الصفحة الرئيسية » مقالات » دفع الأوهام عن الصلاة على خير الأنام صلى الله عليه وآله وسلم

دفع الأوهام عن الصلاة على خير الأنام صلى الله عليه وآله وسلم

بسم الله الرحمن الرحيم

مقدمة

في فضائل الصلاة والسلام على
الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم

الحمد لله الذي تفضل على هذه الأمة بأفضل أنبيائه صلى الله عليه وسلم، وصلى عليه هو وملائكته إعلاناً بتشريفه واصطفائه، وأمر بذلك المؤمنين ليشكروه على نعمائه، وليعرفوا حق نبيهم الهادي وحسن إبلائه، فقال سبحانه: {إن الله وملائكته يصلون على النبي ياأيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليماً}[الأحزاب/56]، ثم جعل سبحانه صلاتهم عليه باباً واسعاً لكريم عطائه، فلا يصلي عليه أحد من العباد مرة إلا صلى الله عليه بها عشراً، كما روى مسلم برقم عام (408) أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ”من صلى علي واحدة صلى الله عليه عشراً“، بل روى النسائي برقم (1297) قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ”من صلى علي صلاة واحدة صلى الله عليه عشر صلوات، وحطت عنه عشر خطيئات، ورفعت له عشر درجات“([1])، وحسبك بهذا عطاءً، يدر على صاحبه كل خير، ويحط عنه كل ذنب ووزر، ويحوطه بكل حماية ورعاية.

ثم أفضل الصلاة والسلام على الرحمة المهداة سيدنا محمد وآله وصحبه، الذي دل أمته على أنواع الفضل الإلهي النابع من الصلاة عليه، فبين لهم أن الإكثار منها يمحو الذنوب، فلا يبقي لها أثراً، وييسر للمرء كل حاجة يهمه قضاؤها حتى يظل مطمئن النفس بلا هموم، فحين سأله أبي بن كعب: أأجعل لك صلاتي كلها؟([2]) قال: ”إذن تُكفى همك ويغفر ذنبك“ رواه الترمذي برقم (2457) وقال: هذا حديث حسن.

ثم بين صلى الله عليه وسلم أن الصلاة عليه بعد الأذان مع الدعاء له بالوسيلة سبب لنيل شفاعته صلى الله عليه وسلم يوم القيامة، فينجو بها العبد من النار إن كان أصاب ما يدخله فيها، ويرقى في درجات الجنة حسب إكثاره من تلك الصلاة المباركة إن لم يكن من أهل الذنوب، فقد روى الإمام مسلم في صحيحه برقم (384): ”إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول، ثم صلوا علي، فإنه من صلى علي صلاة صلى الله عليه بها عشراً، ثم سلوا الله لي الوسيلة، فإنها منزلة في الجنة لا تنبغي إلا لعبد من عباد الله، وأرجو أن أكون أنا هو، فمن سأل لي الوسيلة حلت له الشفاعة“.

وأما السلام عليه صلى الله عليه وسلم فحسبنا في فضيلته قوله صلى الله عليه وسلم فيما رواه الإمام أحمد عن أبي طلحة^ برقم (16361): ”أتاني ملك فقال: يامحمد إن ربك يقول: أما يرضيك ألا يصلي عليك أحد من أمتك إلا صليت عليه عشراً، ولا يسلم عليك إلا سلمت عليه عشراً“([3])، وقوله صلى الله عليه وسلم: ”ما من أحد يسلم علي إلا رد الله علي روحي حتى أرد عليه السلام“ فيما رواه أبو داود برقم (34)([4]) .

وإذا علمنا أن معنى السلام هو السلامة والأمان علمنا كم هو فضل هذا السلام الذي يفيض علينا من رحمة الله لنا به صلى الله عليه وسلم، ودعائه صلى الله عليه وسلم لنا، وهو عند ربه تبارك وتعالى.

