الصفحة الرئيسية » كتب للقراءة والتحميل » الوجيز في أصول التشريع الإسلامي » الفصل الثاني في الخصوص، التخصيص،الشئ القابل للتخصيص،الغاية التي ينتهي إليها التخصيص،المخصِّص، النوع الأول المخصِّص المتصل

الفصل الثاني في الخصوص، التخصيص،الشئ القابل للتخصيص،الغاية التي ينتهي إليها التخصيص،المخصِّص، النوع الأول المخصِّص المتصل

الفصل الثاني
في الخصوص

وفيه مسائل

المسألة الأولى في التخصيص

التخصيص: هو إخراج بعض ما يتناوله الخطاب (110).

فإذا كان اللفظ عاماً مستغرقاً لجميع أفراده ظاهرا، كان التخصيص إخراجاً لبعض ما يقتضيه ظاهر اللفظ من الشمول والاستغراق للجميع فيقصر العام على بعض أفراده.

والفرق بينه وبين النسخ أن النسخ قد يكون لإخراج بعض الأفراد بعد العمل بمقتضى العام، وقد يكون لإخراج الكل، بينما التخصيص لا يكون إلا لإخراج البعض، ولا يجوز أن يكون مستغرقاً، كما سيأتي.

والمُخَصّصُ: هو اللفظ الدال على الإخراج تجوزا، وإلا فالمخصص في الحقيقة هو إرادة المتكلم.

المسألة الثانية

في الشيء القابل للتخصيص

والمراد به المحل الذي يرد عليه التخصيص، وهو كل حكم ثبت لأمر متعدد.

لأنه إخراج لبعض الأفراد، والحكم الثابت لواحدٍ فقط لا يقبل التخصيص، فإذن لا بد أن يكون القابل له حكم ثبت لمتعدد.

والحكم الثابت لمتعدد، إما أن يكون لفظاً، يدل بمنطوقه، وذلك لقوله تعالى : ) اقتلوا المشركين ( فإنه حكم ثابت لمتعدد، وهو كل مشرك في الدنيا، ثم خصَّ منه أهل الذمة، ومن سن به سنتهم .

وإما أن يكون معنى، وهو ما لا يكون اللفظ دالاً عليه بالمنطوق، بل بأمور يتعلق بها المعنى.

وهو ثلاثة أشياء:

1. العلة الشرعية:

فإنها ليست لفظاً عاما، وإنما هي معنى يعم بالعقل، إذ يعمم العقل وجود المعلول حيثما وجدت العلة، ولذلك جاز تخصيصها في بعض الصور.

وذلك كتخصيص العلة في بيع الرطب بالتمر، فإن رسول الله ـ r ـ نهى عن بيع الرطب بالتمر، وعلله بالنقصان، لأن الجهل بالمماثلة كالعلم بالمفاضلة في الربويات، وهذه العلة بذاتها موجودة في بيع العرايا، وهو بيع الرطب على رؤوس النخل بالتمر على الأرض، إلا أن الشارع أجازه فيما دون النصاب، من الوسق إلى الأربعة، وهذا تخصيص للعلة، وقصرٌ لها على بعض صورها .

2. مفهوم الموافقة:

فإنه ليس لفظاً دالاً على متعدد، لكن اللفظ المثبت للحكم بمنطوقه في الصورة التي ورد بها، مثبت بمفهومه حكماً عاماً لجميع الأفراد الذين يشملهم هذا المفهوم، وعند ذلك يجوز تخصيصه، شريطة أن لا تخرج الصورة التي ورد بها المنطوق، وإلا كان نسخاً لا تخصيصاً .

وذلك كقوله تعالى : } فلا تقل لها أف { فإنه يدل منطوقه على تحريم التأفيف، ويدل بمفهومه على تحريم جميع أنواع الأذى المفهومة من هذا اللفظ، من الضرب وغيره، ولذلك جاز التخصيص عليه، شريطة أن تبقى حرمة التأفيف المدلول عليها باللفظ المنطوق، كما ذكرت .

