الصفحة الرئيسية » كتب للقراءة والتحميل » الوجيز في أصول التشريع الإسلامي » الفصل الرابع / في كيفية الاستدلال بالألفاظ / المنطوق والمفهوم وأقسامهما وأنواعهما

الفصل الرابع / في كيفية الاستدلال بالألفاظ / المنطوق والمفهوم وأقسامهما وأنواعهما

الفصل الرابع

في كيفية الاستدلال بالألفاظ

المنطوق والمفهوم

دلالة الألفاظ على مدلولاتها إما أن تكون بالمنطوق، وإما أن تكون بالمفهوم وهما ما سنبحثهما في هذا الفصل.

أولا: المنطوق

المنطوق لغة : هو الملفوظ به .

واصطلاحا: هو ما دل عليه اللفظ في محل النطق.

أي: المعنى الذي يدل عليه اللفظ المنطوق به، الناشئ من وضعه اللغوي.

وذلك كتحريم التأفيف للوالدين الذي يدل عليه قوله تعالى : ) فلا تقل لهما أف ( .

فهذا الحكم، وهو تحريم التأفيف، دلَّ عليه اللفظ المنطوق به، بوضعه اللغوي، دون الحاجة إلى قرينة خارجية .

أقسام المنطوق(58) :

ينقسم المنطوق من حيث ظهوره في المعنى إلى ثلاثة أقسام.

1. النص:

وهو اللفظ يفيد معنى لا يحتمل غيره.

وذلك كلفظ ” محمد ” في قولنا : جاهد محمد، فإن لفظة محمد، تدل على الذات المعينة، من غير احتمال لغيرها من الذوات .

2. الظاهر:

وهو اللفظ الذي يفيد المعنى الذي وضع له، مع احتمال غيره احتمالاً مرجوحا .

وذلك كلفظ ” الأسد ” في قولنا : رأيت أسدا، فإن الأصل في الاستعمال الحقيق، فيحمل على الحيوان المفترس، لتبادره إلى الذهن، مع احتمال أن يكون المرئي رجلاً شجاعا، إلا أن هذا الاحتمال مرجوح، لأنه معنى مجازي، لا يصار إليه إلا عند تعذر الحمل على الحقيقة، مع وجود القرينة .

3. المجمل:

وهو اللفظ الذي احتمل معنيين متساويين على السواء.

وذلك كلفظ ” القرء ” المحتمل لمعنييه على السواء، وهما الطهر، والحيض.

وكلفظ ” الجون ” المحتمل لمعنييه، الأبيض والأسود، على السواء وسيأتي بيانه مع بيان المبين في الباب السادس إن شاء الله .

دلالة المنطوق (59) :

قد عرفنا أن المنطوق، ما دل عليه اللفظ في محل النطق، إلا انه في بعض الحالات يحتاج الكلام حتى يكون صادقاً أو صحيحاً إلى تقدير مضمر، بواسطته يصح الكلام ويستقيم، وإلا فلا.

وفي بعض الحالات لا يتوقف الكلام على التقدير، إلا انه يدل على ما لم يقصد به.

ولذلك قسم الأصوليون الدلالة إلى دلالة اقتضاء وإشارة .

1. دلالة الاقتضاء:

وهي دلالة اللفظ ـ الدال على المنطوق ـ على معنى مضمر، يتوقف عليه صدق الكلام، أو صحته عقلاً أو شرعا.

‌أ- ما يتوقف عليه صدق الكلام : وذلك كقول رسول الله ـ r ـ : ” رُفع عن أمتي الخطأ، والنسيان، وما استكرهوا عليه ” . فإن مقتضاه رفع ذات الخطأ والنسيان، وما استكرهوا عليه، وهذا مستحيل، لأن هذه الأمور قد وقعت، فحتى يصدق الكلام يجب تقدير معنى مضمر، وهو : رفع الإثم المترتب عليها، والمؤاخذة بها، وبهذا يصدق الكلام، ويصير معناه : رفع عن أمتي إثم الخطأ، والنسيان، وما استكرهوا عليه .

‌ب- ما تتوقف عليه صحة الكلام عقلا: وذلك كقوله تعالى : ) واسأل القرية ( أي اسأل أهلها، إذ يستحيل عقلاً أن يسأل القرية، وهي الأبنية المجتمعة، ولذلك كان لا بد من تقدير معنى محذوف تتوقف عليه صحة الكلام، إلا وهو ( الأهل ) .

