الصفحة الرئيسية » كتب للقراءة والتحميل » منهج الأشاعرة في العقيدة بين الحقائق والأوهام » القرآن وبيان مذهب الأشاعرة فيه بتوسع ، بيان أن كلام الله تعالى مسموع

القرآن وبيان مذهب الأشاعرة فيه بتوسع ، بيان أن كلام الله تعالى مسموع

42 – القرآن وبيان مذهب الأشاعرة فيه بتوسع

قال الدكتور: {الخامس القرآن: فمذهب أهل السنة والجماعة أن القرآن كلام الله غير مخلوق، وأنه تعالى يتكلم بكلام مسموع تسمعه الملائكة وسمعه جبريل، وسمعه موسى -عليه السلام- ، وتسمعه الخلائق يوم القيامة.

ومذهب المعتزلة أنه مخلوق.

أما مذهب الأشاعرة فمن منطلق التوفيقية –التي لم يحالفها التوفيق- فرقوا بين المعنى واللفظ، فالكلام الذي يثبتونه لله تعالى هو معنى أزلي أبدي قائم بالنفس ليس بحرف، ولا صوت، ولا يوصف بالخبر ولا الإنشاء.

واستدلوا بالبيت المنسوب للأخطل النصراني:

إن الكلام لفي الفؤآد وإنما :: جعل اللسان على الفؤآد دليلا}

أقول: نتوسع في هذا الباب لما له من الأهمية القصوى، ولأنه طويل الذيل متشعب الأطراف، بعيد الغور، صعب التناول، لا يتيسر الوقوف على دقائقه، والوصول إلى قعره إلا للمحققين المتمرسين بعلم الكلام، ومن أجل ذلك تورط الدكتور في هذا الفقرة من كلامه فيما تورط فيه من الأخطاء الجمة، وقد قاربت العشرين خطأً. ثم أقول: لا بد أن نبين مذهب الأشاعرة في كلام الله تعالى على وجهه، ثم نعود إلى كلام الدكتور وإلى بيان ما حواه من أخطاء.

فأقول –وبالله التوفيق-: المتكلم من أجل تحقق الكلام اللفظي اللساني عنده لا بد من تحقق أمرين آخرين عنده:

الأمر الأول: المعاني النفسية التي لا تختلف باختلاف اللغات، ولا تتغير بتغير العبارات، وهو المعنى الذي نجده في أنفسنا عند أخبارنا عن قيام زيد. أعني النسبة الإيجابية بين القيام وزيد، وعند طلب القيام منه أعنى النسبة الإنشائية الطلبية بيننا وبين زيد.

الأمر الثاني: الألفاظ المتخيلة التي يصوغها المتكلم في ذهنه بإحدى اللغات، ثم يتكلم بها بلسانه بنفس اللغة.

فتحقق هناك ثلاثة أنواع من الكلام: المعاني التي لا تختلف باختلاف اللغات والتعبيرات، والألفاظ المتخيلة الذهنية، والألفاظ اللسانية، ويمكن أن نختصرها إلى قسمين: الكلام المعنوي النفسي، والكلام اللفظي، وهو منقسم إلى قسمين لفظي نفسي، ولفظي لساني. وبعد هذه التوطئة نقول:

قد أثبت الأشاعرة وكذلك الماتريدية لله تعالى نوعين من الكلام على وجه الحقيقة لا على وجه المجاز.

النوع الأول: الكلام المعنوي النفسي، وقالوا: إنه معنى قديم قائم بذاته ليس بحرف ولا صوت، وهو معنى واحد غير منقسم إلى الخبر والأمر والنهي في الأزل، وإنما ينقسم إلى هذه الأقسام فيما لا يزال. هذا هو مذهب ابن كُلَّاب، وهو المشهور من مذهب الإمام الأشعري.

وذهب بعض الأشاعرة إلى أنه عبارة عن الخبر فقط، وأن الأمر والنهي راجعان إليه، لأن الطلب من الله تعالى يرجع إلى الخبر بوصول الثواب والعقاب، ونسب الآمدي هذا القول إلى الإمام الأشعري.

وذهب بعضهم إلى انقسامه في الأزل إلى الأمر والنهي والخبر.

وذهب بعضهم إلى انقسامه في الأزل إلى الأقسام الخمسة: الأمر، والنهي، والخبر، والاستخبار، والنداء.