ولذلك جوَّز الإمام الغزالي حبس الوالد في حق دين الولد، مع أنه أذىً شمله مفهوم قوله تعالى :

} ولا تقل لهما أف { .

كما جوَّز الفقهاء إيذاء الوالد بالفجور، والردة، وغير ذلك.

1. مفهوم المخالفة:

إن حكم المنطوق وإن كان خاصاً، لكن يدل بمفهومه على حكم عام، وهو انتفاء حكم المنطوق في جميع الصور المسكوت عنها، ولذلك جاز تخصيصه، بأن يقوم دليل أقوى من المفهوم، يدل على ثبوت حكم المنطوق في بعض صوره، ويخص حينئذ المفهوم .

وذلك كتخصيص مفهوم قوله ـ r ـ : ” إذا بلغ الماء قلتين لم يحملْ خبئا ” .

فمفهوم هذا الحديث أن الماء إذا كان دون القلتين يحمل الخبث، سواء أكان راكداً أم جارياً، فهو عام شامل للصورتين معا، ولذلك جاز تخصيصه، فخص منه الجاري، على القول القديم الشافعي، وهو مختار بعض أصحابه، لقوله ـ r ـ : ” إن الماء طهور لا ينجسه شيء ” الوارد في بئر بضاعة التي كانت تجري في البساتين .

والقول بعدم التنجيس، إنما هو بشرط عدم التغير، إذ المتغير نجس بالإجماع(111) .

المسألة الثالثة:

في الغاية التي ينتهي إليها التخصيص في العام المخصوص

اختلف الأصوليون على مذاهب في المقدار الذي يجب بقاؤه بعد التخصيص، والأصح أنه يختلف باختلاف العام .

فإن لم تكن صيغة العموم جمعاً كمن، وما، والمفرد المحلى بالألف واللام، وغير ذلك، فإنه يجوز التخصيص فيها إلى أن يبقى واحد، لأنه أقل مراتبه، وذلك نحو قولنا: ” من يكرمني أكرمه ” ونريد به الشخص الواحد.

وان كانت صيغة العموم جمعاً، كالمسلمين، والرجال، فإنه يجوز التخصيص فيه إلى أن يبقى ثلاثة، لأنه أقل الجمع كما مرَّ معنا في فقرة سابقة.

وهذا لا يتنافى مع ما ذكرناه سابقاً من أنه يجوز إطلاق الجمع على الواحد مجازاً، لأنه عام أريد به الخصوص مجازاً، وهنا عام مخصوص حقيقة(112).

العام الذي يراد به الخصوص:

هو اللفظ الذي يدل على العموم، إلا أن عمومه غير مراد أصلا، لا في تناوله للإفراد، ولا في الحكم عليهم، وإنما استعمل أصلا في الواحد، أو في المخصوص المراد، من قبيل إطلاق الكلي على الجزئي، مجازاً مرسلاً، علاقته الكلية والجزئية أو المشابهة .

وذلك كقوله تعالى : ) الذين قال لهم الناس : إن الناس قد جمعوا لكم ( فالناس في الآية لفظ عام، إلا أنه أُريدَ به نعيم بن مسعود الأشجعي، مجازا، لقيامه مقام الناس الكثيرين في تثبيط همة المؤمنين عن ملاقاة المشركين .

وكقوله تعالى : ) أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله ( والمراد بالناس هنا رسول الله ـ r ـ، مجازا، لجمعه ما في الناس من الخصال الحميدة .

وقوله تعالى : ) أولئك مبرأون مما يقولون ( والمراد به السيدة عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها وأرضاها .

العام المخصوص (113):

وهو اللفظ الذي يدل على العموم، وعمومه مراد تناوله لجميع أفراده تناولاً، لا حكما، وذلك لأن بعض الأفراد خرج عنه، فلم يتناوله نظراً للمخصص.

