الصفحة الرئيسية » كتب للقراءة والتحميل » الوجيز في أصول التشريع الإسلامي » صيغة الأمر، دلالة صيغة الأمر، الأمر بعد الحظر، الفور والتّكــرار، الأمران المتعاقبان، خاتمة

صيغة الأمر، دلالة صيغة الأمر، الأمر بعد الحظر، الفور والتّكــرار، الأمران المتعاقبان، خاتمة

المسألة الثانية
في صيغة الأمر

قد ذكرنا أن الأمر هو القول الطالب للفعل .

والآن نريد أن نتكلم على صيغته، والمعاني التي ترد لها هذه الصيغة.

أما صيغته التي تدل عليه فهي: ( افعل ) والفعل المضارع المقرون باللام: ( ليفعل ) واسم الفعل نحو ( نزال، وصه ).

وهذه الصيغة ترد لمعان كثيرة، أوصلها الإمام ابن السبكي لستة وعشرين معنى(69)، وهي :

1. الوجوب: وذلك كقوله تعالى: ) أقيموا الصلاة (.

2. الندب: وذلك كقوله تعالى: ) فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيرا ( .

3. التأديب : وذلك كقوله ـ r ـ لعمر بن أبي سلمة، وهو طفل صغير، ويده تطيش في الصفحة : ( كل مما يليك ) .

والفرق بين الندب والتأديب، أن التأديب لتهذيب الأخلاق، وإصلاح العادات، والندب لثواب الآخرة.

وإنما حملناه على التأديب هنا، لأن الصغير لا يخاطب بالمندوب، إذ هو أحد أقسام الحكم الشرعي المتعلق بفعل المكلف، لا الصبي.

وما ذكره الإمام الشافعي في عدة مواضع من كتاب ( الأم ) من حرمة الأكل مما لا يليه بالنسبة للمكلف، حمله أصحابه ـ رضوان الله عليهم ـ على ما كان فيه إيذاء للجليس، لا على مجرد الأكل مما لا يليه، أو من رأس الطعام.

4. الإرشاد: وذلك كقوله تعالى: ) إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه ( وقوله ) واستشهدوا شهيدين ( .

والفرق بينه وبين الندب أنَّ الإرشاد مصلحته دنيوية لتوثيق المعاملات، وضمان الأموال والحقوق، وأما الندب فالمصلحة فيه أخروية لنيل الثواب.

5. الإذن: وذلك كقول القائل لمن طرق بابه: ادخل.

6. الإباحة: وذلك كقوله تعالى: ) كلوا من الطيبات ( .

7. إرادة الامتثال: وذلك كقول إنسان لآخر عند العطش: اسقني ماء، فإن الغرض من هذا الأمر إرادة الامتثال، ولا مجال فيه للوجوب ولا لغيره.

8. الإكرام: وذلك كقوله تعالى لأهل الجنة: ) ادخلوها بسلام آمنين ( .

9. الامتنان: وذلك كقوله تعالى: ) كلوا مما رزقكم الله(.

والفرق بينه وبين الإباحة أن الإباحة هي الإذن المجرد، والامتنان يذكر معه احتياجنا إليه، أو عدم قدرتنا عليه، كالتعرض في هذه الآية إلى أن الله تعالى هو الذي رزقنا ما أباح لنا أكله.

كما أن الإباحة تكون في الشيء الذي سيوجد، بخلاف الامتنان، فإنه بالشيء الذي وجد.

10. التهديد : وذلك كقوله تعالى في خطاب الكفار، تهديداً لهم : ) اعملوا ما شئتم ( وقوله في خطاب إبليس تهديداً له : ) واستفزز من استطعت منهم ( .

11. الإنذار: وذلك كقوله تعالى: ) قل تمتعوا فإن مصيركم إلى النار ( .