ويظهر من الأحاديث النبوية الكثيرة التي رويت في فضل الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم أنها مفتاح لكل الخيرات، لا سيما الحديث الذي تقدم عن الترمذي، وفيه قوله صلى الله عليه وسلم: ”إذن تُكفى همك ويغفر ذنبك“ وفي رواية الإمام أحمد برقم (21242): ”إذن يكفيك الله ما أهمك من دنياك وآخرتك“.

لذلك حرص الصالحون على الإكثار منها رغبة في ذلك الفضل، واستجابة لقوله صلى الله عليه وسلم فيما رواه الترمذي برقم (484) عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ”أولى الناس بي يوم القيامة أكثرهم علي صلاة“([5]) ، وقال: هذا حديث حسن غريب.

مجالس الذكر والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم

وكان من حرصهم عليها أن جعلوها من أهم الأذكار في مجالس الذكر؛ لأنها كما جاء في كتاب جلاء الأفهام ص (368): (متضمنة لذكر الله وشكره)… و(هي دعاء)، وهذه المجالس هي التي قال فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم: ”إن لله ملائكة سياحين يتتبعون مجالس الذكر، فإذا وجدوها تنادوا أن هلموا إلى حاجتكم، فيحفونهم بأجنحتهم إلى السماء الدنيا، فيسألهم ربهم ـ وهو أعلم بهم ـ كيف تركتم عبادي؟ فيقولون: يارب تركناهم وهم يسبحون ويحمدون ويستغفرون، ويسألونك الجنة، ويعوذون بك من النار، فيقول سبحانه: أشهدكم يا ملائكتي أني قد غفرت لهم“، رواه البخاري برقم (6045) ومسلم برقم (2689).
وليس معنى هذا الحديث أن المغفرة لمن قال هذه الكلمات خصوصاً، بل لكل ذكر؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم سماها مجالس الذكر، فلا تكون الفضيلة مخصوصة بهذه الأذكار المعينة، بل كل ما يسمى في الشرع ذكراً، ومنه الدعاء، كما هو مصرح به في الحديث السابق، ومن الدعاء الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما جاء في كتاب جلاء الأفهام ص (369): (فالمصلي عليه صلى الله عليه وسلم قد صرف سؤاله ورغبته وطلبه إلى محاب الله ورسوله صلى الله عليه وسلم وآثر ذلك على طلبه حوائجه… فمن آثر الله على غيره آثره الله على غيره)، بل جاء فيه أيضاً ص (24) حديث يصرح بذلك نقلاً عن فوائد أبي سعيد القاص بسنده عن أبي هريرة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ”إن لله سيارة من الملائكة، إذا مروا بحلق الذكر قال بعضهم لبعض: اقعدوا، فإذا دعا القوم أمنوا على دعائهم، فإذا صلوا على النبي صلى الله عليه وسلم صلوا معهم، حتى يفرغوا، ثم يقول بعضهم لبعض: طوبى لهؤلاء يرجعون مغفوراً لهم“([6]).

بل إن المجالس كلها إذا خلت من الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت حسرة على أصحابها يوم القيامة؛ لأن لفظ النهي عن ترك الصلاة عليه في المجلس لفظ عام، فقد قال فيما رواه الترمذي برقم (3380): ”ما جلس قوم مجلساً لم يذكروا الله فيه، ولم يصلوا على نبيهم إلا كان عليهم ترة، فإن شاء عذبهم، وإن شاء غفر لهم“ وفي رواية ”إلا كان حسرة“، وقال: هذا حديث حسن.

وإذا كان المجلس الخالي عنها حسرة كان المجلس المشتمل عليها مرحوماً، وإذا اختص بها وحدها فهو كذلك، فالاجتماع عليها ولو خصوصاً سنة مأمور بها، لاسيما أن النبي صلى الله عليه وسلم عبر بلفظ القوم، ولا يكون القوم إلا جماعة. وهي دعاء يحبه الله تعالى، وقد أمر به، والدعاء ذكر كما سبق.