وذلك كقوله تعالى: ) اقتلوا المشركين ( فإن لفظ المشركين عام، ويراد منه أن يتناول جميع أفراده، ولذلك خُصَّ منه أهل الذمة، فلم يشملهم حكمه.

فالفرق بين العام المخصوص، والعام الذي أريد به الخصوص، أن الأول يتناول جميع أفراده تناولاً، لا حكما، لخروج بعضهم عنه بالمخصص، والثاني لا يراد منه في الأصل لا تناول أفراده، ولا الحكم عليهم، وإنما استعمل في الخاص مجازاً.

العام المخصوص حقيقة فيما بقي من الأفراد(114) :

قد عرفنا أن العام المخصوص كان يتناول جميع أفراده بحسب الظاهر، تناولاً وحكما، ثم أخرج بعض الأفراد عن حكمه، وخصوا بحكم آخر، ومن

ثم قصر على بعض أفراده، فصار يستعمل في البعض، بعد أن كان يستعمل في الكل.

وبناء على ذلك فهل يصير مجازاً بعد تخصيصه، بناءً على أنه استعمل في البعض دون الكل، مع أنه موضوعٌ لهم، أم يبقى حقيقة ؟

الأصح عند الجمهور أنه يبقى حقيقة فيما بقي من أفراده، ولا يصير مجازا، لأن المجاز هو استعمال اللفظ في غير ما وضع له، كاستعمال الأسد في الرجل الشجاع، وما هنا ليس كذلك، إذ العام كان يطلق على كل فرد من أفراده الكثيرين، ثم خص منه بعضهم، فخرجوا عن حكمه، إلا أنه لا زال يستعمل فيما وضع له في بقية أفراده .

فعندما سمعنا قوله تعالى : ) اقتلوا المشركين ( علمنا وجوب قتل كل مشرك حقيقة، سواء أكان كتابياً، أم وثنياً، أم دهريا، أم غير ذلك، فكلمة المشرك تشمل كل واحد منهم حقيقة، وعندما استثنى أهل الكتاب، لم يتغير الوضع، بل بقيت كلمة المشرك تستعمل في الوثني والدهري، وغيرهما حقيقة .

وأما العام الذي أريد به الخصوص، فهو مجاز قطعا، لأنه استعمل في غير ما وضع له، والله أعلم.

حجية العام المخصوص(115) :

وبناء على ما ذكرناه من أن العام المخصوص حقيقة فيما بقي من الأفراد، فإنه يكون حجة قطعا، لاستدلال الصحابة به من غير نكير .

فقد احتجت فاطمة رضي الله عنها على أبي بكر الصديق رضي الله عنه بقوله تعالى : ) يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين ( ولم ينكر أبوبكر

ولا أحد من الصحابة عليها احتجاجها بالآية، وإن كان قد دخلها التخصيص في الرقيق، والكافر، والقاتل.

التمسك بالعام قبل البحث عن المخصص :

اتفق العلماء على أنه إذا ورد اللفظ العام في حياة الرسول ـr ـ وجب العمل به قبل البحث عن المخصص.

وأما بعد وفاته فالجمهور أيضا على أنه يعتقد عمومه في الحال ويجب العمل به، قبل البحث عن المخصص، إذ الأصل عدمه، وهو مكلف بمقتضى العموم (116).

ثم إذا أراد البحث عن المخصص فإنه يبحث عنه إلى أن يغلب على ظنه عدمه، ولا يشترط القطع بعدمه والله اعلم(117).

المسألة الرابعة

في المخصص

المراد بالمخصِّص هنا ما يدل على التخصيص ويفيده، سواء أكان لفظاً، أم غير لفظ، من حس، وعقل، وغير ذلك.

وهو نوعان: متصل، ومنفصل.

النوع الأول

في المخصص المتصل

والمراد بالمتصل ما لا يستقل بنفسه في إفادة المعنى، بل بواسطة العام المذكور قبله، لتعلقه به، فلا بد من ذكره مقارناً له ليفيد.

