الصفحة الرئيسية » بحوث » تعظيم المصحف

تعظيم المصحف

بسم الله الرحمن الرحيم

مقدمة

الحمد لله الأول القديم، الواحد الجليل، الذي ليس له شبيه ولا نظير، أحمده حمدا يوافي نعمه ويبلغ مدى نعمائه.

وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له شهادة عالم بربوبيته، عارف بوحدانيته، وأشهد أن سيدنا محمدا عبده ورسوله، اصطفاه لوحيه وختم به أنبياءه، وجعله حجة على جميع خلقه، «ليهلك من هلك عن بينة، ويحيى من حي عن بينة» سورة الأنفال.

عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله تعالى لا ينزع العلم منكم بعد ما أعطاكموه انتزاعا ولكن يقبض العلماء ويبقى الجهال فيسألون فيفتون فيضلون ويضلون». رواه الطبراني في الأوسط.

ولاشك أن زماننا الحاضر اتسم بقلة العلماء ومدارس العلم وانتشار الجهل في العلوم الشرعية، فكثير من السنن التي كانت معروفة هجرت، وكثير من الأحكام التي كانت من البديهيات أصبحت من البدع المحرمات وما ذاك إلا لغياب العلم والعلماء ولقد مرت بلاد الإسلام بعصر ازدهار علمي في جميع مجالات الحياة بلغ فيه العلماء المسلمون الغاية العظمى والمثال الذي يحتذى فأثروا العلم والمعرفة، وخلفوا لنا الكثير من المصنفات في جميع مجالات العلوم الشرعية والإسلامية تشبع كل طالب منها وناهل. ونحن إذ نقوم بنشر أقوالهم في بعض مسائل العلم لا ندعي زيادة علم أو اتساع فهم بل نحن ويعلم الله مجرد نقلة وعالة على موائد السابقين رضي الله عنهم وأرضاهم. فنسأل الله جلت قدرته أن يثيب كل من ساهم في نشر هذا العلم وإحياء هذه السنن المهجورة وعمل بها.. اللهم آمين.

توطئة:

قال الله تعالى: {ذلك ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب) نعم لا شك أن تعظيم شعائر الله تنبئ على تقوى المسلم وقوة إيمانه ومن أعظم هذه الشعائر تعظيم واحترام كتاب الله العزيز.

فعن عكرمة بن أبي جهل رضي الله عنه: أنه كان يقبل المصحف ويضعه على وجهه ويقول (كتاب ربي) رواه الدارمي بإسناد صحيح.

وهكذا كان حال الأمة سلفا وخلفا في تعظيم المصحف الشريف واحترامه والتأدب بآدابه والسير على منهاجه.

حتى جاء هذا الزمان الذي رفع فيه العلم بموت العلماء وضعف الإيمان في قلوب الناس، فتهاون بعضهم بهذه الشعائر والأداب الإسلامية، فتجد أحدهم يضع المصحف على الأرض أو يمد رجله نحوه.

فاحببنا في هذه الورقات أن ننقل بعضا من هذه الآداب التي ينبغي على المسلم أن يتأدب بها مع كتاب الله العزيز.

ونسأل المولى جلت قدرته أن يجعل جميع أعمالنا خالصة لوجهه الكريم… اللهم آمين.

فضائل القرآن الكريم:

إن تلاوة القرآن الكريم هي التجارة التي لا تبور ولا كساد فيها، فهي تجارة مع الله عز وجل قال سبحانه: {إن الذين يتلون كتاب الله وأقاموا الصلاة وأنفقوا مما رزقناهم سرا وعلانية يرجون تجارة لن تبور} وبين الله عز وجل أن الأجر وزيادة الفضل واقعان على تلاوة القرآن ومن أوفى بعهده من الله فهو القائل: {ليوفيهم أجورهم ويزيدهم من فضله إنه غفور شكور}. (سورة فاطر).

وقال تعالى: {ليسوا سواء من أهل الكتاب أمة قائمة يتلون آيات الله آناء الليل وهم يسجدون} (آل عمران 113).

ولقد جاء في السنة الشريفة أحاديث كثيرة تبين فضل القرآن وتحث على تعهده بالقراءة والحفظ والسير على هديه.

فقد أخرج البخاري ى عن عثمان بن عفان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «خيركم من تعلم القرآن وعلمه».

