الصفحة الرئيسية » كتب للقراءة والتحميل » الوجيز في أصول التشريع الإسلامي » البيان، أركانه ومراتبه، تأخير البيان، تأخير البيان عن وقت الحاجة، تأخير البيان عن وقت الخطاب

البيان، أركانه ومراتبه، تأخير البيان، تأخير البيان عن وقت الحاجة، تأخير البيان عن وقت الخطاب

الفصل الثاني
في البيان

البيان لغة : هو التوضيح، تقول : بينت الشيء، إذ أوضحته .

واصطلاحاً: هو إخراج الشيء من حيز الإشكال إلى حيز التجلي(154).

وبناء على ذلك، فما كان ظاهراً بنفسه، من غير سبق إجمال أو إشكال، لا يسمى بيانا، لأنه لم يبين شيئاً.

أركان البيان

وأركان البيان ثلاثة هي:

1. المبيَّن، بفتح الياء.

2. المبيِّن، بكسر الياء.

3. المبين له .

أما المبيَّن ـ بفتح الياء ـ فهو المجمل الذي ذكرناه في الفصل السابق، وأما المبين، والمبين له، فهما ما سنتكلم عنه الآن.

أولا: المبيِّن:

والمبين ـ بكسر الياء ـ لغة : هو الموضح .

واصطلاحاً: ما به يخرج الشيء من حيز الإشكال إلى حيز التجلي.

وهو أنواع، لأنه قد يكون بالقول، وقد يكون بالفعل، وقد يكون بالكتاب، أو الإشارة، أو التنبيه.

1. البيان بالقول(155):

وهو أكثر أنواع البيان، وينقسم إلى قسمين، لأنه إما أن يكون بياناً من الله تعالى، أو من رسوله ـ r ـ وذلك كقوله تعالى : ) صفراء فاقع لونها تسر الناظرين ( في بيان البقرة التي أمر بني إسرائيل بذبحها في قوله : ) إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة ( .

وكقوله تعالى : ) حرمت عليكم الميتة، والدم، ولحم الخنزير، وما أهل لغير الله به، والمنخنقة، والموقوذة، والمتردية، والنطيحة، وما أكل السبع، إلا ما ذكيتم، وما ذبح على النصب ( في بيان قوله 🙂 أحلت لكم بهيمة الأنعام إلا ما يتلى عليكم( .

وكقوله ـ r ـ : ( فيما سقت السماء العشر ) في بيان قوله تعالى : ) وآتوا حقه يوم حصاده ( . وغير ذلك من الأقوال التي يعسر حصرها.

2. البيان بالفعل(156):

وذلك كبيانه ـ r ـ للصلاة في قوله تعالى: ) وأقيموا الصلاة ( بفعله، إذ صلى وقال : ( صلوا كما رأيتموني أصلي ) .

وكبيانه للحج في قوله تعالى: ) ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا ( إذ أبان أفعال الحج بفعله، وقال : ( خذوا عنى مناسككم ) .

ويعرف البيان بالفعل بثلاثة أمور هي:

أ – أن يعلم ذلك بالضرورة من قصده .

ب – أن يقول: هذا الفعل بيان للمجمل.

ج – الدليل العقلي، بأن يذكر المجمل في وقت الحاجة إلى العمل به، ثم يفعل فعلاً يصلح أن يكون بياناً له، ولا يفعل شيئاً آخر، فنعرف أن فعله هذا إنما هو بيان للمجمل الذي ذكره.

3. البيان بالكتاب :

وذلك كالكتاب الذي كتبه رسول الله ـ r ـ لأهل اليمن، وفيه بيان دية النفس ودية الأعضاء.

وككتابه ـ r ـ في بيان مقادير الزكوات .

4. البيان بالإشارة :

وذلك كبيانه ـ r ـ لعدد أيام الشهر بإشارته بأصابعه العشر ثلاث مرات، في قوله: الشهر هكذا وهكذا وهكذا، يعني ثلاثين يوما، ثم أعاد الإشارة بأصابعه ثلاث مرات وحبس إبهامه في الثالثة، إشارة إلى أن الشهر قد يكون تسعة وعشرين يوما.

5. البيان بالتنبيه :

وهو البيان بالمعاني والعلل التي نبَّه بها الشارع على الأحكام .

وذلك كقوله ـ r ـ: ( أينقص الرطب إذا جف ) في جواب السؤال عن بيع الرطب بالتمر.

