الصفحة الرئيسية » كتب للقراءة والتحميل » الوجيز في أصول التشريع الإسلامي » الكتاب الثاني في السنة، تعريفها، استقلال السنة بالتشريع، الباب الأول في الأفعال، عصمة الأنبياء، أفعاله صلى الله عليه وسلم تعارض القول والفعل

الكتاب الثاني في السنة، تعريفها، استقلال السنة بالتشريع، الباب الأول في الأفعال، عصمة الأنبياء، أفعاله صلى الله عليه وسلم تعارض القول والفعل

الكتاب الثاني
في السنة

السُّنةِ

السنة لغة: هي الطريقة، قال الله تعالى (( قد خلت من قبلكم سنن فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين )).

وتطلق على السيرة ، حميدة كانت أو مذمومة ، ومنه قوله عليه السلام : (( من سنَّ في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة ، ومن سنَّ في الإسلام سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة )) .

قال لبيد بن ربيعة :

من معشر سنـت لهم آبـاؤهـم ولكـل قـوم سنـة وإمـامهـا

وقال خالد بن زهير الهذلي :

فلا تجزعن من سنة أنت سرتها وأول راضي سنـة من يسيرهـا

واصطلاحا: هي ما صدر عن النبي – r – من قول أو فعل، أو تقرير.

وقد أغفل بعض الأصوليين التقرير، لأنه كف عن الإنكار، والكف فعل، فأدرجوا التقرير في الفعل.

وهذا التعريف خاص بالأصوليين .

وأما الفقهاء فإنهم يطلقونها على ما يقابل الفرض من المندوب والمستحب.

وهي في المعنى العام تطلق على الواجب، والمندوب، والمباح، والمكروه، والمحرم، على معنى أن هذه الأحكام تثبت بها، وإن كان عرف الاستعمال قد خصصها بالمندوب.

حجية السنة: ونعنى بالسنة هنا ما صدر عن رسول الله – r – بغض النظر عن وصوله إلينا بطريق التواتر أو الآحاد، وأما حجية المتواتر والآحاد فستأتي في باب الأخبار.

فالسنة هي المصدر الثاني من مصادر التشريع بعد القرآن الكريم بالإجماع، وجاحد العمل بها كافر بإجماع الأمة أيضاً، لأنه جاحد لأمر الله ومعرض عنه.

قال تعالى: ﴿ ومن يطع الرسول فقد أطاع الله ﴾.

وقال : ﴿ فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ، ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ، ويسلموا تسليماً ﴾.

وقال : ﴿ وما آتاكم الرسول فخذوه ، وما نهاكم عنه فانتهوا ﴾ .

وقال: ﴿ ومن يطع الله ورسوله يدخله جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها﴾.

وقال:﴿ ومن يعص الله ورسوله يدخله ناراً خالداً فيها ﴾.

والآيات في هذا أشهر من أن تذكر، وأكثر من أن تحصر.

فمن أطاع رسول الله فقد أطاع الله ومن عصى رسول الله فقد عصى الله، ومن قبل عن رسول الله فعن الله قبل، ومن أعرض عن رسول الله فعن الله أعرض.

وما يروى من الأمر بعرض الأحاديث على القرآن ، فما وافقه أخذنا به ، وما خالفه أعرضنا عنه ، فإنما هو من وضع الزنادقة وكذبهم على رسول الله .

ومن أعتقد هذا فقد برئت منه ذمة الإسلام .

قال رسول – r -: (( يوشك أن يقعد الرجل، متكئاً على أريكته، يحدث بحديث من حديثي، فيقول: بيننا وبينكم كتاب الله، فما وجدنا فيه من حلال استحللناه، وما وجدنا فيه من حرام حرمناه، ألا وإن ما حرم رسول الله مثل ما حرم الله )).