وعن أبي أمامة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «اقرؤوا القرآن فإنه يأتي يوم القيامة شفيعا لأصحابه» رواه مسلم.

وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الذي يقرأ القرآن وهو ماهر به مع السفرة الكرام البررة، والذي يقرأ القرآن ويتعتع فيه وهو عليه شاق له أجران» متفق عليه.

من فوائد الحديث: فضل من يجيد تلاوة القرآن الكريم ويتقن قراءته، وأنه مع الملائكة السفرة في منازلهم في الآخرة، وأجر من يتعتع في القرآن، فإن له أجرين، أجر على قراءته، وأجر على تعتعته.

وعن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا حسد إلا في اثنتين»: رجل آتاه الله القرآن فهو يقوم به آناء الليل وآناء النهار، ورجل آتاه الله مالا فهو ينفقه آناء اليل وآناء النهار» متفق عليه. «والآناء: الساعات».

وعن عبدالله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يقال لصاحب القرآن: اقرأ وارتق ورتل كما كنت ترتل في الدنيا، فإن منزلتك عند آخر آية تقرؤها» رواه أبو داود والترمذي وقال: حديث حسن صحيح.

قال أبو سليمان الخطابي في معالم السنن – جاء في الأثر أن عدد آي القرآن على قدر درج الجنة فيقال للقارئ: ارق في الدرج على قدر ما كنت تقرأ من آي – القرآن فمن استوفى جميع القرآن استولى على أقصى درج الجنة في الآخرة، ومن قرأ جزءا منه كان رقيه في الدرج على قدر ذلك فيكون منتهى الثواب عند منتهى القراءة.

وفي كتاب نزهة المتقين – شرح رياض الصالحين:

قال: صاحب القرآن: أي حافظه، أمو حافـظ بعضه، الملازم لتلاوته مع التدبر لآياته والعمل بأحكامه والتأدب بآدابه، وارتق: أي اصعد درج الجنة بمقدار ما حفظته من آي القرآن.

إن لصاحب القرآن درجات في الجنة بعدد ما يحفظ منه.

فينبغي للمسلم الإكثار من قراءة القرآن مع التدبر والتأمل والعمل، والحث على ختم القرآن، والترغيب في حفظه، والتأدب بآدابه.

آداب القرآن الكريم:

عندما يرغب المسلم بقراءة كتاب الله تعالى، فعليه أن يتحلى بآداب احتراما للقرآن وتعظيما لشعائر الله تعالى ولقد دون الأئمة الأعلام رضوان الله عليهم مصنفات في هذه الآداب اقتطفنا بعضا منها، لعل الله تعالى أن ينفعنا بها.

ذكر الإمام النووي رضي الله عنه في كتابيه التبيان في آداب حملة القرآن ورياض الصالحين بعضا من آداب القرآن:

الاخلاص:

أول ما ينبغي للمقرئ والقارئ أن يقصدا بذلك رضا الله تعالى. قال الله تعالى: {وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة وذلك دين القيمة} (سورة البينة آية 5).

وفي الصحيحين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى».

فينبغي أن يستحضر في نفسه أنه يناجي الله تعالى، ويقرأ على حال من يرى الله تعالى، فإنه إن لم يكن يراه فإن الله تعالى يراه.

السواك:

ينبغي إذا أراد القراءة أن ينظف فاه بالسواك وغيره. والاختيار في السواك أن يكون بعود من أراك.

يجوز بسائر العيدان، وبكل ما ينظف: كالخرقة الخشنة، وغير ذلك. ولما في السواك من فضل – قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «السواك مطهرة للفم، مرضاة للرب».

ولخبر الشيخين: «كان صلى الله عليه وسلم إذا قام من الليل يشوص فاه بالسواك» – أي: يدلكه.

قال بعض العلماء: يقول عند الاستياك: اللهم بارك فيه يا أرحم الراحمين.

الطهارة:

يستحب أن يقرأ وهو على طهارة، فإن قرأ محدثا جاز بإجماع المسلمين.

قال إمام الحرمين: ولا يقال ارتكب مكروها، بل هو تارك للأفضل، فإن لم يجد الماء تيمم.

