الصفحة الرئيسية » كتب للقراءة والتحميل » الوجيز في أصول التشريع الإسلامي » شروط العمل بخبر الواحد، الشروط المختلف فيها، العقيدة وخبر الواحد،الشروط المتفق عليها،عدالة الصحابة، الحديث الصحيح، ألفاظ الرواية والتحمل

شروط العمل بخبر الواحد، الشروط المختلف فيها، العقيدة وخبر الواحد،الشروط المتفق عليها،عدالة الصحابة، الحديث الصحيح، ألفاظ الرواية والتحمل

الفصل الثالث
في شروط العمل بخبر الواحد

قد ذكرنا أن خبر الواحد الذي يفيد ظن الصدق ، ويجب العمل به ، هو خبر الواحد العدل، بالشروط والضوابط، التي تؤدي إلى هذا الظن، والتي لو فقدت، أو فقد بعضها، بطل العمل به، وغلب على الظن ضعفه وكذبه، لا صحته وصدقه.

إلا أن هذه الشروط بعضها مختلف فيه، شرطها بعض العلماء، لمذاهب خاصة بهم، وبعضها متفق عليه.

ولذلك سيكون البحث في مسألتين: الأولى في الشروط المختلف فيها، والثانية في المتفق عليها.

المسألة الأولى

في الشرُوطِ المختَلف فيها لِلعَمَل بخَبَر الوَاحِد

لقد انفرد بعض العلماء بشروط خاصة للعمل بخبر الواحد، إلا أن هذه الشروط مع ضعفها، وعدم قبولها من قبل الجمهور، وبعضها له وجاهته، وبعضها ساقط لا قيمة له.

ولذلك سأقتصر في هذه المسألة على ذكر أهم هذه الشروط، والرد عليها، لما لها من الأهمية في حجية خبر الواحد.

1 – شرط المالكية:(202)

شرط الإمام مالك في خبر الواحد حتى يصح العمل به ألا يخالف إجماع أهل المدينة وعملهم.

بناء على مذهبه في حجية عمل أهل المدينة، المقدم في دلالته على خبر الواحد المفيد للظن.

وبناء على ذلك نفي المالكية خيار المجلس الثابت بحديث البخاري ومسلم: (( إذا تبايع الرجلان، فكل واحد منهما باختيار ما لم يتفرقا )) وذلك لأن عمل أهل المدينة على خلافه.

إلا أن الصحيح أن عمل أهل المدينة وإجماعهم ليس بحجة ، ولا فرق بين أهل المدينة وغيرهم والبقاع لا تعصم ساكنيها .

ولذلك ذهب الجماهير من العلماء إلى العمل بخبر الواحد، ولو خالفه أهل المدينة، والعبرة بما ينقل عن صاحب الشرع عليه الصلاة والسلام، مع القطع بما لأهل المدينة في العصر الأول من المزية.

وسيأتي الكلام على عمل أهل المدينة وإجماعهم بالتفصيل في مباحث الإجماع إن شاء الله .

2 – شرط الحنفية:(203)

وشرط الحنفية للعمل بخبر الواحد ثلاثة شروط:

الأول: أن لا يكون فيما تعم به البلوى، فإن كان فيما تعم به البلوى، لم يقبل.

وذلك لأن ما تعم به البلوى يكثر السؤال عنه، وما كثر السؤال عنه، كثر الجواب عنه، وإذا كثر الجواب عنه كثر نقله، فإذا رأينا أن النقل قد قل، ولم يروه إلا الواحد أو العدد اليسير، تبينا أنه غير صحيح.

ولذلك ردوا حديث مس الذكر، لأنه مما تعم به البلوى، وتقتضي العادة تواتره.

إلا أن الجماهير من العلماء على خلاف هذا، وعلى العمل بخبر الواحد وإن كان مما تعم به البلوى.

وما ذكره الحنفية من أن ما تعم به البلوى يكثر السؤال عنه، ومن ثم يكثر الجواب والنقل، غير صحيح، وقد يكثر الجواب ولا يكثر النقل، وذلك لأن نقل الأخبار كان في الصدر الأول على حسب الدواعي، ولذلك حج رسول الله – r – فيما يزيد عن مائة ألف من الحجاج، وبين المناسك، ثم لم يرو حجه إلا العدد اليسير .

وقد كان الصحابة رضوان الله عليهم لا يؤثرون رواية الأخبار ، وإذا كان الأمر كذلك جاز أن يكثر الجواب ويقل النقل .

كما أن ما تعم به البلوى ليس له ذلك الضابط المحكم ، وقد يقع فيه التحكم ، مما أوقع الحنفية في بعض التناقضات والله أعلم .

الثاني : أن يخالفه راويه ، فيعمل بخلاف ما روى ، فإذا ما خالفه ، فعمل أو أفتى بخلافه ، رد الخبر ، وكان العمل على عمل الصحابي أو فتواه ، إذا كانت الرواية قبل العمل أو الفتوى ، وإلا فالعمل بالحديث ، على تفصيل دقيق في المسألة.(204)

وذلك لأن الصحابي مع فضله ودينه وعدالته المتفق عليها لا يمكن أن يترك الحديث ويعمل بخلافه إلا إذا كان يعلم أن الحديث منسوخ، ولذلك لم يجز لنا الاحتجاج به.

ولذلك ردوا حديث الغسل سبعاً من ولوغ الكلب، لأن أبا هريرة راوي الحديث أمر بالغسل من ولوغه ثلاث مرات.

إلا أن الجمهور على العمل بالحديث ، ولا عبرة بعمل الصحابي بخلافه ، وذلك لأنه قد يعمل بخلافه باجتهاد خاص منه ، أو تأويل للحديث ، أو نسيان ، فلا تترك السنة الثابتة مع هذه الاحتمالات بتجويز النسخ الذي أدعوه .

ولأن الظاهر أنه لو كان معه ناسخ لرواه في وقت من الأوقات، فكونه لم يروه أبداً دليل على أنه لا يعرف له ناسخاً، وإنما عمل بخلافه للاحتمالات التي ذكرناها والله أعلم.