وسواء في ذلك ما كان من أمور العبادات ، أو العادات ، أو المعاملات ، لأن الشرع إنما جاء لتنظيم جميع جوانب الحياة ، لا لتنظيم جانب العبادات فقط .

ثانيا: لأن العبادة ليست مقصورة فقط على الصلاة والصيام وغيرهما، وإنما هي عامة في كل ما يفعل ابتغاء مرضاة الله، وامتثالاً لأمره.

ومن قال: إننا نأخذ بقول رسول الله في أمور الدين، دون أمور الدنيا، فقد أعظم الفرية على هذه الشريعة، وانسلخ من هذا الدين.

لأن مقتضى كلامه هذا أن يردَّ معظم الشرع الثابت عن رسول الله – r – في المعاملات وغيرها، وهذا لا يقل في كفره عن ذاك الذي رفض السنة، مما خالفت فيه الكتاب.

وقد ذم الله بني إسرائيل فقال : ﴿ أتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلا خزي في الحياة الدنيا، ويوم القيامة يردون إلى أشد العذاب﴾ .

والبحث في هذا الموضوع يطول، وإنما ذكرت ما ذكرت للتنبيه لا للاستقصاء، وإلا خرجنا عن منهج الكتاب.

استقلال السنة بالتشريع :

قد مرَّ معنا في الأبواب السابقة أن السنة تخصص عموم القرآن وتقيد مطلقه، وتنسخ محكمه، وهي في كل هذا مبينة للكتاب.

إلا أنه ليس معنى هذا أنها دائما مبينة وتابعة، فقد تستقل السنة بالتشريع، فتشرع من الأحكام ما لم يتعرض له القرآن، لأنها مصدر للتشريع بمثابة القرآن، ﴿ وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى ﴾.

والأمثلة في استقلالها لا يأتي عليها الحصر ، نذكر منها :

1 – تحريم الجمع بين المرأة وعمتها ، وبين المرأة وخالتها في النكاح .

2 – تحريم لحوم الحمر الأهلية، وغيرها من المأكولات، كتحريم كل ذي ناب من السباع ومخلب من الطير.

3 – زكاة التجارة .

4 – النهي عن بيع الأصناف الربوية بعضها ببعض متفاضلا ، مع إباحة العرايا .

ولا داعي للإسهاب في ذكر الأمثلة لأنها كثيرة جدا ولا تخفى على احد.

ولما كانت سنة رسول الله – r – تنقسم إلى أفعال وأقوال، كان لابد من الكلام عليهما بالتفصيل.

كما أنها لما نقلت إلينا عن طريق الإسناد، كان لابد من الكلام على الأخبار، وطرق ثبوتها.

ولذلك سنقسم البحث في السنة إلى بابين .

الباب الأول: في الأفعال.

والباب الثاني: في الأخبار.

وأما الأقوال، وما يعتريها، فإن الكلام فيها كالكلام في القرآن، وقد تقدم الكلام عليها في مباحث الألفاظ من الكتاب السابق.

فهي عامة، وخاصة، ومطلقة، ومقيدة، وناسخة، ومنسوخة، وأمر، ونهي، وغير ذلك مما قدمناه.

الباب الأول

في الأفعـــال

ويشتمل على الفصول الآتية :

الفصل الأول: في عصمة الأنبياء

الفصل الثاني: في أفعاله عليه السلام.

الفصل الثالث: في تعارض القول والفعل.

الفصل الرابع: في شرع من قبلنا.

الفصل الأول

في عِـصْـمَـةِ الأنـبيـَاء

لقد قدَّم جمهور الأصوليين هذا البحث على الخوض في أفعال الأنبياء وأقوالهم، لما في اعتقاد العصمة من الأهمية لما يصدر عنهم عليهم الصلاة والسلام.

على أن مكان هذا البحث كتب علم الكلام ، حيث يذكر فيها بالبسط والإسهاب .