فعندما نسمع قول القائل : ( إلا زيداً ) لا نفهم منه شيئا، إلا إذا ذكر المستثنى منه معه، وهو العام، كقوله : ( جاهد المؤمنون إلا زيدا ) وعند ذلك نفهم المعنى المراد من هذا المخصص، وهو الاستثناء، ولولا ذكر العام قبله، لما فهم المراد منه .

وينقسم المخصص المتصل إلى أربعة أقسام :

القسم الأول

الاستثناء

1. تعريفه:

هو إخراج بعض ما يتناوله اللفظ بإلا أو إحدى أخواتها .

وأخوات إلا هي: غير،وسوى،وسواء، وخلا، وعدا، وحاشا،وما خلا، وما عدا، وليس، ولا يكون .

2. شروطه(118):

‌أ- يشترط بإلا خاصة أن لا تكون صفة، وهي التي تكون تابعة لجمع منكر غير محصور، كقوله تعالى : ) لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا ( أي لو كان فيهما آلهة غير الله، فهي في هذه الحالة لا تكون مخصصة، لأنها لا تخرج شيئا .

‌ب- أن يكون الإخراج مع المخرج منه صادرين من متكلم واحد، فإذا قال القائل: ( إلا زيدا ) عقب قول رجل آخر: ( جاهد المؤمنون ) لا يكون استثناء، وإنما هو لغو، لعدم صدروهما من قائل واحد.

ويستثنى من ذلك رسول الله ـ r ـ، فلو قال: ( إلا أهل الذمة ) عقب نزول قوله تعالى: ) اقتلوا المشركين ( كان ذلك استثناء، لأن رسول الله مبلغ عن الله، وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى.

‌ج- أن يكون المستثنى متصلاً بالمستثنى منه عادة، فلا يجوز انفصاله عنه، فلو قال قائل: ( وقفت عماراتي على المجاهدين في سبيل الله ) ثم قال بعد أيام، أو ساعات، أو ساعة: ( إلا العمارة الفلانية ) لم يقبل استثناؤه، ويعتبر لغوا، لأن شرط صحة الاستثناء الاتصال.

وما يروى عن ابن عباس من انه أجازه لسنة، فضعيف، غير صحيح. ويغتفر الفاصل اليسير عرفاً، كتنفس، وسعال.

‌د- أن لا يكون الاستثناء مستغرقا، فإذا كان مستغرقاً لم يصح، ويعتبر لغوا، وذلك كما لو قال في الإقرار: ( على عشرة إلا عشرة ) فإنه تلزمه العشرة، ويلغو استثناؤه، لاستغراقه.

وإما إذا كان مساوياً، أو أكثر، فالجمهور على جوازه، كما لو قال: ( علي عشرة إلا تسعة )، فإنه يصح استثناؤه، ويلزمه واحد فقط.

‌ه- أن يكون الاستثناء متصلا، بأن يكون المستثنى من جنس المستثنى منه، كقولنا: ( جاهدت الأمة إلا المنافقين ).

أما إذا كان منقطعا، بأن كان المستثنى من غير جنس المستثنى منه كقولنا : ( قام القوم إلا حمارا ) فإنه لا يعتبر مخصصا، لأنه لا استثناء فيه، ولا إخراج، لأن الحمار لم يدخل في القوم حتى يخرج منهم ، وإنما سمي استثناء مجازا، بل أنكر بعضهم تسميته استثناء لا حقيقة ولا مجازا .

3. الاستثناء من النفي وعكسه(119) :

اتفق العلماء على أن ( إلا ) للإخراج، فتخرج بعض ما تناوله اللفظ المستثنى منه.

واتفقوا على أن المستثنى مخرج من اللفظ العام السابق. كما اتفقوا على أن كل شيء خرج من نقيض دخل في نقيضه.

فهذه أمور الثلاثة اتفق عليها العلماء، وبقي امر رابع وقع فيه الخلاف وهو أن المستثنى مخرج من الحكم، أو من المحكوم به .

