الصفحة الرئيسية » بحوث » استحباب زيارة القبر الشريف وشد الرحال إليه

استحباب زيارة القبر الشريف وشد الرحال إليه

بحوث في التوعية الفقهية

استحباب قصد الزيارة إلى قبره الشريف صلوات الله وسلامه عليه

الحمد لله الأول القديم، الواحد الجليل، الذي ليس له شبيه ولا نظير، أحمده حمدا يوافي نعمه ويبلغ مدى نعمائه.

وأشهد أن لا إله إلا الله ، وحده لا شريك له شهادة عالم بربوبيته ، عارف بوحدانية، وأشهد أن سيدنا محمدا عبده ورسوله ، اصطفاه لوحيه وختم به أنبياءه، وجعله حجة على جميع خلقه، ( ليهلك من هلك عن بيئة، ويحيى من حي عن بينة)، ) سورة الأنفال ).

عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إن الله تعالى لا ينزع العلم منكم بعد ما أعطاكموه انتزاعا ولكن يقبض العلماء ويبقى الجهال، فيُسألون فيفتون فيَضِلون ويُضِلون. ) رواه الطبراني في الأوسط .

ولا شك أن زماننا الحاضر اتسم بقلة العلماء، واندراس العلم وانتشار الجهل في العلوم الشرعية، فكثير من السنن التي كانت معروفة هجرت ، وكثير من الأحكام التي كانت من البدَهيات أصبحت من البدع المحرمات وما ذاك إلا لغياب العلم والعلماء

ولقد مرت بلاد الإسلام بعصر ازدهار علمي في جميع مجالات الحياة بلغ فيه العلماء المسلمون الغاية العظمى والمثال الذي يحتذي فآثروا العلم والمعرفة ، وخلفوا لنا الكثير من المصنفات في جميع مجالات العلوم الشرعية والإسلامية تشبع كل طالب منها وناهل.

ونحن إذ نقوم بنشر أقوالهم في بعض مسائل العلم، لا ندَّعي زيادة علم أو اتساع فهم، بل نحن ويعلم الله مجرد نقلة وعالة على موائد السابقين رضي الله عنهم وأرضاهم.

فنسأل الله جلت قدرته أن يثيب كل من ساهم بنشر هذا العلم وإحياء هذه السنن المهجورة وعمل بها. اللهم أمين .

توطئــة

أن الذي يستعرض الآيات القرآنية والأحاديث النبوية الصحيحة، يجد النصوص الكثيرة ،والكثيرة جدا، التي تنطق وتنبئ وتصرِّح بمكانة هذا النبي صلى الله عليه وسلم ، وبِعِظَمِ قدْره صلى الله عليه وسلم عند ربه عز وجل ، بما حباه من النعم ، وفضله على جميع الخلق ، وأكرمه بخصائص لم يعطها غيره من الأنبياء والرسل عليه وعليهم الصلاة والسلام

وبما لاطفه به وبرَّه ، وبما أورده عليه مورد الشفقة والإكرام ، وبما شهد له به ، وامتدحه وأثنى عليه ، وبما أظهره عليه ، وعلى يديه من الكرامات والإنعام ، وبما كمَّل به محاسنه خَلْقاً وخُلُقا ، وبما سمَّاه به من أسمائه ، وما أطْلعه عليه من الغيوب ، وعصمه من الناس ، وكفاه من أذاهم

وبما أعطاه في الدنيا من خلود دينه وبقائه واجتبائه، وجعله المرسل بدينه صلى الله عليه وعلى آله وسلم ، وفي الآخرة من علو قدره ، ورفعة مكانته ، وكونه صاحب الشفاعة ، والمقام المحمود ، والحوض المورود ، والشهادة والوسيلة ، والمنبر ، واللواء، وكل الأنبياء تحت لوائه ، وهو سيد الأولين والآخرين ، وأول شافع ومشفع ، وأكثر الأنبياء تبعا، فصلوات الله وسلامه عليه .

واعلم أيها القارئ الكريم أن للمصطفى صلوات الله وسلامه عليه ، حقوقاً على أمته قد ذُكرت في كثير من الكتب التي تعنى بسيرته وشمائله صلى الله عليه وسلم ، وأن من حقوقه على الانام زيارة قبره الشريف في المدينة المنورة ، والسلام عليه، حيث أنه حي في قبره، ولقد كان سلف الأمة يحرصون على ذلك أشد الحرص.

وزيارة قبره صلى الله عليه وسلم ، سنة من سنن المسلمين مجمع عليها وفضيلة مرغب فيها ،

قال القاضي عياض في كتابه الشفا :

حدثنا القاضي أبوعلي قال، حدثنا أبو الفضل بن خيرون ، قال : حدثنا القاضي المحاملي ، قال : حدثنا موسى بن هلال ، عن عبد الله بن عمر ، عن نافع ، عن ابن عمر رضي الله عنهما ، انه قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم : من زار قبري وجبت عليه شفاعتي .

رواه ابن خزيمة في صحيحه ، والبزار والطبراني

وقال نافع : كان ابن عمر يسلم على القبر، رأيته مئة مرة أو أكثر يجيء إلى القبر فيقول :

( السلام على النبي صلى الله عليه وسلم ، السلام على أبي بكر ، السلام على أبي ، ثم ينصرف ) رواه البيهقي .

وقال مالك ، في رواية ابن وهب، إذا سلم على النبي صلى الله عليه وسلم، ودعا، يقف ووجهه إلى القبر الشريف لا إلى القبلة، ويدنو، ويسلم، ولا يمس القبر بيده.

والملاحظ أن الناس في هذا الزمان وخاصة في بلادنا قد تهاونوا في زيارة قبره الشريف صلوات الله وسلامه عليه ، وأصبحوا لا يقصدون المدينة المنورة، وذلك غفلةً منهم عن حقه العظيم صلى الله عليه وسلم وفضله ، وعلو مكانته ، ولما في زيارته من الأجر العظيم

بل إنَّ بعض حملات الحج لا تضع في حسبانها زيارة المدينة المنورة، حتى أصبح ذلك عادة شائعة بين الناس ، بل ولربما عَدَّ البعض قصدَ زيارة قبره صلى الله عليه وسلم ، بدعةً ينكر على فاعلها ، فانقلبت السنة – التي اعتاد على فعلها الصحابة ومن تبعهم بإحسان – إلى بدعة والمندوب إلى محظور.

وها نحن نبين ما أشكل من خلال أقوال السادة العلماء.

إجماع الأمة على استحباب قصد زيارة قبره الشريف

إن الإجماع الحاصل باستحباب شدِّ الرحل لزيارة القبر الشريف من أعلى مراتب الإجماع، ففضلاً عن كونه صريحا توافر عليه جماعات، فهو ممن نقلته الأمة طبقة بعد طبقة.

ذكر القاضي عياض في كتابه الشفا:

(زيارة قبره صلى الله عليه وسلم سنة من سنن المسلمين مجمع عليها، وفضيلة مرغب فيها. )

وقال شارح الشفا الإمام على القاري :

إن الإجماع نقله الإمام النووي وابن الهمام، بل قيل إنها واجبة .

أقوال الصحابة والأئمة الأعلام على استحباب قصد الزيارة

عن ابن عمر رضي الله عنهما، أنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم:

( من زار قبري وجبت له شفاعتي ) .

وفي رواية ( حلَّتْ ) الحديث رواه الدارقطنى وغيره وصححه جماعة من أئمة الحديث .

وعن أنس بن مالك رضي الله عنه، قال:

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من زارني في المدينة محتسبا كان في جواري، وكنت له شفيعا يوم القيامة.

ورواه العقيلي وغيره بلفظ (من زارني متعمداً، كان في جواري يوم القيامة)

ورواه البيهقي ولفظه ( من زارني في المدينة محتسبا كنت له شهيدا وشفيعا يوم القيامة)

رواه البيهقي وابن الجوزي.

وفي حديث آخر ( من زارني بعد موتي فكأنما زارني في حياتي )

رواه البيهقي وسعيد بن منصور في سننهما والدارقطني والطبراني وأبو يعلى وابن عساكر عن ابن عمر رضي الله عنهما.