وأفعال الأنبياء إما أن تكون قبل النبوة، وإما أن تكون بعدها، فإن كانت قبل النبوة ، فالجمهور على أنه لا يمتنع عليهم ذنب ، سواء أكان كبيراً أم صغيراً، وسواء أكان عمداً أم سهواً .

على أن سيرة نبينا محمد – r – المعروفة للقاصي والداني – كانت تمتاز بالعناية الإلهية التي أحاطتها منذ أوائل أيامها.

فما عرف عنه – r – قبل النبوة شرك، ولا كفر، ولا كذب، ولا فاحشة، ولا خيانة، ولا غير ذلك مما يشين سيرة المرء مع ربه، بل مع الناس أجمعين، حتى لقب بالأمين، – r -.

وأما بعد النبوة، فقد أجمعت الأمة على عصمتهم عن تعمد الكذب في الأحكام لدلالة المعجزة على صدقهم كما أجمعوا على عصمتهم عن تعمد الكبائر مما وراء الكذب.

والجمهور على أنهم معصومون عنهما سهواً ، وهو الأولى بهم ، وهو الذي نعتقده ، ولو جاز عليهم الكذب في الأحكام سهواً ، لأدى هذا إلى التشكيك بالوحي .

وأما الصغائر، فإن كانت تدل على الخِـسَّـةِ، كسرقة لقمة، واغتصاب حبة، فهي أيضاً مما أجمعت الأمة على عصمتهم عنها.

وأما إن كانت مما لا خسة فيها، وهي ما سوى الكبائر من المعاصي، فالجمهور على أنهم معصومون عنها عمداً، وبعض العلماء على أنهم معصومون عنها سهواً.

وهو الحق الصحيح، الذي لا نعتقد سواه.

والخلاصة: أنهم معصومون عن الكبائر والصغائر سهواً وعمداً.

وإنما ذكرت ما ذكرته من التفصيل، لبيان مراتب العصمة، والإشارة إلى مواطن الخلاف والوفاق، وأما النسيان فإنه جائز على الأنبياء عليهم الصلاة والسلام في غير الأمور البلاغية (**)

تقريره – r -:

وبناء على ما ذكرناه من العصمة إذا أقر رسول الله – r – إنساناً على فعل ، فإن تقريره دليل على جواز الفعل الذي فعل أمامه ، لأنه – r – لا يقر على باطل ، وقد أمر بتغيير المنكر ، وتبليغ الشرع ، قال تعالى : ] يا أيها الرسول بلغ إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته ، والله يعصمك من الناس ( .

وسواء في ذلك أكان الذي أقره عليه الصلاة والسلام مؤمناً ، أم كافراً أم منافقاً ، وسواء أكان رسول الله مسروراً أم لا، وشرط بعضهم في التقرير حتى يدل على الجواز أن يكون الرسول قادراً على إنكاره.

وشرط بعضهم أن يكون المقرر منقاداً للشرع، يجدي معه الإنكار، فلو أقر رسول الله نصرانياً على الذهاب إلى الكنيسة لا يعتبر تقريره دليلاً على الجواز، لاعتقاد النصراني جواز ذلك، وعدم استجابته لأمر الشرع.

وصورة التقرير أن يسكت رسول الله – r – عن إنكار فعل فعل، أو قول قيل بين يديه، أو في عصره، وقد علم به، كأكل الضب بحضرته – r -.

العصمة عن المكروه:

قد ذكرنا أنه – r – معصوم عن الفعل الحرام، وأما الكراهية فالظاهر أنه معصوم عنها أيضاً.

وذلك لأن المكروه يندر وقوعه من أتقياء أمته فكيف يقع منه وهو سيد المرسلين وإمام المتقين ؟

وأما ما يفعله مما هو مكروه في حقنا، كالشرب قائماً، والبول قائماً، وغير ذلك مما نهى عنه، فإنه غير مكروه في حقه، لأنه يقصد به بيان الجواز، بل قد يجب فعله إذا توقف البيان عليه.