هذا إذا قرأ القرآن من غير مس المصحف، أما مسه فسيأتي، والمستحاضة في الزمن المحكوم بأنه طهر حكمها حكم المحدث. وأما الجنب والحائض فإنه يحرم عليهما قراءة القرآن، سواء كان آية أو أقل منها.

ويجوز لهما إجراء القرآن على قلوبهما من غير تلفظ به، ويجوز لهما النظر في المصحف وإمراره على القلب.

وأجمع المسلمون على جواز التسبيح، والتهليل، والتحميد، والتكبير، والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم لهما.

ويجوز لهما أن يقولا عند المصيبة: {إنا لله وإنا إليه راجعون}، إذا لم يقصد القرآن، وكذلك باقي الأدعية من القرآن إذا لم يقصد القرآن.

نظافة المكان:

يستحب أن تكون القراءة في مكان نظيف ولهذا استحب جماعة من العلماء القراءة في المسجد، لكونه جامعا للنظافة، وشرف البقعة، ومحصلا لفضيلة أخرى وهي الاعتكاف.

فإنه ينبغي لكل جالس في المسجد الاعتكاف سواء أكثر في جلوسه أو قل، ولو لم يمكث إلا لحظة تحقيقا للسنة، فلو دخل المسجد لغرض دنيوي أو لم يخطر في باله أي قصد لم يعتبر لبثه في المسجد اعتكافا شرعا.

وعليه أن يقول عند دخوله: «نويت الاعتكاف في هذا المسجد ما دمت فيه».

استقبال القبلة:

يستحب للقارئ في غير الصلاة أن يستقبل القبلة، فقد جاء في الحديث: «خير المجالس ما استقبل به القبلة».

ويجلس متخشعا بسكينة ووقار، مطرقا رأسه.

ولو قرأ قائما، أو مضطجعا، أو على فراشه، أو على غير ذلك من الأحوال جاز، وله أجر، ولكن دون الأول.

قال الله عز وجل: {إن في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب، الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السموات والأرض}. سورة آل عمران 190،191.

وثبت في الصحيح عن عائشة – رضي الله عنها – قالت: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتكئ في حجري وأنا حائض ويقرأ القرآن» رواه البخاري ومسلم. وعن السيدة عائشة رضي الله عنها قالت: «إني لأقرأ حزبي وأنا مضجعة على السرير».

التعوذ:

فإن أراد الشروع في القراءة استعاذ فقال: «أعود بالله من الشيطان الرجيم، هكذا قال الجمهور من العلماء. ثم إن التعوذ مستحب وليس واجبا، وهو مستحب لكل قارئ، سواء كان في الصلاة أو في غيرها.

وينبغي أن يحافظ على قراءة «بسم الله الرحمن الرحيم» في أول كل سورة سوى براءة، فإن أكثر العلماء: قالوا: إنها آية، حيث تكتب في المصحف، فإذا قرأها كان متيقنا قراءة الختمة أو السورة فإذا أخل بالبسلمة كان تاركا لبعض القرآن عند الأكثرين.

الخشوع والتدبر:

فإذا شرع في القراءة فليكن شأنه الخشوع والتدبر، قال الله تعالى: {أفلا يتدبرون القرآن} سورة النساء آية 82.

وقال تعالى: {كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدّبّروا آياته} سورة ص: آية 29.

وقد بات جماعة من السلف يتلون آية واحدة يتدبرونها ويرددونها إلى الصباح.

روينا عن أبي ذر رضي الله عنه قال: «قام النبي صلى الله عليه وسلم بآية يرددها حتى أصبح» والآية: {إن تعذبهم فإنهم عبادك} سورة المائدة: آية 118. رواه النسائي وابن ماجه.

وعن عبادة بن حمزة قال: «دخلت علي أسماء رضي الله عنها وهي تقرأ: {فمن الله علينا ووقانا عذاب السموم} سورة الطور: آية 28، فوقفت عندها، فجعلت تعيدها وتدعو، فطال علي ذلك، فذهبت إلى السوق، فقضيت حاجتي ثم رجعت وهي تعيدها وتدعو. ورويت هذه القصة عن عائشة رضي الله عنها.

البكاء:

البكاء عند قراءة القرآن صفة العارفين، وشعار عباد الله الصالحين. قال تعالى: {ويخرون للأذقان يبكون ويزيدهم خشوعا} سورة الإسراء: آية 109.