وقال الإمام محمد بن يوسف الصالحي الشامي ف كتابه سبل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد: يستحب زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم في المدينة المنورة ونقل ذلك عن القاضي عياض وأنها من السنن المجمع عليها.

وقال الإمام النووي في كتابه الإيضاح في مناسك الحج:

إذا انصرف الحجاج والمعتمرون من مكة فليتوجهوا إلى مدنية رسول الله صلى الله عليه وسلم ، لزيارة تربته صلى الله عليه وسلم ، فإنها من أهم القربات وأنجح المساعي.

(حاشية العلامة ابن حجر الهيتمي على شرح الإيضاح في مناسك الحج 442)

وقال الإمام النووي في المجموع:

ويستحب زيارة قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم لما روي ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من زار قبري وجبت له شفاعتي

ويستحب أن يصلي في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم لقوله صلى الله عليه وسلم:

صلاة في مسجدي هذا تعدل ألف صلاة فيما سواه من المساجد.

المجموع للنووي. 8/272

وقال ابن قدامة في المغنى : ( فصل )

ويستحب زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم، لما روى الدارقطني بإسناده عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :

من حج فزار قبري بعد وفاتي فكأنما زارني في حياتي، وفي رواية من زار قبري وجبت له شفاعتي

رواه باللفظ الأول سعيد، حدثنا حفص بن سليمان، عن ليث، عن مجاهد، عن ابن عمر

وقال أحمد – أحمد بن حنبل- في رواية عبد الله عن يزيد بن قسيط عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( ما من أحد يسلم علي عند قبري إلا رد الله علي روحي حتى أرد عليه السلام )

المغني. 3/588

وفي كتاب الشفا للقاضي عياض:

قال نافع: كان ابن عمر يسلم على القبر، رأيته مائة مرة وأكثر يجئ إلى القبر فيقول:

السلام على النبي صلى الله عليه وسلم، السلام على أبي بكر، السلام على أبي ثم ينصرف.

رواه البيهقي.

وعن ابن قسيط والعتبي :

كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، إذا خلا المسجد، جَسُّوا رمانة المنبر التي تلي القبر بميامنهم ثم استقبلوا القبلة يدعون .

وعن يزيد بن أبي سعيد المهري :

قدمت على عمر بن عبد العزيز فلما ودَّعته قال: لي إليك حاجة، إذا أتيت المدينة سترى قبر النبي صلى الله عليه وسلم فأقره مني السلام.

وكان عمر بن عبد العزيز، يرسل البريد من الشام إلى المدينة لِيُبْلِغَ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم السلام منه.

وقال بعضهم: رأيت أنس بن مالك أتى قبر النبي صلى الله عليه وسلم فوقف، فرفع يديه حتى ظننت أنه افتتح الصلاة، فسلم على النبي صلى الله عليه وسلم ثم انصرف.

وقال مالك في رواية ابن وهب: إذا سلم على النبي صلى الله عليه وسلم، ودعا، يقف ووجهه إلى القبر الشريف لا إلى القبلة، ويدنو ويسلم، ولا يمس القبر بيده.

فقه العبادات للشيخ محمد بشير الشقفة ص 516 ).)

وقال إسحاق بن إبراهيم الفقيه :

ومما لم يزل من شأن من حج ، المرور بالمدينة، والقصد إلى الصلاة في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، والتبرك برؤية روضته ومنبره وقبره، ومجلسه وملامس يديه ومواطئ قدميه ،والعمود الذي كان يستند إليه وينزل جبريل بالوحي فيه عليه ، وبمن عمره وقصده من الصحابة وأئمة المسلمين والاعتبار بذلك كله .

وقال الإمام ابن الهمام الحنفي في كتابه شرح فتح القدير:

في زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم، قال مشايخنا رحمهم الله تعالى: أنها من أفضل المندوبات، وفي مناسك الفارس وشرح المختار أنها قريبة من الوجوب لمن له سعة.

فتح القدير . 3/167

وفي حاشية ابن عابدين في الفقه الحنفي( 2/257)

وزيارة قبره صلى الله عليه وسلم مندوبة بل قيل واجبة لمن له سعة

وقال القاضي عياض في كتابه الشفا بتعريف حقوق المصطفى

وزيارة قبره صلى الله عليه وسلم سنة من مسنن المسلمين مجمع عليها وفضيلة مرغب فيها.

وذكر الإمام الخطيب الشربيني في كتابه مغني المحتاج شرح المنهاج:

وتسن زيارة قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم لقوله صلى الله عليه وسلم (من زار قبري وجبت له شفاعتي) رواه ابن خزيمة في صحيحه من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.

وذكر ابن حجر الهيتمي في حاشيته على الإيضاح:

ونص الإمام النووي على استحباب زيارة قبره صلى الله عليه وسلم في كتابه الإيضاح حيث قال:

ذا انصرف الحجاج والمعتمرون من مكة، فليتوجهوا إلى مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم لزيارة تربته صلى الله عليه وسلم، فإنها من أهم القربات وانجح المساعي.

وعلق ابن حجر الهيتمي قائلا :

حكمة تقييده – أي النووي – كالأصحاب سن الزيارة بفراغ النسك مع أنها مطلوبة في كال وقت إجماعا بل قيل بوجوبها ، إذ غالب الحجاج ليست المدينة الشريفة على طريقهم وإنما يتوجهون إلى مكة أولا للحج وأيضا فهي في حق الحاج أكد.

وقال البهوتي الحنبلي في كتابه كشاف القناع عن متن الإقناع:

وإذا فرغ من الحج، استحب له زيارة النبي صلى الله عليه وسلم وقبري صاحبيه أبي بكر وعمر رضي الله تعالى عنهما، لحديث الدارقطني عن ابن عمر قال:

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من حج بعد وفاتي فكأنما زارني في حياتي.

وفي رواية ، من زار قبري وجبت له شفاعتي.

وقال ابن مفلح الحنبلي في كتابه الفروع:

وتستحب الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، وزيارة قبره و قبري صاحبيه رضي الله تعالى عنهما.

وقال الشيخ العلامة أحمد بن محمد المنقور التميمي النجدي في كتابه الفواكه العديدة في المسائل المفيدة:

ويأتي القبر الشريف بأدب وحياء وسكينة، وغَضِّ طرف وخفض صوت، كأنه شاهد الرسول صلى الله عليه وسلم، ويراه ممتلئاً قلبُه له محبةً وتوقيرا.

وقال ابن ضويان في منار السبيل: وتسن زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم وقبري صاحبيه رضوان الله تعالى وسلامه عليهما.

وفي كتاب هداية السالك إلى المذاهب الأربعة في المناسك للإمام ابن جماعة:

إذا انصرف الحجاج والمعتمرون عن مكة شرفها الله تعالى وعظمها، استحب لهم استحباباً مؤكدا أن يتوجهوا مدينة سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم للفوز بزيارته صلى الله عليه وسلم فإنها من أهم القربات وأنجح المساعي.

وقال الشيخ أبو عمرو بن الصلاح في مناسكه: ومن حج ولم يزره فقد جفاه صلى الله عليه وسلم.

وقال الرافعي: يستحب أن يزور بعد فراغ الحج، قبر النبي صلى الله عليه وسلم.

وقال النووي في الأذكار:

إنه ينبغي لكل من حج أن يتوجه إلى زيارة قبره صلى الله عليه وسلم ، سواء أكان ذلك صوب طريقه أم لم يكن، فإنها من أعظم القربات وأنجح المساعي وأفضل الطلبات.

وفي تهذيب الطالبين عن بعض المالكية، وجوب زيارة قبره صلى الله عليه وسلم قال الشيخ أبو محمد عبد الحق: أي وجوب السنن

وظاهر كلام ابن العربي في سراجه، حمل الوجوب على ظاهره.

ويستحب للزائر أن ينوي بسفره إلى المدينة الشريفة كل ما يحصل فيها من القرب ليثاب، كالزيارة والصلاة، والاعتكاف في المسجد، ونحو ذلك، ليثاب على القصد لكل منها.