مشيراً ـ r ـ إلى ضرورة العلم بالمماثلة في بيع الربويات بعضها ببعض، وأن الجهل بالمماثلة كالعلم بالمفاضلة .

وكقوله ـ r ـ في تعليل عدم النقض بقبلة الصائم: ( أرأيت لو تمضمضت ؟ ) .

مشيراً بذلك ـ r ـ إلى أن القبلة مجردة لا تفطر، كما أن المضمضة وحدها لا تفطر، وإنما الفطر بما يترتب عليهما إن حصل، من ابتلاع الماء، والإنزال.

6. البيان بالقول والفعل معا(157):

إذا توارد بيانان على حكمٍ واحد أحدهما بالقول، والثاني بالفعل، فلهما حالان ، لأنهما إما أن يتحدا، أو يختلفا.

فإن اتحدا، بأن طابق القول الفعل، والفعل القول في الدلالة، فالمبين هو السابق منهما، قولاً كان أو فعلا، ويكون الثاني تأكيداً له، وسواءٌ في ذلك أعُلم السابق منهما أم جُهل .

وإن اختلفا، بأن كان البيان بالقول دالاً على خلاف ما يدل عليه الفعل، وذلك كقوله ـ r ـ :

( من أهَلَّ بالحج والعمرة أجزأه طوافٌ واحدٌ وسعيٌ واحد ) مع ما روى عنه أنه عليه الصلاة والسلام : ( قرَنَ فطافَ لهما طوافين، وسعى لهما سعيين ) .

فهنا تعارض البيان بالقول مع البيان بالفعل، والأصح أنه يقدم القول على الفعل، سواء أكان متقدماً عليه أم متأخراً عنه، أم جهل التاريخ.

وذلك لأن دلالة القول ذاتية، أي يدل بنفسه من غير احتياجه إلى واسطة وقرينة، والفعل لا يدل بنفسه، بل لا بد من قرينة تدل على أنه بيان للمجمل، كما بينا ذلك في البيان بالفعل.

وبناء على ذلك إذا تأخر الفعل كان الطواف الثاني مستحبا، وإذا تأخر القول، كان ناسخاً للطواف الثاني، لأنه هو البيان والله أعلم.

مراتب البيان(158):

للبيان مراتب متعددة، بعضها أوضح من بعض نذكر منها :

1. بيان النص الذي لا يختص بادراك معناه الخواص من العلماء، وإنما هو معلوم لهم ولغيرهم، متأكدٌ تأكيداً يدفع الاحتمال، وذلك كقوله تعالى في صوم التمتع: ) فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعتم تلك عشرة كاملة (، وسماه بعضهم بيان التأكيد، وبعضهم بيان التقرير .

2. بيان النص الذي يختص بإدراكه بعض الناس، كالعلماء، وذلك كالواو و ( إلى ) في آية الوضوء، في قوله تعالى : ) يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق .. ( فإن لكل من الحرفين مدلولات معينة خاصة عند العلماء .

3. ما كانت السنة فيه مبينة لمجمل الكتاب، وذلك كبيان صفة الصلاة، المجملة في قوله تعالى : ) وأقيموا الصلاة ( وكبيان المقدار الواجب إخراجه في زكاة الزورع والثمار المجمل في قوله تعالى : ) وآتوا حقه يوم حصاده ( وغير ذلك من الأمور .

4. ما تنفرد فيه السنة، دون أن يكون له أصل مجمل في الكتاب، بأن يكون أصله وتفصيله من الرسول ـ r ـ وذلك لأن السنة تنفرد بالتشريع، كالقرآن، وليست دائماً بياناً له.

5. البيان بالإشارة، وهو البيان المستنبط بالقياس من الكتاب والسنة .

ثانيا : المبين له(159) :

وهو الركن الثاني من أركان البيان .

والمراد به من يتوجه إليه الخطاب، لأنه هو الذي أراد الله تعالى فهمه، والبيان له واجبٌ اتفاقاً بين العلماء، لأن تكليفه بالفهم بدون البيان تكليف بالمحال.

وأما غيره، ممن لا يتعلق به الخطاب، ولا يتوجه إليه التكليف، فلا يجب البيان له، لأنه لا يراد منه الفهم ولا العمل.

ثم إن البيان لمن أريد فهمه قد يكون من أجل العمل، كبيان صفة الصلاة، ومقادير الزكاة، ومناسك الحج وغير ذلك.

وقد يكون للفتوى، لا للعمل، كبيان أحكام الحيض الخاصة بالنساء، فإن العلماء من الرجال إنما يعلمونها ليفتو بها النساء .

