الصفحة الرئيسية » كتب للقراءة والتحميل » الوجيز في أصول التشريع الإسلامي » الحكم الشرعي الوضعي

الحكم الشرعي الوضعي

ثانيا: الحكم الشرعي الوضعي

قد ذكرنا أن الحكم الشرعي ينقسم إلى قسمين :

‌أ- الحكم الشرعي التكليفي، وقد تكلمنا عنه وهن متعلقاته .

‌ب- الحكم الشرعي الوضعي، وهو الذي سنتكلم عنه الآن.

تعريفه:

هو خطاب الله، المتعلق بجعل الشئ سبباً، أو شرطاً، أو مانعاً، أو صحيحاً، أو فاسداً(6) .

وأنا لا أريد أن أسهب في شرح هذا التعريف، وبيان أنواع كل قسم من أقسامه، لأن هذا لا يتناسب مع المبتدئين.

وإنما يكفينا أن نفهم هذه الأقسام، ونتصورها تصوراً سليماً، مع ذكر بعض الأمثلة التي توضحها وتبينها.

وقد رأينا أن أقسام هذا الحكم خمسة وهي:

1. السبب.

2. الشرط.

3. المانع.

4. الصحيح.

5. الفاسد.

وسأتكلم عن كل واحد من هذه الأقسام على حدة، وعلى سبيل الإجمال الذي يتضح به المقال.

وسمي هذا الحكم بالوضعي، لأن الله تعالى وضعه علامة على الأحكام التكليفية المتعلقة بفعل المكلف .

وذلك كجعله زوال الشمس عن كبد السماء علامة على وجوب الظهر على المكلف، وكجعله وجود النجاسة في الثوب علامة على بطلان الصلاة.

فوجوب الظهر بالزوال، وفساد الصلاة بالنجاسة حكمان شرعيان، والزوال والنجاسة علامتان عليهما .

1. السبب:

السبب في اللغة : هو ما يكون موصلا إلى الشئ، كالطريق والحبل وغيرهما .

السبب في الاصطلاح: هو الوصف، الظاهر، المنضبط، المعّرفُ للحكم.

أو ما يلزم من وجوده الوجود، ومن عدمه العدم.

شرح التعريف :

1. الظاهر: أي البين الواضح، الذي لإخفاء فيه ولا لبس.

2. المنضبط: أي المطّرد، الذي لا يختلف باختلاف الأحوال، والأشخاص، والأزمان.

3. المعّرف للحكم: أي الدال على الحكم، دون تأثير فيه، عند أهل الحق، وإنما هو مجرد أمارة لا غير.

فحيثما وجد السبب، وجد المسبب، وحيثما انعدم انعدم، فالسبب هو العلامة التي نعرف من خلالها وجود حكم الله فيما ظهرت فيه، دون أن يكون له تأثير في الحكم، وإنما هو مُعَرّف فقط . كزوال الشمس عن كبد السماء، يدلنا على دخول وقت الظهر، دون أن يكون له فيه تأثير.

وهل السبب نفس العلة، أو هو شئ يغايرها ويباينها، أو له بها علاقة عموم وخصوص مطلق ؟

خلافات بين المتكلمين في تعريف السبب والعلة ولا داعي لإثارتها، ويكفي المبتدئ في أصول الفقه، أن يعرف ما ذكرناه عن السبب وأن الجمهور يطلقونه على العلة. وهي ما يلزم من وجوده الوجود، ومن عدمه العدم.

ولنا إلى هذا الموضوع عودة عند الكلام على العلة في أبحاث القياس إن شاء الله تعالى .

والسبب قد يكون مناسبا للحكم، وقد لا يكون مناسبا له.

فالسبب المناسب للحكم: هو الذي توجد بينه وبين الحكم مناسبة واضحة جلية، تنبسط معها النفس، لظهور الحكمة من تشريع الحكم من خلالها.

وذلك كجعل القتل العمد العدوان سببا للقصاص، لأن القتل فيه اعتداء على الأنفس، وبث للخوف والرعب والقلق بين الناس، وزعزعة للنظام والاستقرار، ولذلك ناسبه القصاص العادل الذي تستقر معه الحياة، ويطمئن الإنسان، وذلك ظاهر في قوله تعالى : ) ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب لعلكم تتقون ( .

وكجعل السفر سبباً للإفطار في رمضان في قوله تعالى: ) فمن كان منكم مريضاً أو على سفر فعدة من أيام أخر ( .

