من عرفه .

ولذلك قال الشاعر :

وإن عَناءً أن تُعلمَ جاهلاً ويحسَبُ جهلاً أنه منك أعلمُ

كم قال أبو تمام :

إذا محاسِنِيَ الـلاّتي أُدِلُّ بها كانت ذنوبي، فقل لي كيف أَعتذرُ

عليَّ نحتُ القوافي من معادِنِها وما عليَّ لهم أن يفهم البقرُ

لقد لقيت يوماً أحد الجهلة المتعالمين ممن وصفت قد جلس إليه أحد نظرائه وأشباهه في خُلُقِه لا في الخلق، فكانا في تقابلهما ونظر أحدهما إلى الآخر كمن ينظر في المرآة، ولكن لا ليرى خَلْقه، بل ليرى خُُلُقَه.

فقال أحدهما للآخر : ” لقد مررت الآن بعبدَ الرحمن ” بفتح الدال ، وهنا انتفخ صاحبه وقال له : لقد لحنت ، وكان يجب أن تقول : بعبدِ الرحمن ، بالكسر ، لأن حرف الجر يعمل في الأسماء الجَرَّ، ثم قال له : إني أهتم بحروف الجر جداً ، ولذلك قرأت الآجرومية من أولًُُُها إلى أخرُها ( بضم اللام والراء ) ولم أحفظ إلاَّ حرف الجر . فذهل صاحبه من فصاحته وعوذه وبرك عليه .

لا أريد التعليق على هذه القصة التي سمعتها بأذني لأني لم أكن فيها أكثر من سامع سمع، فتعجبَ فانصرفَ، خشيةً من أن أُلَحَّنَ إن نطقت أو أُجهَل أن تكلمت، ولا معرفة لي بأحد المتكلمين.

ولكني أريد أن أذكر حكاية أعجب من هذه وأغرب كنتُ أحدَ عناصرها، كنت ألقي في كلية الشريعة محاضرة من محاضرتي في أصول الفقه، والطلاب الذين أمامي بعضهم جاء ليتعلم، فهم يعرفون حقيقتهم، ويقدرون مدرسهم لأنه يعلمهم، ويحرصون على كل فائدة، ويستفسرون عن كل خفية، وهؤلاء الذين يستفيدون منا، ويحملون عنا ما حملناه عن أساتذتنا وأسلافنا.

وهؤلاء هم الذين يُسََرُّ بهم المدرس، وهم الذين يحركون المحاضرة ويبثون فيها الحركة والحياة، ولذلك تجد المدرس بغير إرادة منه يقبل عليهم ويهتم بهم، ويحيطهم بعنايته، لما يرى فيهم من مظاهر الأدب، وأمارات النجابة .

وبعض الطلاب عندنا في كلية الشريعة فقط يأتي إلى الكلية وهو إمام مجتهد، قد بلغ الذروة العليا في علوم الشرع، بحيث لم يعد يقيم وزناً لأحد لا من السلف ولا من الخلف، وإن ذكر أمامه أحد من أئمة المسلمين كمالك أو الشافعي أو أحمد أو أبي حنيفة قال: هم رجال ونحن رجال، ومن ثم أعرض عنهم مستهزئاً أو كالمستهزئ بهم .

ومن كان هذا شأنه مع الأئمة فكيف يكون حاله معنا وما نحن إلاَّ جهلة بالنسبة لهم، وما مثلنا ومثلهم إلاَّ كقزم أمام عملاق كبير، إنه بالبداهة لا يقيم لنا وزناً، ولا يعترف لنا بفضل، وإذا فرض عليه نظام الجامعة أن يجلس على الكرسي أمامنا، فإنه يجلس مستعلياً منتفخاً، لا يكاد يحمله كرسي ولا غرفة صفه، وهو لم يجلس ليتعلم وإنما جلس ليراقب المدرس ماذا سيقول …..؟

وقد قلت عندنا في كلية الشريعة، لأن هذه الظاهرة لا ترى إلاَّ في بعض طلاب علوم الشريعة فقط لما ساد من فوضى دينية بفقد علوم الشرع، والابتعاد عنها، وقلة العلماء بها، وبفتنة الدعوة إلى نبذ آراء الأئمة ودعوة كل إنسان إلى الاجتهاد وهو لما يعرف القراءة بعد، ولما يتعلم تلاوة كتاب الله ـ وأما طلاب العلوم في الكليات الأخرى فإن الطالب يذهب ليتعلم ولذلك فإنه بحاجة إلى مدرسه ليعلمه، ولذلك يستحيل أن ترى في كلية الطب أو العلوم أو الهندسة طالباً يذهب إليها وهو يزعم أنه مجتهد بها، وأنه يقول عن عباقرتها والنابغين فيها من أساتذته وغيرهم هم رجال ونحن رجال…..