وقد يكون لا للعمل ولا للفتوى ككتب الأنبياء السابقين بالنسبة إلينا .

مسألة

تأخير البيان

البيان إما أن يكون بيان نسخ، أو بيان مجمل، وعام، ومجاز، ومشترك، وغير ذلك مما يحتاج إلى البيان.

أما بيان النسخ، فمما يكاد يكون متفقاً على جواز تأخيره عن وقت الخطاب بالمنسوخ، وسيأتي بحثه إن شاء الله في مباحث النسخ .

وأما بيان غيره من المجمل، والعام، والمجاز، والمشترك، والمطلق، فتأخير البيان فيه إما أن يكون عن وقت الخطاب، وإما أن يكون عن وقت الحاجة ولكل منهما حكم مستقل.

1. تأخير البيان عن وقت الحاجة(160):

اتفق العلماء على أن تأخير البيان عن وقت الحاجة والعمل لم يقع، وأنه ما من مجمل الا وبُيِّن، فلا يوجد في الشرع خطاب تكليفي إلا وبيَّن الشارع المراد منه .

وما وراء الوقوع الجواز، وهو الذي وقع فيه النزاع، بين من يجوِّز تكليف ما لا يطاق، ومن لا يجوِّزه.

وقد مرَّ معنا في أبحاث الحكم أن أئمتنا جوَّزوا تكليف ما لا يطاق للابتلاء، وبناءً على ذلك فإنهم يجيزون تأخير الينان عن وقت الحاجة والعمل، وإن كان لم يقع منه شيء .

بل لم يقع أن كلَّف الله إنساناً ما لا يطاق.

ومنع المعتزلة جواز تأخير البيان عن وقت الحاجة، بناء على قواعدهم في عدم تجويز التكليف بما لا يطاق .

وعلى كلا الحالين فقد اتفقت الأمة على انه لم يقع .

2. تأخير البيان عن وقت الخطاب(161):

وذلك بأن يرد الخطاب مجملا، ولا يرد معه البيان، لعدم الحاجة إليه الآن، ثم يرد بعد ذلك بيانه متراخياً عنه، سواء في ذلك أحان وقت العمل به أم لم يحن.

فالجمهور من الفقهاء والمتكلمين على جواز تأخير البيان عن وقت الخطاب إلى وقت الحاجة والعمل، ولا محذور في ذلك ما دام وقت العمل بالخطاب لم يحن.

قال الله تعالى: ) كتاب أحكمت آياته ثم فصلت ( .

وقال: ) فإذا قرأناه فاتبع قرآنه، ثم إن علينا بيانه ( .

وثم تقتضي المهلة والتراخي، يعني أن البيان سيتأخر عن المبين، وهذا من أكبر أدلة الجواز.

وقد أوجب الله تعالى الصلوات الخمس على رسوله ـ r ـ ليلة الإسراء والمعراج، ولم يبين أوقاتها، ولا أفعالها، ثم نزل جبريل عليه السلام فبين لرسول الله ـ r ـ أوقات الصلوات، كما هو معروف في الحديث .

وبعد ذلك بين عليه السلام أفعالها وأقوالها وقال: ( صلوا كما رأيتموني أصلي ) وكذلك كان شأن الحج، والزكاة، وغيرهما من التكاليف.

وليس بعد هذا من دليل على جواز تأخير البيان عن وقت الخطاب إلى وقت الحاجة.

وأعتقد أن القول بمنع التأخير قولٌ بعيدٌ جداً عن الصواب، لأنه مخالفٌ للواقع، والوقوع أقوى أدلة الجواز.

(154) الأحكام: 3 / 32، جمع الجوامع: 2 / 67.

(155) نهاية السول : 2 / 150 .

(156) الأحكام: 3 / 34، المحصول: 3 / 262، جمع الجوامع: 2 / 67.

(157) المحصول: 3/ 272، الأحكام: 3/36، جمع الجوامع: 2/68.

(158) البرهان: 1/160، المنخول: 65.

(159) المحصول: 3/331.

(160) المحصول: 3/279، الأحكام: 3 /41، جمع الجوامع: 2/69، البرهان: 1/166، المعتمد: 1/342.

(161) التبصرة : 207 ، اللمع : 29 ، البرهان : 1/166 ، المستصفى : 1/368 ،

المنخول: 68، المحصول: 3 /280، الأحكام: 3/42، المنتهى: 103، جمع الجوامع:

2/19، المعتمد: 1/342.