‌ج- ما تتوقف عليه صحة الكلام شرعا: وذلك كما لو قال إنسان لمالكِ عبدٍ من العبيد : إعتق عبدك عني بألف، ففعل، فإن العتق يصح عن القائل .

إلا انه لا بد من تقدير معنى في الكلام، ليصح العتق شرعا، لأن العبد ملك لمالكه الأول، فكيف يعتقه عن القائل، وهو ليس بمالك له ؟

إلا أن قوله: ( عني ) إشارة إلى المعنى المحذوف، وكأنه قال له: ملكني عبدك بألف دينار، ثم أعتقه عني بالوكالة، لأن صحة العتق تتوقف على الملك شرعا.

2. دلالة الإشارة :

وهي دلالة اللفظ على ما لم يقصد به.

وذلك كقوله تعالى: ) أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم ( فإن هذا اللفظ يدل على صحة صوم من أصبح جنبا، وإن لم يكن هذا المعنى مقصوداً من اللفظ في الوضع، لأنه من لوازم الجماع حتى آخر لحظة من الليل.

أي أن الإنسان يجوز له أن يجامع أهله حتى آخر لحظة من الليل، وهي غير كافية للغسل من الجنابة، إذن سيبدأ الإنسان بعض صيامه قبل أن يغتسل، فلو لم يكن صيامه صحيحاً، لأمره الله بأن ينزع عن الجماع قبل الفجر، بزمن يتسع للغسل، فلما لم يأمره الله بذلك، دل على أنه يجوز له أن يصبح جنبا، وأن صيامه صحيح شرعا .

محمل المنطوق:

اللفظ الدال بمنطوقه، إما أن يرد من الشارع أو من غيره .

فان ورد من الشارع، وتردَّد بين الحقيقة الشرعية، واللغوية، والعرفية، فانه يحمل أولاً على الحقيقة الشرعية، لأن النبي ـ r ـ بعث لبيان الشرعيات.

فإن لم يكن له حقيقة شرعية، أو كان ولم يمكن الحمل عليها، حُمل على الحقيقة العرفية الموجودة في عهده ـ r ـ، لأن التكلم بالمعتاد عرفاً أغلب من المراد عند أهل اللغة، ولأنها المتبادرة إلى الفهم.

فإن تعذَّر حمله عليها حُمل على الحقيقة اللغوية. وهذا إذا كثر استعمال الشرعي والعرفي، بحيث صار يسبق أحدهما دون اللغوي، فان لم يكن، فإنه مشترك، لا يترجح: إلا بقرينة، وهذا هو المختار للجمهور من المحققين.

وإذا ورد اللفظ من غير الشارع فإنه يحمل على معناه اللغوي، لا طرده، فإن تعذر حمله على المعنى اللغوي، حمل على المعنى العرفي.

وهذا هو المراد من قول الفقهاء: ( ما ليس له ضابط في الشرع، ولا في اللغة، يرجع به إلى العرف ).

وإنما أخر العرف هنا لعدم انضباطه واطراده . والله أعلم .

ثانيا: المفهوم(60)

المفهوم لغة : ما يستفاد من اللفظ .

واصطلاحاً: ما دل عليه اللفظ لا في محل النطق.

أي: المعنى الذي يدل عليه اللفظ المنطوق به، لا بوضعه اللغوي، وإنما بما يستفاد منه، مما يرمي إليه، سواء أوافق المعنى المستفاد حكم المنطوق، أم خالفه.

وذلك كتحريم الضرب للوالدين المستفاد من قوله تعالى: ) فلا تقل لهما أف(.

فهذا الحكم، وهو تحريم الضرب، لم يدل عليه اللفظ بوضعه، لأنه وضع لتحريم التأفيف، وإنما استفيد منه، بانتقال الذهن إليه، بطريق التنبيه بالتأفيف على الضرب .

أقسام المفهوم(61)

المعنى المفهوم من اللفظ لا في محل النطق إما أن يوافق حكمه حكم المنطوق، أو يخالفه.

فإن وافقه فهو مفهوم الموافقة .

وإن خالفه فهو مفهوم المخالفة.

1. مفهوم الموافقة:

وهو المعنى، المفهوم من اللفظ، الذي يوافق حكمه حكم المنطوق به، في الإيجاب والسلب .

