الصفحة الرئيسية » بحوث » صلاة الجماعة

صلاة الجماعة

بسم الله الرحمن الرحيم

مقدمة

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيد المرسلين وعلى آله الطاهرين وأصحابه أعلام الهدى والدين ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين.

وبعد:

لقد اهتم الإسلام بصلاة الجماعة اهتماما بالغا، ومنح المحافظين عليها ثوابا جزيلا وأجرا كبيرا، وبشَّر المشائين إلى المساجد في الظلم بالنور التام يوم القيامة، والذي تعلق قلبه بالمساجد يحشره الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله، ومن توضأ في بيته فأحسن الوضوء ثم أتى المسجد فهو زائر الله، وحق على المزور أن يكرم الزائر.

والصلاة فريضة محكمة وركن أساسي من أركان الإسلام، وهي كما بين صلى الله عليه وسلم نور مطلق تدل صاحبها على طريق الخير، وتمنعه من المعاصي، وتهديه سبيل الاستقامة،

قال تعالى: {إن الصلوة تنهى عن الفحشاء والمنكر} (العنبكوت).

فإذا حافظ المسلم على الصلاة مع الجماعة كانت له نورا، وإذا كانت في المسجد استكمل النور وكان الفوز والفلاح، وسبق إلى الجنة مع المقربين الأبرار.

عن عثمان رضي الله عنه أنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من توضأ فأسبغ الوضوء، ثم مشى إلى صلاة مكتوبة فصلاها مع الإمام غفر له ذنبه»

رواه ابن خزيمة في صحيحه.

فصلاة الجماعة من سنن الإسلام المجمع عليها والتي ينبغي على المسلم أن يحافظ عليها ويحذر التقصير أو التهاون فيها، وذلك للآيات والأحاديث الدالة على ذلك، وأقوال الأئمة فيها،

فقد قال البعض أنها فرض عين على كل مسلم، وقال آخرون إنها فرض كفاية، وذهب جمهور العلماء إلى أنها سنة مؤكدة بل قال بعضهم إنها في قوة الواجب أو قريبة من الواجب وشددوا النكير على من يداوم على تركها،

ولأن الاعتبار في ترك الجماعة دائما إنما هو من أخلاق المنافقين، وأن توافق الناس على تركها فهو ضلالٌ موجب للإثم، وبعدُ عن مقتضى السنة التي كان عليها سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه الكرام وسلف الأمة.

نسأل الله تعالى أن يوفقنا لطاعته وأن نكون من المحافظين على الصلوات جماعة في المساجد وأن يتقبل منا جميع أعمالنا. اللهم آمين.

تعريف صلاة الجماعة

قال الإمام محمد أمين كردي في كتابه تنوير القلوب:

هي ربط صلاة المأموم بصلاة الإمام اهـ . (أي أن المأموم يقيد صلاته بصلاة الإمام).

وجاء في كتاب فتح العلام للإمام الجرداني:

وهي من خصائص هذه الأمة فإن أول من صلى جماعة من البشر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأول فعلها كان بمكة، وإظهارها كان بالمدينة كما أفاده الشرقاوي وعبارته:

مكث النبي صلى الله عليه وسلم ثلاث عشرة سنة مدة مقامة بمكة يصلي غير الخمس، وهو ركعتان بالغداة، وركعتان بالعشي، والخمس بعد فرضها، بغير جماعة، لأن الصحابة رضي الله عنهم كانوا مقهورين يصلون في بيوتهم، فلما هاجر صلى الله عليه وسلم إلى المدينة أقام الجماعة وواظب عليها. اهـ.

حكمة مشروعية صلاة الجماعة

قال الإمام الجرداني في كتابه فتح العلام:

1 – وحكمة مشروعيتها: حصول الألفة بين المصلين ولذا شرعت المساجد في المحال، (أي المناطق السكنية) ليحصل التعاهد باللقاء في أوقات الصلوات بين الجيران.

2 – ولأنه قد يعلم الجاهل من العالم ما يجهله من أحكام.

3 – ولأن مراتب الناس متفاوتة في العبادة فتعود بركة الكامل على الناقص فتكمل صلاة الجميع.

4 – ولأن المذنب إذا اعتذر إلى سيده يجمع الشفعاء ليقبله، والمصلي معتذر، فأتى بالشفعاء لتقضي حاجته.

5 – ولأن الصلاة ضيافة ومائدة بر، والكريم لا يضع مائدته إلا لجماعة اهـ.