ولذلك حكى النووي عن العلماء أن وضوءه عليه الصلاة والسلام مرة مرة، ومرتين مرتين أفضل في حقه من التثليث.

الفــَصْـلُ الثـَّاني

في أفــعَــالـه عَــلــَيــْهِ السَّـــلاَم

إن البحث في أفعاله – r – طويل ومتشعب ، وقد صنفت فيه مصنفات خاصة وسأقتصر منه على أهم ما أشار إليه الأصوليون في كتبهم مما لا غنى عنه .(189)

1 – أفعاله الجبليّة:

وهي الأفعال التي تقتضيها الجبلة البشرية، من القيام، والقعود، والنوم، والطعام، والشراب، والحركة، وقضاء الحاجة، وغير ذلك من الأمور التي لا تتعلق العبادة بها.

ففعله – r – لها لا يدل على أكثر من إباحتها عند الجمهور، ومن ذهب إلى أنها مندوبة فقد أبعد.

وما يروى من تأسي عبد الله بن عمر رضي الله عنه برسول الله – r – في حركاته، ليس لأنها مندوبة، ولكن لمحبته لرسول الله، وشدة تأسيه به.

2 – هيئات الفعل الجبلي:

ما ذكرناه في الفقرة السابقة إنما هو الفعل الجبلي من حيث هو مجرداً عن الهيئة، فإذا واظب – r – على فعل جبلي على هيئة مخصوصة كشربه ثلاثاً، وأكله على الأرض، ونومه على جنبه الأيمن، وغير ذلك، مما لم يرد فيه أمر ولا نهي، فمواظبته – r – عليه، على هذه الهيئة، يدل على الندب لهذه الهيئة.

وقيل: لا يدل، وإنما هو من دواعي الجبلة، إلا أن الجميع يقطعون بأن أفعاله هذه قطعاً هي في ذروة الكمال، وأن التأسي بها محمود، سواء أكان مندوباً أم لا.

3 – ما تردد بين الجبلة والشرع:

وذلك كذهابه – r – لصلاة العيد من طريق ، ورجوعه من طريق آخر ، وكحجه راكباً .

فإن الظاهر أنه ما فعل هذا إلا لكونه مطلوباً شرعاً ، إلا أن الجبلة أيضاً تقتضيه ، فالجبلة تقتضى الركوب ، وترغب في التغيير .

والظاهر من نصوص فقهائنا ترجيحهم لجانب الندب على جانب الإباحة، إذ نصوا على استحباب الذهاب لصلاة العيد من طريق والعودة من آخر.

4 – الفعل الخاص به – r – :

والمراد به الفعل الذي اختص به عليه السلام والسلام، ولا يجوز لأمته مشاركته فيه وذلك كزيادته في النكاح على أربع، ووصاله في الصيام، وزواجه بالهبة، وغير ذلك.

فهذه الأفعال الخاصة به ، لا يجوز لنا الاقتداء بها ، على أي وجهٍ كانت بالنسبة لرسول الله – r – واجبة أو مباحة .

والأصل فيما خوطب به – r – خطاباً خاصاً ، كقوله تعالى :

) يا أيها المزمل ( وقوله : ) يا أيها النبي ( – أننا لا ندخل فيه ، ولا نشاركه به ، حتى يدل الدليل على ذلك ، على ما ذهب إليه جمهور الأصوليين .

5 – فعله البياني:

بيان رسول الله – r – للأحكام يصح أن يكون بالفعل، كما يصح أن يكون بالقول، فإذا ورد الفعل بياناً منه عليه الصلاة والسلام لحكم من الأحكام، فلا خلاف في أنه دليل في حقنا، وواجب علينا إتباعه، كبيانه للصلوات المفروضة، وبيانه لعدد الركعات، وكيفية فعل العبادة، وكبيانه لمناسك الحج، والمكان الذي تقطع منه يد السارق، وما شابه هذا.