لقد كنت ألقي محاضرة في أصول الفقه، وكان أمامي أحد المتعالمين المجتهدين ممن وصفت حالهم، فطلب منه أن يقرأ أحد النصوص فقرأ، حتى وصل في وسط السطر الأول يقرأ منه إلى قول المؤلف ” وهو قولُهُ تعالى ” فقرأها بالكسر، ” وهو قولِهِ تعالى ” فقلت له يا بني هذه مرفوعة وليست مجرورة قل ” وهو قولُه تعالى”.

فما كان من ذلك الطالب ـ عفواً ـ الإمام المجتهد بزعمه إلا أن احمرت عيناه، وانتفخت أوداجه، وارتعدت فرائصه، وكأنه يستعد لمعركة أعطاه الله ألف عهد على أنه الرابح فيها حسبما سول له جهله، ونظر إلى مستعلياً وقال لي: لماذا لا يجوز أن تكون مجرورة؟ ألا يصح أن تكون بدلاً …؟

وكانت كلمته هذه صدمة عنيفة لتفكيري، لأني ما كنت أظن أنه يمكن أن يوجد فيمن ينطق بلغة العرب من عامتها من يصل إلى هذا المستوى من الجهل علاوة عن أن أظنه فيمن يزعمون أنهم من المجتهدين أو من طلاب العلم، وجال فكري في كلمة البدل التي أراد أن يجر بها المرفوع ، فما وجدت لها مخرجاً في لغة العرب إلاَّ أن تكون بدلاً من جهل جره غرور نيابة عن الحمق .

وهنا رأيت الصمت خيراً من الكلام، لأن في الطلاب بقيةً ممن ذاق طعم لغة العرب وعرف بعض مسالكها.

الكلب الأعور وصيغة جمعه

إن أهم ما يجب أن يقدم على علوم الشرع، مما يتوقف فهمها عليه ـ هو علوم اللغة العربية من النحو، والصرف، والبلاغة، ومتن اللغة، والأدب، وغير ذلك.

ولذلك سميت هذه العلوم، مع علم المنطق، وآداب البحث والمناظرة ـ سميت بعلوم الآلة.

وكانت الجامعات الإسلامية وغيرها من مواطن التدريس تهتم بهذه العلوم وتوليها العناية البالغة، لأن فهم الدين متوقف عليها، إذ تعبدنا الله بفهم كتابه وسنة نبيه بناء على قوانين وقواعد لغة العرب التي أنزل بها القرآن الكريم، وبأساليبها نطق نبينا العظيم، عليه أفضل الصلاة والسلام .

فمن لم يعرف لغة العرب لا يعرف الدين، ومن لم يفهمها ويتذوقها في قواعدها لن يفهم ولن يتذوق القرآن والسنَّة حتى يلج الجمل في سم الخياط.

وقد حدثنا أشياخنا عن طريقة التدريس في الأزهر قبل أن يطور ويدمر، أن الطالب كان لا يدخله إلاَّ وهو حافظ للقرآن في الكتاتيب، فإذا دخله قرأ في السنة الأولى من كتب النحو الآجرومية بأربعة شروح لها.

وفي السنة الثانية يقرأ قطر الندى .

وفي السنة الثالثة يقرأ شذور الذهب .

وفي السنة الرابعة يقرأ شرح ابن عقيل على ألفية ابن مالك ويحفظها كما يحفظ الفاتحة.

وفي السنة الخامسة والسادسة يقرأ شرح الأشموني على الألفية .

فإذا نجح في هذا، وانتهى منه شرع في السنة السابعة والثامنة بدراسة المطول على السعد في البلاغة.

وهكذا كان يدرس ويتدرج في الكتب في شتى العلوم .