فضل صلاة الجماعة

من فضل الله تعالى على عباده أنه جعل الثواب الجزيل على أداء الصلاة في الجماعة، ويبدأ هذا الثواب من تعلق القلب في المسجد، فالمشي إليه لأداء الصلاة فيه مع الجماعة حتى يفرغ العبد من الصلاة ولا يتوقف الثواب عند هذا بل يستمر حتى يصل المصلي إلى بيته. (كتاب أهمية صلاة الجماعة. د. فضل إلهي).

«عن سلمان رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من توضأ في بيته فأحسن الوضوء ثم أتى المسجد فهو زائر الله، وحق على المزور أن يكرم الزائر» رواه الطبراني.

«وعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من صلى لله أربعين يوما في جماعة يدرك التكبيرة الأولى كتب له براءتان: براءة من النار وبراءة النفاق». رواه الترمذي.

جاء في كتاب تحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي للإمام المباركفوري:

قال الطيبي (تعليقا على الحديث السابق):

أي يؤمِّنه في الدنيا أن يعمل عمل المنافق، ويوفقه لعمل أهل الإخلاص، وفي الآخرة يؤمِّنه مما يعذب به المنافق، ويشهد له بأنه غير منافق يعني بأن المنافقين إذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى وحال هذا بخلافهم. اهـ.

وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن الله ليعجب من الصلاة في الجميع. رواه أحمد.

وعن ابن عمر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: صلاة الجماعة أفضل من صلاة الفذ بسبع وعشرين درجة. متفق عليه. (الفذ: أي المنفرد).

وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

«صلاة الرجل في جماعة تضعف على صلاته في بيته وفي سوقه خمسا وعشرين ضعفا وذلك أنه إذا توضأ فأحسن الوضوء، ثم خرج إلى المسجد، لا يخرجه إلا الصلاة لم يخط خطوة إلا رفعت له بها درجة، وحطت عنه بها خطيئة، فإذا صلى لم تزل الملائكة تصلي عليه مادام في مصلاه، ما لم يحدث، تقول: اللهم صل عليه، اللهم ارحمه، ولا يزال في صلاة ما انتظر الصلاة».

متفق عليه وهذا لفظ البخاري.

وهذا أجر عظيم تفضل به رب العزة على عباده، والجمع بين الروايتين:

أن الله تعالى أخبره بالخمس والعشرين ثم أخبره بزيادة الفضل فأخبر بها. أو أن الفضل يختلف باختلاف أحوال المصلين فمن زاد خشوعه وتدبره، وتذكر عظمة من تمثل في حضرته فله سبع وعشرون، ومن ليست له هذه الهيئة له خمس وعشرون، أو أن ذلك يختلف بقرب المسجد وبعده، أو أن رواية السبع والعشرين في الصلاة الجهرية والثانية في السرية لأنها تنقص عن الجهرية بسماع قراءة الإمام والتأمين بتأمينه. (ذكره الإمام الجرداني في فتح العلام).

حرص السلف الصالح على صلاة الجماعة

جاء في كتاب فتح العلام للإمام الجرداني:

وقد كان السلف الصالح رضوان الله تعالى عليهم يعدون فوات صلاة الجماعة مصيبة.

وقد وقع أن بعضهم خرج إلى حائط له أي حديقة نخل فرجع وقد صلى الناس صلاة العصر، فقال: إنا لله فاتتني صلاة الجماعة أشهدكم عليه، أن حائطي على المساكين صدقة.

وفاتت عبد الله بن عمرو رضي الله تعالى عنهما صلاة العشاء في الجماعة فصلى تلك الليلة حتى طلع الفجر جبراً لما فاته من صلاة العشاء في الجماعة.

وعن عبيد الله بن عمر القواريري رحمه الله تعالى، قال:

لم تكن تفوتني صلاة في الجماعة، فنزل بي ضيق فشغلت بسببه عن صلاة العشاء في المسجد، فخرجت أطلب المسجد لأصلي فيه مع الناس، فإذا المساجد كلها قد صلى أهلها، فرجعت إلى بيتي وأنا حزين على فوات صلاة الجماعة، فقلت:

ورد في الحديث: أن صلاة الجماعة تزيد على صلاة الفذ سبعا وعشرين فصليت العشاء سبعا وعشرين مرة، ثم نمت، فرأيتني في المنام على فرس، مع قوم على خيل، وهم أمامي، وأنا أركض فرسي خلفهم فلا ألحقهم فالتفت إلي واحد منهم، وقال: لا تتعب فرسك فلست تلحقنا فقلت: ولم يا أخي؟ قال: لأننا صلينا العشاء في جماعة، وأنت صليت وحدك فاستيقظت وأنا مهموم حزين» اهـ.