والفرق بينه وبين التهديد، أن التهديد أعم من الإنذار، فالتهديد هو التخويف، والإنذار هو الإبلاغ مع التخويف، فقوله تعالى: ) قل تمتعوا ( أمر بإبلاغ هذا الكلام المخوف المقترن بذكر الوعيد.

12. الإهانة : وذلك كقوله تعالى إهانة للكافر يوم القيامة : ) ذق إنك أنت العزيز الكريم ( .

وضابطها: أن يؤتى بلفظ يدل على الخير والكرامة، ويراد منه ضد ذلك.

13. الاحتقار: كقوله تعالى حكاية عن موسى يخاطب السحرة: ) ألقوا ما أنتم ملقون ( أي فما تلقونه من السحر محتقر أمام المعجزة.

والفرق بينه وبين الإهانة أنَّ الإهانة إنما تكون بقول أو فعل، أو ترك قول، أو ترك فعل، كترك إجابته، والقيام له عند سبق عادته بذلك، ولا يكون بمجرد الاعتقاد، فإن من اعتقد في شيء أنه لا يعبأ به، ولا يلتفت إليه، يقال : إنه احتقره، ولا يقال : انه أهانه .

والحاصل : أن الإهانة هي الإنكاء، كقوله تعالى : ) ذق ( والاحتقار عدم المبالاة، كقوله تعالى : ) ألقوا ( .

14. التسخير: والمراد به التذليل والامتهان، وذلك كقوله تعالى: ) كونوا قردة خاسئين (.

15. التكوين: وذلك كقوله تعالى: ) كن فيكون ( .

والفرق بينه وبين التسخير أن التكوين سرعة الوجود عن العدم، وليس فيه انتقال من حالة إلى حالة، والتسخير هو الانتقال من حالة إلى حالة ممتهنة.

16. التعجيز: وذلك كقوله تعالى: ) فأتوا بسورة من مثله ( والمراد به إظهار العجز عند التحدي

17. التسوية: وذلك كقوله تعالى: ) اصبروا أولا تصبروا ( أي سواء عليكم.

18. الدعاء: وذلك كقول القائل: رب اغفر لي ولوالدي.

19. التمني : وذلك كقول امرئ القيس :

ألا أيها الليل الطويل ألا انجلي بصبح، وما الإصباح منك بأمثل

والتمني هو طلب المحال، بخلاف الترجي الذي هو طلب الممكن . وإنما كان كلام امرئ القيس تمنياً، لأن ليل المحب طويل، فكأنه لطوله مستحيل الانجلاء .

20. الخبر : وذلك كقوله ـ r ـ : ( إذا لم تستح فاصنع ما شئت ) أي : صنعت ما شئت .

21. الإنعام: بمعنى تذكير النعمة، وذلك كقوله تعالى: ) كلوا من طيبات ما رزقناكم ( .

والفرق بينه وبين الامتنان، إن الامتنان يذكر معه احتياجنا إليه، كما مر، والإنعام مختص بذكر أعلى ما يحتاج إليه.

22. التفويض: وذلك كقوله تعالى حكاية عن السحرة في خطاب فرعون بعد أن أسلموا مع موسى: ) فاقض ما أنت قاض( .

23. التعجب: وذلك قوله تعالى: ) انظر كيف ضربوا لك الأمثال (.

24. التكذيب: وذلك كقوله تعالى في خطاب اليهود: ) قل فأتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين ( .

25. المشورة : وذلك بقوله تعالى حكاية عن إبراهيم في خطاب ابنه إسماعيل حين عرض عليه رأياه بذبحه : ) فانظر ماذا ترى ( .

26. الاعتبار: وذلك كقوله تعالى في خطاب عباده ليعتبروا: ) انظروا إلى ثمره إذا أثمر ( أي اعتبروا .

المسألة الثالثة

في دلالة صيغة الأمر

قد ذكرنا في المسألة السابقة صيغة الأمر، والمعاني التي ترد لها هذه الصيغة، وبقي علينا أن نعرف، هل هذه الصيغة حقيقية في كل المعاني التي ذكرناها في المسألة السابقة، أم أنها حقيقة في بعضها، مجاز في الآخر ؟ .