فإذا قال قائل: ( قام القوم إلا زيدا، فهناك أمران، الأول: القيام، والثاني: الحكم ).

فهل الاستثناء إخراج للمستثنى من المحكوم به، وهو القيام، فيدخل في نقيضه، وهو عدم القيام ؟

أم أنه إخراج للمستثنى من الحكم، فيدخل في نقيضه وهو عدم الحكم، فيكون غير محكوم عليه، وهو في هذه الحالة أعم من أن يكون قائما وأن لا يكون، إذ يمكن قيامه ويمكن عدمه ؟

الجمهور على أن الاستثناء إخراج للمستثنى من المحكوم به، وإدخال له في نقيضه.

ولذلك كان الاستثناء من النفي إثباتا، ومن الإثبات نفياً عندهم . وإلا لما أثبتنا الإيمان والتوحيد لمن قال: لا له إلا الله، لأن معناه في هذه الحالة نفي الإلهية عن غيره فقط، من دون إثباتها لله تعالى، إذ المستثنى أعم من أن يثبت له الحكم أولا.

إلا أن الأمة مجمعة على إثبات التوحيد بهذا الاستثناء، فدل على ما قلناه من أن الاستثناء من الإثبات نفي، ومن النفي إثبات.

4. الاستثناءات المتعددة(120) :

الاستثناءات المتعددة في الجملة الواحدة، إما أن تكون متعاطفة، وإما أن لا تكون .

فان كانت متعاطفة، فإن الاستثناءات ترجع إلى الأول، وذلك كقول المقر : ( عليّ عشرة إلا أربعة وإلا ثلاثة وإلا اثنين ) فان الاستثناءات ترجع إلى الأول ويلزمه واحد فقط .

وأما إذا لم تكن متعاطفة، فكل منها يرجع إلى ما يليه، شريطة أن لا يكون مستغرقا له، لما مر من عدم صحة المستغرق، وذلك نحو قول المقر : ( على عشرة إلا خمسة إلا أربعة إلا ثلاثة ) فانه يلزمه في هذه الحالة ستة فقط، لأن الثلاثة تخرج من الأربعة فيبقى واحد، يخرج من الخمسة، فيبقى أربعة، تخرج من العشرة، فيبقى ستة .

فإن استغرق غير الأول ما يليه نحو قوله: ( على عشرة إلا اثنين إلا ثلاثة إلا أربعة ) لغا استثناء كل منها لما يليه لأنه مستغرق له، ورجع الجميع إلى الأول، فيلزمه في هذه الحالة واحد فقط.

هذا إذا لم يكن الثاني مستغرقا للأول أيضا، وألا لغت جميع الاستثناءات، وذلك كقوله : ( له على عشرة إلا عشرة إلا عشرة ) .

5. الاستثناء عقب الجمل المتعاطفة(121) :

إذا وردت جمل عطف بعضها على بعض، ثم تعقب هذه الجمل استثناء، فهل يرجع الاستثناء إلى الجملة الأخيرة، أم إلى الجميع الجمل ؟

وذلك كقوله تعالى: ) والذين يرمون المحصنات، ثم لم يأتوا بأربعة شهداء، فاجلدوهم ثمانين جلدة، ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا، وأولئك هم الفاسقون، إلا الذين تابوا ( .

فان هذا الاستثناء، وهو قوله تعالى: ) إلا الذين تابوا ( وقع بعد ثلاث جمل، عطف بعضها على بعض بالواو، الأولى فيها الأمر بالجلد، والثانية النهي عن قبول الشهادة، والثالثة الحكم بالفسق.