وقال الإمام محمد أمين كردي في كتابه تنوير القلوب:

وكان السلف الصالح يعزُّون أنفسهم ثلاثة أيام إذا فاتتهم التكبيرة الأولى، وسبعة إذا فاتتهم الجماعة بقولهم: ليس المصاب من فقد الأحباب إنما المصاب من حُرم الثواب. اهـ.

حكم صلاة الجماعة

اختلف العلماء في حكم صلاة الجماعة: قال الإمام ابن رشد في كتابه بداية المجتهد ونهاية المقتصد: والسبب في اختلافهم تعارض مفهومات الآثار في ذلك. اهـ.

وحاصل اختلافهم ثلاثة أقوال:

ذهب الجمهور إلى أنها سنة مؤكدة.

وذهب الشافعية إلى أنها فرض كفاية.

وذكر الحنابلة وأهل الظاهر إلى أنها فرض عين.

مذهب الجمهور:

ذهب جمهور العلماء من الحنفية والمالكية إلى أنها سنة مؤكدة.

قال الإمام المرغيناني في كتابه الهداية – وهو عمدة الفتوى عند الحنفية:

الجماعة سنة مؤكدة لقوله عليه الصلاة والسلام: الجماعة سنة من سنن الهدى لا يتخلف عنها إلا منافق، (والمراد بالمنافق العاصي ذكره الإمام محمد بن محمود الحنفي).

وقال الإمام ابن الهمام في كتابه فتح القدير:

الجماعة سنة، وما زاد على الواحد جماعة في غير الجمعة عن محمد رحمه الله (يقصد الإمام محمد بن الحسن رحمه الله تعالى).

وقال الإمام الحصكفي الحنفي في كتابه الدر المختار شرخ تنوير الأبصار:

«والجماعة سنة مؤكدة للرجال».

وقال الإمام خليل في مختصره المشهور في فقه الإمام مالك رحمه الله تعالى:

الجماعة – بفرض غير جمعة – سنة. وزاد الإمام أحمد الدردير في شرحه للمختصر: سنة مؤكدة.

وعلق الإمام الدسوقي في حاشيته على الشرح المذكور:

وقال الإمام أحمد وأبو ثور وداود الظاهري وجماعة من المجتهدين بوجوبها، فتحرم صلاة الشخص منفردا عندهم بل قال بعض الظاهرية بالبطلان فليحافظ عليها. اهـ.

قال الإمام الحطاب في كتابه مواهب الجليل على مختصر خليل:

إن حكم صلاة الجماعة سنة، وهذا الذي عليه أكثر الشيوخ. وكثيرهم يقول سنة مؤكدة. اهـ.

وجاء في كتاب البناية شرح الهداية للإمام العيني الحنفي:

قال أبو يوسف: سألت أبا حنيفة عن الجماعة في طين، فقال: لا أحب تركها. والصحيح أنها تسقط بعذر المطر والطين. وإن فاتته الجماعة جمع بأهله وصلى بهم، وإن صلى وحده جاز،

وفي صلاة الجلابي (اسم كتاب): إذا كان مطر وبرد شديد أو ظلة أو خوف فذلك كله يمنع لزوم الجماعة. اهـ.

وجاء في كتاب الفقه الإسلامي وأدلته للشيخ الدكتور وهبة الزحيلي:

قال الحنفية والمالكية: الجماعة في الفرائض غير الجمعة سنة مؤكدة، للرجال العاقلين القادرين عليها من غير حرج، فلا تجب على النساء والصبيان والمجانين والعبيد والمريض والشيخ الهرم. اهـ.

واستدل الجمهور على سنية صلاة الجماعة بما ذكره الإمام الزيلعي في كتابه نصب الراية:

قال صلى الله عليه وسلم: «الجماعة من سنن الهدي لا يتخلف عنها إلا منافق».

قال العيني في البناية: هذا من قول ابن مسعود رضي الله عنه ورفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم غير صحيح. اهـ.

ثم قال الإمام الزيلعي: أخرج مسلم عن أبي الأحوص قال: قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: لقد رأيتنا وما يتخلف عن الصلاة إلا منافق، قد علم نفاقه، أو مريض، إن كان المريض ليمشي بين رجلين حتى يأتي الصلاة، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم علمنا سنن الهدى، وأن من سنن الهدى الصلاة في المسجد الذي يؤذن فيه اهـ.