الثالث : أن يوافق القياس فيما إذا كان راويه غير معروف بالفقه والاجتهاد ، أو كان مجهولا ، ويعنون بالمجهول من لم تطل صحبته لرسول الله – r -.(205)

فإن خالفت رواية هؤلاء القياس، ردت، وقدم القياس عليها، وأما إن كان الراوي معروفاً بالفقه والاجتهاد، فروايته مقدمة على القياس، على تفصيل دقيق عندهم في هذا أشرت إليه في تعليقي على التبصرة ص/316.

ولهذا ردوا خبر المصراة لمخالفته لقياس ضمان المتلفات .

فقد ثبت في الصحيحين وغيرهما أن رسول الله – r – قال : ((لا تصروا الإبل والغنم ، فمن ابتاعها بعد ذلك فهو بخير النظرين بعد أن يحلبها ، إن رضيها أمسكها ، وإن سخطها ردها وصاعاً من تمر )) .

إلا أن هذا مخالف للقياس فيما يضمن به التالف من المثل أو القيمة، ولذلك ردوا به الخبر، وقدموه عليه ، وينسب هذا المذهب لمالك، وفي نسبته إليه مقال.

والجمهور على تقديم الخبر على القياس مهما خالف القياس الخبر .

كما أن الجمهور على العمل به وإن انفرد براويته واحد فقط ، وفي الحدود ، وابتداء النصب ، وفيما إذا عمل الأكثرون بخلافه ، أو كانت فيه زيادة على النص .

والخلاصة أن تقديم الخبر عند الجمهور أصل يحتكم إليه، ولا يحكم بالاحتمالات والشبه والظنون عليه، فإذا ما ثبت عن رسول الله – r – كان هو الحكم والفيصل.

3 – العقيدة وخبر الواحد :

ذهب جمهور العلماء إلى أن خبر الواحد لا يعمل به في العقائد ، وليس هذا لأنهم يردون خبر الواحد أو ينكرون العمل به ، فقد ذكرنا الاتفاق على وجوب العمل به ، وإنما ذلك لاصطلاح خاص بهم في العقائد .

لأنهم يرون إن العقيدة هي التي تميز بين الكفر والإيمان ، وما كان كذلك لا يمكن أن يكون إلا عن علم ، وهو الإدراك الجازم المطابق للواقع عن دليل وهو غير متوفر في خبر الواحد ، لأنه لا يفيد إلا الظن ، وما كان كذلك لا يسمى عقيدة ، ومن ثم لا يكفر جاحده بالاتفاق .

والعقيدة لا تكون إلا عن علم ، وهذا لا يتوفر إلا في الخبر القطعي ، ولذلك يحكم بكفر منكر أي جزئية من جزئيات العقيدة لأنه منكر لمعلوم لا لمظنون .

وأما ما ورد من أخبار الآحاد في شأن المغيبات ، كعذاب القبر ، والحوض ، والصراط ، والشفاعة ، وغير ذلك من الأمور الكثيرة التي شحنت بها العقيدة عن الأشاعرة وغيرهم من أهل السنة ، فيجب الإيمان بها ، ويفسق جاحدها، لأنه خبر واحد يجب العمل بمقتضاه ، إلا أننا لا نحكم بكفر جاحده أو مؤوله لأنه لم ينكر شيئاً من العقيدة الثابتة بالقواطع .

وبناء على ذلك لم نكفر المعتزلة في إنكارهم لكثير من المغيبات وتأويلها، مما ثبت بدليل ظني، وإنما حكمنا عليهم بالفسق.

ومن هذا يظهر لنا أنهم عندما يقولون هذا خبر واحد لا يعمل به في العقائد، ليس مرادها إبطال العمل به ، ونفي الإيمان بما ورد بمضمونه ، وإنما مرادهم أنه لا تثبت به العقيدة التي يكفر جاحدها ، والتي تتطلب القواطع لا الظنون .

ولا أظن أن أحداً يخالف في هذا حتى الذين ذهبوا إلى أن خبر الواحد يفيد العلم ، وإلا لحكموا على مخالفيهم بالكفر ، وهذا شيء لم يقل به مسلم .

وهذا نظير لما ذهب إليه الأصوليون من الحنفية إذ فرقوا بين الفرض والواجب ، فقالوا : الفرض ما ثبت بدليل قطعي ، ويكفر جاحده ، والواجب ما ثبت بدليل ظني ، ولا يكفر جاحده ، بل يفسق ، مع وجوب العمل بمقتضى الفرض والواجب ،والمعصية بترك العمل بمقتضاهما .

وكأنهم قالوا: الفرض لا يثبت بخبر الواحد المفيد للظن، أو هذا خبر واحد لا يثبت به الفرض، إلا إنهم يوجبون العمل بمقتضاه، ويثبتون به الواجب، ويفسقون جاحده.

فما الفرق بين قول علماء الأصول هذا، وبين قول علماء التوحيد ذاك… ؟ لا فرق .

على أن من عمَّمَ فجعل العقيدة هي كل ما يجب اعتقاده، سواء أكان ناتجاً عن علم أم ظن، فإنه لا يميز في هذه الحالة بين خبر الواحد وغيره من الأخبار المفيدة للقطع كالقرآن والحديث المتواتر، لهذا الاصطلاح الخاص به أيضاً.

إلا أنه يميز بين ما يجب اعتقاده، فبعضه يكفر جاحده، وهو ما ثبت بدليل قطعي، وبعضه لا يكفر وإنما يفسق فقط، وهو ما ثبت بدليل ظني.

وهذا نظير لما ذهب إليه جمهور علماء الأصول من عدم التمييز بين الفرض والواجب، إذ قالوا: هما سواء، وهما ما يذم فاعله ويعاقب تاركه، سواء أثبتا بدليل ظني أم قطعي.

إلا أنهم ميزوا بين الواجب الذي ثبت بدليل قطعي فحكموا بكفر جاحده، والواجب الذي ثبت بدليل ظني فحكموا بفسق جاحده.

فالخلاف في اللفظ والتسمية ، لا في الحقيقة والجوهر .

وقد أطنبت في هذا الموضوع – مخالفاً لشرطي الاختصار في هذا الكتاب – مع أن الأصوليين لم يطنبوا فيه ، وربما أغفله كثير منهم ، لأنه من بديهيات العلوم .