ويستحب للزائر أن يكثر في طريقه من الصلاة والسلام على سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وفي كتاب موطأ الإمام مالك رواية محمد بن الحسن الشيباني مع التعليق الممجد على موطأ محمد شرح العلامة عبد الحي اللكنوي :

قال الإمام مالك:

باب قبر النبي صلى الله عليه وسلم وما يستحب من ذلك.

أخبرنا مالك، أخبرنا عبد الله بن دينار، أن ابن عمر:

كان إذا أراد سفرا، أو قدم من سفر جاء قبر النبي صلى الله عليه سلم فسلم عليه ، ودعا ثم انصرف ، وعلق الإمام عبد الحي اللكنوي على حديث الإمام مالك :

قوله : وما يستحب من ذلك، أي من زيارة قبره ، اختلف فيه بعد ما اتفقوا على أن زيارة قبره صلى الله عليه وسلم من أعظم القربات ، وأفضل المشروعات ومن نازع في مشروعيته فقد ضل وأضل فقيل ، أنه سنة ذكره بعض المالكية ، وقيل إنه واجب ، وقيل قريب من الواجب ، وهو في حكم الواجب ، مستدلا بحديث (( من حج ولم يزرني فقد جفاني )) أخرجه ابن عدي والدارقطني وغيرهما وليس بموضوع كما ظنه ابن الجوزي وابن تيمية ، بل سنده حسن عند جمع ..

وقيل : إنه مستحب بل أعلى المستحبات ، وقد ورد في فضله أحاديث ، فمن ذلك (( من زار قبري وجبت له شفاعتي )) . أخرجه الدارقطني وابن خزيمة وسنده حسن

وفي رواية الطبراني (( من جاءني زائرا لا تعلمه حاجة إلا زيارتي كان حقا علي أن أكون له شفيعا ))

وعند ابن أبي الدنيا عن أنس، (( من زارني محتسبا كنت له شفيعا )) ، وأكثر طرق هذه الأحاديث وإن كانت ضعيفة لكن بعضها سالم عن الضعف القادح

وبالمجموع يحصل القوة كما حققه الحافظ ابن حجر في (( التلخيص الحبير ) والتقي السبكي في كتابه (( شفاء الأسقام في زيارة خير الأنام )) ، وقد أخطأ بعض معاصريه ، وهو ابن تيمية ، حيث ظن أن الأحاديث الواردة في هذا الباب كلها ضعيفة بل موضوعة

وقد ألفت في هذا البحث رسائل، حينما ذهب بعض أفاضل عصرنا إلى مكة ورجع من غير زيارة مع استطاعته، وألف ما لا يليق ذكره، فالله يصلحنا ويصلحه ويوفقنا ويوفقه.

قوله:

كان إذا أراد سفرا، وفي رواية عبد الرزاق، كان إذا قدم من سفر أتي قبر النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: السلام عليك يا رسول الله.

وفي رواية: كان يقف على قبره، فيصلي على النبي وعلى أبي بكر وعمر.

وفي رواية عن نافع:

كان ابن عمر يسلم على القبر، ورأيته مائة مرة أو أكثر يأتي ويقول:السلام على النبي، السلام على أبي بكر ، السلام على أبي ، وظاهره أنه كان دأبه إن لم يسافر ، كذا في ((وفاء الوفا بأخبار دار المصطفى )) و (( المواهب )) وشرحه

وفي الباب عن أنس عند البيهقي وابن أبي الدنيا ، وجابر عند البيهقي ، وأبي أيوب عند أحمد والطبراني والنسائي .)) اهـ

وقال فقيه الحنابلة في وقته الشيخ منصور بن يونس البهوتي في كتابه شرح منتهى الإرادات: ويستحب له زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم ، وقبري صاحبيه رضي الله تعالى عنهما . وساق أحاديث الزيارة، ثم قال: فيسلم عليه صلى الله عليه وسلم، مستقبلاً له، مولياً ظهره للقبلة، فيقول:

السلام عليك يا رسول الله، كان ابن عمر لا يزيد على ذلك، فإن زاد فحسن ثم يتقدم قليلا، فيسلم على أبي بكر، ثم عمر رضي الله تعالى عنهما. ثم يستقبل القبلة، ويجعل الحجرة عن يساره ويدعو لنفسه ووالديه وإخوانه والمسلمين بما أحب . ويحرم الطواف بالحجرة .

ونقل كلام ابن تيمية من كراهة التمسح بها والتقبيل، ثم قال:

ويكره رفع الصوت عندها أي، الحجرة، لأنه صلى الله عليه وسلم في الحرمة والتوقير كحال الحياة.

وإذا توجه- أي قصد – المسافر الوجه الذي جاء منه بأن بلغ غاية قصده، وأدار وجهه إلى بلده. ((هلل )) ، فقال : لا إله إلا الله … وختم كلامه مثل كلام الفروع سابقا . )) اهـ

وقال الشيخ العلامة أحمد بن محمد المنقور التميمي النجدي في كتابه النافع الفواكه العديدة في المسائل المفيدة:

وإذا قارب المدينة قبل الحج أو بعده ، شكر الله وحمده حمدا كثيرا ، وذكره كثيرا ، وصلى على النبي صلى الله عليه وسلم ، وشاهد بقلبه نور السراج المنير كلما لاح له علم أعلام المدينة ، أو جبل أثار من قلبه حرقة الشوق إلى المحبوب، لا سيما إذا أشرف على المدينة وشاهد بقلبه نوره

فإذا شاهد المدينة المشرفة وحجرته العالية تَرَجَّل وخلع النعلين ، ونكَّس الرأس ، وتواضع في نفسه ، وتمسْكَن ، ومشى رويداً وريدا وتأدب ، ووقف على الأبواب معظما ، واغتسل لدخولها ذكره جماعة .

ثم يقول، بسم الله كثيرا والحمد لله كثيرا، والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله وسلم، كثيرا. فإذا نزل في منزله قال، (( رب أنزلني منزلا مباركا، وأنت خير المنزلين ))، ثم قال:

ويأتي القبر الشريف بأدب، وحياء وسكينة، وغض طرف، وخفض صوت، كأنه شاهد الرسول صلى الله عليه وسلم، ويراه ممتلئا قلبه له محبة وتوقيرا.

وفي كتاب الفقه المنهجي:

أما مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد دل على استحباب زيارته قوله صلى الله عليه وسلم: لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجدي هذا، ومسجد الأقصى.

وأما قبره صلى الله عليه وسلم فقد دل على استحباب زيارته وعظم الأجر المنوط بها ، إجماع الصحابة كلهم والتابعين من بعدهم على زيارة قبره صلى الله عليه وسلم ، كما يدل على ذلك ما ثبت من استحباب زيارة القبور عامة بقوله صلى الله عليه وسلم (( كنت قد نهيتكم عن زيارة القبور فزورها )) وبفعله إذ كان يزور البقيع بين حين وآخر

ولا ريب أن الاستحباب يتضاعف إذا كان القبر قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، كما يدل على ذلك قوله صلى الله عليه وسلم لمعاذ، عندما أرسله إلى اليمن، (( يا معاذ ، عسى أن لا تلقاني بعد عامي هذا، ولعلك أن تمر بمسجدي هذا وقبري ))

رواه أحمد بسند صحيح .

ومعلوم أن (( لعلك )) هنا بمعنى الطلب والرجاء.

وفي كتاب مجموعة العبادات للشيخ البيانوني :

زيارة النبي صلى الله عليه وسلم ومسجده الشريف بالمدينة المنورة، على ساكنها أفضل الصلاة والسلام، من أفضل بقاع الأرض، أو هي أفضل بقاعها، وزيارتها من أهم القربات، وأفضل الأفضل الأعمال وأزكى العبادات، لما ورد فيها من الفضل، وهبوط الوحي، ومضاعفة الأجر، والتشرف بجسد النبي صلى الله عليه وسلم ، ومشاهدة الصحابة وقبور العلماء والصالحين.اهـ

فالرحلة إليها مأمور بها، متأكدة على المسلم المستطيع.