وقد وردت فيه أحاديث كثيرة وآثار السلف، فمن ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم: «إقرؤوا القرآن، وابكوا، فإن لم تبكوا فتباكوا».

الترتيل:

ينبغي أن يرتل قراءته، وقد اتفق العلماء – رضي الله عنهم – على استحباب الترتيل. قال الله تعالى: {ورتل القرآن ترتيلا} سورة المزمل: آية 4.

وثبت عن أم سلمة رضي الله عنها: «أنها نعتت قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم مفسرة حرفا حرفا» رواه أبو داود والنسائي والترمذي. قال الترمذي: حديث حسن صحيح.

عن ابن عباس – رضي الله عنهما – قال: «لأنْ أقرأ سورة أرتّلها أحب إلي من أن أقرأ القرآن كله».

والترتيل غير التجويد، فالأول: مستحب لما فيه من التدبر، والتفكر: قال تعالى: {ورتل القرآن ترتيلا} وأما التجويد: هو إعطاء كل حرف حقه ومستحقه.

قال الإمام السيوطي: ولاشك أن الأمة كما هم متعبدون بفهم معاني القرآن، وإقامة حدوده، هم متعبدون بتصحيح ألفاظه، وإقامة حروفه على الصفة المتلقاة من أئمة القراء المتصلة بالحضرة النبوية، وقد عد العلماء القراءة بغير تجويد لحنا.

الدعاء:

يستحب إذا مر بآية رحمة، أن يسأل الله تعالى من فضله، وإذا مر بآية عذاب، أن يستعيذ بالله من الشر ومن العذاب.

وإذا مر بآية تنزيه لله تعالى نزّه فقال: سبحانه وتعالى، أو تبارك وتعالى.

احترام القرآن:

ومما يعتنى به ويتأكد الأمر به: احترام القرآن من أمور قد يتساهل فيها بعض المسلمين اليوم. فمن ذلك اجتناب الضحك، واللغط، والحديث في خلال القراءة، إلا كلاما يضطر إليه.، وليتمثل قول الله تعالى: {وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا لعلكم ترحمون} سورة الأعراف آية 204.

القراءة بالعربية:

لا تجوز قراءة القرآن بالعجمية سواء أحسن العربية، أم لم يحسنها، وسواء كان في الصلاة أم في غيرها، فإن قرأ بها في الصلاة لم تصح صلاته. هذا مذهبنا، ومذهب مالك، وأحمد، وداود، وأبوبكر المنذر.

وقال أبو حنيفة: يجوز ذلك وتصح به الصلاة.

وقال أبو يوسف ومحمد: يجوز ذلك لمن لم يحسن العربية، ولا يجوز لمن يحسنها.

الترتيب:

الاختيار أن يقرأ على ترتيب المصحف فيقرأ الفاتحة، ثم البقرة، ثم آل عمران، ثم ما بعدها على الترتيب.

ودليل هذا أن ترتيب المصحف، إنما جعل هكذا لحكمة، فينبغي أن يحافظ عليها، إلا فيما ورد الشرع باستثنائه، كصلاة الصبح يوم الجمعة يقرأ في الأولى: سورة السجدة، وفي الثانية، الإنسان وكذلك في صلاة العيدين.

وأما قراءة السورة من آخرها إلى أولها فممنوع منها متأكدا، فإنه يذهب بعض ضروب الإعجاز، ويزيل حكمة ترتيب الآيات.

وأما تعليم الصبيان من آخر المصحف إلى أوله فحسن، ليس هذا من هذا الباب، فإن ذلك قراءة متفاضلة، في أيام متعددة، ما مع فيه من تسهيل الحفظ عليهم.

قراءة الجماعة مجتمعين:

اعلم أن قراءة الجماعة مجتمعين مستحبة بالدلائل الظاهرة، وأفعال السلف والخلف المتظاهرة.

فقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم من رواية أبي هريرة وأبي سعيد الخدري – رضي الله عنهما – أنه قال: «ما من قوم يذكرون الله إلا حفّت بهم الملائكة وغشيتهم الرحمة، ونزلت عليهم السكينة، وذكرهم الله فيمن عنده» قال الترمذي: حديث حسن صحيح.