لقد أطنبت فيه لأبين جهل ضعفاء العقول من المتفيهقين في عصرنا، الذين هاجوا وماجو في ظلمات جهلهم ، ورموا عظماء أمتهم بعظائم الأمور إذ قرأوا في كتبهم مثل تلك العبارات وهم لما يفهموا مرادهم بعد .

فقد دقت مسالك العلوم على عقولهم ، وحاروا في ظلمات الجهل والهوى ، ولو أنهم أمسكوا عما ليسوا بأهل له لكان خيراً لهم .

رحم الله امرأ عرف قدره فوقف عنده ، فإن دون هذه العلوم بالنسبة إلى هؤلاء البلهاء خرط القتاد والله المستعان .

المسألة الثانية

في الشرُوطِ المتّفَق عَلَيهَا لِلعَمَل بخَبَر الواحد

ذكرنا في المسألة السابقة الشروط المختلف فيها للعمل بخبر الواحد والتي ردها الجمهور ولم يعمل بها.

وسنتكلم في هذه المسألة على الشروط المتفق عليها، والتي لا بد منها للعمل بخبر الواحد عند جميع العلماء.

وهذه الشروط بعضها في المخبر ، وهو الراوي ، وبعضها في الخبر ، وهو المروي .

أولاً : الشروط المعتبرة في الراوي:(206)

يشترط في الراوي حتى يعمل بخبره شروط خمسة، وهي:

1 – الإسلام : فلا تقبل رواية الكافر سواء أكان من أهل القبلة ، بأن كان من الفرق الكافرة ، أم لم يكن ، وسواء أعلم تحرزه عن الكذب أم لم يعلم ، وسواء أكان يعتقد حرمته أم إباحته .

لأنه ليس بعد الكفر ذنب ، ولأنه لا يؤمن كيده للإسلام ، فلا وثوق به إطلاقا، وإذا كان خبر الفاسق يرد لفسقه فخبر الكافر من باب أولى.

إلا أن الكافر إذا أسلم ، وكان قد سمع شيئا أثناء كفره ، ثم أداه بعد إسلامه ، فإنه يقبل منه على الصحيح .

2 – البلوغ: فلا تقبل رواية الصبي، مميزاً كان أو غير مميز، لأنه لعدم تكليفه قد يقدم على الكذب، ولا يحترز عنه، ولعدم الوثوق بخبره على الجملة، لعدم نضجه، إلا أن الصبي إذا تحمل شيئاً في صباه، ثم أداه بعد البلوغ، قبل منه، إذ الأصل فيه بعد البلوغ والعدالة والضبط وأنه لا يروي إلا ما عقله وحفظه .

3 – العقل : فلا تقبل رواية المجنون ، سواء أطبق جنونه أم تقطع ، وسواء أتحمل قبل الجنون أم بعده .

4 – العدالة: وهي ملكة في النفس، تحمل صاحبها على اجتناب الكبائر، وترك الإصرار على الصغائر، وملازمة المروءة، فلا تقبل رواية مرتكب الكبيرة ، لانتفاء العدالة بارتكابها .

وقد اختلفت عبارة العلماء في ضبط الكبيرة اختلافاً بينا، وترتب على هذا الاختلاف اختلاف كبير في حصرها وتعدادها ، فأوصلها ابن حجر الهيتمي في كتابه (( الزواجر عن اقتراف الكبائر )) إلى سبعمائة كبيرة ، بينما قصرها بعضهم على ما ورد به النص فقط .

فقيل في حدِّها: ما فيه حد في الدنيا، أو وعيد في الآخرة.

وقيل: ما فيه وعيد شديد بنص كتاب أو سنة.

وقيل: كل ذنب كبيرة، وقائل هذا ينفي الصغائر، وهو بعيد جداً

لقوله تعالى : ﴿ إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم﴾ وغير ذلك من ظواهر الشرع في الكتاب والسنة .

وقيل : كل معصية تؤذن بقلة اكتراث مرتكبها بالدين ، ورقة الديانة .

وقيل غير ذلك، وقيل: ليس لها حد يعرف به، لئلا يقتحم الناس الصغائر، فأخفيت كليلة القدر ليحتاط الناس في المعصية.

ونحن نقطع بأن المعاصي تنقسم إلى كبائر وصغائر، وأن الكبائر تتفاوت، فبعضها يفضي إلى الكفر، وبعضها لا يفضي إليه، كما أن الصغائر تتفاوت، فبعضها يسقط العدالة، وبعضها لا يسقطها إلا بالإصرار، كما سنبينه.

ولعل التعريف الثاني أقرب هذه التعاريف إلى ضبط الكبيرة ، بعد القطع بأن هذا إنما هو وراء ما ورد به النص في تسمية الكبائر ، والله أعلم .

وأما الصغائر : فتنقسم إلى قسمين .

1 – صغائر تدل على خسة مرتكبها ، كسرقة لقمة من الطعام ، أو كسرة من الخبز ، وكتطفيف المكيال بتمرة ، أو ما شابه ذلك، مما يدل على خسة بالغة في طباع مرتكبها، ويكفي فعل هذه الصغائر ولو مرة واحدة لسقوط عدالة فاعلها.

2 – صغائر لا تدل على الخسة، وهي ما سوى صغائر الخسة، والكبائر التي ذكرناها، وذلك كالكذب الذي لا يتعلق به ضرر، والنظر إلى الأجنبية، والسماع المحرم، وغير ذلك.

وهذه لا تسقط العدالة بمجرد ارتكابها مرة واحدة، وإنما بالمداومة عليها، فالإصرار على الصغيرة كبيرة.

وأما اقتراف الصغيرة الواحدة منها فلا ينفي العدالة، ولا يسقطها، فالمعاصي من لوازم البشر، وإلا لما وجدت في الدنيا عدالة.

وهذه الصغائر تكفرها الصلوات الخمس، والجمعة، وصيام رمضان، إن اجتنبت الكبائر كما ثبت في الحديث الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله – r – قال: ((الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان مكفرات ما بينهن إذا اجتنبت الكبائر)).

وأما المروءة فهي أن يسير الإنسان سيرة أمثاله ، في زمانه ومكانه ، وتختلف باختلاف الأعراف ، وفقدها يؤدي إلى فقد العدالة .