وهو ينقسم إلى قسمين :

‌أ- فحوى الخطاب : وهو ما كان أولى بالحكم من المنطوق . وذلك كتحريم ضرب الوالدين، المفهوم من قوله تعالى : ) فلا تقل لهما أف ( .

فهو أولى بالتحريم من التأفيف المنطوق به، لأن الإيذاء في الضرب أشد منه في التـأفيف، وذلك كان الضرب أولى بالحكم منه .

‌ب- لحن الخطاب: وهو ما كان الحكم فيه مساوياً للحكم في المنطوق وذلك كإحراق مال اليتيم المفهوم من قوله تعالى: ) إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلماً إنما يأكلون في بطونهم ناراً ( .

فان الحكم في الإحراق، مساوٍ للحكم في الأكل، لمساواة الإحراق للأكل في الإتلاف.

2. مفهوم المخالفة:

وهو المعنى المفهوم من اللفظ، الذي يخالف حكمه حكم المنطوق به .

وذلك كقول رسول الله ـ r ـ : ( إذا بلغ الماء قلتين، لم يحمل الخبث ) .

فان منطوق الحديث يدل على أن الماء الذي بلغ قلتين، إذا وقعت فيه نجاسة دفعها عن نفسه، ولا ينجس بها، بالشرط المعروف عند الفقهاء.

ويفهم منه أن الماء إذا كان دون القلتين يحمل الخبث، فلا يدفعه عن نفسه، وينجس به.

وهذا الحكم المفهوم من النص، وهو تنجيس ما دون القلتين، بملاقاته للنجاسة، مخالف للحكم المطوق به، وهو عدم تنجيس الماء الزائد عن القلتين، بملاقاته للنجاسة.

شروط العمل بالمفهوم :

لقد اشترط القائلون بحجية مفهوم المخالفة للعمل به شروطاً لا بد منها، ليكون مفهوم المخالفة حجة، وإلا فلا يحتج به، وهي:

1. أن لا يكون المسكوت عنه أولى بالحكم من المنطوق، وذلك كقوله تعالى : ) فلا تقل لهما أف ( فانه لا يفهم منه جواز الضرب، لأن الضرب المسكوت عنه أولى بالحرمة من التأفيف .

2. أن لا يكون المسكوت عنه ترك لخوف، فان كان كذلك لا يعمل به، وذلك كقول رجل حديث عهد بالإسلام لخادمه، بحضور المسلمين : تصدق بهذا المال على المسلمين، وهو يريد المسلمين وغيرهم من المحتاجين، إلا أنه سكت عنهم خوفاً من إن يتهم بالنفاق، فإذا قامت القرينة على أنه إنما سكت عن المعنى المفهوم خوفاً تعطل العمل بالمفهوم . ولم يعمل به .

3. أن لا يكون المسكوت عنه ترك للجهل به، كمن قال : النفقة واجبة للأصول والفروع، وهو يجهل حكم النفقة على الأطراف، فإنه لا يعمل المفهوم هنا، فلا يحكم بأن النفقة للأطراف غير واجبة، لأنه يجهل حكمها، فسكوته عنه لا لأن النفقة لهم غير واجبة، وإنما لعدم علمه بها، ولذلك تعطل العمل بالمفهوم .

4. أن لا يكون المنطوق خرج مخرج الغالب، فإن خرج مخرج الغالب تعطل العمل به أيضا.

5.

وذلك كقوله تعالى : ) وربائبكم اللاتي في حجوركم ( فإن مفهوم هذا النص أن الربيبة إذا لم تكن في حجر زوج الأم، جاز نكاحها، إلا أن هذا المفهوم غير مراد، والعمل به معطل، لأن الحكم خرج مخرج الغالب، إذ غالباً ما تكون الربيبة في حجر الزوج مع أمها، ولذلك قيد بها، وليس المراد نفي الحكم عن الربيبة التي لا تكون في الحجر .

6. أن لا يكون المذكور بالحكم خرج جواباً لحادثة أو واقعة معينة، كما لو سئل رسول الله ـ r ـ : هل في الغنم السائمة زكاة ؟ فقال: نعم، فان هذا لا يعني أن الغنم المعلوفة لا زكاة فيها، لان الحكم لم يخرج لنفي الحكم عن المعلوفة، وإنما هو جواب خاص لبيان حكم السائمة التي سئل عنها فقط.