وإذا ورد البيان لمجمل أخذ حكمه ، فإن كان المجمل واجباً ، كان فعله المبين واجباً ، وإن كان المجمل مندوباً ، كان فعله المبين مندوباً ، ففعله للصلاة الواجبة – بياناً لها – واجب في حقنا ، كالصلوات الخمس ، وفعله للصلاة المندوبة ، مندوب في حقنا كصلاة الخسوف والكسوف مثلا.

6 – فعله الذي عرفت جهته:

إذا فعل رسول الله – r – فعلاً ما، وتجرد عما ذكرناه في الفقرات السابقة من الخصوصية، والبيان، والجبلة – فإما أن تعرف جهة فعله وأما أن تجهل.

فإن عرفت جهة فعله، بأن عرفنا أنه فعله على جهة الوجوب، أو الندب، أو الإباحة، فحكم أمته فيه كحكمه، فتشاركه فيه إن واجباً فواجباً، وإن مندوباً فمندوباً، وإن مباحاً فمباحاً، على الأصح عند الجمهور، سواء أكان عبادة أم غيرها.

طرق معرفة جهة الفعل:

وتعرف جهة فعله عليه الصلاة والسلام من الوجوب أو الندب، أو غير ذلك بطرق منها:

1 – التنصيص على الفعل أنه واجب، أو مندوب، أو مباح.

2 – التسوية بين فعله الذي فعله وفعل معلوم الجهة، كأن يفعل فعلاً ثم يقول: هذا الفعل كالفعل الفلاني في حكمه، وكنا قد عرفنا جهة ذلك الحكم من الوجوب، أو الندب، أو الإباحة.

3 – أن يعلم بطريق ما أن هذا الفعل الذي فعله وقع امتثالاً لآية دلت بالتعيين على الوجوب، أو الندب، أو الإباحة، فيكون الفعل واجباً، أو مندوباً، أو مباحاً.

4 – أن يكون الفعل بياناً لآية مجملة دلت على الوجوب، أو الندب، أو الإباحة، فيأخذ الفعل حكمها، كما بينا قبل قليل في أن البيان يأخذ حكم المبين.

جهة الوجوب خاصة بطرق منها :

1 – العلامة الدالة على أنه واجب ، كالأذان والإقامة ، فإنهما أمارتان دالتان على الوجوب ، لأنه ثبت بالاستقراء للشريعة أنه لا يؤذن إلا للصلاة الواجبة ، أما التي لم تجب فلا أذان ولا إقامة لها كصلاة العيد واستسقاء .

2 – أن يكون موافقاً لفعل نذره، كأن نذر، إن هزم العدو فلله علي صوم الغد فصام الغد بعد الهزيمة، فإنا نعلم أن فعله هذا واجب، لأنه وقع موقع المنذور.

3 – أن يكون الفعل ممنوعاً لو لم يجب، وذلك كالركوع الثاني في صلاة الخسوف، فإنه ممنوع في الصلاة العادية، مبطل لها، فلو لم يكن واجباً لما فعله.

وكالختان، فإنه ممنوع في الأصل، لأنه إحداث جرح بدون سبب، وهو غير جائز، فلو لم يكن واجباً لكان فعله حرام.

ومثله الحد، فإنه ممنوع في الأصل، لأنه عقوبة، فلو لم يكن واجباً لمنع.

وتعرف جهة الندب خاصة بطرق منها :

1- أن يعمل عملاً يظهر به قصد القربة، وتجرد عن علامة تدل على خصوص الوجوب، أو الندب، فإنه يكون مندوباً، لأن الأصل عدم الوجوب.

2 – أن يكون الفعل قضاء لمندوب، فإنه يقع مندوباً.

3 – أن يعمل عملاً يداوم عليه، ثم يتركه، من غير أن ينسخ.