وعن أبي هريرة – رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله تعالى، يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفّتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده» رواه مسلم وأبو داود.

القراءة في المصحف:

قراءة القرآن من المصحف أفضل من القراءة عن ظهر القلب، لأن النظر في المصحف عبادة مطلوبة، فتجتمع القراءة والنظر. هكذا قال القاضي حسين من أصحابنا، وأبو حامد الغزالي وجماعات من السلف.

ونقل الغزالي في الإحياء أن كثير من الصحابة رضي الله عنهم: كانوا يقرؤون من المصحف، ويكرهون أن يخرج يوم ولم ينظروا في المصحف.

تزيين الصوت:

أجمع العلماء – رضي الله عنهم – من السلف والخلف من الصحابة والتابعين ومن بعدهم من علماء الأمصار أئمة المسلمين على استحباب تحسين الصوت بالقرآن.

لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: «زينوا القرآن بأصواتكم» رواه أبو داود والنسائي وابن ماجه.

وحديث البراء – رضي الله عنه ى قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ في العشاء بالتين والزيتون، فما سمعت أحدا أحسن صوتا منه» رواه البخاري ومسلم.

وعن أبي لبابة بشير بن عبدالمنذر – رضي الله عنه – أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من لم يتغن بالقرآن فليس منا» رواه أبو داود.

ومعنى يتغنى: يحسن صوته بالقرآن.

الوقف في القراءة:

ينبغي للقارئ إذا ابتدأ من وسط السورة، أو وقف على غير آخرها، أن يبتدئ من أول الكلام، المرتبط بعضه ببعض. وأن يقف على الكلام المرتبط ولا يتقيد بالأعشار والأجزاء، فإنها قد تكون في وسط الكلام المرتبط كالجزء الذي في قوله تعالى: {وما أبرئ نفسي} سورة يوسف آية 53.

وفي قوله تعالى: {وما كان جواب قومه} سورة الأعراف: آية 82.

فكل هذا وشبيهه لا ينبغي أن يبتدأ به، ولا يوقف عليه، فإنه متعلق بما قبله.

الأحوال التي تكره فيها القراءة:

إعلم أن قراءة القرآن على الإطلاق مندوبة ومستحبة، إلا في أحوال مخصوصة جاء الشرع بالنهي عن القراءة فيها وهي:

1 – تكره القراءة في حال الركوع، والسجود، والتشهد، وغيرها من أحوال الصلاة سوى القيام.

2 – وتكره القراءة بما زاد على الفاتحة للمأموم في الصلاة الجهرية، إذا سمع قراءة الإمام.

3 – وتكره حالة القعود على الخلاء.

4 – وفي حالة النعاس.

ولا تكره القراءة في الطواف، هذا مذهبنا، وبه قال أكثر العلماء وحكاه ابن المنذر عن عطاء، ومجاهد، وابن المبارك، وأبي ثور وأصحاب الرأي.

إكرام المصحف وتعظيمه

لا يكاد التاريخ الصادق يعرف كتابا أحيط بهالة من التقديس والتكريم مثل ما عرف ذلك للقرآن الكريم، ولا عجب فقد وصفه الحق جل وعلا بأنه كتاب مكنون، وحكم بأنه لا يمسه إلا المطهرون، وأقسم على ذلك حيث يقول: {فلا أقسم بمواقع النجوم، وإنه لقسم لو تعلمون عظيم، إنه لقرآن كريم، في كتاب مكنون، لا يمسه إلا المطهرون، تنزيل من رب العالمين} الواقعة 75-80.

لذا فقد خصصنا هذا المبحث لنقل أقوال الأئمة في تعظيم المصحف واحترامه.

قال الإمام النووي في كتابه التبيان في آداب حملة القرآن (185) إعلم أن القرآن العزيز كان مؤلفا في زمن النبي صلى الله عليه وسلم على ما هو في المصحف اليوم، ولكن لم يكن مجموعا في مصحف، بل كان محفوظا في صدور الرجال، فكان طوائف من الصحابة يحفظونه كله، وطوائف يحفظون أبعاضا منه.

