الصفحة الرئيسية » كتب للقراءة والتحميل » الوجيز في أصول التشريع الإسلامي » الفصل الثالث في أحكام الحكم وفيه ست مسائل ، مقدمة الواجب ، القدر الزائد على الواجب …….

الفصل الثالث في أحكام الحكم وفيه ست مسائل ، مقدمة الواجب ، القدر الزائد على الواجب …….

الفصل الثالث

في أحكام الحٌكم

وفيه مسائل :

المسألة الأولى: مقـدمة الواجـب

وهي الأمر الذي يتوقف وجود الواجب عليه، فهل يكون الأمر بالشئ أمراً بما لا يتم ذلك الشئ إلا به، أم لا ؟

ذهب الجمهور من الأصوليين إلى أن الأمر بالشئ أمرٌ بما لا يتم ذلك الشئ إلا به، فإذا أوجب الشارع على المكلف شيئاً وجبت عليه مقدماته مطلقاً، سواء أكانت سبباً، وهو الذي يلزم من وجوده الوجود، ومن عدمه العدم، أم شرطاً، وهو الذي يلزم من عدمه العدم، ولا يلزم من وجود ولا عدم .

وذلك كما لو قال الأب لولده : ائتني بكذا من فوق السطح، فلا يتحقق ذلك إلا بالمشي، ونصب السلم، فالمشي سبب، إذا يلزم من عدم المشي عدم الإمكان، ويلزم من وجوده الوجود، ونصب السلم شرط، إذا يلزم من عدمه عدم تحقق المطلوب، ولا يلزم من وجوده وجود المطلوب ولا عدمه .

وسواء أكان السبب والشرط شرعيين، أم عاديين، أم عقليين .

فالسبب الشرعي:

هو ما كان مصدره الشرع كالصيغة بالنسبة إلى العتق الواجب، في الكفارة والنذر وغيرهما، فإن العتق متوقف على الصيغة، فيلزم من الأمر به الأمر بها، فإذا ما طولب بالعتق، طولب بالصيغة، وكالعتق كل ما يتوقف على الصيغة، من النكاح، والطلاق، والبيع، وغير ذلك.

والسبب العقلي:

هو ما كان مصدره العقل، كالنظر المحصل للعلم الواجب، كالعلم بوجود الله، الذي يؤمر به المكلف، يتوقف على النظر في ملكوت السموات والأرض وما فيهما، فيكون النظر المؤدي إلى العلم بالخالق مأموراً به كالأمر بالعلم .

والسبب العادي:

هو ما كان مصدره العادة، كحز الرقبة بالنسبة إلى القتل الواجب في القصاص، فإن القطع متوقف على الحز، إلا أنه سبب عادي، أي أن العادة جرت على وجود القطع عند وجود الحز، عند أهل الحق .

والشرط الشرعي:

كالوضوء بالنسبة إلى الصلاة، فإذا أمر بها وجب عليه كالوضوء.

والشرط العقلي:

وهو الذي يكون لازماً للمأمور به عقلاً، كترك أضداد المأمور به، فإذا أمر بالقيام، وجب عليه أن يترك القعود.

والشرط العادي:

وهو الذي ينفك عن المشروط عادة، كغسل جزء من الرأس في الوضوء، الذي يتوقف عليه التأكد من غسل الوجه، فإننا لا نتيقن من غسل الوجه إلا إذا غسل جزءاً من الرأس، فيكون غسل جزءٍ من الرأس واجباً،لأنه لا يتم الواجب إلا به.

شروط وجوب المقدمة:

يشترط لوجوب مقدمة الواجب شرطان :

الشرط الأول:

أن يكون الوجوب مطلقاً، غير معلق على حصول ما يتوقف عليه.

فإن كان معلقاً على حصول مايتوقف عليه، كقوله : إن صعدت السطح، ونصبت السلم، فاسقني ماء، فإنه لا يكون مكلفاً بالصعود ولا بالنصب بلا خلاف، فإذا اتفق أن المكلف نصب السلم وصعد السطح صار واجباًً عليه سقى الماء، وإلا فلا .

الشرط الثاني:

أن يكون ما يتوقف عليه الواجب مقدوراً للمكلف، كسقي الماء الذي مثلنا به، وغير ذلك مما يدخل تحت قدرة الإنسان.

فإن لم يكن مقدوراً له، لم يجب عليه تحصيله إما لاستحالته، كإرادة الله تعالى التي يتوقف عليها وقوع الفعل. لأنه لا قدرة للعبد عليها، ولذلك لا يكلف بتحصيلها، وإما لتعذره مع إمكانه كتحصيل العدد في الجمعة .