وذلك كالبول في الطريق ، والأكل في السوق لغير السوقي ، والقيام بعمل لا يناسب مكانة الشخص، كعمل قاض في الدلالة، ولبس فقيه ما لا يناسبه من اللباس، وغير ذلك من الأمور التي يرجع إليها في كتب الفقه.

والخلاصة أن العدالة تفقد بارتكاب الكبيرة أو الإصرار على الصغيرة، أو القيام بما يخل بالمروءة والتقوى، وعند ذلك يوصف الإنسان بالفسق، لا بالعدالة، لأن العدالة ضد الفسق، فمن أقدم على الفسق، عالماً به، عامداً، ردت روايته.

ومن أقدم على مفسق، جاهلاً به، قبلت روايته ولم ترد، سواء أكان المفسق مظنون الحرمة، كمن أقدم على شرب النبيذ، أم كان المفسق مقطوعاً بحرمته، كمن شرب الخمر، وسواء اعتقد إباحة الفعل الذي أقدم عليه، أم لم يعتقدها، لعذره بالجهل ، وعدم اتصافه بالجرأة على معصية الله .

ويشترط في الجهل حتى يعذر به صاحبه أن يكون بسبب قرب إسلام صاحبه ، أو بُعده عن مرابع العلم والعلماء، وأما إذا كان بغير هذه الأسباب، بأن كان بإهماله، فإنه لا يعذر صاحبه، ويفسق بارتكابه له.

رواية المجهول:

وبناء على ما ذكرناه من اشتراط العدالة في الراوي حتى تقبل روايته ، رددنا أخبار الراوي الذي لا تعرف عدالته لأن الفسق مانع من قبول الرواية ، فإذا لم نتحقق عدمه ، لا يجوز لنا قبول روايته، وتحقق عدمه لا يكون إلا بمعرفة عدالته، فإن جهلت ردت روايته .

وهذا في المجهول ظاهراً وباطناً، بالإجماع.

ومثله مجهول العين، كأن يقال في السند ” عن رجل ” إلا إذا وصفه إمام من أئمة الحديث بالثقة، كأن قال: حدثني الثقة، فإنه يقبل في هذه الحالة في الأصح.

وأما مجهول الباطن فقط – دون الظاهر – وهو المستور، فإنه تقبل روايته على الصحيح، اكتفاء بعدالته الظاهرة.

طرق معرفة العدالة:(207)

بما أن معرفة العدالة شرط في الراوي لتقبل روايته، وجب علينا أن نعرف الطرق التي بواسطتها نعرف العدالة، وهي:

1 – التزكية: وتحصل بتزكية الواحد، ولا يشترط فيها العدد على الأصح، لأنها خير، وخبر الواحد مقبول.

وهذا في تزكية الرواية، وأما تزكية الشهادة فيشترط فيها العدد، كالشهادة.

وتحصل التزكية بأمور:

أ – وهو أعلاه، أن يحكم الحاكم بشهادته.

ب – أن يثني عليه، بأن يقال: هو عدل، أو مقبول الشهادة، أو مقبول الرواية، أو ما شابه هذا من الألفاظ.

جـ – أن يروي عنه رجل لا يروي إلا عن العدول.

د – أن يعمل بخبره، إلا إذا كان العمل بالخبر للاحتياط، أو لموافقته دليلاً آخر، فإن كان كذلك لم يكن العمل بخبره تعديلاً له.

2 – وكما تحصل العدالة بتزكية الواحد يكتفي بتجريحه أيضاً، فالجرح والتعديل سواء في قبول خبر الواحد فيهما على الأصح.

3 – وهل يكفي إطلاق الجرح والتعديل على الراوي، بدون ذكر السبب، أو لا بد من ذكر سبب الجرح وسبب التعديل ؟

الصحيح المختار أن الأمر يختلف بين الشهادة والرواية.

ففي الرواية يكفي الإطلاق للجرح والتعديل، دون ذكر سببهما، بشرط أن يعرف مذهب الجارح، وأنه لا يجرح إلا بقادح، فإذا لم يعرف مذهبه، فلا بد من بيان السبب.

وأما في الشهادة فالصحيح المختار أنه لا بد من ذكر سبب الجرح، وذلك للاختلاف فيه بين العلماء، على ما هو معروف من المتشددين والمتساهلين، ولأن الشهادة يتعلق بها حق للمشهود له.

ولا يشترط ذلك في التعديل ، بل يكفي الاطلاع، وذلك لأن أسباب العدالة كثيرة ، يعسر حصرها وذكرها ، بخلاف أسباب الجرح المحصورة في نحو عشر خصال عند المحدثين ، وهي :1 – الكذب على رسول الله – r –

2 – التهمة به

3 – فحش الغلـط

4 – الغفلـة،

5 – الفسـق بغير الكـذب

6 – الوهـم.

7 – الشـذوذ

8 – الجهـالة

9- البـدعـة

10 – سـوء الحفـظ.

11 – تدليـس المتـون، وهو أن يدرج الراوي كلامه مع الرواية بحيث لا يتميزان، على تفصيل خاص في التدليس، لا يتسع له المقام.

وليس من الجرح ترك العمل بمروي الراوي ، وترك الحكم بمقتضى شهادته ، ولا الحد في شهادة الزنا ، بأن لم يكمل نصابها، ولا الحد بشرب النبيذ للاختلاف فيه ، ولا التدليس بتسمية غير مشهور .

4 – إذا تعارض الجرح والتعديل، قدم الجرح على التعديل سواء أكان عدد المجرحين أكثر من عدد المعدلين، أم أقل، أم مساويا لهم.

لأن المجرح لا يجرح إلا بسبب قد اطلع عليه، مما قد يخفي على المعدل، وحينئذ لا بد من تقديم جرحه، وليس فيه رد كلام المعدل. لما ذكرناه من احتمال عدم اطلاعه على الجرح ، ولو قدمنا التعديل ، لأدى إلى تكذيب المجرح ، أو رد كلامه .

وهذا شبيه بتعارض الإثبات والنفي ، كما سيأتي في أبواب التعادل والترجيح إن شاء الله .

عدالة المبتدع:(208)

البدعة أما أن تكون مكفرة، وأما أن لا تكون كذلك.

فإن كانت البدعة مكفرة ، ردت رواية مبتدعها ومعتقدها ، لما ذكرناه من رد رواية الكافر.

