الاعتدال في تقويم الرجال (ابن تيمية نموذجا)
الاعتدال في تقويم الرجال (ابن تيمية نموذجا)
(1)
شيخ الإسلام (تقي الدين ابن تيمية) شخصية عظيمة ، ظُلم من محبيه ومناوئيه ، حين حصره الفريقان فى دائرة ضيقة من قضايا العقيدة (الأسماء والصفات) ، والنظر إليه من خلالها دون سواها ، وكل ما ينسب إليه مما يدور حوله الجدل يعد من قبيل ما يصح فيه الاجتهاد ، وهو قد بلغ تلك الرتبة يقينا !
يقول الإمام عبد الوهاب السبكي ابن شيخ الاسلام تقي الدين: (( وأما الحافظ أبو الحجاج المزي فلم يكتب بخطه لفظة شيخ الإسلام إلا له _أي والده شيخ الإسلام السبكي_ وللشيخ تقي الدين ابن تيمية ، وللشيخ شمس الدين ابن أبي عمر ))(1) أ.هـ.
والإمام بدر الدين العيني الحنفي الأشعري يقول في الثناء عليه (( العالم العلامة، الأوحد الرحلة، شيخ الإسلام، علم العلماء، قامع المبتدعة اللئام، فارس الأحكام بالإحكام ))(2) أ.ه.
(2)
كان المشروع التيمي يقوم على إعادة تأسيس علوم الإسلام جميعا ، وإخراجها من دائرة العقلية اليونانية التى كان يراها غريبة عن الروح العربية التي نزل بها القرآن..
وفي هذا الإطار ألف في نقض المنطق ، وقدم في ذلك إبداعا أصيلا عرض بعض جوانبه الدكتور النشار فى كتابه الرائع (مناهج البحث عند مفكري الإسلام)
ودخل دهاليز الفلسفة بتلك الروح فقبل ورد ، ونقد وفند وأحسن وانتُقد.
وقدم فى علم الكلام نقدا لما رآه دخيلا ، ولما رآه عودة إلى منهج السلف ، وعارضه كبار الأشاعرة في بعض ما قدم ، واتهمه بعضهم بالتجسيم ، وهو عنه بعيد ، وقد قال لي أحد شيوخنا(3) _ وهو ليس تيمي الهوى_ :
(( ابن تيمية شيخ الإسلام شئنا أو أبينا ، وكل ما ينسب إلى ابن تيمية إنما هو من قبيل اللوازم ))!
وفي الفقه: بالرغم من كونه حنبليا فقد قدم اجتهادات وافقه عليها بعض الحنابلة وعارضه آخرون.
وفي أصول التفسير: كتب أحسن ما يكون مما غيره فيه عالة عليه .
وكل كتاباته كانت تُستمد من منهجه الذي يتغيا إعادة التأسيس ، بروح نقدية لا تخلو من جرأة ، وما أحسن ما قاله الشيخ محمد أبو زهرة ، حين قال :
(( وما كانت آراؤه العلمية إلا دواء لأسقام عصره ، ولو فتشت عن البواعث التى بعثت ذلك العالم التقى على المجاهرة بآراء معينة لوجدت أن الذى بعث على هذه المجاهرة عيب فى الزمان : فى الفكر ، أو فى العمل ، أو فيها معًا)) (4)
(3)
ومع ذلك فحصر الإسلام في شخصه بحيث تكون اجتهاداته هي الإسلام أو هي الحق الذى لا باطل ورائه أو هي الصواب الذى لا خطأ فيه أو معه = تعصب مقيت ، لا يليق بمن يزعم محبته أو الانتماء إليه ؛ لأنه هو نفسه لم يفعل ذلك مع شيوخ عصره الذين عارضوه في تلك الاجتهادات ، وفيهم من هم أرسخ من الجبال الرواسي علما وعملا؛ فتعظيم ابن تيمية لعلماء عصره معلوم ، وكان تعظيمه لشيخ الإسلام تقي الدين السبكي إمام الدنيا في عصره أشد ، كما حكاه ابنه إذ يقول :
(( وصح من طرق شتى عن الشيخ تقي الدين بن تيمية أنه كان لا يعظم أحدا من أهل العصر كتعظيمه له _أي والده_ وأنه كان كثير الثناء على تصنيفه في الرد عليه ، وفي كتاب ابن تيمية الذي ألفه في الرد على الشيخ الإمام في رده عليه في مسألة الطلاق ، [قال]: لقد برز هذا على أقرانه ، وهذا الرد الذي لابن تيمية على الوالد لم يقف عليه ولكن سمع به وأنا وقفت منه على مجلد ))(5) أ.هـ.
والشيخ الإمام تقى الدين السبكي قد (( رد على الشيخ أبي العباس ابن تيمية في مسألتي الطلاق والزيارة ))(6)
والإمام العلامة المناظر محمد بن علي قاضي القضاة كمال الدين بن الزملكاني مع ثنائه المعلوم على ابن تيمية في غير موضع (( صنف الرد على ابن تيمية في مسألتي الطلاق والزيارة )) (7)
وأما إمام الأصوليين في زمانه على بن محمد علاء الدين الباجي والذي أخذ عنه الإمام تقى الدين السبكي الأصلين : أصول الدين وأصول الفقه ، والذي وصفه صاحب الطبقات بأنه : (( أعلم أهل الأرض بمذهب الأشعري في علم الكلام ، وكان هو بالقاهرة ، والهندي بالشام القائمين بنصرة الأشعري ))(8) فقد قال عن علاقة ابن تيمية به: (( كان إليه مرجع المشكلات ومجالس المناظرات ولما رآه ابن تيمية عظمه ولم يجر بين يديه بلفظة فأخذ الشيخ علاء الدين يقول : تكلم نبحث معك، وابن تيمية يقول : مثلي لا يتكلم بين يديك ، أنا وظيفتي الاستفادة منك ))(9) أ. هـ.
فرضي الله عن الجميع ، وألهمنا الرشاد والسداد .. ورزقنا وإياكم حسن الخلق وجميل الأدب..!!
=== الهوامش ===
(1) طبقات الشافعية الكبري : 10/195
(2) العلم الهيب في شرح الكلم الطيب، ص 33
(3) هو الأستاذ الدكتور محمد سالم أبو عاصي أستاذ التفسير وعلوم القرآن بجامعة الأزهر ، وكان مشرفا على الفقير فى أطروحة التخصص/الماجستير
(4) ابن تيمية لأبى زهرة ص102 ، وتاريخ المذاهب الإسلامية ، له ، ص636
(5) طبقات الشافعية: 10/ 194 ، 195
(6) طبقات الشافعية: 10 / 167
(7) طبقات الشافعية: 9 / 191
(8) طبقات الشافعية : 10 / 340
(9) طبقات الشافعية: 10 / 342