قال الله تعالى: ( ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاءوك فاستغفروا الله واستغفر لهم الرسول لوجدوا الله توابا رحيما ) ( 64، النساء ).

وفي الحديث الشريف : (( حياتي خير لكم ، تحدثون ويحدث لكم ، ووفاتي خير لكم ، تعرض علي أعمالكم ، فما رأيت من خير حمدت الله ، و ما رأيت من شر استغفرت لكم )).

(( من زار قبري وجبت له شفاعتي )) ، وينبغي لمن قصد زيارة النبي صلى الله عليه وسلم ، أن ينوي مع ذلك زيارة مسجده الشريف والصلاة فيه ، فإن ذلك مطلوب أيضا .

ففي الحديث الشريف: (( لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد، مسجدي هذا، والمسجد الأقصى )). رواه البخاري ومسلم

ومعناه:

لا تشد الرحال لأجل تعظيمه، والتقرب إلى الله تعالى بالصلاة فيه إلا إلى المساجد الثلاثة، المساجد بعدها متماثلة، ولا بلد إلا وفيه مسجد، فلا معنى للرحلة إلى مسجد آخر.

وأما المشاهد، سواء أكان فيها قبورا أو لا، فلا تتساوى، بل بركة زيارتها على قدر درجتها عند الله عز وجل وخصوصا إذا كان فيها قبور الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، مثل إبراهيم وموسى ويحيى وغيرهم عليهم الصلاة والسلام، وليس لأحد أن يمنع من شد الرحال إليها

وإذا جاز هذا فقبور الأنبياء والعلماء والصالحين في معناها، والأمر في حديث ، (( كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزورها )) ، – رواه ابن ماجه – يدل بإطلاقه وسياقه على طلب الرحلة لزيارة القبور وما في حكمها من المشاهد التي شرفها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأصحابه كذلك ، وإن لم يكن بها قبور ، ولا وجه لتخصيصه بما لا رحلة فيه .

ثم إن التبرك بزيارة المشاهد التي شرفها رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن على أثره ، ممن كمل اتِّباعهم لسنته من صحابة وغيرهم رضي الله عنهم، من قبيل التبرك بآثاره صلى الله عليه وسلم ، عرقه ودمه ولعابه ولباسه وما اتصل به ، أو وطئته أقدامه الشريفة ، فقد خص الله تعالى هذه الآثار بمزايا وخصائص لا يحصيها إلا واهبها .

النصوص الدالة على استحباب قصد الزيارة

بعد أن استعرضنا أقوال الصحابة والعلماء على استحباب قصد الزيارة إلى قبره الشريف نبيِّن الأدلة الأخرى على ذلك.

قال الله تعالى ( ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاءوك فاستغفروا الله واستغفر لهم الرسول لوجدوا الله توابا رحميا ) ( النساء ).

هذه الآية الشريفة دالة على طلب المجيء إليه صلى الله عليه وسلم في جميع الحالات لوقوع الفعل (( جاءوك )) في حيز الشرط الذي يدل على العموم، وأعلى صيغ العموم ما وقع فى سياق الشرط كما فى إرشاد الفحول “ص 122 ” .

وقد فهم المفسرون من الآية هذا العموم، ولذلك تراهم يذكرون قصة العتبى الذي جاء للقبر الشريف وتلا هذه الآية وهي قصة مشهورة.

فالآية دلت على تعليق وجدان الله تعالى توابا رحيما بثلاثة أمور المجيء، والاستغفار، واستغفار الرسول صلى الله عليه وسلم لهم.

وقد حصل استغفار الرسول صلى الله عليه وسلم لجميع المؤمنين قال تعالى: ( واستغفر لذنبك وللمؤمنين والمؤمنات ) سورة محمد.

وقد اعترض البعض على الاستدلال بالآية فقال:

(إذ) هذه ظرف لما مضى وليست ظرفا للمستقبل لم يقل الله، ولو أنهم (إذا ظلموا)، بل قال، (( إذ ظلموا ))، فالآية تتحدث عن أمر وقع في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم، واستغفار الرسول صلى الله عليه وسلم بعد مماته أمر مُتَعَذَّر لأنه إذا مات انقطع عمله إلا من ثلاث كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم : (( صدقة جارية أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له )) رواه مسلم

فلا يمكن للإنسان بعد موته أن يستغفر لأحد بل ولا يستغفر لنفسه لأن العمل انقطع. انتهى

وهذا الاستدلال مردود والأدلة على رده ما يلي، أما قصره ( إذ ) على الزمن الماضي فقط ففيه نظر لأن ( إذ ) كما تستعمل في الماضي فتستعمل أيضا في المستقبل، ولها معان أخرى ذكرها ابن هشام في مغنى اللبيب ( 1/ 83.80 ) .

وقد نص على أن ( إذ ) تستعمل للمستقبل الأزهري فقال في تهذيب اللغة ( 15/47 )، العرب تضع (إذ) تستعمل للمستقبل و ( إذا ) للماضي قال الله عز وجل ( ولو ترى ( إذ ) فزعوا )، (سبأ آية رقم 51 ).

ومن استعمال إذ للمستقبل قوله تعالى: ( ولو ترى إذ وقفوا على النار ) ( الأنعام آية 27 ).

( ولو ترى إذ وقفوا على ربهم )، ( الأنعام 30 )

( ولو ترى إذ الظالمون في غمرات الموت ) ، (الأنعام 93 )

( ولو ترى إذ المجرمون ناكسوا رؤوسهم عند ربهم ) ، ( السجدة 12 ) .

وقوله واستغفار الرسول صلى الله عليه وسلم أمر متعذر لأنه إذا مات انقطع عمله إلا من ثلاث. اهـ

وهذا القول غير سليم والأدلة على رده :

الأول:

قد صح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( الأنبياء أحياء في قبورهم يصلون ) .

أخرجه البيهقي في حياة الأنبياء ( ص 15 ) ، وأبو يعلى في مسنده (6/147 ) ، وأبو نعيم في أخبار أصبهان وغيرهم .

وقال الهيثمي في المجمع (8/211) ورجال أبي يعلى ثقات والحديث له طرق .

وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم، (( مررت على موسى وهو قائم يصلي في قبره ))

أخرجه مسلم (4/1845) وأحمد (3/120) والبغوي في شرح السنة (13/351) وغيرهم .

الثاني:

ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم قد صلى إماماً بالأنبياء عليهم الصلاة والسلام في الإسراء وهذا متواتر، وكانوا قد ماتوا جميعا، وراجعه موسى عليه الصلاة والسلام في الصلوات، ورأى غيره في السموات .

فمن كان هذا حاله فكيف يتعذر عليه الاستغفار ؟ والصلاة دعاء واستغفار وتضرع.

الثالث:

قد صح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ( حياتي خير لكم تحدثون ويحدث لكم ، ووفاتي خير لكم تعرض علي أعمالكم فما رأيت من خير حمدت الله عليه ، وما رأيت من شر استغفرت لكم).

وهو حديث صحيح وقال عنه الحافظ العراقي في طرح التثريب (3/297) إسناده جيد.

وقال الهيثمي ( المجمع 9/24 ) رواه البزار ورجاله رجال الصحيح وصححه السيوطي وغيره .

الرابع:

استغفار الرسول صلى الله عليه وسلم حاصل لجميع المؤمنين سواء أدرك حياته أو لم يدركها قال الله تعالى:

( واستغفر لذنبك وللمؤمنين والمؤمنات ) وهذه منةٌ من الله تعالى، وخصوصيةٌ من خصوصيات سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وقد علم مما سبق أن الأمور الثلاثة المذكورة في الآية وهي:

المجيء إليه صلى الله عليه وسلم .

والاستغفار.

واستغفار الرسول صلى الله عليه وسلم للمؤمنين حاصل في حياته وبعد انتقاله .

ولا يقال: إن الآية وردت في أقوام معينين لأنه كما هو معروف ( العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب ).

ولذلك فهم المفسرون وغيرهم من الآية العموم واستحبوا لمن جاء إلى القبر الشريف أن يقرأ هذه الآية ( ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاءوك فاستغفروا الله واستغفر لهم الرسول لوجدوا الله توابا رحيما ) النساء.