وأخرج مسلم عن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه قال: من سره أن يلقى الله غدا مسلما فليحافظ على هؤلاء الصلوات حيث ينادي بهن، فإن الله شرح لنبيكم سنن الهدى، وإنهن من سنن الهدى، ولو أنكم صليتم في بيوتكم كما يصلي هذا المتخلف في بيته لتركتم سنة نبيكم، ولو تركتم سنة نبيكم لضللتم، وما من رجل يتطهر فيحسن الطهور ثم يعمد إلى مسجد من هذه المساجد إلا كتب الله له بكل خطوة يخطوها حسنة، ويرفعه بها درجة، ويحط عنه بها سيئة، ولقد رأيتنا وما يتخلف عنها إلا منافق معلوم النفاق، ولقد كان الرجل يؤتي به يهادي بين الرجلين حتى يقام في الصف اهـ.

وأخرج البخاري ومسلم عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لقد هممت أن آمر بالمؤذن فيؤذن ثم آمر رجلا، فيصلي بالناس، ثم انطلق معي برجال معهم حزم الحطب، إلى قوم يتخلفون عن الصلاة، فأحرق عليهم بيوتهم بالنار اهـ.

وأخرج مسلم عن ابن مسعود نحوه، إلا أنه قال: يتخلفون عن الجمعة، قال البيهقي: والذي يدل عليه سائر الروايات أنه عبَّرَ بالجمعة عن الجماعة.

قال النووي في الخلاصة: بل هما روايتان: رواية في الجمعة. ورواية في الجماعة. وكلاهما صحيح، اهـ.

وأخرج مسلم عن أبي هريرة قال: أتى النبي صلى الله عليه وسلم رجل أعمى، فقال: يا رسول الله ليس لي قائد يقودني إلى المسجد، فرخص له عليه السلام أن يصلي في بيته، فلما ولى دعاه، فقال له: هل تسمع النداء بالصلاة؟ قال: نعم. قال: فأجبْه» اهـ.

وأخرج أبو داود وابن ماجه عن عاصم عن أبي رزين عن عمرو بن أم مكتوم، قال: جئت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله أنا ضرير شاسع الدار، ولي قائد لا يلائمني، فهل تجد لي رخصة أن أصلي في بيتي؟ قال: أتسمع النداء؟ قلت: نعم. قال: ما أجد لك رخصة» اهـ.

قال محقق نصب الراية الشيخ محمد يوسف بن محمد زكريا البنوري رحمه الله (أحد علماء الهند): وفي نسخة عبد الله (أي بدل عمرو).

وأخرج أبو داود والنسائي عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن ابن أم مكتوم، أنه قال: يا رسول الله إن المدينة كثيرة الهوام والسباع، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «تسمع حي على الصلاة، حي على الفلاح؟ قال: نعم. قال: فَحَيّ هَلا»اهـ.

ورواه الحاكم في المستدرك وصححه، قال النسائي: وقد رواه بعضهم عن ابن أبي ليلى مرسلا اهـ.

قال البيهقي: معناه لا أجد لك رخصة تحصل لك فضيلة الجماعة من غير حضورها، وليس معناه إيجاب الحضور على الأعمى، فقد رخص لعتبان بن مالك، اهـ. من نصب الراية.

وأما حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: صلاة الجماعة أفضل من صلاة الفرد بسبع وعشرين درجة. متفق عليه.

وحديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: صلاة الرجل في جماعة تضعف على صلاته في بيته وفي سوقه خمسا وعشرين ضعفا، وذلك إذا توضأ فأحسن الوضوء، ثم خرج إلى المسجد، لا يخرجه إلا الصلاة، لم يخط خطوة إلا رفعت له بها درجة، وحطت عنه بها خطيئة، فإذا صلى لم تزل الملائكة تصلي عليه مادام في مصلاه، ما لم يُحْدِثْ، تقول: اللهم صل عليه، اللهم ارحمه، ولا يزال في صلاة ما انتظر الصلاة.

متفق عليه وهذا لفظ البخاري.