وإن كانت غير مكفرة إلا أن صاحبها يجوز الكذب، فلا تقبل روايته أيضاً، لأنه مادام يستبيح الكذب فسيكذب على رسول الله ويضع عليه الحديث.

وإن كان ممن يحرم الكذب ولا يستبيحه، فإن كان غير داعية إلى بدعته قبلت روايته، لعدم تهمته.

وإن كان داعية إليها فالإمام مالك، وأحمد، ومن تبعهما على رد روايته، لأنه من المحتمل أن يضع الحديث على وفق بدعته لترويجها، كما فعل كثير من المبتدعة.

وقيل: تقبل روايته، وإن كان داعية، ما دام يحرم الكذب، ويحترز عنه، إذ مدار القبول والرد هو الصدق والكذب والله أعلم.

عدالة الصحابة:

قبل الكلام على عدالة الصحابة يجب علينا معرفة الصحابي.

فالصحابي: هو من لقي رسول الله – r -، مؤمنا به ومات على الإيمان، فمن لقي رسول الله – r -، وهو كافر، لا يسمى صحابياً.

ومن لقي رسول الله ، وهو مؤمن إلا أنه ارتد عن الإسلام ، ومات أو قتل في ردته ، ولم يرجع إلى الإسلام ، كابن خطل وغيره ، لا يسمى صحابياً ، ولا يشترط في الصحابي حتى يسمى صحابياً أن تطول صحبته لرسول الله بل يكفي مجرد اللقاء ، ولو لحظة . كما لا يشترط أن يروي عنه ، أو يغزو معه ، أو أن يكون بالغاً .

طرق معرفة الصحبة:

وتعرف الصحبة بطرق منها :

1 – أن يتواتر الخبر عن إنسان أنه صحابي ، أو يستفيض .

2 – أن يعرف عن إنسان أنه من المهاجرين .

3 – أن يعرف أنه من الأنصار .

4 – أن يخبر صحابي آخر بأن فلاناً من الصحابة.

5 – أن يقول العدل المعاصر لرسول الله – r – : إنني صحابي ، أو إنني لقيت رسول الله ، أو غير ذلك مما يدل على الصحبة .

عدالتهم:

لقد نقل إمام الحرمين الجويني الإجماع على عدالة الصحابة رضوان الله تعالى عليهم أجمعين .

وأيا كان نقله لهذا الإجماع ، فجماهير الأمة ممن يعتد بقولهم ، ويختلف إلى رأيهم من السلف والخلف على هذه العقيدة وهي ما ندين الله تعالى بها، سواء منهم من اشترك في الفتنة ومن لم يشترك.

وما جرى بينهم من خلاف وغيره، فهو اجتهاد منهم، ومن أخطأ فيه، فإن الخطأ من لوازم البشر.

ونحن لا ندعي أنهم معصومون عن الوقوع في الخطأ، وهذا لا يتنافى مع العدالة، فالعصمة شيء، والعدالة شيء آخر وراء ذلك.

والأدلة الدالة على عدالتهم أشهر من أن تذكر، وأكثر من أن تعد وتحصر.

قال الله تعالى : ﴿ والسابقون الأولون من المهاجرين ، والأنصار ، والذين اتبعوهم بإحسان ، رضي الله عنهم ورضوا عنه﴾

قال تعالى: ﴿ محمد رسول الله، والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم﴾.

وقال عليه الصلاة والسلام : (( خير القرون قرني )).

وقال : لا تسبوا أصحابي ، لا تسبوا أصحابي ، فوالذي نفسي بيده ، لو أن أحدكم انفق مثل أحد ذهبا ما أدرك مد أحدهم ولا نصيفه .

وغير هذا من الآيات والأحاديث ، مما لا داعي للإطالة بذكره .

إبهام الصحابي:

وبناء على ما ذكرناه من عدالة الصحابي فإنه لا يضر الحديث أن يبهم فيه الصحابي، لأنا لسنا بحاجة للبحث عن عدالته، إذ الأصل فيه أنه عدل.

5 – الضبط:

الشرط الخامس من شروط العمل بخبر الواحد العدل هو الضبط والمراد به قوة الحفظ – لمن يحفظ في صدره – وقلة السهو، وذلك بأن لا يزول ما سمعه من ذاكرته سريعاً، وضابطه: أن يغلب ضبطه على سهوه.

فمن عرف بقلة الحفظ وكثرة السهو ، لم يقبل خبره ، لأنه لا يؤمن من الزيادة في الحديث أو النقص منه .

والضبط كما يكون بالصدر، قد يكون بالكتاب، فالضابط صدراً ، هو الذي يثبت ما سمعه ، بحيث يتمكن من استحضاره متى شاء ، دون أن يغير من لفظه أو معناه .

والضابط كتاباً ، هو الذي يصون ما عنده من الحديث في كتابه ، منذ أن سمع فيه ، وصححه ، إلى أن يؤدي منه ، بالشروط المعروفة في (( مصطلح الحديث )) لمن يروي من الكتاب .

ثانياً – الشروط المعتبرة في المروي ( الخبر)(209)

كما أننا في الراوي شروطاً حتى يقبل خبره، نشترط في المروي – وهو الخبر نفسه شروطاً حتى يقبل الخبر وهي:

1 – اتصال السند:

يشترط في الخبر حتى يصح ويقبل أن يكون إسناده متصلاً من راويه إلى منتهاه، وهو النبي – r – في الخبر ” المرفوع” أو الصحابي في الخبر ” الموقوف”أو التابعي في الخبر ” المقطوع ” أو غيرهم ممن تنقل عنه الأخبار.

فما لم يتصل إسناده ، لا يكون صحيحاً، ولا مقبولاً، سواء في ذلك المعلق ، والمنقطع والمعضل والمرسل .

فالمعلق : هو ما حذف صدر سنده ، سواء كان المحذوف من الإسناد واحداً أو أكثر ، وسواء كان الحذف لبعض الإسناد أو لجميعه ، كقول بعض المصنفين : (( قال رسول الله – r – )) أو (( قال ابن عمر )) أو غير ذلك .

وقد أكثر البخاري منه في صحيحه ، وخلاصة الحكم عليه عند البخاري أن ما رواه منه بصيغة الجزم يحكم بصحته ، وما رواه بصيغة التمريض لم يحكم بصحته .