وليست هذه الرسالة مقصوداً بها جمع أحاديث فضائل الصلاة على الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم، إنما المقصود ذكر المهمات من ذلك؛ لتكون مقدمة للكلام في دفع الشبهات عن مجالس الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، والصيغ المشهورة الموافقة للأدلة، ومواضع الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم وأوقاتها، والله تعالى هو الموفق بفضله للصواب.

استحباب الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في كل الأوقات
وليس هناك وقت لا تستحب فيه الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم.

قال ابن كثير في تفسيره عند الكلام على قوله تعالى: {إن الله وملائكته يصلون على النبي}: (هي مستحبة في كل حال) وهذا صرح به الأئمة قبل ابن كثير، فهذا الإمام الشافعي يقول في الأم (3/622) في الكلام على التسمية عند الذبح: (والتسمية على الذبيحة ”باسم الله“ فإذا زاد شيئاً من ذكر الله عز وجل فالزيادة خير، ولا أكره مع تسميته على الذبيحة أن يقول: صلى الله على رسول الله، بل أحبه له، وأحب له أن يكثر الصلاة عليه، فيصلي عليه في كل الحالات؛ لأن ذكر الله تعالى والصلاة عليه إيمان بالله، وعبادة له، يؤجر عليها من قالها) ثم ذكر الشافعي حديث عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم ”لقيني جبريل، فأخبرني عن الله عز وجل أنه قال: من صلى عليك صليت عليه، فسجدت شكراً لله“([7]). ثم قال الشافعي([8]) في (3/622): (ولسنا نعلم مسلماً، ولا نخاف عليه أن تكون صلاته عليه صلى الله عليه وسلم إلا الإيمانَ بالله، ولقد خشيت أن يكون الشيطان أدخل على بعض أهل الجهالة النهي عن ذكر اسم رسول الله صلى الله عليه وسلم عند الذبيحة ليمنعهم الصلاة عليه في حال لمعنى يعرض في قلوب أهل الغفلة، وما يصلي عليه أحد إلا إيماناً بالله تعالى، وإعظاماً له وتقرباً إليه ).

أدلة العموم كافية لإثبات مشروعيته دائماً

واستدلال الشافعي بالحديث مبني على أن اللفظ فيه عام يشمل كل المصلين في أي حالة كانوا، وهو مؤيد بالأمر المطلق في قوله سبحانه: {يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليماً} لأن الأمر المطلق ينطبق على كل حالة يقع فيها العمل الذي أمر الله به، فلا تحتاج كل حالة إلى دليل يخصها، بل العكس هو الصحيح، أي يحتاج إلى الدليل من يدعي المنع في أي وقت أو حالة مما دخل في العموم أو الإطلاق، وهذا أمر يغفل عنه كثير من الناس، فيطلب دليلاً خاصاً لكل حالة، أو لكل جزئية من العمل المشمول بعموم الآيات أو الأحاديث، مع أن العموم يكفي وحده، ويحتاج من يدعي المنع في حالة من الحالات أو جزئية من الجزئيات إلى دليل يستثنيه من ذلك العموم، أو يخرجه من ذلك الإطلاق، ومن زعم في شيء مما يشمله العموم أنه بدعة فقد رد على الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، وهذا بخلاف الأمور التي لاعموم يشملها، فهذه تحتاج كل حالة وكل جزئية إلى دليل يثبت مشروعيتها، ولو كان كل عمل يشمله العموم يحتاج إلى دليل خاص مع ذلك لكان من يزعم في أمر أنه ضلالة لا يكفيه الاستدلال بحديث ”كل بدعة ضلالة“ بل تحتاج كل بدعة إلى دليل يخصها ولا قائل بذلك.