لأن السفر مشقة، مهما كانت وسائله مريحة، وهذه المشقة يناسبها التخفيف، وذلك ظاهر في قوله تعالى: ) يريد الله بكم اليسر، ولا يريد بكم العسر ( .

ومثل الفطر في رمضان، القصر للصلاة الرباعية في السفر، والجمع بين الصلاتين، وزيادة مدة المسح على الخف من يوم وليلة إلى ثلاثة أيام بلياليها، وغير ذلك… .

والسبب الذي لا يناسب الحكم: هو الذي لا توجد بينه وبين الحكم مناسبة تدعو إليه، وتحث عليه، وإنما هو مجر علامة على الحكم لا غير، دون أية مناسبة بينه وبينه .

وذلك كجعل الدلوك : وهو ميل الشمس وزوالها عن كبد السماء ـ علامة على دخول وقت الظهر .

فانه لا توجد أية مناسبة بين زوال الشمس عن وسط السماء، وبين دخول وقت الظهر، وإنما هو علامة محضة تدلنا على دخول الوقت بالزوال .

كما ينقسم السبب باعتباره فعلاً للمكلف أو ليس فعلاً له إلى قسمين :

1. سبب ليس فعلاً للمكلف: بل ليس للمكلف أي أثر فيه، وذلك كجعل الزوال سبباً لدخول وقت الظهر، والغروب سبباً لإباحة الفطر.

2. سبب للمكلف أثر في إيجاده : وذلك كالزنا الذي هو سبب لإقامة الحد، إلا أن المكلف هو الذي يفعله .

وكالسفر الذي هو سبب للإفطار في نهار رمضان، فان الإنسان هو الذي ينشئه.

وهناك تقسيمات أخرى للسبب باعتبارات أخرى لا يحتاج إليها المبتدئ .

2. الشرط:

الشرط لغة : هو العلامة، ومنه أشراط الساعة، أي علاماتها .

وهو أيضا: تعليق أمر بأمر، كل منهما في المستقبل، كتعليق صحة الصلاة على حدوث شروطها، وكلاهما في المستقبل.

والشرط اصطلاحا : هو ما يلزم من عدمه العدم، ولا يلزم من وجوده وجود ولا عدم، لذاته، ويكون خارجا عن حقيقة المشروط .

شرح التعريف :

1. هو ما يلزم من عدمه العدم: أي يلزم من عدم وجود الشرط، عدم وجود المشروط.

وذلك كالوضوء، الذي هو شرط لصحة الصلاة، يلزم من عدم وجوده، عدم وجود الصلاة.

وهذا قيد، خرج به المانع، فانه لا يلزم من عدمه شئ، كالكلام الأجنبي في الصلاة، المانع من صحتها، فانه إذا انتفى في الصلاة لا يلزم من عدمه شئ، بخلاف الشرط، فانه إذا عدم عند القدرة عليه يلزم من عدمه عدم صحة الصلاة .

وسيأتي الكلام على المانع .

2. ولا يلزم من وجوده وجود ولا عدم: أي لا يلزم من وجود الشرط وجود المشروط ولا عدم وجوده.

وذلك كالوضوء لصحة الصلاة، لا يلزم من وجوده وجود الصلاة، فقد يتوضأ الإنسان ولا يصلي، ولا يلزم من وجوده عدمها .

وهذا قيد خرج به السبب، فانه يلزم من وجوده الوجود، ومن عدمه العدم، كالسرقة، يلزم من وجودها وجود القطع، ومن عدمها عدمه.

3. لذاته : أي يلزم من عدمه عدم المشروط، ولا يلزم من وجوده الوجود ولا العدم لذاته، لا لأمر خارج عنه، كاقتران الشرط بالسبب، فيلزم من وجوده الوجود ولكن لا لذات الشرط، وإنما لمقارنته السبب، أو كاقترانه بالمانع، فانه يلزم من وجوده العدم، لكن لا لذات الشرط، وإنما لمقارنته المانع .

وذلك كالحول الذي هو شرط وجوب الزكاة، مع النصاب الذي هو سبب للوجوب، فإنه وإن لزم من وجود الحول هنا وجوب الزكاة، لكن ليس لذات الشرط، وإنما هو لمقارنته السبب وهو النصاب.

وكالحول الذي هو شرط وجوب الزكاة مع الدين المستغرق ـ على القول بأنه مانع من وجوبها ـ المانع من وجوبها، فإنه وإن لزم في هذه الصورة عدم وجوب الزكاة، لكن لا لذات الشرط، وإنما لمقارنته المانع، وهو الدين المستغرق على القول بمنعه لوجوب الزكاة .

4. ويكون خارجاً عن حقيقة المشروط : أي لا يكون جزءا من حقيقة المشروط، كالوضوء، فإنه ليس جزءاً من حقيقة الصلاة، وإنما هو شئ خارج، وعبادة مستقلة، تتوقف صحة الصلاة عليها .

وهذا قيد خرج به الركن، فإنه كالشرط، تتوقف صحة الصلاة عليه، إلا أنه جزء من حقيقتها، وذلك كقراءة الفاتحة، فإنها ركن من أركان الصلاة، تتوقف صحة الصلاة عليها، وهي جزء منها.

فالفرق بين الركن والشرط مع أن كلاً منهما تتوقف عليه صحة العبادة، أن الشرط خارج عن حقيقة المشروط، بينما يكون الركن جزءاً من الحقيقة.

أقسام الشرط :

وينقسم الشرط باعتبار مصدره إلى قسمين :

شرط شرعي: وهو ما كان مصدر اشتراطه الشارع، وذلك كاشتراط الطهارة بالنسبة للصلاة، وحولان الحول بالنسبة للزكاة.

شرط جعلي: وهو ما كان مصدر اشتراطه المكلف. وذلك كاشتراط الزوج على زوجته شرطاً يترتب عليه وقوع الطلاق، كقوله لها : إن خرجت من البيت بغير إذني، فأنت طالق، فخروجها من البيت بغير إذنه شرط لوقوع الطلاق عليها .

3. المانع

المانع لغة : هو الحائل بين الشيئين .

واصطلاحا: هو الوصف الوجودي، الظاهر، المنضبط، المعرف نقيض الحكم.

أو : ما يلزم من وجوده العدم، ولا يلزم من عدمه وجود ولا عدم .

شرح التعريف :

إن معظم فقرات هذا التعريف قد مرت معنا عند الكلام على السبب، ولا مانع من إعادة شرحها.

1. الوجودي : هو قيد، أخرج به الوصف العدمي، فالمانع لا يكون إلا أمراً وجوديا، بخلاف السبب، فقد يكون أمراً وجوديا، كالزنا علة للرجم، وقد يكون أمراً عدميا، كتعليلنا عدم صحة تصرف المجنون لعدم عقله، ولذلك لم يذكر هذا القيد في تعريف السبب .

2. الظاهر: أي البين الواضح.

3. المنضبط: أي المطرد، الذي لا يختلف باختلاف الأحوال، والأشخاص، والأزمان.

4. المعرف: أي الدال على الحكم، دون تأثير فيه، عند أهل الحق، وإنما هو مجرد أمارة.

5. نقيض الحكم: أي أن وجوده علامة وأمارة دالة على وجود نقيض الحكم المترتب على السبب.

وذلك كالأبوة في القصاص، فإن القتل العمد العدوان سبب يستلزم القصاص من الجاني، إلا أنه إذا كان القاتل أباً للمقتول، كان هذا الوصف، وهو الأبوة، مانعاً من القصاص.

فلزم من وجود الأبوة عدم الحكم، وهو القصاص، فالأبوة وصف وجودي منع من ترتب الحكم على السبب، ودل على نقيضه.

والحكمة في ذلك أن الأب كان سبباً في وجود ابنه، فلا يكون الابن سبباً في عدم وجود أبيه.

وكاختلاف الدين في الإرث، فان النسب، والنكاح من أسباب الإرث عد موت الموروث، إلا أنه إذا كان الوارث والموروث يختلفان في الدين والعقيدة، كمسلم ونصراني، كان هذا الوصف، وهو اختلاف الدين مانعاً من الإرث.

فلزم من وجود الاختلاف في الدين المنع من ترتب الحكم هو الإرث على السبب وهو النسب، أو النكاح، ودل على نقيضه وهو عدم التوارث بينهما.

وكالحيض المانع من صحة الصلاة، وغير ذلك .

أقسام المانع :

1. المانع للحكم :

وهو ما يكون مانعاً من ترتب الحكم على السبب، كما مر معنا في الأمثلة السابقة.

2. المانع للسبب :

هو ما يكون مانعاً من السبب نفسه، بأن يجعله كالمعدوم، ويعرفنا انتفاء المسبب.

وهو ما يستلزم حكمة تخل بحكمة السبب .

وذلك كالدَيْن في الزكاة، إن قلنا أن الدين مانع من وجوبها. فإن حكمة السبب الموجب للزكاة ـ وهو النصاب ـ استغناء المالك بالمال البالغ نصابا، ومع وجود الدين تنعدم هذه الحكمة، فيكون الدين مانعا من السبب، وهوالنصاب، ومن ثم يعرفنا انتفاء المسبب، وهو الزكاة والله أعلم .

4. الصحة

الصحة لغة: ضد المرض.

واصطلاحا: موافقة الفعل ذي الوجهين الشرع.

شرح التعريف :

1. قولنا موافقة الفعل: يخرج الفساد، وهو مخالفة الفعل كما سيأتي.

2. المراد بالفعل: العبادة والمعاملة، فهو شامل لهما.

3. والمراد بذي الوجهين : أي الفعل الذي له وجهان وجه يوافق الشرع، ووجه يخالفه، فتارة يقع موافقاً للشرع، وتارة يقع مخالفاً له .

والمعنى: أن الفعل الذي له وجهان، إذا وقع موافقاً للشرع، لاستجماعه ما يعتبر فيه شرعا، يكون صحيحا، وإلا فلا.

فالصحة: موافقة الفعل للشرع، بأن تقع مستوفياً للشروط المطلوبة فيه شرعا.

وذلك كالصلاة التي استوفت شروطها، وجميع أركانها، فإنها تكون صحيحة، لموافقتها الشرع.

والبيع الذي استوفى شروطه وأركانه، يكون صحيحاً، لموافقته الشرع.

وإذا صح العقد، ترتب عليه الأثر المقصود منه، فترتب الأثر متوقف على الصحة، وليس نفس الصحة.

وترتب الأثر في البيع الانتفاع به، من ملك الثمن للبائع، وحرية التصرف في العين للمشتري بملكها.

وفي النكاح جواز الاستمتاع .

فحيثما وجدت الصحة ترتب الأثر عليها، ونشأ عنها .

وإذا صحت العبادة ترتب عليها أثرها، وهو هنا إجزاؤها، أي كفايتها في سقوط الطلب، وحصول الامتثال.

والله أعلم.

5. البطلان أو الفساد

الباطل والفاسد مترادفان عند الجمهور وهما :

مخالفة الفعل ذي الوجهين الشرع.

وشرح هذا التعريف يعرف من شرح الصحة، كما قدمنا، وهي موافقة الفعل ذي الوجهين الشرع.

وسواء في الفعل العبادة والمعاملة .

فإذا فسد العقد، لم تترتب عليه آثاره، من أخذ الثمن، وتملك المنفعة في البيع.

ولم يجز للزوج الاستمتاع بزوجه في النكاح .

وإذا فسدت العبادة، لم تترتب عليها آثارها أيضا، وهي الإجزاء الكافي في سقوط الطلب، بل تبقى الذمة مشغولة، ويبقى العبد مطالباً بالعبادة، والله أعلم.

إلا أن الحنفية فرقوا بين الباطل والفاسد فقالوا:

الباطل: ما لم يشرع بأصله ولا وصفه.

وذلك كبيع الملاقيح، وهو بيع ما في بطون الأمهات من الأجنة . فإن بيع الحمل وحده غير مشروع ألبتة، وليس امتناع لأمر عارض.

والفاسد: ما كان أصله مشروعا، ولكن امتنع لوصف عارض. وذلك كبيع درهم بدرهمين، فان الدرهم قابل للبيع في أصله وإنما امتنع لاشتمال أحد الجانبين على الزيادة المنهي عنها .

فالامتناع ليس لذات الدراهم، وإنما للوصف الذي اشتمل عليه هذا العقد.

وفائدة هذا التفصيل عندهم إن المشتري يملك المبيع في الشراء الفاسد، ويفيد الملك الخبيث مع الإثم والمعصية . وأما في الشراء الباطل فلا يملكه .

ومثال الفاسد أيضا : أن الرجل لو نذر صوم يوم النحر صح نذره، مع أنه منهي عن صوم يوم النحر، لأن المعصية في فعله، دون نذره، ويؤمر بفطره وقضائه، ليتخلص عن المعصية ويفي بالنذر، ولو صامه خرج عن عهدة نذره، لأنه أدى الصوم كما التزمه، فقد اعتد بالفاسد مع الإثم والمعصية، والله أعلم .

(6) نهاية السول : 1/54 ، المحصول : 1/138 ، جمع الجوامع : 1/84 ، الأحكام :

1/181 ، رفع الحاجب عن ابن الحاجب : 1 /ق – 117 – ب .