وأما المعلق عند غير البخاري ممن لم يلتزم الصحة فهو مردود بالاتفاق، إلى أن يعرف إسناده، ويبحث عن أحوال رجاله.

والمعضل : ما سقط من إسناده اثنان على التوالي ، ولو من عدة أماكن .

والمنقطع: ما سقط من إسناده راو واحد، ولو في عدة أماكن، شريطة عدم التوالي.

والمرسل:(210) وهو ما يضيفه التابعي إلى النبي – r -، دون ذكر الواسطة الساقطة بين التابعي والنبي – r -، ويبحث في أحوالها.

وذلك لاحتمال أن لا يكون الساقط صحابياً ، بل تابعياً ، وهو في هذه الحالة إما أن يكون عدلاً أو لا يكون، فإن لم يكن عدلاً فالحديث مردود ، وإن كان عدلاً ، يحتمل أن يكون قد روى عن تابعي آخر، أو عن صحابي، فإن كان تابعياً ورد فيه الاحتمالان السابقان وهكذا .

وقد قبل الشافعي المرسل بشروط لا يحتملها هذا المختصر ، كما أنه رجح بمراسيل سعيد بن المسيب .

وقد صنفت في ذلك كتاباً مستقلاً أسميته (( الحديث المرسل حجيته وأثره في الفقه الإسلامي )) فيه شفاء الغليل لمن أراد التوسع في المرسل.

2 – عدم الشذوذ : وهو الشرط الثاني من شرائط القبول .

والشاذ هو الخبر الذي يخالف فيه الثقة من هو أوثق منه ، بزيادة ، أو نقص ، في السند ، أو المتن ، وسواء أكان الأوثق واحداً أم جماعة وذلك لأن العدد أولى من الواحد في الحفظ ، كما أن الأوثق أولى بالقبول من الثقة عند التعارض .

والذي يقابل الشاذ هو المحفوظ .

3 – عدم العلة القادحة :

والعلة سبب خفي يطرأ على الخبر فيؤثر فيه، والخبر المعلول : هو الخبر الذي ظاهره السلامة ، إلا أنه أطلع فيه بعد التفتيش على قادح ، ويكون ذلك في السند كما يكون في المتن .

وأنواع العلة كثيرة جداً ولا تعرف إلا بجمع طرق الحديث، والنظر في اختلاف رواته ، وفي ضبطهم وإتقانهم، ومن خلال هذا يتوصل المحدث البارع، والإمام المتقن بواسطة القرائن إلى علة الحديث فيحكم بضعفه، أو يتوقف فيه، وقد تقصر عبارته عن بيان العلة لدقتها .

وهذا النوع هو أدق أنواع الحديث وفنونه، لا يستطيع الخوض فيه إلا الجهابذة من الحفاظ والمحدثين، ولذلك لم يخض فيه إلا القليل، كابن المديني ، والإمام أحمد ، والبخاري ، وأبي زرعه ، والترمذي ، والدارقطني، وقد صنفت فيه مصنفات مستقلة.

ومن أنواع العلة، الإرسال في الموصول، والوقف في المرفوع، ودخول حديث في حديث، والغلط في الرواية، وإبدال راوٍ براوٍ آخر، وغير ذلك مما هو معروف في مباحث الحديث المعلل عند علماء الحديث.

4 – نقل الحديث بالمعنى:(211)

الراوي للحديث ، إما أن يرويه كما سمعه ، بلفظه دون تغيير فيه أو تبديل وهذا لا خلاف في أنه ذروة ما يطمح إليه العلماء ، وهذا الراوي قد أدى الأمانة كما سمعها .

وإما أن يروي الحديث لا بنفس اللفظ الذي سمعه، وإنما بمعناه، وقد وقع في هذا النوع من الرواية خلاف كبير.

والصحيح الذي عليه الجمهور، ومنهم الأئمة الأربعة – على أن يجوز نقل الحديث بالمعنى إذا كان الراوي عارفاً بمدلولات الألفاظ، ومواقع الكلام، قد فهم المعنى من اللفظ الأول، وأتى بلفظ آخر مساوٍ له، يدل على نفس المعنى الذي أريد باللفظ الأول.

وأما إذا كان الراوي غير عارف بمدلولات الألفاظ، وغير قادر على أداء نفس المعنى الذي أريد باللفظ الأول، فإنه لا يجوز له رواية الحديث بالمعنى.

5 – زيادة الراوي في الحديث:(212)

إذا روى العدل الثقة حديثاً، وزاد فيه زيادة لم يروها غيره من العدول الذين شاركوه في رواية الحديث، ففي المسألة خلاف وتفصيل، وخلاصته عند الجمهور، أن المجلس الذي سمعت فيه هذه الرواية إما أن يعلم تعدده، وإما أن يجهل، والزيادة إما أن تغير الإعراب في المزيد عليه، وإما أن لا تغير.

فإن علم اختلاف المجلس الذي سمعت فيه الروايتان، قبلت الزيادة في الرواية الثانية عند الجماهير، وقيل: إجماعاً.

وذلك لجواز أن يكون الرسول – r – قد ذكر الزيادة في مجلس من المجلسين وتركها في المجلس الآخر، ومع هذا الاحتمال لا يجوز رد الزيادة، بل يجب قبولها، لعدالة الراوي وثقته، المدعومة بما ذكرناه من الاحتمال، ولا تعارض بينها وبين الرواية الثانية التي قيلت في المجلس الآخر.

وكذلك الحال فيما إذا لم يعلم تعدد المجلس إلا أنه لم يعلم أيضاً اتحاده، وذلك لأن الغالب في مثل هذه الحالة التعدد، ويأتي فيه ما ذكرناه من الجواز.

وإن علم اتحاد المجلس، فإما أن يكون الذين سكتوا عن الزيادة، ولم يرووها عدداً لا يجوز عليهم أن يذهلوا عن الزيادة، أو لا يكونوا كذلك.

فإن كانوا ممن لا يجوز عليهم أن يغفلوا عما زاده الواحد، ردت تلك الزيادة، وهذا لا يقدح في عدالة الراوي، ويحمل الأمر على أنه قد سمعها من غير رسول الله – r -، وظن أنه قد سمعها منه.

