الصفحة الرئيسية » كتب للقراءة والتحميل » منهج الأشاعرة في العقيدة بين الحقائق والأوهام » مصدر التلقي عند الأشاعرة وتقديمهم للعقل على النقل وبيان أن هذا التقديم من المقرر عند المحدثين وغيرهم،الأخذ بظواهر بعض النصوص إلحاد وضلالة

مصدر التلقي عند الأشاعرة وتقديمهم للعقل على النقل وبيان أن هذا التقديم من المقرر عند المحدثين وغيرهم،الأخذ بظواهر بعض النصوص إلحاد وضلالة

25- مصدر التلقي عند الأشاعرة وتقديمهم للعقل على النقل وبيان أن هذا التقديم من المقرر عند المحدثين وغيرهم

قال الدكتور: {الأول: مصدر التلقي: أ-مصدر التلقي عند الأشاعرة هو العقل وقد صرح الجويني والرازي والبغدادي والغزالي والآمدي والإيجي وابن فورك والسنوسي وشراح الجوهرة وسائر أئمتهم بتقديم العقل على النقل عند التعارض}

أقول:لابد هنا من التنبيه على أمور:

الأول: أنه من المقرر عند أهل النظر – ومنهم الأشاعرة – أن أسباب العلم ثلاثة: العقل، والحواس السليمة، والخبر الصادق. والخبر الصادق هو خبر الله تعالى، وخبر رسوله، وخبر أهل التواتر، والخبر المُحْتَفُّ بالقرائن. فمصدر التلقي عند الأشاعرة ليس هو العقل فقط، بل هو الخبر الصادق والعقل. قال الغزالي: «وأهل النظر في هذا العلم يتمسكون أولاً بآيات الله تعالى من القرآن، ثم بأخبار الرسول صلى الله تعالى عليه وآله وسلم، ثم بالدلائل العقلية والبراهين القياسية»[1]، وكيف يكون مصدر التلقي عندهم هو العقل وحده ومن مذهبهم أنه لا مجال للعقل في التحسين والتقبيح، وأنه لا حسن إلا ما حسنه الشرع ولا قبيح إلا ما قبحه الشرع.

الثاني: أن الإسلام هو دين النقل المؤيد بالعقل، ومن أجل ذلك كان من عادة الله تعالى في كتابه المبين عندما يبين عقيدة من عقائد الإسلام أن يقرنها بذكر دليلها العقلي أو يشير إلى هذا الدليل.

الثالث: أن التعارض لا يتصور بين العقل والنص القطعي الثبوت القطعي الدلالة، لامتناع التعارض بين يقينيين، وإنما يتصور التعارض بين العقل والنص غير قطعي الثبوت أو غير قطعي الدلالة، كما يتصور التعارض بين هذين النوعين من النصوص، فالذي قرره الأشاعرة من تقديم العقل على النقل مفروض فيما إذا تعارض ما هو ثابت بالعقل ثبوتا قطعيا للنص غير القطعي الثبوت أو غير قطعي الدلالة.

الرابع: أن أهم أصول العقيدة الإسلامية لا يصح إثباتها إلا بالعقل، وإثباتها بالدلائل النقلية مستلزم للدور المحال؛ وذلك مثل إثبات وجود الله تعالى وعلمه وقدرته ومشيئته وغيرها مما يتوقف عليه ثبوت الوحي. فلأن ثبوت النقل موقوف على ثبوت الوحي، وثبوت الوحي موقوف على ثبوتها لا يصح الاستدلال عليها بالنقل. والاستدلال عليها بالنقل موجب لتقدم الشيء على نفسه وهو الدور المحال.

وكذلك النبوة إنما يتوقف ثبوتها على المعجزة الدالة عليه بطريق العقل، فكان العقل على هذا أصلاً للنقل وشاهداً على صدقه، فإهمال العقل إذا كانت دلالته قطعية، ورَدُّ مقتضاه موجب لانهيار أصل النقل، وللطعن في شاهده الذي لم يثبت إلا به، فيكون هذا إبطالا للنقل. والقاعدة -كما قلنا- مفروضة فيما إذا تعارض ما هو ثابت بالعقل ثبوتا قطعيا لظاهر نص غير قطعي الثبوت أو غير قطعي الدلالة، وأما النص القطعي الثبوت القطعي الدلالة فلا يتصور التعارض بينه وبين العقل.