فهل يرجع الاستثناء إلى الجمل الثلاثة فلا يجلدون، ولا يفسقون، وتقبل شهادتهم إن تابوا، أو يرجع إلى الأخيرة فقط، فالتوبة تسقط عنهم الحكم بالفسق، ولكن لا بد من جلدهم، ورد شهادتهم ؟

قبل بيان الرأي المختار في هذه المسألة يجب بيان الآتي :

‌أ- الخلاف في رجوع الاستثناء إلى الجميع أو الأخيرة، إنما هو في الجمل المتعاطفة، أما المفردات المتعاطفة، فلا خلاف في رجوع الاستثناء فيها إلى الجميع.

‌ب- العطف في هذه الجمل يستوي فيه العطف بالواو وغيرها من حروف العطف، على الأصح عند الجمهور.

‌ج- اتفق العلماء على رجوع الاستثناء إلى الجملة الأخيرة، وإنما الخلاف فيما عداها .

‌د- كذلك لا خلاف في رجوع الاستثناء إلى الأولى إن قام عليه دليل، كقوله عليه السلام: ( ليس على المسلم في عبده ولا فرسه صدقة، إلا صدقة الفطر ) فإن الاستثناء راجع إلى الأولى فقط.

كما أنه لا خلاف في عدم رجوعه إليها إذا قام الدليل على ذلك، كالجلد في آيتنا، فإن الاستثناء قطعاً لا يرجع إليه، ويجب جلد القاذف، ولو تاب.

فالدليل قد يعمم الاستثناء وقد يخصصه، وكلامنا ليس فيه، وإنما في الجمل التي يمكن أن يعود الاستثناء إليها، ولا دليل على التعميم أو التخصيص، كما في آية القذف.

إذا عرفت هذا فمذهب الجمهور تبعا للإمام الشافعي رضي الله عنه إن الاستثناء يرجع إلى جميع الجمل في الظاهر.

وعليه أن القاذف إذا تاب يسقط عنه الجلد، والفسق، وتقبل شهادته، لرجوع الاستثناء إلى الجميع.

إلا أن الدليل دل على وجوب جلده، كما ذكرنا، فبقي سقوط الفسق، وقبول الشهادة، إذ رجع الاستثناء إليهما.

وخالف في ذلك أبو حنيفة رضي الله عنه فقال: إن الاستثناء يرجع إلى الأخيرة فقط، ولا يرجع إلى غيرها إلا بدليل.

فعندنا الأصل فيه أنه يرجع إلى الجميع إلا ما خصه الدليل، وعنده يرجع إلى الأخير إلا إذا دل الدليل على رجوعه إلى غيرها، والله أعلم.

6. القران بين الجملتين(122):

إذا قرن بين جملتين لفظا، بأن عطف إحداهما على الأخرى بالواو مثلا، فإن هذا العطف لا يقتضي التسوية بينهما في غير الحكم المذكور.

فما لم يذكر من الأحكام المعلومة لإحداهما من الخارج، لا يثبت للآخر بهذا العطف.

مثال ذلك حديث أبي داود : ( لا يبولن أحدكم في الماء الدائم، ولا يغتسل فيه من الجنابة )

فان البول في الماء الدائم ينجسه إذا كان أقل من قلتين، تغير أو لم يتغير، وليس كذلك الغسل من الجنابة.

القسم الثاني

الشرط(123)

قد مر معنا في تقسيم الحكم أن الشرط في الاصطلاح : هو ما يلزم من عدمه العدم، ولا يلزم من وجوده وجود ولا عدم لذاته .

وقد شرحنا هذا التعريف هناك، فلا حاجة لإعادته هنا(*) .

ثم الشرط ينقسم إلى ثلاثة أقسام عقلي، كاشتراط الحياة للعلم، وشرعي، كاشتراط الطهارة للصلاة، وعادي كنصب السلم لصعود السطح، وهذه الأقسام الثلاثة لا تخصيص فيها.

وإنما التخصيص في قسم رابع وهو الشرط اللغوي، النحوي، وهو ما دخل عليه شيء من الأدوات المخصوصة الدالة على سببية الأول ومسببية الثاني .

وذلك كقول السيد لعبده: ( إن انتصر المسلمون في المعركة الفلانية فأنت حر ).