وهذا يعني أن الطالب الذي قرأ هذه السلسلة المتتابعة، من الآجرومية إلى الأشموني ـ لا شك في أنه قد درس من قواعد لغة العرب ما يجعله في مصاف الأئمة الكبار فيها، ولا سيما أنه كان يتلقى هذه العلوم في الصغر في دراسته الابتدائية والثانوية .

ولذلك فقد وجدت في جيل الأساتذة الأزهريين الذين أدركوا تلك المرحلة الأزهرية من أساتذتي ـ وجدت فيهم أئمة في اللغة ولم أجد فيهم أساتذة كما يعرفُ الطلابُ اليوم في أساتذة الجامعات .

وهكذا كان يدرس الفقه، فكان الطالب يدرس أولاً حاشية الباجوري على ابن قاسم في الفقه الشافعي، ثم يدرس حاشية الشرقاوي على التحرير، ثم يدرس المنهج وشرحه لشيخ الإسلام زكريا الأنصاري، ثم يدرس المنهاج للإمام النووي بشرح الإمام جلال الدين المحلي الذي يعتبر الذروة في الدقة والإتقان والإحكام في الفقه .

وهذا كله في الدراسة الابتدائية والثانوية، فإذا ارتقى إلى الدراسة العالية، بدأ بدراسة الفقه الخلافي والأدلة ومناقشتها .

ولذلك كان يصل الطالب إلى الدراسة العالية بعد الثانوية وهو إمام في المذهب، لا يقل عن كبار أئمته المبرزين فيه.

ولقد درست الفقه على عدد من الأساتذة الذين كانوا يملون علينا منهاج النووي مع شرح المحلي إملاء عن ظهر قلب وهو يقع في أربعة مجلدات، مع التمكن التام في كل العلوم على ما ذكرت من النحو والفقه.

فأين نحن وأساتذة اليوم من هذا ….؟

لا أريد التعليق، لأني لم أسق هذه المقدمة لهذا الغرض، والنتيجة هي التعليق.

لقد حوربت لغة العرب من قبل أعداء الدين كما حورب الدين، وهم يدركون تماماً التلازم بين علوم الشرع واللغة .

وما زالت علوم الشرع تتردى، وتتردى معها علوم اللغة، إلى أن صار الأمر لدرجة أن الطالب يتخرج لا أقول من الثانوية، بل من الجامعة، وهو لا يستطيع أن يقرأ سطراً واحداً من لغة العرب قراءة صحيحة، لا لحن فيها.

وهذا ليس ظاهرة شاذة، بل هو الظاهرة العامة التي تكاد تكون مطردة، في كل طالب، ولو غلا المرء فقال: إنني لم أجد طالباً يعرف قواعد لغة العرب إلا من رحم ربك ـ كَتَحِلَّةِ القسم، لما أخطأ، لأنه هو الواقع .

بل الأمر أدهى من هذا وأمَر، فكثير من الطلاب لا يستطيع أن يقرأ القرآن قراءة صحيحة، علماً بأنه مشكل في كل حرف من حروفه.

بل صار الأمر في بعض الحالات إلى أن يُخَطأَ المدرسُ ويُلحَنَ في كثير مما ينطق به من الصواب، لأن الطالب لم يألفه .

بل زاد الأمر على هذا …. فقد تكلمت يوماً ما في الجامعة أمام طلاب الشريعة على جمع القلة والكثرة، وأن الأصوليين قد اختلفوا في أقل الجمع فيهما، فاختلفوا فيما ينبني عليهما، ولما كان الزمن لا يتسع لشرح صيغ جموع القلة والكثرة ، لأنه بحث صرفي أو نحوي محض من المفترض أن يكون قد درس قبل دراسة أصول الفقه، وتتميماً للفائدة طلبت من الطلاب أن يرجعوا لابن عقيل في شرحه على ألفية ابن مالك ليقفوا على صيغ جموع القلة والكثرة .