فلما كان زمن أبي بكر الصديق رضي الله عنه، وقتل كثير من حملة القرآن، وخاف موتهم واختلاف من بعدهم فيه، فاستشار الصحابة رضي الله عنهم في جمعه في مصحف، فأشاروا بذلك، فكتبه في مصحف، وجعله في بيت حفصة أم المؤمنين رضي الله عنهما.

فلما كان في زمن عثمان رضي الله عنه وانتشر الإسلام، خاف عثمان وقوع الاختلاف المؤدي إلى ترك شيء من القرآن، أو الزيادة فيه، فنسخ من ذلك المجموع الذي عند حفصة الذي أجمعت الصحابة عليه، مصاحف وبعث بها إلى البلدان، وأمر باتلاف ما خالفها، وكان فعله هذا باتفاق منه، ومن علي بن أبي طالب، وسائر الصحابة وغيرهم رضي الله عنهم.

فصل: اتفق العلماء على استحباب كتابة المصاحف وتحسين كتابتها وتبيينها، وإيضاحها.

ويستحب نقط المصحف – وشكله، فإنه صيانة من اللحن فيه وتصحيفه.

فصل: لا تجوز كتابة القرآن بشيء نجس، وتكره كتابته على الجدران.

أجمع المسلمون على وجوب صيانة المصحف واحترامه.

قال أصحابنا وغيرهم: ولو ألقاه مسلم في القاذورة والعياذ بالله تعالى صار الملقي كافرا.

قالوا: ويحرم توسده، بل توسد كتب العلم حرام.

ويستحب أن يقوم للمصحف إذا قدم به عليه، لأن القيام مستحب للفضلاء من العلماء والأخيار، فالمصحف أولى.

وروينا في مسند الدارمي بإسناد صحيح عن ابن أبي مليكة: أن عكرمة بن أبي أهل رضي الله عنه، كان يضع المصحف على وجهه، ويقول: كتاب ربي.

فصل: تحريم السفر بالمصحف إلى أرض العدو، إذا خيف وقوعه في أيديهم للحديث المشهور في الصحيحين: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى، أن يسافر بالقرآن إلى أرض العدو».

ويحرم بيع المصحف إلى الذمي. ويمنع المجنون والصبي الذي لا يميز من مس المصحف مخافة من انتهاك حرمته، وهذا المنع واجب على الولي وغيره ممن رآه يتعرض لحمله.

فصل: يحرم على المحدث مس المصحف وحمله، سواء حمل بعلاقته أو بغيرها.

(وقال الإمام النووي رحمه الله تعالى: إذا حمل متاعا في جملته مصحف فهذا جائز) وأما كتب تفسير القرآن، فإن كان القرآن فيها أكثر من غيره حرم مسها وحملها وإن كان غيره أكثر كما هو الغالب ففيها ثلاثة أوجه أصحهما لا يحرم.

ولقد نقل الأمام القرطبي في كتابه الجامع لأحكام القرآن (1/27) قول الإمام الحكيم الترمذي فقال:

قال الترمذي الحكيم أبو عبدالله في نوادر الأصول: فمن حرمة القرآن ألا يمسه إلا طاهرا. ومن حرمته أن يقرأ وهو على طهارة. ومن حرمته أن يستاك ويتخلل فيطيب فاه، إذ هو طريقه – قال يزيد بن أبي مالك: إن أفواهكم طرق من طرق القرآن، فطهروها ونظفوها ما استطعتم – ومن حرمته أن يتلبس كما يتلبس للدخول على الأمير لأنه مناج.

ومن حرمته إذا وضع المصحف ألا يتركه منشورا، وألا يضع فوقه شيئا من الكتب حتى يكون أبدا عاليا لسائر الكتب، علما كان أو غيره.

ومن حرمته أن يضعه في حجره إذا قرأه وعلى شيء بين يديه ولا يضعه بالأرض.

ومن حرمته ألا يمحوه من اللوح بالبصاق ولكن يغسله بالماء.

ومن حرمته إذا غسله بالماء أن يتوقى النجاسات من المواضع، والمواقع التي توطأ، فإن لتلك الغسالة حرمة، وكان من قبلنا من السلف منهم من يستشفى بغسالته، ومن حرمته ألا يتخذ الصحيفة إذا بليت ودرست وقاية للكتب، فإن ذلك جفاء عظيم، ولكن يمحوها بالماء.