وهذا النوع من الكلام -وهو الكلام المعنوي النفسي- مما لا ينبغي لأحد من العقلاء أن يخالف في ثبوته لله تعالى لأن الله تعالى آمر، ناه، مخبر، ولا تحقق لهذه الصفات بدون الكلام المعنوي، لكن المعتزلة نفوه عن الله تعالى وأثبتوا لله الكلام اللفظي فقط، والحنابلة أثبتوا الكلام اللفظي لله تعالى ولم يتكلموا على الكلام المعنوي لا نفيا ولا إثباتا.

هذا هو المشهور عن الحنابلة

وذهب القاضي أبو يعلى منهم إلى ما ذهب إليه الأشاعرة. قال: (وهو سبحانه عالم بعلم واحد، وقادر بقدرة واحدة، وحي بحياة واحدة، ومريد بإرادة واحدة، ومتكلم بكلام واحد) وقال: (غير ممتنع أن له كلاما واحدا بلغات مختلفة يحصل الإفهام لكل واحد بلغته)[1]

وقد استدل الأشاعرة على إطلاق الكلام في اللغة على المعنى النفسي بكلام الله تعالى وكلام رسوله وكلام أقحاح العرب. قال الباقلاني: (ومما يدل على أن حقيقة الكلام هو المعنى القائم بالنفس من الكتاب والسنة وكلام العرب ما نذكر… وقوله تعالى مخبرا عن الكفار: (ويقولون في أنفسهم لو لا يعذبنا الله بما نقول)… وقوله صلى الله تعالى عليه وسلم: (يقول الله تعالى إذا ذكرني عبدي في نفسه…) ويدل على ذلك أيضا قول عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه: (زورت في نفسي كلاما فأتى أبو بكر فزاد عليه) فأثبت الكلام في النفس من غير نطق لسان، وعمر –رضي الله عنه- كان من أجل أهل اللسان والفصاحة…. والعربي الفصيح يقول:كان في نفسي كلام، وكان في نفسي قول، وكان في نفسي حديث إلى غير ذلك، وأنشد الأخطل:

إن الكلام لفي الفؤاد وإنما :: جعل اللسان على الفؤاد دليلا[2]

النوع الثاني من الكلام الذي أثبته الأشاعرة لله تعالى الكلام اللفظي، وبعد اتفاقهم على ثبوته لله تعالى على وجه الحقيقة لا المجاز اختلفوا في قدمه وحدوثه، فذهب جمهور الأشاعرة والمعتزلة عامة إلى حدوثه، وإلى أنه غير قائم بالله تعالى لأنه تعالى لا يكون محلا للحوادث، بل هو قائم بغيره تعالى، وذلك لأنهم رأوا أن الكلام اللفظي لا يتحقق إلا بحروف وكلمات وألفاظ مترتبة متعاقبة موقوف وجود المتأخر منها على انقضاء المتقدم. وهذا من صفات المحدثات، فمن أجل ذلك قالوا بحدوثه بمعنى أن الله تعالى هو الذي استقل بإحداثه بدون كسب لأحد فيه، أوجده الله تعالى في اللوح المحفوظ أو في الشجرة أو في جبريل مثلا. وهو كلامه على وجه الحقيقة يؤديه الناس بحروفهم وأصواتهم حين تلاوتهم له، نظير تلاوتهم لغيره من كلام الناس. ومع قولهم بحدوث الكلام اللفظي لله تعالى قالوا: لا يجوز التصريح بذلك إلا في مقام التعليم لئلا يسبق الوهم إلى حدوث الكلام المعنوي النفسي القديم القائم بالله تعالى.

وذهب فريق من الأشاعرة إلى قدم الكلام اللفظي وقيامه بالله تعالى كالكلام المعنوي وأجابوا عن شبهة الجمهور والمعتزلة بالترتيب، والتقدم، والتأخر، والابتداء، والانقضاء، بأن هذا قياس منهم للغائب على الشاهد، ومن المقرر أنه غير مقبول، فإن الترتيب المذكور إنما هو في كلام المخلوق لعدم مساعدة الآلة. وأما كلام الله تعالى فهو اللفظ مع المعنى، وهو لفظ نفسي كالمعنى قائم بذاته تعالى بترتيب وتقدم وتأخر ذاتي لا زماني، وبدون ابتداء وانقضاء، وبدون صوت، ومما يحاكى ذلك محاكاة بعيدة وجود الألفاظ في نفس الحافظ. فإن جميع الحروف بهيئاتها التأليفية محفوظة في نفسه مجتمعة الوجود فيها، وليس وجود بعضها مشروطا بانقضاء البعض وانعدامه في نفسه، فبطل ما يتوهم من أنه إذا لم يكن ترتيب لا يبقى فرق بين ملع ولمع ونظائرهما.