وإن كانوا ممن يجوز عليهم الغفلة عن الزيادة، فهذه الزيادة أما أن تكون مغيرة للإعراب المغير للحكم، أو لا تكون.

فإن لم تكن مغيرة للإعراب والحكم قبلت ممن زادها وحمل أمر من سكت عنها على الذهول والغفلة، إلا إذا كانوا مع غفلتهم أضبط ممن زادها، وفي هذه الحالة يتعارضان ويلجأ إلى الترجيح .

وإن كانت الزيادة مغيرة للإعراب والحكم; كما لو روى أحدهما : أدوا عن كل حر أو عبد صاعاً من بر ، وروى الثاني : أدوا عن كل حر أو عبد نصف صاع من بر، ففي هذه الحالة لا تقبل الزيادة ، بل يقع التعارض ، ويلجأ إلى الترجيح .

زيادة الراوي على نفسه :

ما ذكرناه في الفقرة السابقة هو ما يقع بين راويين ، وأما هنا فالراوي نفسه يروي الرواية تارة بدون زيادة ، ويرويها تارة آخري مع الزيادة .

والحكم في هذه الحالة كالحكم في حالة تعدد الرواية من راويين، فيفصل بين اتحاد سماعها من الذي روى وتعدده.

فإن أسند السماع لمجلسين قبلت، وإن أسنده لمجلس واحد فقيل: العبرة بكثرة مرات الرواية، وقيل تقبل مطلقاً، وقيل بالوقف والتعارض.

الإسناد والإرسال:(213)

إذا ذكر بعض الرواة الخبر مسنداً وبعضهم مرسلاً، أو ذكره بعضهم مرفوعاً وبعضهم موقوفاً، فالكلام فيه كالكلام في الزيادة.

6 – حذف بعض الخبر:(214)

إذا سمع أحد الرواة خبراً ، ثم أراد نقله مختصراً ، بأن يحذف بعضه ، وينقل بعضه الآخر ، فإن تعلق المحذوف بالمذكور ، بأن كان غاية ، أو سببا ، أو شرطا ، أو استثناء أو صفة ، لم يجز الحذف ، وحرم على الراوي النقصان من الحديث ، لبطلان المقصود به حينئذ .

وذلك كقوله عليه الصلاة والسلام: (( لا تبيعوا الذهب بالذهب، ولا الفضة بالفضة، إلا سواء بسواء )) فترك الاستثناء ((إلا سواء بسواء )).

وكنهيه عليه الصلاة والسلام ((عن بيع التمر حتى يزهى فترك الغاية حتى يزهى)).

وكقوله عليه الصلاة والسلام: (( في الغنم السائمة الزكاة )) فيترك الصفة وهي (السائمة ).

وكذلك الحكم فيها إذا ترك ما فيه بيان مجمل، أو تخصيص عام، أو تقييد مطلق، أو بيان نسخ.

وأما إذا لم يتعلق المحذوف بالمذكور فالأفضل عدم حذفه اتفاقاً، إلا أنه إذا حذف لم يحرم.

وذلك كقوله – r – : (( المؤمنون تتكافؤ دماؤهم ، ويسعى بذمتهم أدناهم )) فلو حذف أحد الجملتين لم يحرم ، لأنه لا تعلق لأحد الجملتين أو الحكمين بالآخر .

7- حمل الصحابي الخبر على احد معانيه:(215)

إذا روي الصحابي خبراً له معنيان متنافيان ، كالقرء ، له معنيان متنافيان ، وهما الطهر والحيض، ثم حمله الصحابي على أحد هذين المعنيين، الحيض أو الطهر فالصحيح وجوب حمل الخبر عليه ، لأن الظاهر أنه لا يحمله عليه إلا لقرينة تدل عليه لمشاهدته لصاحب الشريعة – r – ،واطلاعه على أسرار التشريع.

ومن ذلك حمل ابن عمر رضي الله عنهما التفرق في حديث خيار المجلس، على التفرق بالأبدان.

وأما إذا لم يكن المعنيان متنافيين، فحكمه في هذه الحالة حكم المشترك اللفظي ، فنحمله على معنييه احتياطاً، حمله الراوي على أحدهما أو عليهما معاً.

وأما إذا حمل الصحابي الحديث على غير ظاهره، كأن حمل اللفظ على معناه المجازي دون الحقيقي، ولا قرينة، فالأصح أنه لا يقبل حمله، عملاً بظاهر الحديث.

وللمسألة مساس بقول الراوي هل هو حجة أم لا ، وستأتي معنا إن شاء الله في الأدلة المختلف فيها .

الحديث الصحيح

من خلال ما ذكرناه في الشروط المعتبرة في الراوي والمروي لقبول الخبر يظهر لنا أن الحديث الصحيح هو:

1 – ما كان سنده متصلاً .

2 – وخلا من الشذوذ .

3 – والعلة القادحة.

4 – براوية العدل.

5 – الضابط لما يرويه .

وهي الشروط المتفق عليها في الحديث المتفق على صحته.

الفَصْـلُ الـَّرابع

في ألفاظ الرّوايَةِ والتّحَـمّلِ

ونريد أن نتكلم في هذا الفصل على الألفاظ التي يروي بها الراوي ما تحمله من الحديث ، من حيث دلالة هذه الألفاظ على سماعه المباشر ممن روى عنه، أو غير ذلك من الدلالات.

والراوي إما أن يكون صحابياً أو غير صحابي، ولكل منهما مستند في نقل الخبر، ولهذا المستند درجات.

1 – مستند الصحابي:(216)

ينقسم مستند الصحابي في التحمل إلى قسمين، قسم لا خلاف فيه، لكونه لا يحتمل غير ما يدل عليه اللفظ، لصراحته في السماع المباشر، الذي لا واسطة فيه، وقسم فيه خلاف لاحتماله الواسطة.

القسم الأول: وهو أعلى درجات نقل الخبر، وذلك كقول الصحابي: حدثني رسول الله – r -، أو أخبرني، أو شافهني، أو سمعته يقول، أو رأيته يفعل، أو ما شابه هذا.

القسم الثاني: وهو دون الأول لما ذكرناه من احتمال الواسطة بينه وبين رسول الله – r -، لعدم دلالة اللفظ صراحة على التحمل أو السماع المباشر، والصحيح أنه محمول على السماع، ويحتج به، وهو درجات تتفاوت في القوة والخلاف حسب ترتيبها.