فالانتصار سبب الحرية .

ولذلك صار الشرط اللغوي مستعملا في السببية غالبا، ولكن ليس بذاته وإنما بجعل الجاعل .

فإذا قال السيد لعبده : أكرم الفقهاء إن جاءوك، لزم من مجيئهم وجود الإكرام، ولزم من عدمه عدمه، ولكن هذا لا من ذات الشرط، وإنما من أمر خارج، وهو إيجاب السيد، وامتثال الأمر، فلو أن السيد لم يوجبه، لما لزم من مجيئهم الإكرام، ولو أن العبد لم يمتثل، لما لزم من مجيئهم الإكرام أيضا، إذن فالشرط اللغوي سبب جعلي، لا ذاتي، وبهذا نميز بين السبب والشرط .

والشرط اللغوي هذا مخصص، إذ لولاه لعمَّ وجوب الإكرام في مثالنا جميع الفقهاء، الجائي منهم، والذي لم يجيء، إلا أن هذا الشرط خصص الإكرام بالجائي منهم .

اتصال الشرط بالكلام، وتعقبه للجمل(124):

ويشترط في الشرط المخصِّص أن يكون متصلاً بالكلام، كما مر في الاستثناء، ولا يجوز تراخيه عنه.

وإذا ورد عقب جمل متعاطفة رجع إلى جميعها على الأصح، وهو أولى من الاستثناء في هذا.

وذلك كقول القائل : ( أكرم الفقهاء، وأحسن إلى الأصوليين، وانصر المحدثين إن جاؤوك ) .

فإن الشرط في هذه الجمل المتعاقبة، المتعاطفة، يرجع إلى الجميع، فيشترط في جميعهم المجيء حتى يتحقق الإكرام، والإحسان، والنصر.

القسم الثالث

الصفة (125) :

هذا هو المخصِّص الثالث من المخصصات المتصلة، ومثاله: أكرم طلاب العلم المجاهدين.

فوصفهم بالجهاد، وتقييدهم به مخرج لغيرهم، ممن لم يجاهد، ولولاه لوجب إكرام كل طالبٍ للعلم .

وهي كالاستثناء في وجوب اتصالها بالكلام، وعودها إلى جميع الجمل . سواء تقدمت أو تأخرت، كقولنا : وقفت على أولادي وأولادهم المحتاجين، ووقفت على محتاجي أولادي وأولادهم، فان الوصف يرجع في الحالتين إلى الأولاد وأولادهم .

التقييد بالحال، والظرف:

ومن قبيل التخصيص بالصفة، التخصيص بالحال، والظرف.

فمثال التخصيص بالحال قول القائل : ( وقفت على أولادي وأولاد أولادي محتاجين )، بتنكير محتاجين، حتى يكون حالا .

فإن الاحتياج يكون شرطاً في الجميع .

ومثاله في ظرف الزمان: ( لا تكرم زيدا اليوم ).

ومثاله في ظرف المكان: ( لا تهن أحدا في الحرم ).

القسم الرابع

الغاية(126)

وهي آخر المخصِّصات المتصلة .

وغاية الشيء طرفه، ولها لفظان :

الأول: ( إلى )، كقوله تعالى: ) ثم أتموا الصيام إلى الليل ( .

الثاني: ( حتى )، كقوله تعالى: ) ولا تقربوهن حتى يطهرن ( .

وحكم ما بعدها يكون مخالفاً لحكم ما قبلها.

والمراد بالغاية المخصصة هنا، غاية تقدمها عموم يشملها لو لم يأت، وإلا فلا تكون مخصصة .

وذلك كقوله تعالى : ) قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله، ولا باليوم الآخر، ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله، ولا يدينون دين الحق، من الذين أوتوا الكتاب، حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون (.

فإنه لولا هذه الغاية لوجب علينا قتالهم، أعطوا الجزية أم لم يعطوها.