وممن ذهب إلى هذا الرأي الإمام عبد الكريم الشهرستاني في كتابه نهاية الإقدام.[3]

والقاضي عضد الدين الايجي في مقالة له أوردها السيد الشريف في شرح المواقف.[4]والسعد التفتازاني، والسيد الشريف الجرجاني، وقد علق السعد القول به على إمكان تصور وجود الألفاظ بدون ترتيب، وقد بينا إمكانه، وقد كان شيخنا المحقق الكبير الشيخ محمد العربكندي يؤيد هذا المذهب ويذهب إليه، وهو المختار عندنا.

والفرق بين هذا المذهب ومذهب الحنابلة أن أهل هذا المذهب يقولون بقدم الكلام النفسي وقيامه بذاته تعالى بمعنى اللفظ النفسي من نوع ما يعبر عنه بالنسبة للإنسان بحديث النفسي، وهو يكون بدون صوت كما يفيده وصف الكلام بالنفسي.

وأما الحنابلة فقد ذهبوا إلى أن كلام الله تعالى مؤلف من أصوات وحروف مترتبة، وأنها قائمة بذاته تعالى. ولا يخفى ما في كلامهم من التناقض، فإن قيام الصفة بذات الله تعالى يقتضي قدمها لأن الله تعالى لا يكون محلا للحوادث، وكون الكلام مؤلفا من الأصوات والحروف المترتبة يقتضي حدوثها لبداهة تعاقبها وتجددها المستلزم للحدوث، وهذا ما دعى المعتزلة وجمهور الأشاعرة إلى القول بحدوث الكلام اللفظي وأنه غير قائم بالله تعالى كما قدمناه.

43-بيان أن كلام الله تعالى مسموع

وأما أن كلام الله تعالى مسموع تسمعه الملائكة، وسمعه جبريل، وسمعه موسى عليه الصلاة السلام، وتسمعه الخلائق، فمحل وفاق عند الأشاعرة وكذلك عند الماتريدية.

حيث قالوا كلهم: كلام الله تعالى محفوظ في القلوب، مقروء بالألسنة، مسموع بالآذان، مكتوب في المصاحف، على وجه الحقيقة لا المجاز، غير حال فيها، وذلك لأن كلام الله تعالى وصف له قديم قائم بذاته لا ينفصل عنه، ولا يحل في غيره من المحدثات.

وبيان ذلك أن لكل شيء وجودا في الأعيان، ووجودا في الأذهان، ووجودا في العبارة، ووجودا في الأسماع، ووجودا في الكتابة، فالكتابة تدل على العبارة، والعبارة تدل على ما في الأذهان، وما في الأذهان، صور لما في الأعيان. والأسماع متعلقة بالعبارة،وليس ما في الأعيان بحال في شيء من الأذهان واللسان والقرطاس والآذان، وذلك كالحجر والنار، فان أعيانها لا تحل لا في الأذهان ولا في اللسان ولا في الأذان ولا في القرطاس. وأما اللفظ الدال عليهما فهو محفوظ مقروء مسموع مكتوب.

قال إمام الحرمين: كلام الله تعالى مسموع في إطلاق المسلمين والشاهد لذلك من كتاب الله تعالى قوله تعالى (وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله)[5]…

والذي يجب القطع به أن المسموع المدرك في وقتنا الأصوات، فإذا سمي كلام الله تعالى مسموعا فالمعنى به كونه مفهوما معلوما عن أصوات مدركة ومسموعة.[6]

وقال: يجب إطلاق القول بأن كلام الله تعالى مسموع، وليس المراد بذلك تعلق الإدراك بالكلام الأزلي القائم بالباري تعالى، ولكن المدرك صوت القارئ، والمفهوم عند قراءته كلام الله سبحانه.