وهذه التفاسير بين أيدينا والمناسك التي صنفها علماء المذاهب كذلك وهي تظهر صدق دعوى الاستدلال بالآية.

واعلم أن زيارة مسجده وقبره صلى الله عليه وسلم ، من أعظم القربات إلى الله عز وجل ، أجمع على ذلك جماهير المسلمين في كل عصر إلى يومنا هذا

لم يخالف في ذلك إلا ابن تيمية رحمه الله ، فقد ذهب إلى أن زيارة قبره صلى الله عليه وسلم غير مشروعة.

ودليل ما أجمع عليه المسلمين من دونه عدة وجوه

الوجه الأول:

مشروعية زيارة القبور عموما واستحبابها، وقد ذكرنا فيما سبق أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم كان يذهب كل ليلة إلى البقيع يسلم على أهله ويدعو ويستغفر لهم

ثبت ذلك في الصحيح، والأحاديث الثابتة في تفضيل ذلك كثيرة، ومعلوم أن قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم داخل في عموم القبور فيسري عليه حكمها.

الوجه الثاني:

ما ثبت من إجماع الصحابة والتابعين ومن بعدهم على زيارة قبره صلى الله عليه وسلم كلما مروا على الروضة الشريفة، وروي ذلك الأئمة الأعلام وجماهير العلماء بمن فيهم ابن تيمية رحمه الله.

الوجه الثالث:

ما ثبت من زيارة كثير من الصحابة قبره صلى الله عليه وسلم، منهم بلال رضي الله عنه، رواه ابن عساكر بإسناد جيد ، وابن عمر فيما رواه مالك في الموطأ وأبو أيوب فيما رواه أحمد ، دون أن يُؤْثر عنهم أو عن أحد منهم أي استنكار أو نقد لذلك .

الوجه الرابع:

ما رواه أحمد رضي الله عنه بسند صحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم لما خرج يودِّع معاذ بن جبل إلى اليمن قال له:

( يا معاذ إنك عسى أن لا تلقاني بعد عامي هذا، ولعلك أن تمر بمسجدي هذا وقبري )

فكلمة ( لعل ) تأتي في أعم الأحوال للرجاء، وإذا دخلت ( أن ) على خبرها تمخضت للعرض والرجاء.

فالجملة تنطوي بصريح البيان على توصية معاذ بأن يعرج عند رجوعه إلى المدينة على مسجده صلى الله عليه وسلم وقبره ليسلم عليه.

إذا تبين هذا ، فأعلم أنه لا وجه لما انفرد به ابن تيمية رحمه الله من دفع هذه الأوجه كلها في غير ما دافع والقول بأن زيارة قبره صلى الله عليه وسلم عمل غير مشروع ! ..

رد الأئمة على الإمام ابن تيمية

وجملة ما اعتمده ابن تيمية في ذلك قول رسول الله صلى الله عليه وسلم :

( لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد، المسجد الحرام ومسجدي هذا والمسجد الأقصى )

وقوله: ( لعن الله اليهود اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد )

وقوله: ( لا تجعلوا قبري عيدا ).

وليس في شيء من هذه الأحاديث الثلاثة ما يصلح أن يكون مستندا لما انفرد به.

فقوله عليه الصلاة والسلام لا تشد الرحال .. الخ استثناء مُفَرَّغ كما هو معلوم والمستثنى منه محذوف، وإنما يقدر المستثنى من جنس المستثنى منه، وإلا كان استثناء منقطعا، وهو استثناء مجازي، ولا يجوز إضمار المجاز إلا عند الضرورة التي لا تصلح معها الحقيقة.

فتقدير الحديث:

لا تشد الرحال إلى المساجد إلا إلى ثلاثة منها..الخ فالمستثنى منه هو المساجد ، والمعنى أن جميع المساجد في الفضل سواء ، إلا هذه المساجد الثلاثة ، فلا وجه لتفضيل بعضها على البعض في زيارة أو اعتكاف أو نحو ذلك ، وعملا بهذا الحديث قال الفقهاء : إنه لو نذر الاعتكاف، أو وسمى مسجداً معينا غير هذه المساجد الثلاثة، لم يجب عليه قصد ذلك المسجد بخصوصه ولم يسن، بل يغنيه أن يعتكف في أي مسجد من مساجد الدنيا .

أما حديثنا فهو عن زيارة قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو ليس داخلا لا في المستثنى ولا في المستثنى منه فالحديث بمعزل عن أي إشارة إليه

وهو كما لو قلت، لا يجوز أن تشد الرحال إلى زيارة الأرحام أو إلى العلماء لنتعلم منهم، لحديث لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد.. الخ.

ثم إننا نسأل بعد هذا، أفيفهم ابن تيمية رحمة الله من كلمة ( شد الرحال ) معناها الحقيقي، أم المعنى المجازي الذي هو القصد والعزم على الشيء ؟

فإن كان يفهم منها المعنى الحقيقي، فينبغي ألا تحرم زيارة غير هذه المساجد الثلاثة من المساجد الأخرى إلا إذا شد لذلك رحلا ثم مضى إليه بواسطة الرحل، قربت المسافة أو بعدت، فإن سعى إليه بوسيلة أخرى غير شد الرحال لم يعد ذلك حراما ، وهل يقول عاقل بذلك ؟

وإن كان يفهم من الكلمة معناها المجازي، وإنما المعنى المجازي لها هو الاتجاه إلى الشيء لا يقصد غيره، فإن عمل رسول الله صلى الله عليه وسلم يعارضه ويرده.

فقد كان صلوات الله وسلامه عليه يزور مسجد قباء في كل أسبوع، وفي رواية كل يوم سبت، وقد كان مسجد قباء خارج المدينة.

قال الشيخ محمد بن علوي المالكي في كتابه القيِّم ( منهج السلف فى فهم النصوص بين النظرية والتطبيق ) :

وقد شرح الحفاظ والمحدِّثون الكبار الأجلاء هذا الحديث الشريف (لا تشد الرحال) وبينوا معناه على الوجه الذي ذكرناه من قبل وهو أنه لا صلة له بمسألة شد الرحال لزيارة النبي، ومنهم من ذهب إلى أن الحديث يتعلق بالنذر للصلاة فى مسجد مخصص ومن أولئك الإمام الحافظ احمد بن على بن حجر العسقلاني حيث قال:

قال بعض المحققين قوله إلى ثلاثة مساجد، المستثنى منه محذوف، إما أن يقدر عاماً فيصير لا تشد الرحال إلى مكان في أيِّ أمرٍ كان إلا إلى الثلاثة، أو أخفَّ من ذلك، ولا سبيل إلى الأول لإفضائه إلى سد باب السفر للتجارة وصلة الرحم وطلب العلم وغيرها، فتعين الثاني

فالأولى أن يقدر ما هو أكثر مناسبة وهو لا تشد إلى مسجد للصلاة فيه، إلا إلى الثلاثة، فيبطل بذلك قول من منع شد الرحال إلى زيارة القبر الشريف وغيره من قبور الصالحين. اهـ

وهذا المعنى ذكره الإمام محمد بن يوسف الكرمانى في شرح صحيح البخاري ونقل كلام غيره من الفحول المؤيدين لهذا المعنى مثل الخطابي والنووي .

وممن أيَّد ذلك أيضا، الإمام بدر الدين أبو محمد محمود بن احمد العيني فئ شرحه على البخاري المسمى بعمدة القاري .

وإما على تقدير عموم الحديث أى لا تشد الرحال إلى مكان إلا إلى المساجد الثلاثة فقد تقدم بطلانه .