فقد جاء في كتاب الاستذكار للإمام ابن عبد البر المالكي:

وفي هذا الحديث من رواية ابن عمر وأبي هريرة دليل على جواز صلاة الفَذِّ وحده وإن كانت الجماعة أفضل، وإذا جازت صلاة الفذ وحده بَطَل أن يكون شهود صلاة الجماعة فرضا، لأنه لو كانت فرضا لم تجز للفَّذ صلاته وهو قادر على الجماعة تارك لها، كما أن الفَّذ لا يجزئه يوم الجمعة أن يصلي قبل الإمام ظهرا إذا كان ممن تجب عليه الجمعة. اهـ.

وقال الإمام ابن رشد في كتابه بداية المجتهد ونهاية المقتصد:

إن ظاهر قوله عليه الصلاة والسلام: صلاة الجماعة تفضل صلاة الفرد بخمس وعشرين درجة أو بسبع وعشرين درجة، يعني أن الصلاة في الجماعات من جنس المندوب إليه، وكأنها كمال زائد على الصلاة.

والكمال إنما شيء زائد على الإجزاء. اهـ

وذهب بعض الأئمة الحنفية إلى أنها سنة في قوة الواجب. قال الإمام الحصكفي في الدر المختار: والجماعة سنة مؤكدة للرجال. قال الزاهدي: أرادوا بالتأكيد الوجوب، إلا في جمعة وعيد فشرط. اهـ

وعلَّقَ ابن عابدين في حاشيته رد المحتار على قول الزاهدي فقال:

التوفيق بين القول بالسنية والقول بالوجوب وبيان أن المراد بهما واحد أخذا من استدلالهم بالأخبار الواردة بالوعيد الشديد بترك الجماعة، وفي النهر المفيد: الجماعة واجبة وسنة لوجوبها بالسنة اهـ.

وهذا كجوابهم عن رواية سنية الوتر بأن وجوبها ثبت بالسنة (فكأن صاحب هذا القول يذهب إلى وجوبها).

ثم قال الإمام ابن عابدين:

وقد يًوَفَّقُ بأن ذلك مقيد بالمداومة على الترك كما هو ظاهر قوله صلى الله عليه وسلم: «لا يشهدون الصلاة» وفي الحديث الآخر: «يصلون في بيوتهم». كما يعطيه ظاهر إسناد المضارع نحو: بنو فلان يأكلون البُر أي عادتهم اهـ.

وجاء في كتاب البناية شرح الهداية للإمام العيني:

قال الاترازي: (تعليقا على قول صاحب الهداية الجماعة سنة مؤكدة) يعني سنة في قوة الواجب وهي التي يسميها الفقهاء سنة الهدى، وهي التي أَخْذُها هدى وتَرْكُها ضلال، وتاركها يستوجب إساءة وكراهية.

وقال صاحب الدراية: تشبه الواجب في القوة.

وذهب الإمام الكاساني الحنفي في كتابه بدائع الصنائع إلى أنها واجبة، ونقل ذلك عن مشايخ الحنفية اهـ.

مذهب الشافعية

وذهب الشافعية إلى أنها فرض كفاية إذا فعله البعض سقط الإثم عن الباقي، وإذا لم يفعله أحد أثم الجميع.

قال الإمام النووي في كتابه الروضة:

فالجماعة فرض عين في الجمعة وأما في غيرها من المكتوبات ففيها أوجه:

لأصح أنها فرض كفاية

والثاني: سنة

والثالث: فرض عين.

فهذه ثلاثة أقوال للشافعية في هذه المسألة الأصح منها والمعتمد أنها فرض كفاية إذا فعله بعض الرجال سقط الإثم عن الباقين.

قال شيخ الإسلام زكريا الأنصاري في كتابه منهج الطلاب:

صلاة الجماعة فرض كفاية لرجال أحرار مقيمين لا عراة في أداء مكتوبة لا جمعة، بحيث يظهر شعارها بمحل إقامتها فإن امتَنَعوا قُوتلوا.

قال ابن المقري في الإرشاد:

ظهور الجماعة في أداء مكتوبة لأحرار مقيمين فرض كفاية لقوله صلى الله عليه وسلم: «ما من ثلاثة في قرية ولا بدو لا تقام فيهم الصلاة إلا استحوذ عليهم الشيطان».

(رواه أبو داود بإسناذ حسن) استحوذ: أي غَلَبَ.

وعلق ابن حجر الهيتمي في كتابه فتح الجواد بشرح الإرشاد:

وليست (أي صلاة الجماعة) فرض عين، وإلا لم يفاضل صلى الله عليه وسلم بينها وبين صلاة المنفرد.