وفي اليوم الثاني جاءني أحد الأئمة المجتهدين من طلابنا ، وقد ذكرت قبل هذا أن بعض طلابنا من الأئمة المجتهدين وإن كان لا علم عنده، ولم يُجِدِ القراءة بعد، فالعلم شيء في موازنتهم والإمامة والاجتهاد شيء آخر، جاءني وهو يتذمر ويتضجر من ابن عقيل، ( ولا أدري إن كان قد اتهم ابن عقيل بالشرك أم لا ) ، وقال لي بصوت مرتفع أمام الطلاب يريد إفحامي، وربما إفحام ابن عقيل، بل سيبويه، قال: لقد ذكر ابن عقيل أن (( كلب ، صحيح العين ، يجمع على أكلب)).

قلت له : وما يضيرك من هذا الجمع ؟ قال : لم يذكر ابن عقيل كيف يجمع الكلب الأعور ، فما هو جمعه . . . ؟

فأفحمني ـ والله ـ فما كنت أدري، ولم أدر بعد علام يجمع الكلب الأعور، ولو كان سيبويه حياً لأفحمه، فما يفحم أولئك الأئمة إلا مثل هؤلاء الأئمة .

وعندها فهمت معنى قول الشافعي: ” ما جادلت عالماً إلا وغلبته، ولا جادلت جاهلاً إلا وغلبني “.

وأدركت السر الذي به ارتقي به مجتهدو العصر إلى درجة الاجتهاد والإمامة في دين الله .

وكما يسبح الناس حينما يدهشهم اختراع عظيم، أو تنظيم وتصميم بديع، أو صورة جمالية بارعة، سبحت الله على قدرته في خلق العقول المتباينة في العلم والجهل تباين النقيضين، وغبت عن عالم الحس ، في تفكير عميق، كيف استطاعت هذه العبقرية الاجتهادية المعاصرة أن تصوغ مثل هذا السؤال …؟؟!

* * *

من احتكر فهو خاطئ وتخطئة الشافعي

إنني ما زلت أتكلم علي إيحاءات الجهل حينما يستبد بالإنسان ، وكيف يصور لصاحبه الأمور حتى يورده موارد الهلاك .

وما مثل الجاهل في تصوره للأمور إلاَّ كمثل الطفل الصغير في تصوره لها والحكم عليها.

إلاَّ أن الصغير يكبر، ومن ثم يكبر عقله معه باطراد، وينقلب بالعلم إلى عبقري ومفكر، وما يزال يترقى في درجات العلم حتى يصير وارثاً للنبوة فالعلماء ورثة الأنبياء.

وأما الجاهل فالعلاقة بين عمره وعقله عكسية، فكلما كبرت سنه كلما صغر عقله، وما يزال يتردى في حمأة الجهل بكبر سنه حتى يرد إلى أرذل العمر.

والطفل الصغير حينما يتطلع إلى العلوم يتمنى أن يكون عالماً، فيسارع إلى العلم وإلى العلماء، وما يزال يغشى مجالسهم، ويتلطف بالقرب منهم، ويزاحمهم بالركب حتى يتحقق مناه ويصير منهم.

إلاَّ أن الجاهل المغرور يرى نفسه فوقهم، وأنهم يجب عليهم أن يرجعوا إليه، وليس هو الذي يرجع إليهم، وما تزال الهوة تتسع بينه وبينهم حتى تغشاه ظلل الشيطان فيستفزه عليهم.

لقد علم بعض من وصفت أنني أتفقه على مذهب الإمام الشافعي، وأنني أَدْرِسْه وأُدَرِّسْه، فأراد ـ فيما زعم وخيل له جهله ـ أن يفسد على رأيي، ويظهر ضعف مذهب الشافعي أمام ناظري، وكان قد سمع في حياته قاعدة من قواعد العلم من أحد العلماء تقول: إن ” مَنْ ” صيغة من صيغ العموم، فأراد أن يبرهن لي من خلال هذه القاعدة خطأ الشافعي في جزئية من الجزئيات، ليبني خطأ مذهب الشافعي كله ، ومن ثم ليطالب الناس بالتنبه لمن يتفقهون عليه ويتعلمون منه ، مما أكبر أن أذكر من سقط القول .

فتربع على عرش جهله، مترفعاً عمن حوله، متظاهراً بالعلم والحلم، يقول إنه يريد النصح. . . ! وخيل إليه غروره أن أبا حنيفة ، والأوزاعي ، ومالكاً ، والشافعي ، وأحمد والسفيانين ، وأبا ثور ، وثلة من كبار علماء الأمة قد التفوا حوله في حلقته مصغين لما سيلقيه إليهم ، مما أوتيه من الحكمة .