وكقول القائل: ( أكرم الأسرى إلى أن تنتهي المعركة ) و ( أكرم بني تميم إلى أن يعصوا ) فلا إكرام بعد نهاية المعركة، ولا إكرام في حال المعصية، سواء عصى الجميع، ويكون التخصيص حينئذ للأحوال، أو عصى بعضهم فيكون التخصيص للأشخاص. والله أعلم .

(110) المعتمد : 1/ 251 ، الأحكام : 2 / 407 ، جمع الجوامع : 2 / 2 ، المحصول :

3 / 7 .

(111) المعتمد : 1 / 252 ، المحصول : 3/12 ، جمع الجوامع : 2 / 2 .

(112) التبصرة : 125 ، اللمع : 17 ، المعتمد : 1/ 253 ، الأحكام : 2 / 412 ،

المنتهى : 87 ، المحصول : 3 / 15 ، الإبهاج ونهاية السول : 2 / 76 ، جمع

الجوامع : 2 /3 .

(113) جمع الجوامع : 2 / 4 .

(114) التبصرة : 112 ، المعتمد : 1 / 282، المحصول : 3 / 18 ، الإبهاج ونهاية السول :

2 / 80 ، جمع الجوامع : 2 / 5 ، فوواتح الرحموت : 1 / 311 .

(115) المحصول : 3 / 22 ، جمع الجوامع : 2 / 7 ، المعتمد : 1 / 286 .

(116) وهو اختيار الصيرفي ، وابن السبكي ، والبيضاوي ، وصاحب الحاصل ، وإليه ميل

الرازي .

جمع الجوامع : 2 / 8 ، المحصول : 3 / 29 ، الإبهاج : 2 / 86 ، نهاية السول :

2 / 86 وذهب ابن سريج ، و الشيرازي ، وإمام الحرمين ، والاصطرخي ، وأبو

إسحق المروزي ، وابن خيران ، و القفال الكبير ، وابن الحاجب ، والغزالي إلى أنه

لا يعمل به و لا يعتقده إلا بعد البحث عن المخصص .

وانظر شرحنا على التبصرة : 119 .

(117) وهو اختيار ابن سريج ، وإمام الحرمين ، والغزالي ، والآمدي ، وابن الحاجب ،

وانظر شرحنا على التبصرة : 119 .

(118) التبصرة : 162 ، المستصفى : 2 / 165 ، المنخول : 157 ، اللمع : 22 ، المعتمد :

1 / 260 ، المحصول : 3 / 39 ، الأحكام : 2 / 420 ، المنتهى : 91 ، جمع

الجوامع ، 2 / 9 الإبهاج ونهاية السول :2 / 89 ، كشف الأسرار : 3 / 117 .

(119) المحصول : 3/56 ، الأحكام : 2 / 451 ، جمع الجوامع : 2 / 15 .

(120) المحصول 3/60 ، جمع الجوامع : 2 / 16 .

(121) التبصرة : 172 ، البرهان : 1 / 388 ، المعتمد : 1 / 264 ، المنخول : 160 ،

الأحكام : 2 / 438 ، منتهى السول : 2 / 25 ، المنتهى : 92 ، المحصول : / 63

الإبهاج ونهاية السول : 2 / 95 ، اللمع : 22 .

(122) جمع الجواميع : 2 / 19 .

(123) المحصول : 3 / 87 ، الأحكام : 2 / 453 ، جمع الجوامع : 2 / 20 ، المعتمد :

1/258 .

(*) راجع ما ذكرناه عن تعريف الشرط في الصفحة 51 من هذا الكتاب .

(124) جمع الجوامع : 2 / 22 .

(125) جمع الجوامع : 2 / 23 ، الأحكام : 2 / 457 ، المحصول : 3 / 105 ، المعتمد :

1 / 257 .

(126) الأحكام : 2 / 458 ، جمع الجوامع : 2 / 23 ، المعتمد : 1 / 257 ، المحصول :

3/101 .