1 – أن يقول : قال رسول الله – r -.

2 – أمر رسول الله – r – بكذا ، أو نهى عن كذا .

3 – أن يقول : أمرنا بكذا ، أو نهينا عن كذا ، أو أوجب كذا ، أو حرم كذا أو رخص في كذا، ببناء الصيغة للمفعول في الجميع.

4 – أن يقول : من السنة كذا ، أو جرت السنة على كذا ، أو مضت السنة بكذا .

5 – أن يقول: كنا نفعل في عهده – r – كذا، أو كان الناس يفعلون، في عهده – r – كذا، فالظاهر أن رسول الله – r – قد أقرهم على ذلك.

2 – مستند غير الصحابي:(217)

وأما مستند غير الصحابي فهو درجات أيضاً تتفاوت حسب ترتيبها الآتي، ونذكر منها:

1 – وهي أعلى درجات التحمل أن يسمع الحديث من لفظ الشيخ، قراءة أو إملاء، فإن قصد الشيخ إسماعه وحده، أو إسماعه مع غيره، جاز له أن يقول: حدثني، أو حدثنا، أو أخبرني، أو أخبرنا.

وإلا بأن لم يقصد الشيخ إسماعه، فلا يجوز ذلك، بل يقول قال فلان كذا وأنا أسمع ، أو حدث بكذا ، أو سمعته يقول كذا ، أو ما قارب هذا .

2 – أن يقرأ التلميذ على الشيخ، والشيخ يسمعه، وفي هذه الحالة يقول أيضاً حدثني أو أخبرني، أو سمعته، وقد يفصل المحدثون بين لفظ حدثني وأخبرني، كما هو معروف.

3 – أن يسمع الراوي قراءة غيره على الشيخ، والشيخ يسمع، ويقول في هذه الحالة حدثنا وأخبرنا قراءة عليه، ويجوز أن يقول: حدثنا، بدون قوله قراءة عليه، وإن كانت الأولى أصح وأولى للتمييز.

4 – الإجازة : وهي أن يقول الشيخ للتلميذ أجزت لك أن تروي عني هذا الحديث، أو هذا الكتاب، أو هذه الكتب.

وأعلى درجاتها أن تقترن بالمناولة، كأن يدفع الشيخ أصل سماعه، أو فرعاً مقابلاً به التلميذ، ويقول له أجزت لك روايته عني.

والإجازة أنواع هي :

أ – إجازة خاص في خاص، نحو أجزت لك رواية البخاري.

ب – إجازة خاص في عام ، نحو أجزت لك رواية جميع مسموعاتي .

جـ – إجازة عام في خاص، نحو أجزت لمن أدركني رواية مسلم.

د – إجازة عام في عام ، نحو أجزت من عاصرني رواية جميع مسموعاتي .

5 – المناولة من غير إجازة : وهي أن يناول الشيخ التلميذ صحيفة ويقول

هذا سماع، إلا أنه لا يجيزه في روايته عنه، وعلى ذلك لا تجوز الرواية بها على الصحيح.

6 – الوصية: كأن يوصي الشيخ بكتاب من كتبه، أو بجميع كتبه، لتلميذه، أو لتلاميذه عند السفر أو الموت.

7 – الو جادة : كأن يجد التلميذ كتاباً أو حديثاً بخط شيخ معروف وتجوز الرواية بها إذا وثق بخط الشيخ واطمأن إليه .

(202) جمع الجوامع : 2 /135 ، رفع الحاجب : 1 / ق 281 – أ .

(203) التبصرة : 314 ، اللمع 40 ، المستصفى : 1 /171 تجارية ، المنخول : 284 ،

الأحكـــام : 2 /160 ، منتهي الســـول : 1 /87 ، المنتهى : 62 ، المحصــول :

4 /632، المسودة: 238، تيسير التحرير: 3 /112، السر خسي: 1 /368،

كشف الأسرار : 3 /16 ، فوائح الرحموت : 2 /128 ، جمع الجوامع :2/135 .

(204) جمع الجوامع: 2 /135، المحصول: 4 / 630.

(205) جمع الجوامع : 2 / 126 ، المحصول : 4 /619 ، الإبهاج ونهاية السول : 2 /214 ،

الأحكام : 2 / 169 ، منتهي السول : 1 /89 ، المنتهي : 63 ، المختصر : 2 / 73

عضد، رفع الحاجب: 1 / ق 282 – أ، المعتمد: 2 /655، كشف الأســــــرار:

2 /378، تيسير التحرير: 3 / 116، التلويح على التوضيح: 2 /251.

(206) جمع الجوامع : 2 /146 ، المحصول : 4 /563 ، الأحكام : 2 /100 ، المنخول :

257 .

(207) جمع الجوامع: 2 /164، المحصول: 4 /571.

(208) الأحكام : 2 /118 ، المحصول : 4 / 575 ، ألفية السيوطي رقم 105 .

(209) تدريب الراوي : 1 /63 ، ألفية السيوطي رقم 14 وما بعده .

(210) انظر كتابنا الحديث المرسل حجيته وأثره في الفقه الإسلامي، وقد استوفينا فيه الكلام

على الحديث المرسل، وحجيته، وأثر الخلاف فيه في الفروع الفقهية.

(211) علوم الحديث : 191 ، ألفية السيوطي رقم 493 ، فتح المغيث : 2 / 212 ،

التبصرة : 346 ، اللمع : 44 ، المستصفى : 1 /168 ، المنخول : 279 ،

الأحكام : 2 / 146 ، المنتهي : 60 ، الإبهاج ونهاية السول : 2 /226 ، المسودة :

281 ، جمع الجوامع : 2 /171 ، كشف الأسرار : 3 / 55 .

(212) جمع الجوامع : 2 / 140 .

(213) جمع الجوامع : 2 / 143 ، التبصرة : 325 .

(214) جمع الجوامع : 2/144 .

(215) جمع الجوامع : 2 /145 .

(216) جمع الجوامع: 2 /173، المحصول: 1 /637، الأحكام: 2 /136.

(217) الأحكام: 2 / 141، المحصول: 1 / 643، جمع الجوامع: 2 / 174.