فالقاعدة التي قررها الأشاعرة قاعدة ذهبية لا ينبغي أن يختلف فيها اثنان، لكنه مما ينبغي التنبيه عليه أيضا أن هذه القاعدة قد أسيء استخدامها من قبل بعض المتكلمين ولا سيما المعتزلة منهم، فردوا بها كثيرا من النصوص المتفق على صحتها من السنة، وأولوا بسببها كثيرا من الآيات، وأخرجوها عن ظواهرها، وليس ذلك إلا لمخالفة هذه النصوص وهذه الظواهر لما أدى إليه اجتهادهم العقلي المتأثر بالفلسفة وبعقائده الفاسدة، وليس ذلك لمخالفتها للعقل القطعي الدلالة الذي لا يقبل النقض.

فظهر بهذا التحقيق أن الأشاعرة قد استعملوا العقل في المجال الذي لا يجوز أن يستعمل فيه إلا العقل، ويكون استعمال النقل فيه موجباً للدور والمحال،كما يكون إهمال العقل فيه موجباً لإبطال العقل والنقل جميعا، فهم قد استعملوا العقل في مجاله الذي يجب أن يستعمل فيه، وهذه هي الحكمة، “يؤتي الحكمة من يشاء ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا”

الخامس: أن تقديم العقل على النقل إذا عارض العقل النقل، وتأويل النقل بناء على هذا التعارض أو رَدَّهُ ليس شيئا انفرد به الأشاعرة بل هو من مقررات العقول؛ وقد قرره أصحاب العلوم المختلفة في علومهم، فمثلا التأويلات التي أول بها السلف جملة من نصوص الكتاب والسنة كثير منها مبنية على مخالفة ظواهر هذه النصوص للعقل، وحتى المحدثون الذين قد يتخيل أنهم أبعد الناس عن هذا التقديم قد قرروا هذا التقديم في مؤلفاتهم وجعلوه من أصولهم، قال الخطيب البغدادي: باب القول فيما يرد به خبر الواحد، ….: وإذا روى الثقة المأمون خبراً متصل الإسناد رُدَّ بأمور:

أحدها: أن يخالف موجبات العقول فيعلم بطلانه؛ لأن الشرع إنما يرد بمجوزات العقول، وأما بخلاف العقول فلا.

والثاني: أن يخالف نص الكتاب أو السنة المتواترة فيعلم انه لا أصل له أو منسوخ.

والثالث: أن يخالف الإجماع فيستدل على أنه منسوخ أو لا أصل له، انتهى[2].

وأفاجئ الدكتور بأن ابن تيمية أيضا قائل بهذه القاعدة التي قررها الأشاعرة. قال في الرسالة التدمرية[3] في معرض الاستدلال على أمر من أمور العقيدة: “والسمع قد دل عليه، ولم يعارض ذلك معارض عقلي ولا سمعي، فيجب إثبات ما أثبته الدليل السالم عن المعارض المقاوم” ففكر أيها الدكتور في كلام ابن تيمية هذا، أليس معناه أنه إذا عارض هذا الدليل من السمع معارض عقلي لا يَثْبُت ما دل عليه لعدم سلامته عن المعارض الذي هو الدليل العقلي. وهل هذا إلا قول بهذه القاعدة التي قررها الأشاعرة ؟؟!!

ذكر الدكتور قول الإمام الرازي: {“ولما بطلت الأقسام الثلاثة لم يبق إلا أن يقطع بمقتضى الدلائل العقلية القاطعة بأن هذه الدلائل النقلية إما أن يقال إنها غير صحيحة أو يقال إنها صحيحة إلا أن المراد منها غير ظواهرها”.

فعلق الدكتور عليها بالحاشية رقم (1) بقوله: يلاحظ أن الدلائل النقلية تشمل نصوص الكتاب والسنة معا. فكيف يقال إنها غير صحيحة دون تفريق بينهما، مع أن مجرد إطلاقها على السنة وحدها في غاية الخطورة}

أقول: من المقرر أن الأحكام والصفات إنما تعود لما تصلح أن تكون حكما عليه وصفة له. وما يصلح أن يحكم عليه بعدم الصحة من الدلائل النقلية هي ما تسمى بالأحاديث، وليس الكتاب، ثم أي خطورة في الحكم على ما لم يصح من الأحاديث بأنها غير صحيحة؟ وهل كان واجب العلماء أي يتوقفوا عن نقد الأحاديث؟؟!!… ولكن الدكتور لا يرغب في أن يفهم الكلام على وجهه!.

ثم ذكر الدكتور قول الإمام الرازي: {“ثم إن جوزنا التأويل اشتغلنا على سبيل التبرع بذكر تلك التأويلات على التفصيل، وإن لم يجز التأويل فوضنا العلم بها إلى الله تعالى”. ثم علق الدكتور عليه بالحاشية رقم (2) فقال:

هل وصلت قيمة نصوص الوحي إلى حد أن الاشتغال بتأويلها- الذي هو تحريف لها- يعتبر تبرعا وإحسانا؟!}

أقول: ليس مراد الإمام بالتبرع الإحسان؛ بل مراده به مقابل الوجوب، وهل التأويل واجب أيها الدكتور؟! ثم انه ليس كل تأويل تحريفا، بل منه ما هو تحريف، ومنه ما هو بيان للمعنى المقصود، وهذا الأخير هو الذي قصده الإمام، ولكن الدكتور مبتلى بسوء الظن بأئمة السنة.

26- الأخذ بظواهر بعض النصوص إلحاد وضلالة

قال الدكتور:{ويقول (السنوسي): أصول الكفر ستة… ذكر منها خمسة، ثم قال:

سادسا: التمسك في أصول العقائد بمجرد ظواهر الكتاب والسنة من غير عرضها على البراهين العقلية والقواطع الشرعية}

أقول: لكي نفهم معنى ما قاله السنوسي أذكر بعض التطبيقات له لنفهم المراد منه: قال الله تعالى: (فاليوم ننساهم كما نسوا لقاء يومهم هذا) وقال تعالى: (فذوقوا بما نسيتم لقاء يومكم هذا إنا نسيناكم) وقال تعالى: (وهو معكم أينما كنتم)، وقال تعالى: (والله من ورائهم محيط) وقال النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم: (قلب ابن آدم بين أصبعين من أصابع الرحمن) أو كما قال.

فظاهر الآيتين الأوليين ثبوت النسيان لله تعالى، فهل النسيان من صفات الله، تعالى الله عن ذلك علواً كبيرا، وظاهر الآية الثالثة المعية الذاتية كما أن ظاهر الآية الرابعة هو الإحاطة الذاتية.

والحديث بظاهره فيه إثبات الأصبعين لله تعالى ثم إثبات الأصابع له، ويفيد أن قلب الإنسان بين إصبعين لله تعالى والمتبادر البينية الحقيقية، وإذا أقر الحديث على ظاهره أثبتنا لله مليارات الأصابع، وروى مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم قال: (إن الله عز وجل يقول يوم القيامة: يا ابن آدم مرضت فلم تعدنى! قال: يا رب كيف أعودك وأنت رب العالمين! قال: أما علمت أن عبدى فلاناً مرض فلم تعده! أما علمت أنك لو عدته لوجدتنى عنده) فهل من صفات الله تعالى المرض، وقد أسند إليه في هذا الحديث؟! فما أضيف لله تعالى في هذه النصوص كلها محالة على الله تعالى ، والأخذ بظواهر هذه النصوص كفر وإلحاد، أو بدعة وضلال.

هذه نماذج وأمثلة لذلك، ونظائرها كثيرة.

[1] الرسالة اللدنية 106-107.

[2] “الفقيه والمتفقه” 1/ 132.

[3] 23.