قال الإمام النووي في المجموع، قال المصنف رحمه الله (الإمام ابو اسحاق الشيرازي):

اختلف أصحابنا في الجماعة فقال أبو العباس وأبو إسحاق:

هي فرض كفاية يجب إظهارها في الناس فإن امتنعوا من إظهارها قُوتلوا عليها وهو المنصوص في الإمامة والدليل عليه ما روى أبو الدرداء رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ما من ثلاثة في قرية ولا بدو لا تقام فيهم الصلاة إلا قد استحوذ عليهم الشيطان،عليك بالجماعة، فإنما يأخذ الذئب من الغنم القاصية».

واحتج أصحابنا والجمهور على أنها ليست بفرض عين بقوله صلى الله عليه وسلم:

«صلاة الجماعة أفضل من صلاة الفذ بسبع وعشرين درجة» رواه مسلم من رواية ابن عمر (رضي الله عنهما)، ورواه البخاري أيضا من رواية أبي سعيد، قالوا:

ووجه الدلالة أن المفاضلة إنما تكون حقيقتها بين فاضلين جائزين، والجواب: عن حديث الهَمِّ بتحريق بيوتهم من وجهين:

أحدهما: جواب الشافعي وغيره أن هذا ورد في قوم منافقين يتخلفون عن الجماعة ولا يصلون فرادي. وسياق الحديث يؤيد هذا التأويل وقوله في حديث ابن مسعود «رأيتنا وما يتخلف عنها إلا منافق» صريح في هذا التأويل.

والثاني: أنه صلى الله عليه وسلم قال: «لقد همَمْتُ» ولم يحرقهم ولو كان واجبا لما تركه، فإن قيل لو لم يجز التحريق لما هم به، قلنا، لعله هم به بالاجتهاد ثم نزل وحيٌ بالمنع، أو تَغَيُّرِ الاجتهاد، وهذا تفريع على الصحيح في جواز الاجتهاد له صلى الله عليه وسلم.

وأما حديث ابن مسعود فليس فيه تصريح بأنها فرض عين وإنما فيه بيان فضلها وكثرة محافظته عليها.

وأما حديث الأعمى فجوابه ما أجاب به الأئمة الحفاظ الفقهاء أبو بكر محمد بن إسحاق بن خزيمة والحاكم أبو عبدالله والبيهقي قالوا:

لا دلالة فيه لكونها فرض عين، لأن النبي صلى الله عليه وسلم رَخَّصَ لعتَّاب حين شكا بصرَه أن يصلي في بيته، وحديثه في الصحيحين قالوا: وإنما معناه لا رخصة لك تلحقك بفضيلة من حضرها.

وأما حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من سمع المنادي فلم يمنعه من اتباعه عُذْرُ- قالوا: وما العذر؟ قال: خوف أو مرض – لم تقبلْ منه الصلاة التي صلى. فقد رواه أبو داود بإسناد ضعيف.

وحديث جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد.

وحديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله. رواهما الدارقطني.

قال الإمام النووي: الحديثان ضعيفان.

واحتج أصحابنا في كونها فرض كفاية وارداً على من قال إنها ليست سنة بحديث مالك بن الحويرث قال:

أتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن شببة متقاربون فأقمنا عنده عشرين ليلة وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم رحيما رفيقا، فظنَّ أنَّا اشتقنا أهلنا، فسألنا عن من تركنا من أهلنا فأخبرناه فقال: ارجعوا إلى أهليكم فأقيموا فيهم، وعلموهم، ومروهم فإذا حضرت الصلاة فليؤذن لكم أحدكم ثم ليؤمكم أكبركم» رواه البخاري ومسلم.

وبحديث أبي الدرداء السابق «ما من ثلاثة في قرية ولا بدو» الحديث والله أعلم. اهـ

مذهب الحنابلة

وذهب الحنابلة إلى أن صلاة الجماعة فرض على الرجال.

جاء في كتاب الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف على مذهب الإمام أحمد بن حنبل للإمام المرداوي.

باب صلاة الجماعة: قوله: وهي واجبة للصلوات الخمس على الرجال لا بشرط، هذا المذهب بلا ريب وعليه جماهير الأصحاب، وقطع به كثير منهم.

معنى قوله لا بشرط ،أي أن الجماعة واجبة على الرجال، ولكنها ليست شرطا في صحتها فإذا صلاَّها منفردا صحت منه مع الإثم، بخلاف قول الظاهرية الذين جعلوها شرطا لصحة الصلاة اهـ.