فقال : إن الشافعي يزعم أن الاحتكار لا يكون إلاَّ في الأطعمة ، وأما ما سواها من الأمور فلا

يكون فيه احتكار مستدلا بقول النبي r : ” من احتكر على المسلمين طعامهم فهو خاطئ ” .

ثم قال : وهذا الحديث حجة على الشافعي وليس حجة له ، فالاحتكار يكون في كل شئ ، وليس في الأطعمة فقط ، لهذا الحديث نفسه ، فقد فات الشافعي أن لفظة ” من ” التي صدر بها رسول الله r حديثه تفيد العموم ، فهي تقتضي أن يكون الاحتكار عاما في كل شيء ، لا في الأطعمة فقط ، كما زعمه الشافعي .

ونظر حوله وقد أخذ منه الزهو كل مأخذ بما أحرزه من نصر في ميدان القواعد العلمية التي أتقنها وأفحم الشافعي بها، وأخذ يتلمظ وقد استشرى جهله كما يتلمظ الجائع بحضرة طعام شهي وقد سال لعابه توهمًا منه أنه قد أكله، وفي الحقيقة هو ممنوع منه. . .

وهلل له كل من كان حوله من الجهلة الذين كانوا فوقه في الجهل ودونه في الجرأة على الحق فقد نطق أمامهم بقواعد العلم، وطبقها على الأحكام، وأفحم المخاصمين. .

وهذه هي حالة وصفت مِمَّن ذكرت، ولا عجب. . فقد أخبر الشارع أن من أمارات الساعة أن يصدق الجاهل ويكذب العالم ، كما يؤتمن الخائن ويخون الأمين.

فقلت له – وقد دهشني ما قال ، والإنسان يدهش بظلمة الباطل كما يبهر بضياء الحق : قلت له : إن ما ذكرت لا يدل على خطأ الشافعي ، لا لأن الشافعي فوق الخطأ يصيب ولا يخطئ فالشافعي ككل البشر يصيب كما يصيب البشر ويخطئ كما يخطئون ، ولكن لأنك دون الصواب ، وما ذكرت لا يعدو ما يدل على جهلك المركب ، وهو أن يجهل الإنسان ويجهل أنه يجهل ، ومن ثم يكون جهله بجهله حاجبًَا له عن إدراك أدنى درجات الحق والعلم في الوقت الذي وصل العلماء فيه إلى ذروتيهما

إن ما قلته من أن ” مَنْ ” صيغة من صيغ العموم حق لا يمترى فيه ، ولكن الباطل ما بنيته عليه من أنها عامة في كل محتكر ، مما رددت به على الشافعي وغيره من أعلام الأمة .

وذلك أن من عامة في المحتَكِرِ لا في المحتَكَر، وأما المحتَكَرُ فهو خاص بالطعام كما بينه الحديث.

ومعنى الحديث أن كل محتكر خاطئ ، ولكن ليس في كل أنواع الاحتكار بل في الأطعمة خاصة ؛ لأنه صلى الله عليه وسلم قال : ” من احتكر على المسلمين طعامهم ” فالشافعي ومن تابعه ما أخطئوا ، بل نطقوا بما أملته القواعد والشافعي أول من دونها ونشرها ، ولكن الخطأ كان في فهمك السقيم وعقلك العقيم .

وكـم مـن عـائـب قـولًا صحيحـاً وآفتـه مـن الفهـم السقيـم

وإني لأتمنى لأولئك الذين ينصبون أنفسهم حكاماً على علماء الأمة وأئمتها وهم خواء من أبسط مبادئ المعرفة ، إني لأتمنى لو أنهم كفوا أنفسهم مشقة الهدم في كيان هذه الأمة وأمجادها مما قد يقحمهم لجج النار ببناء أنفسهم وتثقيف عقولهم ، فمنصب الحَكَمِِ على العلماء أو بينهم يحتاج في أبسط مبادئ المنطق أن يكون الحكم في علومه ومعارفه بدرجتهم، وأنى لأولئك المتفيهقين بها إنه لأمر دونه خرط القتاد . . .

* * *

(1) تهذيب الأغاني لابن منظور 10/308، والعقد الفريد 2/480، وأنظر أمالي المرتضى