أقسام مقدمة الواجب :

تنقسم مقدمة الواجب إلى قسمين :

الأول :

هو ما يتوقف عليه وجود الواجب، إما من جهة الشرع، كالوضوء للصلاة، فإن الصلاة متوقفة عليه، ولا مدخل للعقل في وجوبه، وإنما هو ثابت من جهة الشرع.

وإما أن يتوقف وجود الواجب عليه عقلاً، كالسير إلى مكة، لمن أراد الحج، إذ لا يمكن تأتي الحج إلا بالسير إليها عقلاً، ولذلك كان واجباً.

الثاني :

هو ما يتوقف عليه العلم بوجود الواجب، لا نفس وجوده، وذلك كمن ترك الصلاة من الصلوات الخمس، ثم نسى عينها، فلم يدر أهي الظهر أم العصر أم غيرهما، فانه يجب عليه أن يصلي الصلوات الخمس ليتيقن من قضاء الصلاة التي تركها، لا لإيجادها، لأن وجودها قد يتحقق في أول الصلاة صلاها، إلا أن المكلف لا يعلمه إلا بعد الإتيان بالخمس، فالأربعة مقدمة للواجب، أي مقدم للعلم بوقوعه، لا لإيجاده .

وكغسل جزء من الرأس في الوضوء للعلم بغسل جميع الوجه، لا لإيجاده، لأن وجوده قد يتحقق بدون غسل جزء من الرأس.

وكتغطية جزء من الوجه، للمرأة المحرمة في الحج، للعلم بتغطية جميع الرأس .

وكستر جزء من الركبة للتيقن من ستر الفخذ(18) .

مقدمة المحرم :

وكما يجب فعل مقدمة الواجب، لكونه متوقفاً عليها، كذلك يجب ترك مقدمة المحرم، لتوقف تركه عليها.

فلو تعذر ترك المحرم إلا بترك غيره من الجائز، وجب على المكلف ترك الجائز، لتوقف ترك المحرم ـ الذي هو واجب ـ عليه.

وذلك كماء قليل وقعت فيه نجاسة، فإنه يحرم عليه استعمال الجميع وذلك على القول بأن الماء باق على طهوريته، لأن الأعيان لا تنقلب، وإنما تعذر استعماله، لأنه لا يمكن استعماله إلا باستعمال النجاسة .

وقريب منه ما لو اشتبهت زوجته بأجنبية، فإنه يحرم عليه وطء الجميع، للاشتباه، لأن الأجنبية لا يجوز وطؤها، فهو محرم عليه، ولا يحصل له العلم يترك هذا الحرام إلا بالكف عنها وعن زوجته، ولذلك وجب عليه الكف عنهما.

ومثله ما لو اشتبهت محرمه بنساء أجنبيات محصورات، فإنه يحرم عليه نكاح أية واحدة منهن لما ذكرنا، والله أعلم .

المسألة الثانية :

القدر الزائد على الواجب

الواجب إما أن يكون معلقاً بمقدار معين، كغسل الوجه واليدين، وإما أن لا يكون معلقاً بمقدار معين، بل معلقاً على اسم يتفاوت بالقلة والكثرة.

وذلك كمسح الرأس في الوضوء، إذ مسح جميع الرأس يسمى مسحاً، ومسح بعض الرأس يسمى مسحاً، والواجب في مسح الرأس هو مايقع عليه اسم مسح، ولو شعرة واحدة، أو بعض شعرة .

فإذا مسح الإنسان زيادة على القدر الواجب ـ وهو أمر لا بد منه ـ فهل يكون هذا الزائد الذي مسحه ولم يجب عليه، هل يكون نفلاً لعدم طلبه في الأصل، أم انه واجب، لأن الفرض سقط بجميع المسح ؟

الراجح في المسألة أن الواجب ما يقع عليه الاسم من أول المسح، وان البقية نفلٌ يثاب عليه، لأنه لو كان الجميع واجباً لما جاز تركه، وهنا نقطع بأنه لو فعل ما طلب منه لأجزأه، ولو كان الجميع واجباً لطولب به .

وكالمسح في الوضوء، ما إذا وقف في عرفات زيادة على القدر الواجب، أو زاد في الحلق والتقصير على ثلاث شعرات (19)والله أعلم.

المسألة الثالثة

الأمر بالشئ هل هو نهي عن ضده أم لا ؟

هذه المسألة من المسائل التي وقع فيها خلاف كبير بين العلماء، وتعددت فيه المذاهب(20).