وجاء في كتاب الإقناع للإمام أبي النجا المقدسي الصالحي:

وهي واجبة وجوب عين لا وجوب كفاية، فيُقاتل تاركها. وعلَّق الإمام البهوتي في كتابه كشاف القناع عن متن الإقناع:

وهي واجبة أي: الجماعة واجبة وجوب عين لقوله تعالى: {وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة فلتقم طائفة منهم معك} فأمر بالجماعة حال الخوف.

وجاء في دليل الطالب لنيل المطالب للشيخ مرعي الكرخي:

تجب على الرجال الأحرار القادرين حضرا وسفرا. وجاء في الروض المربع للإمام البهوتي: تلزم الرجال الأحرار القادرين ولو سفراً في شدة خوف للصلوات الخمس المؤداة وجوب عين قوله تعالى: {وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلوة فتلقم طائفة منهم معك} سورة النساء.

وجاء في كتاب الفروع لابن مفلح الحنبلي:

باب صلاة الجماعة: وهي واجبة نص عليه، فلو صلى منفردا لم ينقص أجره مع العذر وبدونه في صلاته فضل.

وذكر الشيخ إبراهيم بن ضويان الحنبلي في كتابه منار السبيل في شرح الدليل:

باب صلاة الجماعة:

تجب على الرجال الأحرار القادرين حضرا وسفرا لقوله تعالى: {وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلوة فلتقم طائفة منهم معك}

والأمر للوجوب وإذا كان ذلك مع الخوف، فمع الأمن أولى، ولحديث أبي هريرة مرفوعا «أثقل الصلاة على المنافقين صلاة العشاء، وصلاة الفجر، ولو يعلمون ما فيهما لأتوهما ولو حبوا، ولقد هممت أن آمر بالصلاة فتقام، ثم آمر رجلا يصلي بالناس، ثم انطلق معي برجال معهم حزم من حطب إلى قوم لا يشهدون الصلاة، فأحرق عليهم بيوتهم بالنار». متفق عليه.

ولمَّا استأذنه أعمى لا قائد له أن يرخص له أن يصلي في بيته قال: هل تسمع النداء، فقال: نعم، قال: فأجب» رواه مسلم.

وعن ابن مسعود قال: لقد رأيتنا وما يتخلف عنها إلا منافق معلوم النفاق. رواه مسلم وغيره.

ذكر ابن قدامة المقدسي الحنبلي في كتابه المغني:

باب الإمامة:

الجماعة واجبة للصلوات الخمس، روى نحو ذلك عن ابن مسعود وأبي موسى وبه قال عطاء والأوزاعي وأبو ثور، ولم يوجبها مالك والثوري وأبو حنيفة والشافعي لقول النبي صلى الله عليه وسلم «تفضل صلاة الجماعة على صلاة الفذ بخمس وعشرين درجة» متفق عليه،

ولأن النبي صلى الله عليه وسلم لم ينكر على الذين قالا: صلينا في رحالنا، ولو كانت واجبة لأنكر عليهما ولأنها لو كانت واجبة في الصلاة لكانت شرطا لها كالجمعة.

ولنا (أي دليلنا) قوله تعالى {وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلوة} الآية، ولو لم تكن واجبة لرخَّص فيها حالة الخوف ولم يجز الإخلال بواجبات الصلاة من أجلها.

وروى أبو هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: والذي نفسي بيده لقد هممت أن آمر بحطب ليحتطب ثم آمر بالصلاة فيؤذن لها ثم آمر رجلا فيؤم الناس ثم أخالف إلى رجال لا يشهدون الصلاة فأحرق عليهم بيوتهم» متفق عليه.

وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: أتى النبي رجل أعمى فقال: يا رسول الله ليس لي قائد يقودني إلى المسجد، فسأله أن يرخص له أن يصلي في بيته فرخص له فلما ولى دعاه فقال: تسمع النداء بالصلاة؟ قال نعم، قال: فأجب» رواه مسلم.

وإذا لم يرخص للأعمى الذي لم يجد قائدا فغيره أولى.

وعن ابن عباس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

من سمع المنادي فلم يمنعه من اتباعه عذر قالوا وما العذر؟ قال خوف أو مرض – لم تقبل منه الصلاة التي صلى. أخرجه أبو داود

وروى أبو الدرداء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ما من ثلاثة في قرية أو بلد لا تقام فيهم الصلاة إلا استحوذ عليهم الشيطان فعليك بالجماعة فإن الذئب يأكل القاصية».

أخرجه أبو داود.