اتفق علماء الأصول على أن صيغة الأمر ليست حقيقة في كل المعاني التي ذكرناها سابقاً، وإنما هي حقيقة في بعضها، مجاز في الآخر.

ثم إن الذين ذهبوا إلى أنها حقيقة في بعض هذه المعاني، حصروا الخلاف تقريباً في الأحكام الخمسة، وهي : الوجوب، والندب، والإباحة، والكراهة، والتحريم .

والجمهور على أنها حقيقة في الوجوب، مجاز في غيره من المعاني الأخرى التي ذكرناها.

فإذا ما وردت صيغة الأمر حملناها على الوجوب، إذ الأصل في الإطلاق الحقيقة، إلا إذا قامت قرينة تدل على أن المراد غير الوجوب من المعاني الأخرى التي مر ذكرها (70)

فإذا ما قرأنا قول الله تعالى : ) إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه ( فهمنا من هذه الصيغة الوجوب، بناء على أنه الحقيقة فيها .

إلا أن القرينة صرفته عنه إلى الإرشاد، وهي أن الأمر بالكتابة إنما هو لصيانة الحقوق، والتوثق منها، والإنسان حر في ماله، فقد يقرض إنسانا قرضاً وهو واثق من أمانته، أو أنه لا يريد استيفاءه منه، أو أنه غير مهتم بالاستيفاء، وعند ذلك فلا حاجة للكتابة، لأن الله إنما شرعها من أجل حقه، وهو لا يريد التوثق منه لما ذكرنا، ولذلك حملنا الأمر على الإرشاد، لا على الوجوب، ولا على الندب، لأنه إنما يراد لمصلحة أخروية، وهذا تصرف مادي محض .

الدليل على الوجوب :

وأما الدليل على أن صيغة الأمر للوجوب، فكثير، نكتفي منه بما ورد في كتاب الله تعالى من ذم إبليس حين أمره الله بالسجود لآدم فعصى، فقال الله له : ) ما منعك أن لا تسجد إذ أمرتك ( أي ما الذي حملك على عدم السجود ودعاك إليه ؟ والله تعالى لا يريد في هذه الآية أن يستفهم منه عن السبب لأن ذلك محال عليه تعالى، لأنه يعلم السر والعلانية، وإنما يريد الله تعالى ذم إبليس وتوبيخه، على أساليب العرب في الاستفهام التوبيخي .

فلو لم يكن الأمر يفيد الوجوب، لقال إبليس لله تعالى: انك لم توجب علي، فلماذا توبخني ؟

إلا أنه لما كان الأمر يفيد الوجوب، كان لزاماً عليه أن يسجد لأمر ربه، فلما لم يفعل، عصى، واستحق الذم.

كما أن الله تعالى أثنى على ملائكته بامتثالهم أمره، وعدم معصيتهم له، فقال : ) لا يعصون الله ما أمرهم ( فدل هذا على أن مخالفة الأمر معصية، والمعصية تستحق النار، لقوله تعالى : ) ومن يعص الله ورسوله فإن له نار جهنم خالدين فيها أبدا ( .

ولو لم يكن الأمر للوجوب لما كانت مخالفته معصية تستحق النار.

اعتقاد الوجوب قبل البحث عن القرائن(71) :

قد عرفنا أن الأمر حقيقة في الوجوب، مجاز في غيره، وأنه يحمل على الوجوب ما لم تقم قرينة تصرفه عنه إلى غيره من المعاني.

وإذا جاءتنا صيغة الأمر، تبادر إلى ذهننا منها الوجوب، إلا أن هذا لا يمنع أن تكون هناك قرينة لم نطلع عليها تصرفه عن هذا الوجوب الظاهر، إلى غيره من المعاني المجازية، كالندب والإرشاد وغير ذلك.