ومن حرمته ألا يخلي يوما من أيامه من النظر في المصحف مرة، وكان أبو موسى يقول: إني لأستحي ألا أنظر كل يوم في عهد ربي مرة.

ومن حرمته أن يعطي عينيه حظّهما منه، فإن العين تؤدي إلى النفس، وبين النفس والصدر حجاب، والقرآن في الصدر، فإذا قرأه عن ظهر قلب فإنما يسمع أذنه فتؤدي إلى النفس، فإذا نظر في الخط كانت العين والأذن قد اشتركتا في الأداء وذلك أوفر للأداء، وكان قد أخذت العين حظها كالأذن. روى زيد ابن اسلم عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد الخدري قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أعطوا أعينكم حظها من العبادة» قالوا: يا رسول الله وما حظها من العبادة؟ قال: النظر في المصحف والتفكر فيه والاعتبار عند عجائبه» رواه ابن حبان، وروى مكحول عن عبادة بن الصامت قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أفضل عبادة أمتي قراءة القرآن نظرا» رواه الحكيم الترمذي.

ومن حرمته ألاّ يقرأ في الأسواق ولا في مواطن اللغط واللغو ومجمع السفهاء، ألا ترى أن الله تعالى ذكر عباد الرحمن وأثنى عليهم بأنهم إذا مروا باللغو مروا كراما، هذا لمروره بنفسه، فكيف إذا مر بالقرآن الكريم تلاوة بين ظهراني أهل اللغو.

ومن حرمته ألا يتوسّد المصحف ولا يعتمد عليه، ولا يرمي به إلى صاحبه إذا أراد أن يناوله.

ومن حرمته أن يفتتحه كلما ختمه حتى لا يكون كهيئة المهجور، ولذلك كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا ختم القرآن يقرأ من أول القرآن قدْر خمس آيات، لئلا يكون في هيئة المهجور. وروى ابن عباس قال جاء رجل فقال: يا رسول الله أي العمل أفضل؟ قال: «عليك بالحال المرتحل» قال: وما الحال المرتحل؟ قال: «صاحب القرآن يضرب من أوله حتى يبلغ آخره ثم يضرب في أوله كلما حل ارتحل» رواه البيهقي في الشعب.

قلت: (أي الإمام القرطبي) – ويستحب له إذا ختم القرآن أن يجمع أهله. ذكر أبو بكر الأنباري أنبأنا إدريس حدثنا خلف حدثنا وكيع عن مسعر عن قتادة: أن أنس بن مالك كان إذا ختم القرآن جمع أهله ودعا. وأخبرنا إدريس حدثنا خلف حدثنا جرير عن منصور عن الحكم قال: كان مجاهد وعبدة بن أبي لبابة وقوم يعرضون المصاحف، فإذا أرادوا أن يختموا وجهوا إلينا: أحضرونا، فإن الرحمة تنزل عند ختم القرآن. وأخبرنا إدريس حدثنا خلف حدثنا هشيم عن العوام عن إبراهيم التيمي قال: من ختم القرآن أول النهار صلت عليه الملائكة حتى يمسي، ومن ختم أول الليل صلت عليه الملائكة حتى يصبح، قال: فكانوا يستحبون أن يختموا أول الليل وأول النهار.

ذكر الإمام القرطبي في كتابه التذكار في أفضل الأذكار من القرآن الكريم: ص 131:

ومنها: (آداب وتعظيم المصحف): إذا قرأ في المصحف أن لا يتركه منشورا ولا يضع فوقه شيئا من الكتب ولا ثوبا ولا شيئا خطيرا ولا حقيرا حتى يكون بهذا محفوظا مكنونا عاليا لسائر الكتب وغيرها. ألا ترى أنه منهي ألا يمسه إلا طاهرا فأولى أن ينهى أن يعرضه للإهانة أو يغفل عنه فيصيبه غبار البيت إذا كنس أو الدخان، أو يعمل عليه حسابه أو مفتاح حانوته، إلا أن يكون مصحفان فيوضع أحدهما فوق الآخر فيجوز.

ومنها: أن يضعه في حجره إذا قرأ أو على شيء بين يديه ولا يضعه في الأرض.

ومنها: يستحب أن يستوي له قاعدا إن كان في غير صلاة ولا يكون متكئا.