والكلام في هذه المسألة محصور في المعنى، لا في اللفظ، إذا الجميع متفقون على أن قوله: قم، غير قوله: لا تقعد، فإنهما صورتان مختلفتان، ولذلك وجب رد الكلام في هذه المسألة إلى المعنى.

فإذا قال القائل: اسكن، فهل هو في المعنى بمثابة قوله: لا تتحرك أم لا ؟

فقيل : إن الأمر بالشئ نفس النهي عن ضده، كاتصاف الذات الواحدة بالقرب والبعد بالنسبة لشيئين .

وقيل: أنه ليس نفس النهي عن الضد، وإنما يتضمنه، ويدل عليه بالالتزام، لأن الأمر دال على المنع من الترك، ومن لوازم المنع من ذلك منعه من الأضداد، فيكون الأمر دالاً على المنع من الأضداد بالالتزام.

وقيل : لا يدل عليه أصلا، لان الآمر قد يكون غافلاً عن الضد حين بوجه الأمر، ويستحيل الحكم على الشئ مع الغفلة عنه .

والمسألة كما ذكرت فيها كلام كثير لا يتسع له هذا الموجز.

المسألة الرابعة

هل يبقى الجواز بعد نسخ الوجوب ؟

إذا أوجب الشارع شيئاً، ثم نسخ وجوبه، فيجوز الإقدام عليه، عملاً بالبراءة الأصلية، والأصل في المنافع الإباحة، قال تعالى: } هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعاً { .

ولكن الدليل الدال على الإيجاب، قد كان أيضا دالا على الجواز دلالة تضمن، على معنى أن الشارع إذا أمر بفعل، كان هذا الأمر متضمناً للإذن في الفعل ودالاً عليه، فإذا نسخ الشارع الوجوب، هل تبقى الدلالة على الجواز، أم تزول بزواله (21)

ذهب الجمهور الأعظم من الأصوليين إلى أنه إذا نسخ الوجوب بقي الجواز الذي كان في ضمنه.

والمراد بالجواز هنا عدم الحرج في الفعل والترك، من الإباحة، أو الندب، أو الكراهة، إذ لا دليل على تعيين احدها .

وصورة المسألة أن يقول الشارع، نسخت الوجوب، أو نسخت تحريم الترك، أو رفعت ذلك.

فأما إذا نسخ الوجوب بالتحريم، أو قال: رفعت جميع ما دل عليه الأمر السابق، من جواز الفعل، وامتناع الترك، فيثبت التحريم قطعاً، وهذا لا ينافي القاعدة، لأنها واردة في الأمر مع ناسخه فقط، وهنا وجد دليل خارجي عارض الجواز. وذلك كما في نسخ التوجه إلى بيت المقدس، باستقبال، البيت، فإن الجواز لم يبق هنا، ولكن لا لمجرد النسخ، بل للدليل الدال على تحريم التوجه لاستقبال بيت المقدس، والموجب لاستقبال الكعبة.

ومن فروع هذه المسألة الحجامة والفصد للصائم .

فقد أخرج البخاري وغيره أن النبي ـ r ـ قال : افطر الحاجم والمحجوم وهذا يدل على تحريم الحجامة بلا شك ويمنع منا .

ثم ثبت أن النبي ـ r ـ احتجم وهو صائم، فانتفى التحريم المفهوم من الحديث السابق، وبقى الجواز، وهو شامل للندب، والإباحة، والكراهة، كما ذكرنا .

ولذلك نص الشافعي في (البويطي) عليه فقال: وللصائم أن يحتجم، وتركه أحب إليّ.

ونص النووي في ( الروضة ) على الكراهة، تبعاً للرافعي في ( الشرح الكبير ) .

المسألة الخامسة

جائز الترك ليس بواجب

قد ذكرنا في تعريف الوجوب : أنه اقتضاء الفعل مع المنع من الترك، فالواجب لا يجوز تركه، وما جاز تركه ليس بواجب، إذ يستحيل كون الشئ واجباً جائز الترك(22) .

وقال أكثر الفقهاء: يجب الصوم على الحائض، والمريض، والمسافر، لقوله تعالى: } فمن شهد منكم الشهر فليصمه { وهؤلاء شهدوا الشهر، فوجب عليهم صيامه، وإنما جاز لهم الفطر بالعذر، من الحيض، والمرض، والسفر.

وأيضاً: يجب عليهم القضاء بقدر ما أفطروا من الشهر، ولو لم يكن واجباُ عليهم صيامه لما وجب عليهم قضاؤه.

وأجاب الأصوليون، بأن شهود الشهر موجب للصيام عند انتفاء العذر، والعذر هنا قائم، فلذلك امتنع القول بالوجوب .

وأجابوا عن القضاء، بأن وجوبه إنما يتوقف على سبب الوجوب، وهو هنا شهود الشهر، وقد تحقق، لا على وجوب الأداء، وإلا لما وجب قضاء الظهر مثلاً على من نام جميع وقتها، لعدم تحقق وجوب الأداء في حقه، لأنه غير مكلف بالظهر في حال نومه، لامتناع تكليف الغافل .

ولأن الواجب لا يجوز تركه، كما قدمنا، فما جاز تركه ليس بواجب، ووجوب القضاء لوجود السبب.

المسألة السادسة

الندب ليس تكليفاً

ولمعرفة هذه المسألة لا بد من معرفة التكليف .

فالتكليف: هو إلزام ما فيه كلفة، من فعل، أو ترك، فيدخل فيه الإيجاب، والتحريم، وليس التكليف طلب ما فيه كلفة.

وبناء على ذلك، لا يكون المندوب ـ وهو ما يثاب على فعله ولا يعاقب على تركه ت تكليفاً.

لأن التكليف إلزام، وهذا لا إلزام فيه(23) .

وكالمندوب المكروه والمباح، لأنهما لا إلزام فيهما، فالمكروه ما يثاب على تركه، ولا يعاقب عل فعله، والمباح يستوي طرفا الفعل والترك فيه.

والمباح كما أنه ليس بتكليف، ليس بجنس للواجب، وان اشتركا في الإذن في فعلهما واختص الواجب بالمنع من الترك، لأن المباح أيضا اختص بالإذن في الترك.

فالمباح ليس بجنس للواجب، بل هما نوعان لفعل المكلف المأذون فيه . وأيضاً المباح ليس مأموراً به من حيث هو، فليس بواجب، ولا مندوب .

والإباحة حكم شرعي، إذ هي التخيير بين الفعل والترك، المتوقف وجوده كغيره من أقسام الحكم على الشرع، خلافاً لمن زعم من المعتزلة أنها انتفاء الحرج عن الفعل والترك، وهو ثابت قبل ورود الشرع، مستمر بعده(24).

(18) الإبهاج ونهاية السول : 1/69 ، جمع الجوامع : 1/192 ، البرهان : 1 /257 ،

المنخول :117 ، المستصفى : 1/71 ، الاحكام :1/157 ، المحصول :

1/317، المعتمد:1/102، وانظر المنتهى لابن الحاجب: 26، وقد اختار فيه

أن الأمر بالشيء يكون أمرا لا بالسبب ولا بالشرط الذين يتوقف عليهما، إلا أنه

اختار في المختصر أنه يجب الشرط إن كان شرعيا، أما إن كان عقليا أو عاديا فلا،

وانظر رفع الحاجب: 1/ ق 103 – ب. وانظر القواطع: 92، والتمهيد: 83.

(19) الإبهاج ونهاية السول : 1/76 ، التبصرة : 87 ، المستصفى : 1 / 73 ، المحصول :

2/ 330، التمهيد: 90، القواطع: 93.

(20) انظر الخلاف في هذه المسألة في شرحنا على التبصرة : 89 ، واللمع : 10 ،

والاحكام : 2/ 251 ، ومنتهى السول : 2 /10 ، والمحصول : 2 / 334 ، والإبهاج

ونهاية اليول : 1 /76 ، والمنتهى لابن الحاجب 69 ، المنخول : 114 ،

والمستصفى : 1/ 81 ، وشرح التنقيح : 135 ، والبرهان : 1/ 250 ، ورفع

الحاجب : 1/ ق 321 – ب ، وتيسير التحرير : 1 / 362 ، ومختصر ابن اللحام : 101 .

(21) جمع الجوامع :1/173 ، البدخشي :1 /109 ، نهاية السول: 1/109 ، التبصرة :

96 ، المنخول : 118 ، المستصفى : 1/73 ،اللمع : 8 ، المحصول 2 /342.

(22) جمع الجوامع :167 ، الإبهاج ونهاية السول : 1/84 ، البدقشي : 1 / 112 ،

المحصول: 348.

(23) جمع الجوامع : 1/171 ، الأحكام : 1/173 .

(24) جمع الجوامع : 1/171 ، الاحكام : 1/ 181 ، المحصول : 2 / 357.