7. أن لا يكون المذكور خرج مخرج الواقع، فإن خرج مخرج الواقع لم يعمل به، وذلك كقوله تعالى : ) لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين (، فان مفهوم هذه الآية أنه يجوز موالاة الكافرين مع المؤمنين وإنما النهي عن موالاتهم دون المؤمنين إلا أن المفهوم غير مراد، والآية لم تنزل لبيان هذا المفهوم، وإنما نزلت في واقعة معينة، في قوم والوا الكافرين دون المؤمنين، فنهوا عن ذلك فالحكم أريد به بيان الواقع، لا نفي الحكم عن غيره(62)

أنواع مفهوم المخالفة :

ينقسم مفهوم المخالفة إلى عدة أنواع، سوف نعرض لأهمها، وهي:

1. مفهوم الصفة :

وهو أن يعلق الحكم بصفة من صفات الذات، يدل على نفي الحكم عن الذات عند انتفاء تلك الصفة .

وذلك كقول رسول الله ـ r ـ ( في سائمة الغنم زكاة ) فإن الغنم اسم ذات، ولها صفتان، صفة السوم، وصفة العلف، وقد علق الشارع الوجوب على أحد هاتين الصفتين، وهو السوم، فدل ذلك على انتفاء الحكم عند انتفائه، فإذا كان الغنم معلوفة، فلا زكاة فيها .

2. مفهوم الشرط :

وهو أن يعلق الحكم على الشيء بكلمة ( إن ) أو غيرها من الشروط، وذلك كقوله تعالى : ) وان كن اولات حمل فأنفقوا عليهن ( أي فغير أولات الحمل لا يجب الإنفاق عليهن .

وكقوله تعالى: ) وان كنتم مرضى أو على سفر فعدة من أيام أخر ( أي فإن لم تكونوا كذلك فلا يجوز لكم الفطر، فيثبت الحكم بثبوت الشرط وينتفي بانتفائه .

3. مفهوم الغاية :

وهو أن يعلق الحكم على بلوغ غاية، بكلمة ( حتى ) أو غيرها.

وذلك كقوله تعالى: ) فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجاً

غيره ( أي فإذا نكحت زوجاً آخر، جاز لزوجها الأول نكاحها، إذا طلقها الزوج الآخر الذي نكحته.

وكقوله تعالى: ) وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود ( أي فإذا تبين فلا يجوز لكم الأكل.

4. مفهوم العدد :

وهو أن يعلق الحكم بعدد من الأعداد.

وذلك كقوله تعالى: ) الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة ( أي لا أكثر من ذلك ولا أقل.

وكقوله عليه الصلاة والسلام: ( إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم فليغسله سبع مرات ) أي لا أقل من ذلك.

5. مفهوم اللقب :

وهو أن يعلق الحكم بالاسم وما في معناه كاللقب والكنية.

وذلك كقوله الله تعالى: ) محمد رسول الله ( فإننا لو قلنا بالمفهوم هنا، للزمنا نفي الرسالة عن غيره من الرسل، وهذا كفر.

ولذلك ذهب الأصوليون إلى أن هذا المفهوم، ليس بحجة، ولا يعمل به .

وأما ما سواه من المفاهيم الأربعة التي ذكرناها، وهي: الصفة، والشرط، والغاية، والعدد، فإنها حجة، يجب العمل بها، والاعتماد عليها. والله أعلم(63) .

(58) جمع الجوامع : 1 / 236 .

(59) جمع الجوامع : 1/239 ، الأحكام :3/91.

(60) جمع الجوامع :1/240 ،الأحكام : 3/ 93.

(61) جمع الجوامع : 1/240 ، الأحكام : 3/94 .

(62) الأحكام : 3/144 ، رفع الحاجب : 1/ ق 97 – أ ، جمع الجوامع : 1/ 245.

(63) التبصرة : 218 ، اللمع : 29 ، المستصفى : 2/ 204 ، المعتمد 2/ 162،

الاحكام :3/93 ، 146 ، المحصول : 2/205 – 250 ، الالإبهاج ةنهاية السول :

1/235 ، المنتهى :108 ، المنخول :208 ، رفع الحاجب : 2/ق 92 – أ ، منتهى

السول : 2/70 – 73 ، التمهيد : 245 ، جمع الجوامع ) 235 ، مختصر ابن اللحام :

132 ، شرح تنقيح الفصول : 53 ، تيسير التحرير : 1/ 98 ، تقرير التحبير .

1/ 115 ، الأم الشافعي : 2/ 4 .