ومنها: النظر في المصحف – كان ابن عمر إذا نظر في المصحف ليقرأ بدأ فقال: «اللهم أنت هديتني ولو شئت لم أهتد، لا تزغ قلبي بعد إذ هديتني، وهب لي من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب».

وذكر الإمام الزركشي في كتابه البرهان في علوم القرآن:

ويستحب تطييب المصحف وجعله على كرسي، ويجوز تحليته بالفضة إكراما له على الصحيح، روى البيهقي بسنده إلى الوليدبن مسلم قال: سألت مالكا عن تفضيض المصاحف، فأخرج إلينا مصحفا فقال: حدثني أبي عن جدي أنهم جمعوا القرآن في عهد عثمان رضي الله عنه، وأنهم فضّضوا المصاحف على هذا ونحوه: وأما بالذهب فالأصح يباح للمرأة دون الرجل، وخص بعضهم الجواز بنفس المصحف دون علاقته المنفصلة عنه، والأظهر التسوية.

ويحرم توسد المصحف وغيره من كتب العلم، لأن فيه إذلالا وامتهانا، وكذلك مد الرجلين إلى شيء من القرآن أو كتب العلم.

ويستحب تقبيل المصحف، لأن عكرمة بن أبي جهل كان يقبله، وبالقياس على تقبيل الحجر الأسود، ولأنه هدية لعباده، فشرع تقبيله كما يستحب تقبيل الولد الصغير.

ويحرم السفر بالقرآن إلى أرض العدو للحديث فيه: خوف أن تناله أيديهم.

وقال الإمام السيوطي في كتابه الاتقان في علوم القرآن بعد أن ذكر آدابا كثيرة للقرآن:

مسألة القراءة في المصحف أفضل من القراءة من حفظه، لأن النظر فيه عبادة مطلوبة.

قال النووي: هكذا قاله أصحابنا والسلف أيضا، ولم أر فيه خلافا، قال: ولو قيل إنه يختلف باختلاف الأشخاص، فيختار القراءة لمن استوى خشوعه وتدبره في حالتي القراءة فيه ومن الحفظ، وتختار القراءة من الحفظ لمن يكمل بذلك خشوعه، ويزيد على خشوعه لو قرأ من المصحف، لكان هذا قولا حسنا.

قلت: (أي الإمام السيوطي): ومن أدلة القراءة في المصحف ما أخرجه الطبراني والبيهقي في الشعب من حديث أوس الثقفي مرفوعا: قراءة الرجل في غير المصحف ألف درجة، وقراءته في المصحف تضاعف ألفي درجة».

وأخرج أبو عبيد بسند ضعيف: فضل قراءة القرآن نظرا على من يقرؤه ظاهرا، كفضل الفريضة على النافلة.

وأخرج البيهقي بسند حسن عن ابن مسعود موقوفا: أديموا النظر في المصحف».

وذكر الشيخ الدكتور محمد بن محمد أبو شهبة في كتابة المدخل لدراسة القرآن الكريم (ص344) كلاما جميلا حول هذا الموضوع آثرنا أن نختم به.

لقد نهى الرسول صلى الله عليه وسلم عن السفر به إلى أرض العدو إذا خيف وقوع المصحف في أيديهم كما روى في الصحيحين.

وقد أفتى العلماء بكفر من مزقه أو أهانه أو رمى فيه في قاذورة، وبحرمة من باعه لكافر ولو ذميّا، وأوجبوا الطهارة للمسه وحمله، بل قالوا لكل ما يتصل به من خريطة وغلاف وصندوق على الصحيح، واستحبوا تحسين كتابته وإيضاحها وتحقيق حروفها وتعظيمها وعدم تصغيرها، كما استحبوا تعظيمه والقيام له، قال الإمام النووي: ويستحب أن يقوم للمصحف إذ قدم به عليه، لأن القيام يستحب للعلماء والأخيار فالمصحف أولى».

ويجب على من عنده مصاحف أو أوراق منها غير صالحة للقراءة أن يصونها عن مواطئ الأقدام وعن عبث الصبيان، وعليه أن يحرقها أو يدفنها في الأرض بعيدا عن مواطئ الأقدام والقاذورات، رزقنا الله سبحانه التأدب معه ومع كتابه.

وصلى الله تعالى على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم