الصفحة الرئيسية » كتب للقراءة والتحميل » الوجيز في أصول التشريع الإسلامي » قوادح العلة/النقض،عدم التأثير،الكسر،القلب،القول الموجب،الفرق،فساد الوضع،فساد الاعتبار

قوادح العلة/النقض،عدم التأثير،الكسر،القلب،القول الموجب،الفرق،فساد الوضع،فساد الاعتبار

البحث الثالث

في قوادح العــلة(263)

والمراد بقوادح العلة الطرق المبطلة لها ، وقد أطنب الجدليون فيها ، ووسعوا دائرة الاعتراضات فأوصلها بعضهم إلى الثلاثين ، وبعضهم اقتصر على ستة أو عشرة ، وأنا سأقتصر إن شاء الله على أهم هذه الاعتراضات مع الإيجاز الشديد ، وأترك بقيتها للمطولات .

1 – النقض:

وهو تخلف الحكم عن العلة، وذلك بأن يبدي المعترض الوصف المدعى عليته دون وجود الحكم في صورة من الصور.

ونحن قد عرفنا أن من شروط العلة اضطرادها، بأن يوجد الحكم عند وجودها، وينعدم عند عدمها فإذا وجدت العلة ولم يوجد الحكم، تبينا عدم صلاحيتها للتعليل .

وذلك كقول الشافعي في حق من لم يبيت النية في الصيام: تعرَّى أول صومه عن النية، فلا يصح صومه، فيجعل عراء أول الصوم عن النية علة للبطلان.

فيقول الحنفي: هذا التعليل منتقض بصيام النفل والتطوع ، فإنه يصح بالاتفاق بيننا وبينكم أن يصوم الإنسان دون أن يبيت النية، وإنما يكفيه أن ينوي قبل الزوال مثلاً.

فقد وجدت العلة في صيام النافلة وهي خلو الصوم عن النية من الليل مع عدم الحكم وهو بطلان الصيام، إذ اتفقنا على صحة صوم النافلة بنية في النهار.

فهذه صورة وجدت فيها العلة ، وتخلف عنها الحكم ، وهذا قادح من قوادح العلة ، دال على بطلانها، سواء أكانت العلة منصوصة أو مستنبطة ، وسواء تخلف الحكم عن الوصف لمانع أم لا

وهذا كله إذا لم يكن النقض الوارد بطريق الاستثناء ، فإن كان مستثنى بطريق الشرع ناقضاً لجميع العلل وارداً على خلاف القياس لازماً لجميع المذاهب فإنه لا يقدح في هذه الحالة

وذلك كبيع العرايا وهو بيع الرطب على رؤوس النخل بالتمر فإن جواز العرايا ناقض لعلة تحريم الربا لأن الإجماع منعقد على أن العلة في تحريم الربا في الربويات إما الطعم وإما القوت وإما الكيل وإما المال ، وكل هذه العلل موجودة في العرايا

والتفاضل بين التمر والرطب معلوم ، ومع هذا فهي جائزة لاستثناء الشارع لها ، وهذا لا يقدح في العلة التي علل بها تحريم الربا في الربويات لوروده مستثنى من قبل الشرع ، ولثبوت علة التحريم للربا بالإجماع .

2 – عدم التأثير :

وهو أن يبقى الحكم بعد زوال الوصف الذي فرض أنه علة وذلك كقول القائل في الدليل على بطلان بيع الغائب : مبيع غير مرئي فلا يصح كالطير في الهواء والجامع بينهما عدم الرؤية .

فيقول له المعترض: هذه الرؤية ليست مؤثرة في عدم الصحة، وذلك لبقاء هذا الحكم، في هذه الصورة بعينها بعد زوال هذا الوصف، فإن المشتري لو رأى الطير في الهواء لما صح هذا البيع أيضاً، لعدم القدرة على تسليمه.

وهذا القادح إنما يقدح في العلة بناء على أن الحكم الواحد لا يجوز تعليله بعلتين، وأما إذا قلنا بجواز التعليل بعلتين فإن عدم التأثير لا يكون قادحاً لجواز ثبوت الحكم في صورة العلة، وثبوته في صورة أخرى لعلة أخرى.

3 – الكسر:

ويعبر عنه بالنقض المكسور ، وهو يرد على العلل المركبة بأن يبين عدم التأثير في أحد جزأيها وينقض الجزء الآخر .

وذلك كما يقال في إثبات صلاة الخوف: هي صلاة يجب قضاؤها لو لم تفعل، فيجب أداؤها، كصلاة الأمن، فإن الصلاة في الأمن كما يجب قضاؤها لو لم تفعل يجب أداؤها.

فالعلة كونها صلاة يجب قضاؤها، وهي مركبة من جزأين كونها صلاة، وكونها واجبة القضاء.

فيقول المعترض على الجزء الأول، وهو كونها صلاة: أنه ملغي، لا أثر له، لأن الحج كذلك واجب الأداء كالقضاء مع أنه ليس بصلاة، فليبدل خصوص الصلاة بالعبادة.

فهي عبادة يجب قضاؤها ، وهذا منقوص بصوم الحائض ، فإنه عبادة يجب قضاؤها ، مع أنه لا يجب أداؤها ، لمنع الحائض منه شرعاً ، فليس كل ما يجب قضاؤه يؤدي .

4 – القلب:

وهو أن يربط المعترض خلاف قول المستدل على العلة التي استدل بها ، إلحاقا بالأصل الذي جعله مقيساً عليه ، وهو دعوى ما استدل به المستدل إنما هو عليه لا له.

وهو قسمان :

الأول: لتصحيح مذهب معترض وإبطال مذهب المستدل، أما صراحة، وأما ضمناً.

فمثال الأول: قول المستدل في إبطال بيع الفضولي، هو عقد في حق الغير، بلا ولاية عليه، فلا يصح، كشراء الفضولي، إذ لا يصح شراؤه لمن سماه

فيقول المعترض لتصحيح مذهبه، وإبطال مذهب المستدل: هو عقد فيصح، كشراء الفضولي، إذ يصح الشراء له، وتلغو تسميته لغيره.

ومثال الثاني : استدلال الحنفية على اشتراط الصوم في صحة الاعتكاف بقولهم : الاعتكاف لبث مخصوص ، فلا يكون بمجرده قربة ، كالوقوف بعرفة ، فإنما صار قربة بانضمام عبادة أخرى إليه ، وهي الإحرام .

فيقول الشافعي: هو لبث مخصوص، فلا يشترط فيه الصوم، كالوقوف بعرفة، فإنه لا يشترط فيه الصوم.

الثاني: لإبطال مذهب المستدل صراحة، أو ضمناً، ببطلان لازم من لوازمه.

فمثال الأول: قول الحنفي: مسح الرأس ركن من أركان الوضوء، فلا يكفي فيه أقل ما ينطلق عليه الاسم، قياساً على الوجه.

فيقول الشافعي: مسح الرأس ركن من أركان الوضوء، فلا يقدر بالربع، قياساً على الوجه.

ومثال الثاني: قول الحنفي في بيع الغائب عقد معارضة، فيصح مع عدم رؤية المعقود عليه، قياساً على النكاح.

فيقول الشافعي : بيع الغائب عقد معاوضة ، فلا يثبت فيه خيار الرؤية كالنكاح ، وثبوت خيار الرؤية لازم لصحة بيع الغائب عند الحنفية، فإذا انتفى اللازم انتفى الملزوم .

ومن القلب الذي يذكره المعترض لنفى مذهب المستدل ضمناً قلب المساواة، وهو أن يكون في الأصل حكمان: أحدهما منتف عن الفرع بالاتفاق بينهما، والآخر مختلف فيه

فإذا أراد المستدل إثبات المختلف فيه بالقياس على الأصل، قال المعترض: تجب التسوية بين الحكمين في الفرع بالقياس على ألأصل ن ويلزم من وجوب التسوية بينهما في الفرع انتفاء مذهبه .

وذلك كاستدلال الحنفية على وقوع طلاق المكره بقولهم: مالك للطلاق، مكلف، فيقع طلاقه، بالقياس على المختار.

فيقول الشافعي: المكره مكلف، فنسوى بين إقراره بالطلاق، وإيقاعه إياه، قياساً على المختار.

ويلزم من هذا أن لا يقع طلاقه ضمناً، لأنه إذا ثبتت المساواة بين إقراره وإيقاعه مع أن إقراره غير معتبر بالاتفاق – لزم أن يكون الإيقاع أيضا غير معتبر.

5 – القول بالموجب :

وهو تسليم الدليل الذي اتخذه المستدل على وجه لا يلزم منه تسليم الحكم المتنازع فيه، فلا ينقطع النزاع بتسليمهن ، وقد وقع ذلك في القرآن الكريم في قوله تعالى :

]ليخرجن الأعز منها الأذل ولله العزة ولرسوله [ .

أي صحيح ما يقولون من أن الأعز يخرج الأذل ، والنزاع باق ، فإن العزة لله ولرسوله ، فالله ورسوله يخرجانكم .

وهو يقع في الإثبات والنفي ؟

فمثاله قول الشافعي في القتل بالمثقل: التفاوت في الوسيلة لا يمنع وجوب القصاص، كالتفاوت في المتوسل إليه.

أي أن المحدد والمثقل وسيلتان إلى القتل، وما بينهما من التفاوت لا يمنع وجوب القصاص، كما لم يمنعه التفاوت في المقتولين من الكبر والصغر، والخسة والشرف.

فيقول الحنفي : ما ذكرت من أن التفاوت في الوسيلة لا يمنع وجوب القصاص مسلم ، ونحن نقول بموجبه ، ولكن لم لا يجوز أن يمنع من وجوبه أمر آخر موجود في المثقل غير التفاوت ، ولا يلزم من إبطال هذا المانع المعين إبطال جميع الموانع الأخرى .

ومثال الإثبات: قول الحنفي في الاستدلال على وجوب الزكاة في الخيل:

الخيل حيوان يسابق عليه، فتجب الزكاة فيه، قياساً على الإبل.

فيقول المعترض الشافعي : إن مقتضى دليلكم وجب مطلق الزكاة .

ونحن نقول بموجبه، فانا نوجب فيه زكاة التجارة، ومحل النزاع إنما هو في زكاة العين، ولا يلزم من إثبات المطلق إثبات جميع أنواعه حتى يلزم ثبوت المتنازع فيه.

وكما لو قال الشافعي في الملتجئ إلى حزم: وجد سبب جواز استيفاء القصاص، فكان استيفاؤه جائزاً.

فيقول المعترض : أقول بموجب هذا الدليل ، فغن استيفاء القصاص عندي جائز ، وإنما النزاع في جواز هتك حرمة الحرم .

6 – الفرق:

وهو أن يجعل المعترض تعين أصل القياس لخصوصيته التي فيه علة لحكمه، أو أن يجعل تعين الفرع لخصوصيته مانعاً من ثبوت حكم الأصل فيه.

وذلك لأن المستدل يزعم أن الفرع في معنى الأصل، بدليل اجتماعها في وصف العلة، فيبين المعترض افتراقهما في أمر خاص، ليقطع جمع المستدل.

فمثال تعين أصل القياس علة الحكمة، قول الحنفي: الخارج من غير السبيلين ناقض للوضوء، قياسا على ما خرج منهما، والعلة الجامعة هي خروج النجاسة من كل.

فيقول المعترض: الفرق بينهما أن الخصوصية التي في الأصل وهي خروج النجاسة من السبيلين هي العلة في انتقاض الوضوء، لا مطلق خروجها.

ومثال تعين الفرع مانعاً من ثبوت حكم الأصل فيه، قول الحنفي: يجب القصاص على المسلم بقتل الذمي، قياساً على غير المسلم، والجامع هو القتل العمد العدوان.

فيقول المعترض: الفرق بينهما أن تعين الفرع – وهو كونه مسلماً – مانع من وجوب القصاص عليه الشرفة.

7- فساد الوضع

وهو أن لا يكون الدليل الذي ساقه المستدل للتعليل، على الهيئة الصالحة لاعتباره في ترتب الحكم عليه، بأن يكون صالحاً لضد ذلك الحكم الذي سبق من أجله أو نقيضه.

وذلك كتلقي التخفيف من التغليظ، كقول الحنفية في تعليل نفي الكفارة عن القتل العمد: أنه قتل عمد، وهو جناية عظيمة، فلا تجب له كفارة قياساً على الردة.

إلا أن عظم الجناية الذي سأقول للاستدلال يناسب تغليظ الحكم على الجاني، لا تخفيفه.

أو كتلقي التوسيع من التضييق ، وذلك كقول الحنفية في تعليل التراخي في دفع الزكاة : الزكاة وجبت على وجه الارتفاق ، لدفع الحاجة ، فكانت على التراخي ، كالدية على العاقلة ، فالتراخي الموسع لا يناسب دفع الحاجة المضيق .

ومن فساد الوضع كونه الجامع الذي ساقه المستدل في قياسه قد ثبت اعتباره بنص أو إجماع في نقيض الحكم في ذلك القياس.

فمثال ما ثبت اعتباره بالنص في نقيض الحكم قول الحنفية في تعليل نجاسة سؤر الهرة : الهرة سبع ذو ناب ، فيكون سؤره نجساً ، كالكلب ، فيقول المعترض : السبعية اعتبرها الشارع علة للطهارة ، حيث دعى إلى دار فيها كلب فامتنع ، ودعى إلى دار أخرى فيها سنور فأجاب ، فقيل له ، فقال السنور سبع .

ومثال ما ثبت اعتباره بالإجماع قول الشافعية في تعليل التكرار في مسح الرأس في الوضوء : مسح الرأس في الوضوء يستحب تكراره ، كالاستنجاء بالحجر ، حيث يستحب الإيتار فيه ، فيقول المعترض مسح في الخف لا يستحب تكراره إجماعا.

8 – فساد الاعتبار :

وهو أن يخالف الدليل الذي يسوقه المستدل نصاً أو إجماعا.

فمثال مخالف النص من الكتاب قول المستدل على وجوب تبييت النية في الصوم : صوم مفروض ، فلا يصح بنية من النهار ، كالقضاء ، فيقول المعترض أنه مخالف لقوله تعالى : ]والصائمين والصائمات[ حيث مدحهم، ورتب الأجر العظيم على الصيام ، من غير تعرض لتبييت النية فيه ، وهذا يستلزم صحة الصيام دون التبييت .

ومثال مخالف النص من السنة قول المستدل على عدم جواز القرض في الحيوان: لا يصح القرض في الحيوان، لعدم انضباطه، كالمختلطات، فيقول المعترض: إن هذا مخالف لحديث مسلم أنه – r – استلف بكراً ورد رباعياً، وقال: إن خيار الناس أحسنهم قضاء.

ومثال مخالف الإجماع قول المستدل على تحريم غسل الرجل لزوجته الميتة :

لا يجوز للرجل أن يغسل زوجته الميتة ، لحرمة النظر إليها ، كالأجنبية ، فيعترض بأنه مخالف للإجماع السكوتي في تغسيل علي فاطمة رضي الله عنها ، وتغسيل أسماء بنت عميس زوجها

أبا بكر الصديق رضي الله عنه ، والله أعلم .

(263) المستصفى : 2 /349 ، الأحكام : 4 / 123 ، المحصول : 5 / 321 ، جمع الجوامع :

2 /294 ، نهاية السول : 3 /76 ، المنخول : 401