قال العلامة السبكى في شفاء السقام ما ملخصه:

السفر فيه أمران

أحدهما: غرض باعث عليه كطلب العلم وزيارة الوالدين وما أشبه بذلك وهو مشروع بالاتفاق

الثاني: المكان الذي هو نهاية السفر كالسفر إلى مكة أو المدينة أو بيت المقدس ويشمله الحديث والمسافر لزيارة النبي لم يدخل في الحديث قطعا وإنما يدخل في النوع الأول المشروع

فالنهى عن السفر مشروط بأمرين، احدهما أن يكون غايته رؤية المساجد الثلاثة

والثاني إن يكون علته تعظيم البقعة

والسفر لزيارة النبي غايته أحد المساجد وعلته تعظيم ساكن البقعة لا البقعة، فكيف يقال بالنهى عنه؟ بل أقول إن للسفر المطلوب سببين:

أحدهما أن يكون غايته احد المساجد الثلاثة

والثاني ما يكون لعبادة وان كان لغيرها

والسفر لزيارة المصطفى اجتمع فيه الأمران، وهو في الدرجة العليا من الطلب ودونه ما وجد فيه احد الأمرين، وان كان السفر الذي غايته أحد الأماكن الثلاثة لا بد في كونه قربة من قصد صالح

وإما السفر لمكان غير الأماكن الثلاثة لتعظيم ذلك المكان، فهو الذي ورد فيه الحديث، ولهذا جاء عن بعض التابعين انه قال: قلت لابن عمر إني أريد آتى الطور، قال: إنما تشد الرحال إلى ثلاثة مساجد، مسجد الحرام، ومسجد رسول الله، ومسجد الأقصى، ودع الطور فلا تأتيه .اهـ بتصرف

ومن العلماء من رأى أن الحديث يتعلق بنذر الصلاة في مسجد مخصص

قال بن بطال:

هذا الحديث إنما هو عند العلماء في من نذر على نفسه الصلاة في مسجد من سائر المساجد غير الثلاثة. اهـ

وقال الإمام أبو سليمان الخطابي في معالم السنن:

هذا الحديث في النذر، ينذر الإنسان أن يصلى في بعض المساجد، فان شاء وَفَّى به، وإن شاء صلى في غيره، إلا أن يكون نذر الصلاة ة في واحد من هذه المساجد الثلاثة، فإنَّ الوفاء به يلزمه بما نذره فيها، وإنما خص من هذه المساجد بذلك لأنها مساجد الأنبياء صلوات الله عليهم أجمعين، وقد أمرنا بالاقتداء بهم . اهـ

ومن المقرر أن النذر لا يجب إلا في طاعة، فمعنى الحديث، يجب الوفاء لمن نذر إتيان أحد المساجد الثلاثة للصلاة فيها، فمن نذر إتيان غير هذه المساجد لا يجب عليه الوفاء بالنذر.

وقال النووي: (فرع)

إذا نذر المشي إلى مسجد غير المساجد الثلاثة وهى المسجد الحرام والمدينة والأقصى لم يلزمه ولا ينعقد نذره عندنا، وبه قال مالك وأبو حنيفة واحمد وجماهير العلماء، لكن قال احمد يلزمه كفارة يمين، وقال محمد بن مسلمة المالكي، إذا نذر قصد مسجد قباء لزمه للحديث المشهور في الصحيحين أن النبي كان ياتى قباء كل سبت راكبا وماشيا .

وقال ابن بطال: وأما من أراد الصلاة في مساجد الصالحين والتبرك بها متطوعاً بذلك، فمباح إن قصدها بإعمال المطىِّ وغيره، ولا يتوجه إليه الذي في هذا الحديث. اهـ

وقال النووي في( شرح صحيح مسلم) :

والصحيح عند أصحابنا – وهو الذي اختاره إمام الحرمين والمحققون- انه لا يحرم ولا يكره قالوا: والمراد أن الفضيلة التامة إنما هي في شد الرحال إلى هذه المساجد الثلاثة خاصة ، والله اعلم .

وقال في موضع آخر: وفى هذا الحديث فضيلة المساجد الثلاثة وفضيلة شد الرحال إليها ، لان معناه عند جمهور العلماء ، لا فضيلة في شد الرجال إلى مسجد غيرها .

وقال الشيخ أبو محمد الجوينى: من أصحابنا من يحرّم شد الرحال إلى غيرها وهو غلط . اهـ

وقال الشيخ أبو محمد بن قدامة المقدسي :

فان سافر لزيارة القبور والمشاهد ، قال ابن عقيل : لا يباح له الترخص، لأنه منهي عن السفر إليها ، قال النبي صلى الله عليه وسلم :” لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد.”

والصحيح إباحته وجواز القصر فيه ، لان النبي صلى الله عليه وسلم كان ياتى قباء راكبا وماشيا وكان يزور القبور ، وقال :” زوروها تذكركم الآخرة.”

وأما قوله عليه الصلاة والسلام :”لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد” فيحمل على نفى التفضيل لا على التحريم ، وليست الفضيلة شرطا في إباحة القصر ، فلا يضر انتفاؤها .اهـ

ومما يؤيد أن الحديث خاص بالنذر :

1- ما صح بإسناد رجاله رجال مسلم، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “إن خير ما ركبت إليه الرواحل، مسجدي هذا والبيت العتيق”، وهو يصرح بأنه يجوز ركوب الرواحل إلى غيرها من البقاع.

2- فهم الصحابة ، فقد روى عمر بن شبة في “تاريخ المدينة” من طريق عبد الصمد بن وارث، حدثنا صخر بن جويرية، عن عائشة بنت سعد بن أبى وقاص :”سمعت أبى يقول: لان أصلى في مسجد قباء ركعتين أحب إلىَّ من أن آتى بيت المقدس مرتين، لو يعلمون ما قباء ،لضربوا إليه أكباد الإبل”.قال الحافظ ابن حجر : وإسناده صحيح (الفتح 3/69)، وروى ابن أبى شيبة نحوه في “المصنف” ( 2/373)

وروى عبد الرزاق في “المصنف” (5/133) عن عمر بن الخطاب انه قال :”لو مسجد قباء في أفق الآفاق لضربنا إليه أكباد المطىِّ” وعمر رضي الله عنه من رواة حديث “لا تشد الرحال” فلو علم أن النهى في الحديث للتحريم لما قال مقولته في مسجد قباء .

وروى احمد في “المسند” (6/397) والطبراني في “المعجم الكبير” (2/310) من حديث مرثد بن عبد الله اليزنى، عن أبى بصرة الغفاري قال:”لقيت أبا هريرة وهو يسير إلى مسجد الطور ليصلى فيه، قال :فقلت له:

لو ادركتك قبل أن ترتحل ما ارتحلت، قال: فقال : ولم ؟ قال: فقلت: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:”لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد، المسجد الحرام، والمسجد الأقصى ومسجدي”

ومع ذلك لم يرجع أبو هريرة رضي الله عنه، ولو كان فهم من الحديث التحريم لرجع، فلما لم يفعل،دلَّ ذلك على أن النهى الذي في الحديث لا يفيد التحريم عند أبى هريرة رضي الله عنه”.

رأى الإمام الحافظ الحليمى

قال الإمام الحافظ أبو عبد الله الحسين بن الحسن الحليمى في الباب الخامس عشر من”شعب الإيمان” وهو باب في تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم ،وإجلاله وتوقيره ، وبعد أن ذكر ما جاء في التنزيل من وجوب إجلاله، وما روى عن الصحابة من تعظيمهم وتوقيرهم له، قال:

“فهذا كان من الذين ورثوا مشاهدته وصحبته، فأما اليوم ، فمن تعظيمه زيارته صلى الله عليه وسلم ، فقد جاء عنه صلى الله عليه وسلم انه قال:” من زارني بعد وفاتي فكأنما زارني في حياتي”.

رأى الإمام الحافظ الذهبي في شد الرحل لزيارة النبي صلى الله عليه وسلم

عن حسن بن حسن بن على انه رأى رجلاً وقف على البيت الذي فيه قبر النبي صلى الله عليه وسلم يدعو له ويصلى عليه، فقال للرجل:

لا تفعل فان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:”لا تتخذوا بيتي عيدا، ولا تجعلوا بيوتكم قبورا وصلوا علىّ حيث كنتم فان صلاتكم تبلغني”.