7 – فعله الذي جهلت جهته:

ما ذكرناه في الفقرة السابقة كان في فعله – r – الذي عرفت جهته في حقه.

وأما إذا فعل فعلاً جهلت جهته في حقه، فإما أن يظهر به قصد القربة إلى الله، وإما أن لا يظهر فيه شيء.

فإن ظهر فيه قصد القربة فالأصح فيه أنه للندب، لأنه المتحقق، وقيل للوجوب وقيل غير ذلك .

وإن لم يظهر فيه قصد القرية ، بأن تجرد مطلقاً ، فالأصح أنه للوجوب في حقنا وحقه عليه السلام، عملاً بالاحتياط المطلوب في العبادة، وقيل للندب لأنه المتحقق وقيل غير ذلك ، والمسألة محل النظر .

8 – ما هم به ولم يفعله:

ومما يلحق بفعله عليه الصلاة والسلام، وإن لم يكن فعلاً، ما هم به ولم يفعله، كما في الحديث الصحيح، من أنه قال : (( والذي نفس بيده لقد هممت أن آمر بحطب فيحتطب، ثم آمر رجلاً فيؤم الناس، ثم أخالفه إلى رجال لا يشهدون الصلاة فأحرق عليهم بيوتهم )) .

وهذا ليس أمراً من رسول الله – r -، كما أنه ليس بفعل، وإنما هو مجرد هم، يفيد الزجر عما هم أن يحرق عليهم البيوت لأجله، وهو ترك صلاة الجماعة.

وليس هو مما أمرنا بالتأسي به، فليس لنا أن نحرق البيوت، ولا أن نهم بتحريقها، إذ لم يفعل عليه الصلاة والسلام ما هم به.

الفصل الثالث

في تعارض القول والفعل

التعارض بين الأمرين هو تقابلهما على وجه التخالف بحيث يمنع كل منهما مقتضى الآخر .

وهو إما أن يكون بين القولين، وإما أن يكون بين الفعلين، وإما أن يكون التعارض بين القول والفعل.

أما التعارض بين القولين فسيأتي الكلام عليه في أبواب التعادل والترجيح ، وأما التعارض بين الفعلين ، أو القول والفعل فهو ما سنذكره هنا .

أولاً – تعارض الفعلين:(190)

والتعارض بين الفعلين غير متصور، ولذلك أسقطه كثير من الأصوليين من هذا البحث، وذلك لأن الفعلين إما أن يكونا متماثلين أو متناقضين.

فإن كانا متماثلين كصلاة الظهر في وقتين مختلفين فأمرهما ظاهر، ولا تعارض فيه، ومثله الفعلان المختلفان اللذان يجوز اجتماعهما كالصلاة والصوم.

وإن كانا متناقضين كالصوم في يوم معين، والإفطار في آخر، فكذلك لا تعارض بينهما، لاجتماع الوجوب في وقت، والجواز في آخر.

اللهم إلا إذا وجد مع الفعل الأول دليل يدل على وجوب تكراره، فإن الفعل الثاني في هذه الحالة يكون ناسخاً أو مخصصا ً لذلك الدليل الذي دل على التكرار.

ثانياً: تعارض الفعل والقول: (191)

إذا تعارض القول والفعل لاقتضاء كل واحد منهما خلاف مقتضى الآخر فلها أحوال هي:

1 – أن يكون خاصاً به – r -، ولا يوجد دليل يدل على التكرار، كأن يفعل – r – فعلاً ثم يقول بعده : لا يجوز لي مثل هذا الفعل، فلا تعارض بين القول والفعل، وذلك لاجتماع الوجوب في وقت، وعدمه في وقت آخر.

2 – أن يتقدم القول الخاص به، وذلك كقوله: لا يجوز لي الفعل في وقت كذا، ثم يفعله في ذلك الوقت، ويكون الفعل في هذه الحالة ناسخاً للقول المتقدم، وإن جهل التاريخ فالوقوف.