وهذا شأن كل دليل، إذ يمكن أن يكون له معارض.

وبناء على ذلك، هل يجب على المجتهد وغيره من مقلديه اعتقاد ما هو ظاهر من الصيغة، وهو الوجوب، حتى يتمسك به ويعمل بمقتضاه، قبل البحث عن القرائن التي ربما توجد وتصرفه عنه، أم أنه لا يجب عليه ذلك، وأن الصيغة لا تكون للوجوب إلا عند انعدام القرائن التي تصرفها عنه إلى غيره من المعاني .

الأصح الذي عليه الجمهور أنه يجب عليه اعتقاد الوجوب، والعمل بمقتضاه قبل ظهور القرائن، والوقوف عليها، فإن التكليف إنما هو بالظاهر المتبادر، ولا يكلف بالقرائن التي لم تبلغه، ولم يقف عليها .

وهذا الكلام بذاته يرد في صيغة العموم قبل البحث عن المخصص، وسنشير إليه هناك إن شاء الله .

المسألة الرابعة

في الأمر بعد الحظر

قد مرَّ معنا فيما سبق أن الأمر للوجوب حقيقة، وهذا إنما يكون إذا وردت صيغة الأمر ابتداء، وتجردت عن القرائن .

وهل يكون الحكم كذلك إذا ورد الأمر بعد النهي، فيحمل على الوجوب، أم يأخذ حكماً جديداً، بسبب تقدم الحظر عليه ؟

نعني إذا نهانا الشارع عن شيء، ثم أمرنا به، فهل هذا الأمر للوجوب، كما لو كان ابتداء، أم أنه له حكم جديد، بسبب تقدم الحظر عليه قبل الأمر به ؟

الذي ذهب إليه جمهور علماء الأصول أن الأمر إذا ورد بعد الحظر، يفيد الإباحة، لا الوجوب، ويكون حقيقة فيها، لتبادرها إلى الذهن حينئذ، وغلبة استعماله فيها، والتبادر من أمارات الحقيقة .

وذلك كتحريم الله تعالى الصيد على المحرم في قوله : ) وحرَّم عليكم صيد البر ما دمتم حرما ( وقوله : ) غير محلي الصيد وأنتم حرم ( وبعد ذلك أمر الله بالصيد في قوله : ) وإذا حللتم فاصطادوا ( فهذا أمر بالصيد بعد حظره، وهو للإباحة، لا للوجوب(72).

وكتحريم البيع وقت النداء ليوم الجمعة في قوله تعالى: ) إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع ( ثم قال تعالى: ) فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله ( فالبيع بعد الصلاة مباح وليس بواجب.

وكتحريم وطء الحائض أثناء الحيض في قوله تعالى: ) فاعتزلوا النساء في المحيض ( ثم أمر الله به بعد الحيض في قوله: ) فإذا تطهَّرن فأتوهن من حيث أمركم الله ( فالإتيان بعد الطهر مباح وليس بواجب.

الأمر بعد الاستئذان(73) :

وكالأمر بعد الحظر، الأمر بعد الاستئذان، وذلك كما لو استأذن إنسان بالدخول للبيت، فقال: أأدخل ؟ فقيل له: ادخل، فإن الأمر في هذه الحالة للإباحة عند الجمهور، لوروده بعد الاستئذان.

النهي بعد الوجوب :

هذه المسألة عكس السابقة، وهي أن يوجب الشارع شيئاًن ثم ينهي عنه بعد ذلك، فهل يكون الأمر كما لو نهي ثم أمر، فيحمل النهي هنا على الإباحة كما حمل الأمر هناك عليها، أم أنه يكون خلاف ذلك فيحمل على التحريم ؟

الذي ذهب إليه الجمهور من القائلين بأن الأمر بعد الحظر للإباحة ـ هو أنه هنا للتحريم، لا للإباحة.

والفرق بينه وبين الأمر بعد الحظر من وجهين:

1. أن حمل النهي على التحريم يقتضي الترك، وهو موافق للأصل الذي هو عدم الفعل، وحمل الأمر الوجوب يقتضي الفعل، وهو خلاف الأصل.

2. إن النهي لدفع المفاسد، والأمر لجلب المصالح، ودرء المفاسد مقدم على جلب المصالح في الشرع(74) .

النهي بعد الاستئذان :

وهو ما وقع جواباً بعد الاستئذان، وحكمه التحريم، كالمسألة السابقة، ومثاله ما رواه مسلم، عن المقداد . قال : أرأيت إن لقيت رجلاً من الكفار، فقاتلني، فضرب إحدى يدي بالسيف، فقطعها، ثم لاذ مني بشجرة، فقال : أسلمت لله تعالى، أفأقتله يا رسول الله إن قالها ؟ قال : لا .

فهو دال على حرمة قتله .

المسألة الخامسة

في الفور والتّكــرار

1. الأمر المطلق لا يفيد التكرار ولا المرة(75) :

إذا ورد الأمر من الشارع أو غيره، مقيداً بالمرة أفادها، وإن ورد مقيداً بالتكرار أفاده اتفاقاً.

وإذا ورد الأمر مطلقاً، عارياً عن قيد المرة أو التكرار، فالجمهور على أنه لا يفيد المرة، ولا التكرار، ولا يدفعهما.

وإنما يفيد طلب الماهية، وتحقيق المأمور في الخارج، إلا أن هذا لا يمكن أن يتحقق بدون الفعل مرة واحدة، ولذلك كانت المرة من ضروريات تحقق المأمور، أما الأمر بذاته، فإنه لا يدل على المرة، ولا على التكرار، ولا يمنع منهما، بل هو ساكت عنهما .

2. الأمر المعلق بصفة أو بشرط(76 ) :

ما ذكرناه من عدم إفادة الأمر المرة أو التكرار، إنما هو في الأمر المطلق، كما ذكرناه، أما إذا علق الأمر على صفة أو شرط. كقوله تعالى: ) وإن كنتم جنباً فاطَّهروا ( وقوله: ) الزانية والزاني فاجلدوا ( .

فالشرط والصفة إما أن يكونا علة أولا.

فإن لم يكونا علة، فإن الأمر لا يفيد التكرار أيضا، وذلك كما لو قال الموكِّل ولوكيله: إذا جاء شهر رجب فأعتق عبداً من عبيدي، فإن هذا الأمر لا يدل على التكرار، ولا يعتق الوكيل أكثر من عبدٍ واحد.

وأما إذا ثبتا علة فإن الأمر في هذه الحالة يفيد التكرار، ولكن لا بذاته وإنما يفيد التكرار بتكرر العلة، كما في الآيتين السابقتين .

وقيل يفيد التكرار مطلقاً، وقيل غير ذلك، والمسألة محل نظر.

3. دلالة الأمر على الفور والتراخي(77) :

قد عرفنا أن الجمهور على أن الأمر لا يفيد التكرار، ولا يدفعه. وهل يدل الأمر على الفور أو التراخي، بحيث إذا ورد الخطاب من الشارع بأمر ما، دلنا هذا الأمر على وجوب العمل فوراً، وبدون مهلة، أو دلنا على أن الواجب على التراخي، بحيث يجب على المأمور أن يؤخر الفعل لثاني الوقت، ولو أتى به في أول الوقت لم يعد ممتثلاً .

الجمهور على أن الأمر المطلق، المجرد عن القرائن، كما لا يدل على التكرار، لا يدل، على الفور، ولا على التراخي، وإنما يدل على مجرد الطلب الواجب، إذا أتى به المأمور في أي وقت من أوقاته أجزأه .

وإذا وجدنا بعض الأوامر واجبة على الفور، أو التراخي، فإنما هو لقرينة خارجية احتفت بها، لا من ذات الأمر .

اشتراط العزم:

إذا قلنا بأن الأمر لا يفيد الفور، ويجوز للإنسان أن يأتي بالمأمور في أي وقت من أوقاته التي حددها له الشارع، هل يجب على الإنسان المكلف إذا أراد أن يؤخِّر الفعل إلى الوقت الثاني بدلاً من الوقت الأول هل يجب عليه أن يعزم على الفعل في ثاني الوقت ليجوز له التأخير، أم لا يجب عليه العزم ؟ .

الجمهور على أنه لا يجب عليه العزم على الفعل في الوقت الثاني، وفي أي وقت فعل المأمور به أجزأه، عزم أو لم يعزم.

وإن كان يجب عليه في أحكام الإيمان أن يعزم على الإتيان بالواجب عليه عند تذكره، والقدرة عليه، وهذا ليس من ذات الأمر، وإنما هو من أحكام الإيمان، كما مرَّ معنا في بحث الواجب المضيق والموسع ص /60.

المسألة السادسة

في الأمرين المتعاقبين

إذا ورد أمران متعاقبان بفعلين متماثلين، والأمر الثاني غير معطوف على الأمر الأول، فله حالتان(78)

الحالة الأولى:

أن يمنع من القول بتكرار المأمور به مانع عادي، كتعريف أو غيره، حمل الأمر الثاني على التأكيد، وذلك نحو:

( اضرب رجلاً، اضرب الرجل ) ، ( اسقني ماء، اسقني ماء ).

فيحمل الأول على التأكيد من أجل التعريف، ويحمل الثاني على التأكيد لأن العادة تمنع من تكرره.

الحالة الثانية:

أن لا يمنع من القول بتكرار المأمور به مانع، وذلك نحو: ( صلِّ ركعتين، صلِّ ركعتين ) فالأصح أنه يعمل بالأمرين، لفائدة التأسيس، المقدم على التوكيد.

أما إذا كان الأمر الثاني معطوفاً على الأول، وكان المأمور به قابلاً للتكرار، نحو : ( صمْ يوم الخميس، وصمْ يوم الخميس ) عمل بهما أيضا، لفائدة التأسيس .

هذا كله إذا كان الفعلان متماثلين، فإن كانا مختلفين، فلا خلاف في اقتضائهما للمأمورين، وذلك نحو: ( صم يوم الخميس، وصل صلاة الجمعة ).

خاتمة

1. الأمر بشئ عند المأمور وازع يحمله عليه(79):

عرفنا فيما سبق أن الأمر حقيقة في الوجوب، وأنه ينصرف إليه عند التجرد عن القرائن فيحمل على ما يناسب الحال والقرنية .

فإذا ورد الأمر بشيء يتعلق بالمأمور، وكان عند المأمور وازع يحمله على الإتيان به، لم يحمل ذلك الأمر على الوجوب.

لأن الغرض من الوجوب، حث المأمور على طلب الفعل والقيام به، والرغبة القائمة في نفس المأمور في حالتنا هذه كافية لحمل المأمور على الفعل، دون إيجابه عليه.

كما أننا إنما نحمله على الوجوب ليتحقق الابتلاء، ويعرف أنه إنما فهل امتثالا، فإذا كانت الرغبة قائمة في النفس لم ندْرِ أفَعَلَ امتثالا أم رغبة بما في نفسه.

وذلك كقول رسول الله ـ r ـ 🙁 يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج).

فظاهر الأمر وإن كان يقتضي الإيجاب إلا أن الفقهاء لم يحملوه عليه، لما ذكرنا من الرغبة القائمة في النفس، الحاثة عليه.

2. الأمر بالأمر بالشيء :

إذا ورد أمر بالأمر بشيء ما، كقول القائل لزيد: مُرْ عمراً بأن يبيع بقرتك، مثلاً، فهل يكون هذا الأمر موجهاً لعمرو من قبل القائل فيكون مأموراً، أم لا ؟ .

الأصح أنه لا يكون أمراً بذلك الشيء(80) . فلو أن القائل قال هذا الكلام، لا يكون كلامه موجهاً لعمرو بالبيع، ولو أنه قال لعمرو بعد ذلك: لا تبع البقرة، لا يكون متناقضاً، لأن أمره الأول غير أمره الثاني، لأن الأول لم يتعلق به.

3. الأمر بالعلم بشيء :

إذا ورد أمر بالعلم بشيء ما، لا يستلزم هذا الأمر حصول ذلك الشيء الذي ورد الأمر بعلمه، في تلك الحالة. فقد يكون كذلك وقد لا يكون.

فإذا قال القائل: أعلم أن زيدا قائم، لا يدل هذا الأمر على أن زيداً في هذه الحالة قائم، فقد يكون قائماً، وقد لا يكون(81) .

4. الأمر بالأداء ليس أمراً بالقضاء :

إذا أمر الشارع بفعل في وقت معين، ولم يفعل المأمور ما أمر به، فهل يجب عليه قضاء ما أمر به بعد الوقت بنفس الأمر الأول، أم أنه يحتاج لأمرٍ جديدٍ فيه أمرٌ بالقضاء.

الأصح الذي عليه الجماهير من الأصوليين أن الأمر بالأداء، لا يكون أمراً بالقضاء، فلا يستلزمه، وإن القضاء يحتاج لأمرٍ جديد(82).

5. الأمر بالشيء يدل على أجزاء المأمور به :

اتفق الأصوليون على أن الإتيان بالمأمور على وجهه الصحيح يدل على الإجزاء، بمعنى الامتثال، أي يعتبر المأمور ممتثلا إذا فعل ما أمر به على وجهه الشرعي الصحيح.

كما اتفقوا على عدم الإجزاء بمعنى عدم سقوط القضاء، فيما إذا كان المأمور به مختل الشرط، أو الركن، أو الصفة.

وبقي شيء واحد، وهو الإجزاء بمعنى سقوط القضاء، فيما إذا أتى بالمأمور به على صفة الكمال.

فهل الإتيان بالمأمور على الوجه الذي أمر به يستلزم سقوط القضاء، ويكون فعله مجزأ عنه بنفس الأمر، أم لا ؟

الجمهور من الأصوليين على إنه يستلزمه، وأنه يدل على سقوط القضاء، وأنه لا يطالب به، يل يكون فعله مجزأ عنه بنفس الأمر الأول، ولا يحتاج لأمر جديد يدل على الإجزاء . والله أعلم(83) .

6. دخول الآمر في الأمر :

إذا أمر إنسان عبده أو خادمه بأمر ما وبصيغة تتناوله، فالأصح عند الأصوليين أنه يدخل الآمر في أمره، وذلك كما قول قال لعبده: أكرم من أحسن إليك، وقد أحسن هو إليه، فيتعلق به ما أمر به عبده.

ومنه دخول النبي ـ r ـ فيما يأمر به أمته، لأن الأصل عدم الخصوصية .

وستأتي المسألة في أبحاث العموم إن شاء الله(84) .

(69) جمع الجوامع : 1 / 372 .

(70) وهو اختيار الشيرازي في التبصرة : 26 ، واللمع : 7 ، وإمام الحرمين في البرهان :

1/ 216 ، والغزالي في المنخول : 134 ، والرازي في المحصول : 2 /66 ، والبصري

في المعتمد : 1 / 58 ، ونسبه لأبي علي الجبائي في أحد قوليه : 1/ 57 ، واختاره ابن

الحاجب في النتهى والمختصر ، والبيضاوي في المنهاج ، ونسبه إمام الحرمين

للشافعي.

ونقل ابن السبكي عن الشيرازي في شرح اللمع أنه قال : وهو الذي أملاه أبو

الحسن الأشعري على أصحاب أبي إسحق المروزي في بغاد .