هذا مرسل، وما استدل الحسن في فتواه بطائل من الدلالة، فمن وقف على الحجرة المقدسة ذليلا مُسَلِّما مصليا على نبيه، فيا طوبى له فقد أحسن الزيارة، وأجمل في التذلل والحب، وقد أتى بعبادة زائدة على من صلى عليه في أرضه أو في مصلاه

إذ الزائر له اجر الزيارة واجر الصلاة عليه، والمصلى في سائر البلاد له اجر الصلاة فقط فمن صلى عليه صلاة واحدة صلى الله عليه بها عشرا، ولكن من زاره – صلوات الله عليه – وساء الزيارة أو سجد للقبر أو فعل ما لا يشرع، فهذا فعل حسنا وسيئا، فيُعلّم برفق والله غفور رحيم

فَوَالله ما يحصل الانزعاج لمسلم والصياح وتقبيل الجدران وكثرة البكاء، إلا وهو محب لله ولرسوله، فحبه المعيار والفارق بين أهل الجنة وأهل النار، فزيارة قبره من أفضل القرب،

وشد الرحل إلى قبور الأنبياء والأولياء لئن سلمنا انه غير مأذون فيه لعموم قوله صلوات الله عليه” لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد” فشد الرحل إلى نبينا صلى الله عليه وسلم مستلزم لشد الرحل إلى مسجده، وذلك مشروع بلا نزاع إذ لا وصول إلى حجرته إلا بعد الدخول إلى مسجده، فليبدأ بتحية المسجد، ثم بتحية صاحب المسجد، رزقنا الله وإياكم ذلك ، آمين.

سير أعلام النبلاء(4/483-485)

رأى الإمام شيخ الإسلام الفيروزابادى

قال شيخ الإسلام مجد الدين محمد بن يعقوب الفيروزابادى:

“لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد” فلا دلالة فيه على النهى عن الزيارة بل هو حجة في ذلك، ومن جعله دليلاً على حرمة الزيارة فقد أعظم الجراءة على الله ورسوله، وفيه برهان قاطعٌ على غباوة قائله، وقصوره عن نيل درجة كيفية الاستنباط والاستدلال

والحديث فيه دليل على استحباب الزيارة من وجهين :

الوجه الأول:

أن موضع قبره صلى الله عليه وسلم أفضل بقاع الأرض، وهو صلى الله عليه وسلم أفضل الخلق وأكرمهم على الله، لأنه لم يقسم بحياة احد غيره، وأخذ الميثاق من الأنبياء بالإيمان به وبنصره كما في قوله تعالى:

“وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه” الآية

وشرَّفه بفضله على سائر المرسلين، وكرَّمه بأن ختم به النبيين، ورفع درجته في عليين، فإذا تقرر انه أفضل المخلوقين، وان تربته أفضل بقاع الأرض، استحب شد الرحال إليه والى تربته بطريق أولى.

الوجه الثاني:

انه يستحب شد الرحال إلى مسجد المدينة، ولا يتصور من المؤمنين المخلصين انفكاك قصده عنه صلى الله عليه وسلم، وكيف يتصور أن المؤمن المعظم قدرَ النبي صلى الله عليه وسلم يدخل مسجد ويشاهد حجرته ويتحقق أنه يسمع كلامه، ثم بعد ذلك يسعه أن لا يقصد الحجرة والقبر ويسلم على رسول الله صلى الله عليه وسلم !!

هذا مالا خفاء به عند احد، وكذلك لو قصد زيارة قبره لم ينفك قصده عن المسجد.

ومن الدليل، الأحاديث الكثيرة الصحيحة في فضل زيارة الإخوان في الله، فزيارة النبي صلى الله عليه وسلم أولى، وأولى.

ومنها أن حرمته صلى الله عليه وسلم واجبة حيا وميتا،ولا شك أن الهجرة إليه كانت في حياته من أهم الأشياء، فكذلك بعد موته.

ومنها الأحاديث الدالة على زيارة القبور، وهذا في حق الرجال مجمع عليه، وفى حق النساء خلاف،وقد بسطناه في كتاب”إثارة الشجون في زيارة الحجون”

هذا في غير قبر النبي صلى الله عليه وسلم، وأما في قبر النبي صلى الله عليه وسلم فالإجماع على استحبابها للرجال والنساء.

ومنها أن الإجماع على جواز شد الرحال للتجارة وتحصيل المنافع الدنيوية ثابت، فهذا أولى لأنه من أعظم المصالح الأخروية.

ومنها إجماع الناس العملي على زيارته صلى الله عليه وسلم وشد الرحال إليه بعد الحج من وفاته إلى زماننا هذا.

ومنه الإجماع القولى، قال أبو الفضل القاضي: زيارة قبره صلى الله عليه وسلم سنة من سنن المسلمين مجمع عليها، وأما الآثار في الباب فكثيرة جدا.اهـ

الصلات والبشر فى الصلاة على خير البشر (127-128).

رأى الحافظ ابن عساكر

قال الإمام الحافظ أبو اليمن عبد الصمد بن عبد الوهاب المعروف بأبي اليمن بن عساكر:

وبعد

فهذا مختصر في زيارة سيدنا سيد البشر، رسول الله صلى الله عليه وسلم، وشرّف وعظّم وكرّم، ألَّفته تحفةً للزائر، وجعلته نحلةً من المقيم يتزودها المسافر، إذ كانت زيارة تربته المقدسة المكرمة من أهم القربات، والمثول فى حضرته المعظمة من انجح المساعي وأكمل الطلبات، والقصد إلى مسجده الشريف من العباد من أوصل الصلات، فإليه يشد الرحال ولديه تحط الأوزار وتعقد الآمال.

والخلاصة:

أن المستثنى منه في الحديث هو المساجد، وزيارة الأرحام والقبور والأشخاص والمعالم غير داخلة في المستثنى منه، فلا شأن للحديث بها، ومعنى الحديث: إن أولى المساجد بالاهتمام للتوجه إليها من مسافات بعيدة هذه المساجد الثلاثة.

وقوله صلى الله عليه وسلم :

( لعن الله اليهود اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد ) لا شأن له بموضوع الزيارة إطلاقا، إذ هو نهيٌ عن اتخاذ قبور الأنبياء وما حولها مصلى على نحو ما مر بيانه قريبا

تعلم هذا من قوله ( مساجد ) إذ المساجد أماكن الصلاة، ولو استقام أن يكون مجرد زيارة القبر اتخاذاً له مسجدا ، لكان من مقتضى ذلك أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم قد جعل من البقيع كله مسجدا له ، إذ كان يزوره دائما .

أما قوله صلى الله عليه وسلم :

( لا تجعلوا قبري عيدا ) فإنما معناه لا تتخذوا لزيارة قبري وقتا معينا لا يزار إلا فيه كما هو شأن العيد، كما فسره بذلك الحافظ المنذري وغيره من علماء الحديث

ولا مانع أن يضاف إليه أيضا النهي عن إظهار الصخب واللهو ومظاهر الزينة عنده على نحو ما يكون في الأعياد.

أما أن تدل الكلمة على النهي عن زيارة قبره ، فإنها عن ذلك بمعزل وما كان النبي صلى الله عليه وسلم لينهى الناس عن اتخاذ قبره عيدا بهذا المعنى المزعوم ثم يعمد هو فيتخذ من البقيع في كل يوم عيدا!..

قال القاضي عياض في ( الشفا بتعريف حقوق المصطفى ) ( 2/74 ):

زيارة قبره صلى الله عليه وسلم سنة من سنن المسلمين مجمع عليها وفضيلة مرغب فيها .اهـ. وقال في موضع آخر ( 2/75 ) نقلا عن ابن عبد البر:

الزيارة مباحة بين الناس وواجب شد المطي إلى قبره صلى الله عليه وسلم . اهـ .

وصرح الإجماع التقي السبكي ، وممن حكي إجماع المسلمين على الاستحباب الإمام النووي وابن الهمام رحمه الله تعالى عليهما .

وقال الشوكاني في نيل الأوطار ( 5/110 ):

واحتج أيضا من قال بالمشروعية بأنه لم يزل دأب المسلمين القاصدين للحج في جميع الأزمان على تباين الديار واختلاف المذاهب ، الوصول إلى المدينة المشرفة لقصد زيارته ، ويعدون ذلك من أفضل الإجماعات ، فكان إجماعا .