3 – أن يكون القول مختصاً به، إلا أنه دل الدليل على تكراره، ثم فعل فعلاً مخالفاً له، كأن يقول : (( صوم يوم عاشوراء واجب على كل سنة، ثم أفطر في سنة بعد القول أو قبله ))، فإن علم التاريخ، فالمتأخر من القول والفعل يكون ناسخاً للمتقدم في حقه، وإن جهل التاريخ، فالأصح التوقف، لاستوائهما في احتمال تقدم كل منهما.

4 – أن يكون القول مختصاً بالأمة، فيما اختصت به من الأحكام دونه، ثم عمل عملاً معارضاً لهذا القول، كأن قال : يجب عليكم صيام يوم عاشوراء، ثم أفطر فيه، فلا تعارض، لأنه ليس مخاطباً بهذا القول فلم يتوارد القول والفعل على محل واحد .

5 – أن يكون القول مختصاً بالأمة، وقام الدليل على وجوب التأسي به مع التكرار للفعل، كأن يقول : صيام يوم عاشوراء واجب عليكم كل سنة، وبعد ذلك أفطر في يوم عاشوراء.

وفي هذه الحالة لا تعارض في حقه عليه الصلاة والسلام ، لأنه لم يخاطب بالخطاب ، وأما الأمة فقد خوطبت به ، وقام الدليل على أنه يجب تكراره ، كما يجب التأسي في هذا الفعل برسول الله – r – ، وفي هذه الحالة فالمتأخر من القول والفعل ناسخ للمتقدم منهما .

فإن جهل التاريخ فالأصح أنه يعمل في هذه الحالة بالقول، لأن دلالته أقوى من دلالة الفعل.

ولأن القول خاص بالأمة، وهو أخص من الدليل العام الدال على وجوب التأسي ، والخاص مقدم على العام .

والفرق بين هذه المسألة والتي قبلها إذ رجحنا الوقف أننا مكلفون في الفعل الذي يتعلق بنا بالعلم بحكمه لنعمل به، بخلاف ما يتعلق به – r -، فلسنا متعبدين بالعلم بحكمه، إذ لا ضرورة إلى الترجيح فيه.

6 – أن يكون القول عاماً لنا وله ، كأن قال : يجب علي وعليكم صوم عاشوراء ، كل عام ، وقام الدليل على وجوب التأسي به في هذا الفعل ، ثم أفطر يوم عاشوراء ، فالمتأخر في هذه الحالة ناسخ للمتقدم من القول والفعل في حقنا وحقه عليه الصلاة والسلام، وإن جهل التاريخ، ففي حقه الوقف، وفي حقنا يقدم القول لما تقدم في المسألتين.

7 – أن يكون القول عاماً له وللأمة ، إلا أنه ظاهر فيه لا نص ، كأن يقول : صوم يوم عاشوراء واجب على كل مسلم ، ثم أفطر يوم عاشوراء ، فالفعل في هذه الحالة مخصص للقول في حقه عليه الصلاة والسلام ، تقدم أو تأخر أو جهل التاريخ ، ولا نسخ لأن التخصيص أقرب من النسخ ، لأن تأخر أو جهل التاريخ ، لأن النسخ رفع للجميع والتخصيص رفع للبعض ، وإعمال الدليلين أولى من إهمال أحدهما.

وهذا إذا لم يعمل رسول الله بمقتضى القول، فإن عمل به فهو نسخ في حقه قطعاً.

هذا وإن صور هذه المسألة قد تزيد عن ستين صورة حسب التقسيم العقلي، ومعظمها يعرف من هذه الصور التي ذكرناها، وهي أهم ما في هذا الموضوع.