إلا أن المشهور عن الأشعري التوقف كما نقله الشيرازي في التبصرة : 27 ، وإمام

الحرمين في البرهان: 1 / 216.

كما توقف الغزالي في المستصفى : 1 / 423 ، والآمدي في الأحكام : 2 / 210 ،

والقاضي الباقلاني .

(71) جمع الجوامع 1/377 .

(72) وإليه ذهب ابن الحاجب في النتهى : 71 ، والمختصر : 1/ ق 335 – ب ، ونقله ابن

برهان في وجيزه عن أكثر الفقهاء والمتكلمين ونقله الخلاني عن أصحابنا الشافعيين ،

وانظر الإبهاج :2/27 ، والمعتمد : 1/ 82 .

قال الشيرازي في التبصرة :38 ، وهو ظاهر قول الشافعي .

قال ابن السبكي : ونقله ابن التلمساني في المعالم عن نص الشافعي ، والأصبهاني في

شرح المحصول ، وقال القاضي في مختصر التقريب :إنه أظهر أجوبة الشافعي .

هذا وفي المسألة مذاهب أخرى ، فانظر شرحنا على التبصرة :38 .

وشرحنا على القواطع :54 .

(73) انظر التمهيد للإسنوي :273 .

(74) جمع الجوامع :1/379 ، نهاية السول :2/35 .

(75) وهو اختيار إمام الحرمين في البرهان : 1/224 ، والغزالي في المستصفى : 2/2 ،

والمنخول : 108 ، والرازي في المحصول : 2 / 162 ، والبيضاوي في المنهاج :

2/ 29 ، إبهاج ، والآمدي الإحكام : 2/ 225 ، وابن الحاجب في المنتهى :67 والمختصر .

ألا أن إمام الحرمين والغزالي توقفا في احتمال التكرار ، وانظر شرحنا على التبصرة :41 .

(76 ) نهاية السول :2 /41 .

(77) المحصول : 2/ 189 ، وانظر شرحنا على التبصرة : 52 .

(78) التمهيد :277 ، المحصول : 5 /253 ، جمع الجوامع : 1/ 389 ، الأحكام : 2 /271 .

(79) التمهيد : 269 .

(80) وهو اختيار الآمدي في الأحكام : 2/267 ، ومنتهى السول : 2 /15 ، وابن

الحاجب في المنتهى :72 .

(81) التمهيد : 276 .

(82) وهو رأي المحققين من الأصوليين من أهل السنة والمعتزلة ، وعليه إمام الحرمين في

البرهان : 1/ 265 ، والغزالي في المستصفى : 2/10 ، والمنخول : 120 ،

والشيرازي في التبصرة : 64 ، واللمع :9 ، والآمدي في الأحكام : 2 / 262 ،

ومنتهى السول : 2/14 ، وابن الحاجب في المنتهى :72 ، والمختصر ، والرازي في

المحصول : 2 / 420 ، وابن السبكي في جمع الجوامع : 1/ 382 .

(83) الأحكام : 2/ 162 ، المنتهى :71 ، رفع الحاجب : 1/ ق 332 – أ .

(84) وهو اختيار إمام الحرمين في البرهان 1/362 ، والغزالي في المستصفى : 2 / 88 ،

والمنخول : 143 ، والآمدي في الأحكام : 2 / 403 ، والرازي في المحصول :

2/252 على تفصيل تبع فيه أبا الحسين البصري في المعتمد : 1/147 ، وابن

الحاجب في المنتهى : 86 ، والمختصر : 1 / ق 432 – أ رفع الحاجب ، والقرافي في

شرح التنقيح : 198 ، وهو مذهب الحنفية كما نص عليه في فواتح الرحموت :

1 / 280 ، وابن الهمام في التحرير : 1 / 256 ، تيسير التحرير ، وانظر كتابنا

الشيرازي وأصوله : 235 لتقف على مزيد بحث وتفصيل .