الخاتمة

وبعد،،،

فهذه أقوال الأئمة في صلاة الجماعة وهي تتراوح بين أن تكون فرض عين على كل مسلم يأثم تاركها بل زاد بعضهم أنها شرط لصحة الصلاة أي لا تصح الصلاة إلا جماعة، وبين أن تكون فرض كفاية إذا فعله البعض سقط الإثم عن الآخرين، وبين أن تكون سنة مؤكدة وهو قول الجمهور، بل قال بعض الجمهور إنها سنة في قوة الواجب (أي قريبة من الواجب).

وإذا أخذنا بقول الجمهور إنها سنة مؤكدة فإنهم شددوا النكير على التهاون فيها (وكما قلنا إن بعضهم عدَّها في قوة الواجب).

أما المداوم على تركها فلا شك بلحوق الإثم به لأن فرَّطَ في السنن المؤكدة.

جاء في كتاب تحفة الاخيار بإحياء سنة سيد الأبرار للإمام عبد الحي اللكنوي رحمه الله تعالى:

قال في التلويح:

ترك الواجب حرام يستحق به العقوبة بالنار، وترك السنة المؤكدة قريب من الحرام يستحق حرمان الشفاعة.

قال الشيخ عبد الفتاح أبو غدة رحمه الله تعالى، تعليقاً على الكلام السابق (ذكرناه بتصرف بسيط)، يستحق حرمان الشفاعة بسبب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: من رغب عن سنتي فليس مني». رواه البخاري ومسلم. اهـ.

وفي التحقيق قال شمس الأئمة: حكم السنة هو الإتباع، فقد ثبت في الدليل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم متبع فيما سلك من طريق الدين وكذا الصحابة من بعده.

وقال بعض الأئمة: تارك السنة آثم.

وقال أبو اليسر تعليقا على الكلام السابق: يذم عليه مع لحوق إثم يسير.

(أي يذم على ترك السنة، وكلامهم هذا في غير المداوم على تركها فإن إثمه أكبر).

وقال محمد (أي ابن الحسن) في المصرين على ترك السنة: إنهم يقابلون بالقتال.

وقال أبو يوسف (أي القاضي) تعليقا على كلام محمد بن الحسن السابق: بالتأديب ولا يكفر بإنكار سنة من السنن.

وعن محمد (أي ابن الحسن): لو أن أهل بلدة تركوا الأذان، أو سنة من السنن يقاتلون، وأن واحدا ضربته وحبسته.

قال الإمام اللكنوي: قلت:

الحاصل أن ترك السنة على سبيل الاستخفاف والاستهزاء بها وإن كانت من الزوائد كفر، وتركها عملاً لا على سبيل الاستخفاف مكروه تحريما، يوجب إثماَ وعتاباَ إذا كانت مؤكدة، سواء أكانت سنة الرسول أو سنة الصحابة. اهـ

هذه أقوالهم في تارك السنة المؤكدة على وجه العموم، فكيف بصلاة الجماعة التي اختلفوا في الحكم عليها هل هي فرض أم سنة، وعلى فرض سُنُِّيتها فإن بعضهم عدَّها في قوة الواجب أي قريبة منه.

ومن ثم فينبغي على المسلم أن يحرص عليها ولا يتهاون فيها ولا يتركها إلا لعذر.

ختاما:

نذكرك أخي القارئ بما رواه الإمام مسلم عن الصحابي الجليل عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال:

من سره أن يلقى الله غدا مسلما فليحافظ على هؤلاء الصلوات حيث ينادي بهن. فإن الله شرع لنبيكم سنن الهدي. وإنهن من سنن الهدى، ولو أنكم صليتم في بيوتكم كما يصلي هذا المتخلف في بيته لتركتم سنة نبيكم، ولو تركتم سنة نبيكم لضللتم، وما من رجل يتطهر فيحسن الطهور ثم يعمد إلى مسجد من هذه المساجد. إلا كتب الله له بكل خطوة يخطوها حسنة، ويرفعه بها درجة، ويحط عنه بها سيئة، ولقد رأيتنا وما يتخلف عنها لا منافق معلوم النفاق، ولقد كان الرجل يؤتي به يهادي بين الرجلين حتى يقام في الصف. اهـ

فتدبر أخي المسلم هذه الوصية وتذكر أنه، لا يصلح آخر هذا الأمة إلا بما صلح عليه أولها.

وهذا هو حال أولها في أهم ركن من أركان الإسلام ألا وهو الصلاة.

نسأل الله لنا ولكم التوفيق والسداد والعفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة.

وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.