ولا بعد في تسمية المفهوم عند مسموع مسموعا، فهذا بمثابة ما إذا بلغ مبلغ رسالة ملك، فيحسن ممن بلغته الرسالة أن يقول: سمعت كلام الملك ورسالته، وكلام الملك حديث نفسه وأصواته، ومن بلغ الرسالة لم ينقل صوت مرسله، ولا حديث نفسه.[7]

وقال ابن فُورَكْ:

«إن كلام الله تعالى لم يزل ولا يزال موجودا، وإنه يُفْهِم خلقَه معانيَ كلامه أولا فأولا وشيئا فشيئا، وإن الذي يتجدد الإسماع والإفهام، دون المسموع والمفهوم… كلامه لا يخص الأوقات والأزمان، كما أن علمه وسمعه وقدرته لا يصح أن يقال فيه شيء من ذلك، وإنما يتجدد المعلوم والمقدور بحدوثه شيئا بعد شيء، دون العلم والقدرة عليه) ثم قال: (واعلم أنه كما ينكر قول من قال: إن الله لم يتكلم إلا مرة واحدة كذلك ينكر قول من قال: إن الله يتكلم مرة بعد أخرى، لأن كل ذلك يوجب حدوث الكلام…»[8]

وعلى هذا معنى كلام من قال من الأئمة كالإمام أحمد: “إن الله تعالى لم يزل متكلماً إن شاء” أن كلام الله صفة قديمة قائمة بذات الله، وأن الله يكلم أنبيائه متى شاء بالوحي، أو من وراء الحجاب، أو بإرسال الرسول، كما قال الله تعالى: (وما كان بشر أن يكلمه الله إلا وحياً أو من وراء حجاب أو يرسل رسولاً فيوحي بإذنه ما يشاء)[9] وقد كان الله تعالى متكلماً قبل أن يكلِّم الأنبياء، كما أنه كان خالقاً قبل أن يخلق الخلق. فمعنى يكلم أنبيائه متى شاء يوحي إليهم كلامه القديم، ويفهمهم إياه متى شاء،وليس معناه أنه ينشئ كلاماً يكلمهم به متى شاء ذلك، فإن هذا المعنى مناقض لقولهم: “لم يزل متكلما”، ومقتضي لحدوث الكلام. وقد اتفق أهل السنة على قدمه.

هذا عن المسموع لنا في الدنيا كما أشار إليه إمام الحرمين بقوله: “والذي يجب القطع به أن المسموع المدرك في وقتنا الأصوات”.

وأما المسموع لسيدنا موسى عليه الصلاة والسلام ولسيدنا محمد صلى الله تعالى عليه وآله وسلم ليلة المعراج وللمؤمنين يوم القيامة ما هو؟ فقد اختلفوا فيه.

فذهب الشيخ أبو الحسن الأشعري والقاضي أبو بكر الباقلاني إلى أن المسموع لهم الكلام النفسي الذي هو ليس بحرف ولا صوت، يسمِعه الله تعالى من يشاء من عباده على سبيل خرق العادة، فإن العادة أن لا تسمع إلا الأصوات. وذلك على أصل الأشعري: “أن كل موجود يصح أن يسمع” كما أن من أصله: “أن كل موجود يصح أن يرى”.

قال البيهقي: (إن كان المتكلم ذا مخارج سمع كلامه ذا حروف وأصوات، وإن كان المتكلم غير ذي مخارج سمع كلامه غير ذي حروف وأصوات. والباري جل ثنائه ليس بذي مخارج، وكلامه ليس بحرف وصوت، فإذا فهمناه ثم تلوناه تلوناه بحروف وأصوات)[10]

وذهب الإمام أبو منصور الماتريدي وأبو إسحاق الاسفراييني من الأشاعرة إلى أن المسموع لهؤلاء هو صوت مخلوق لله تعالى دال على المعنى القائم بنفسه. قال أبو المعين النسفي في التبصرة: وذكر (أبو منصور) في كتاب “التأويلات” أن موسى عليه السلام سمع صوتا دالا على كلام الله تعالى، وكان اختصاصه (أي سبب اختصاصه باسم الكليم) أن الله تعالى أفهمه كلامه بإسماعه صوتا تولى تخليقه من غير أن يكون ذلك الصوت مكتسباً لأحد من الخلق إكراماً منه إياه، وذهب بعده إلى هذا القول أبو إسحاق الاسفراييني من جملة الأشاعرة…

ولم يرض أبو إسحاق باختياره هذا المذهب، حتى ادعى أن جميع من تقدمه من متكلمي أهل الحديث على هذا…)[11]

[1] المعتمد في أصول الدين 49-79.

[2] الأنصاف 96-97.

[3] انظر الصفحات 113-117.

[4] 8/103

[5] التوبة 2

[6] الإرشاد 129.

[7] الرسالة النظامية 157.

[8] مشكل الحديث وبيانه 445-446-449

[9] الشورى 51

[10] الأسماء والصفات273.

[11]التبصرة 1/305.