وقال المحقق أبو الحسنات اللكنوي في ( إبراز الغي الواقع في شفاء العي ):

وأما نفس زيارة القبر النبوي فلم يذهب أحد من الأئمة وعلماء الملة إلى عصر ابن تيمية إلى عدم شرعيتها بل اتفقوا على أنها من أفضل العبادات، وأرفع الطاعات

واختلفوا في ندبها ووجوبها، فقال كثير منهم ، بأنها مندوبة، وقال بعض المالكية والظاهرية، إنها واجبة، وقال أكثر الحنفية، إنها قريب من الواجب، وقريب الواجب عندهم في حكم الواجب، وأول من خرق الإجماع فيه وأتى بشيء لم يسبق إليه عالم قبله هو ابن تيمية. اهـ.

آداب زيارة قبره ومسجده صلى الله عليه وسلم

فإذا أدركت مدى أهمية زيارة مسجده رسول الله صلى الله عليه وسلم وقبره الشريف، فلتعلم أن على الحاج إذا فرغ من نسك حجه وعمرته، كمان عليه حين يتجه إلى مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم لينال شرف زيارته وزيارة مسجده التزام الآداب التالية :

أولا:

يستحب أن يعقد العزم لدى اتجاهه إلى المدينة المنورة، على زيارة النبي صلى الله عليه وسلم وزيارة مسجده، حتى يكتب له أجرهما معا، وأن يكثر في طريقه من الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ثانيا:

يستحب أن يغتسل قبيل دخوله المدينة إن تيسر له ذلك، وإلا فليغتسل قبل دخوله المسجد، وليلبس أنظف ثيابه.

ثالثا :

إذا وصل إلى باب مسجده صلى الله عليه وسلم فليقدم رجله اليمنى في الدخول قائلا:

( أعوذ بالله العظيم وبوجهه الكريم وبسلطانه القديم من الشيطان الرجيم ، بسم الله ، والحمد لله ، اللهم صل على محمد وعلى آل محمد وسلم ، اللهم اغفر لي ذنوبي وافتح في أبواب رحمتك )

قال الإمام النووي : هذا الذكر والدعاء مستحب في كل مسجد، وقد وردت فيه أحاديث في الصحيح وغيره.

ثم يدخل فيتجه إلى الروضة الكريمة ، وهي ما بين المنبر والبيت ، فيصلي تحية المسجد بجنب المنبر، إذ يظن أن يكون هو موقف رسول الله صلى الله عليه وسلم .

رابعا :

إذا صلى التحية في الروضة ، فليأت إلى القبر الكريم ، فيستدبر القبلة ويستقبل جدار القبر ويبعد عن رأس القبر نحو أربعة أذرع، ويقف ناظر إلى أسفا ما يستقبله من جدار القبر، وقد أفرغ من علائق الدنيا واستحضر جلالة موقفه ومنزلة من هو في حضرته .

ثم يسلم بصوت خفيض قائلا:

السلام عليك يا رسول الله

السلام عليك يا نبي الله

السلام عليك يا خيرة الله

السلام عليك يا خيرة رب العالمين

جزاك الله يا رسول الله عنا أفضل ما جزي نبيا ورسولا عن أمته

أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أنك عبده ورسوله من خلقه

وأشهد أنك قد بلغت الرسالة ، وأديت الأمانة ، ونصحت الأمة ، وجاهدت ي الله حق جهاده.

ثم ينحرف قليلا نحو اليمين حيث قبر أبي بكر رضي الله عنه فيقول:

السلام عليك يا أبا بكر الصديق

ثم ينحرف إلى اليمين أيضا حيث قبر عمر ابن الخطاب فيقول:

السلام عليك يا عمر بن الخطاب.

ثم يعود إلى مكانه الأول ، ويتجه إلى القبلة فيدعو لنفسه وللمؤمنين بما يشاء ، فإنها ساعة ترجى فيها الاستجابة إن شاء الله .

خامسا :

لا يجوز الطواف بقبر النبي صلى الله عليه وسلم ، كما قال الإمام النووي ، ويكره أن يلصق نفسه بجدار القبر ، كما يكره التمسح به وتقبيله ، كما هو شأن كثير من الجهال ، بل الأدب أن يبتعد عنه صلى الله عليه وسلم في حضرته أثناء حياته .

سادسا :

ينبغي له مدة إقامته في المدينة المنورة أن يصلى الصلوات كلها في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن يخرج كل يوم إلى زيارة البقيع، وأن يزور قبور شهداء أحد، كما يستحب استحبابا مؤكدا أن يأتي مسجد قباء، وقد كان صلى الله عليه وسلم يأتي مسجد قباء في كل يوم سبت ورد ذلك في الصحيحين وغيرهما .

الخاتمة

لعلنا قد قدمنا في هذه الورقات القليلة الدليل الساطع والبرهان القاطع ، على أن قصد الزيارة لقبره الشريف صلوات الله وسلامه عليه سنة مرغب فيها ومجمع عليها بين المسلمين ، ولقد كان ذلك دأب زوار الديار المقدسة في كل عصر من عصور الإسلام .

أما ما يفعله بعض المسلمين اليوم من التهاون في قصد زيارة قبره الشريف صلوات الله وسلامه عليه فهي من الجفوة التي دلت عليها كثير من الأحاديث.

فينبغي على الزائر لبيت الله الحرام أن يعرج على المدينة المنورة لقصد زيارة القبر الشريف والترك بالمثول بين يديه صلى الله عليه وسلم، وأن يكثر الدعاء في تلك الأماكن المباركة التي يرجى فيها إجابة الدعاء.

وفقنا الله وإياكم إلى الاهتداء بهديه والاقتداء بسنته صلى الله عليه وسلم ، كما نسأله تعالى أن يرزقنا حب نبيه صلى الله عليه وسلم وأن يجعل أحب إلينا من أنفسنا وأهلينا والناس أجمعين … آمين

وصلى الله على عبده ورسوله

سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين

والحمد لله رب العالمين

المراجـــع

فقه السيرة ، للشيخ محمد سعيد رمضان البوطي .

الشفا بتعريف حقوق المصطفى ( القاضي عياض بن غنم اليحصبي )

شرح الشفا ( للشيخ ملا علي القاري )

الفقه المنهجي ( للشيخ مصطفى الخن ، والشيخ مصطفى البغا والشيخ علي الشربجي )

هداية السالك إلى المذاهب الأربعة في المناسك ( للإمام ابن جماعة )

شفاء السقام في زيارة خير الأنام (للشيخ عيسى بن عبد الله الحميري )

الإعلام في زيارة خير الأنام ( للشيخ عيسى بن عبد الله الحميري )

سبل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد ( للإمام محمد بن يوسف الصالحي الشامي )

وفاء الوفا في أخبار دار المصطفى للإمام السمودي

الإيضاح في المناسك ( للإمام النووي )

حاشية على الإيضاح ( للإمام ابن حجر الهيتمي )

مجموعة العبادات ( للشيخ أبي الفتح البيانوني )

التعليق الممجد على موطأ محمد ( للإمام عبدالحي اللكنوي )

الوفا بأحوال المصطفى ( للإمام ابن الجوزي )

المغني ( للإمام ابن قدامه المقدسي مع الشرح الكبير للإمام الكبير للإمام الموفق المقدسي)

المجموع ( للإمام النووي )

مغني المحتاج ( للإمام الخطيب الشربيني )

شرح فتح القدير ( للإمام ابن الهمام )

حاشية رد المحتار ( ابن عابدين )، ( للإمام ابن عابدين )

كشاف القناع عن متن الإقناع ( للإمام البهوتي الحنبلي

الفروع ( للإمام ابن مفلح )

منار السبيل (للإمام ابن ضويان)

الفواكه العديدة في المسائل المفيدة (للشيخ العلامة أحمد بن محمد المنقور التميمي)

عظيم قدره صلى الله عليه وسلم ورفعة مكانته ( للشيخ إبراهيم ملا خاطر )

منهج السلف فى فهم النصوص بين النظرية والتطبيق ( السيد محمد بن السيد علوي المالكي الحسنى )