الفصــلُ الــَّرابع

في شَرع مَن قبَلنـــَا

والبحث في هذا الفصل يقتضى منا البحث في حاله عليه الصلاة والسلام قبل النبوة وبعدها ، هل كان متعبداً بشرع من الشرائع أم لا ؟

حاله – r – قبل النبوة :

أما قبل النبوة فقيل، أنه كان متعبداً بشريعة من قبله من الأنبياء ، لأنه نقل بما يشبه التواتر أنه عليه الصلاة والسلام كان يحج ، ويطوف ، ويجتنب الميتة ، ويعتزل النساء، ويروض نفسه ويزكيها، ويختلي متحنثاً في غار حراء، وهذه الأمور لا تعرف إلا بالشرع ، إذ لا مجال للعقل فيها وليس ذلك شرعه ، لأنه لم يكن مبعوثاً بعد ، ولذلك قيل، أنه متعبد بشرع إبراهيم وقيل بغيره .

إلا أن هذا بعيد، لأنه لم يكن ثمة شرع معروف صحيح يدعى إليه الناس، فكيف يمتثل الإنسان دعوة لم يكلف بها، وإذا كلف فمن الذي كلفه ولا وحي إذ ذاك ؟

وكيف يتفق هذا مع اعتقادنا بأن الناس قبل البعثة من أهل الفترة، ولا تكليف لديهم.

وأما ما ذكر مما كان يفعله عليه السلام فإنما هو من بقايا ملة إبراهيم عليه السلام التي كان يفعلها هو وغيره على السواء ، فلا داعي للقول بتكليفه قبل البعثة بشرع ما والله أعلم .

حاله – r – بعد البعثة :

وأما بعد البعثة فالصحيح الذي عليه الجمهور أيضاً أنه لم يكن مكلفاً يشرع سوى شرعه – r – ، حتى ولو كان شرع من قبلنا قد ذكر في القرآن أو الحديث الصحيح ، ولم يرد عليه ناسخ ، كقوله تعالى : ] وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس والعين بالعين ( .

وكونه ورد في القرآن أو الحديث الصحيح لا يدل على أن رسول الله تعبد به على أنه شرع من قبله، وإنما هو مما وافق فيه شرعنا شرع من قبلنا من الشرائع، وهذا كثير.

فتعبده عليه الصلاة والسلام فيما وافق فيه شرعنا شرع من قبلنا إنما هو بشرعنا لا بشرعهم.(192)

وقيل : أنه شرع لنا ما لم يثبت نسخه ، وليس بصحيح ، لأنه لو كان كذلك لأمر رسول الله بالرجوع إلى كتبهم وأحبارهم ، ولما أمر بانتظار الوحي ، إلا أنه لم يؤمر ، بل انتظر الوحي ، وهذا دليل على بطلان القول بتعبده بشرع من قبله فيما لم يرد عليه ناسخ ، والله أعلم .

(**) البرهان: 1/483، المنخول: 223، الأحكام: 1/242، المحصول:

3/339، نهاية السول:2/195،جمع الجوامع ، رفع الحاجب:1/ ق

147- ب .

(189) الأحكام : 1/247 ، المحصول : 3/345 ، نهاية السول : 2/197 ، جمع الجوامع : 2/97 ، المعتمد : 1/385 .

(190) الأحكام : 1/ 272 ، المعتمد : 1/388 ، نهاية السول : 2/204 .

(191) الأحكام : 1 /273 ، المعتمد : 1/389 ، جمع الجوامع : 2 /99 .

(192) المستصفى : 1/132 ، المنخول :231، اللمع : 35 ، المحصول : 3 /397 ،

الأحكام : 4 /222 ن منتهى السول : 3 /51 ، الإبهاج ونهاية السول : 2 /180 ،

المعتمد: 2 /899، كشف الأسرار: 3 /212، أصل السر خسي: 2 /99، التلويح

على التوضيح : 2/276 ، تيسير التحرير : 3 /129 ، وانظر شرحنا على التبصرة :

285 حيث فصلنا فيها الأقوال والمذاهب.