الجهر بالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم آخر الأذان

وبناء على هذا فإن قوله صلى الله عليه وسلم في الأمر بالصلاة عليه بعد الأذان يشمل كل المخاطبين، ومنهم المؤذن، وجاء تأكيد العموم بقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث نفسه: ”فمن سأل لي الوسيلة حلت له شفاعتي“ فهو يشمل المؤذن، ولا يصح أن يقال هو مأمور بالدعاء بالوسيلة، غير مأمور بالصلاة عليه صلى الله عليه وسلم، كما أن الأمر المطلق في هذا الحديث ينطبق على حالة الجهر، وعلى حالة الإسرار، فيكون الجهر مشروعاً؛ لإنطباق الأمر المطلق عليه، واستمرار العمل على الإسرار في العهد النبوي وغيره لا يعارض دلالة الأمر المطلق في الحديث على مشروعية الجهر، وكونه فاضلاً، إنما يدل على أن الإسرار أفضل، ولا يقال لمن فعل الفاضل وترك الأفضل إنه مبتدع أمراً لا دليل عليه من الشرع، فإذا قصد المؤذن بالجهر أن يذكر الناس بالصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد الأذان كان ذلك تأكيداً لاستحباب الجهر مع أنه فاضل في نفسه، وأما قول بعضهم: لماذا يجهرون بالصلاة وحدها ولا يجهرون بالدعاء بالوسيلة؟ فهو اعتراض ضعيف؛ لأنهما دعاءان يجوز الجهر بهما والإسرار بهما، والجهر بواحد دون الآخر، لاسيما إذا كان الأول يذكر بالثاني، فيغني عن الجهر بهما، وهذا هو المقصود بالجهر([9]) .

وأما قولهم إن المطلوب في الدعاء الإخفاء كما قال سبحانه: {ادعوا ربكم تضرعاً وخفية}([10]) فهو إعراض عن الأحاديث التي فيها الجهر بالدعاء عند شدة الاهتمام، كحديث ”لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتكم كثيراً… ولخرجتم إلى الصعدات تجأرون إلى الله بالدعاء“ رواه الترمذي برقم (2312) وقال: هذا حسن غريب، والجؤار: رفع الصوت بالدعاء، كما قال القاموس، فرفع الصوت غير محرم، بل هو جائز، وتذكير الناس يستدعي رفع الصوت.

متى حدث الجهر

وقد ذكر الإمام السخاوي في كتابه القول البديع في الصلاة على الحبيب الشفيع صلى الله عليه وسلم، ص (376): أن صلاح الدين الأيوبي ـ رحمه الله ـ حين ملك مصر أمر بذلك حين قيل له إن بعض ملوك الفاطميين أمروا المؤذنين أن يدعو للسلطان بعد الأذان، فأبطل ذلك وأمر بأن يصلوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم. ولم ينكر ذلك أحد من أهل العلم الذين عاصروه، واستمر العمل به في كثير من الأقطار الإسلامية منذ ذلك الحين. قال السخاوي ص (377): (وقد اختلف في ذلك، والصواب أنه بدعة حسنة) وأقول: وبيان استحبابه قد سبق بأدلته، والله الموفق سبحانه.

الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم بعد الإقامة والدعاء بالوسيلة

وكما تستحب الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم بعد الأذان سراً أوجهراً للمؤذن والسامع تستحب أيضاً بعد الإقامة للمقيم والسامع؛ لأن الإقامة أذان كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما رواه البخاري برقم (598): ”بين كل أذانين صلاة“ وفسره العلماء بأن المراد بين كل أذان وإقامة، وكما جاء في حديث البخاري برقم (870): ”أن عثمان رضي الله عنه زاد الأذان الثالث يوم الجمعة“ وهو ما قبل الأذان والإقامة؛ لتنبيه الناس إلى صلاة الجمعة، علماً بأن الإقامة تسمى في اللغة أذاناً؛ لأنها إعلام، قال ابن القيم في جلاء الأفهام ص (304): (الموطن السادس من مواطن الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم بعد إجابة المؤذن، وعند الإقامة) وكذا ذكر ذلك السخاوي في القول البديع ص (348).

ولأن الإقامة أذان كما تقدم يسن في ختامها ما يسن في ختام الأذان وهو الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم والدعاء بالوسيلة ولا يتوقف ذلك على دليل آخر وترك الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم بعد الإقامة وترك الدعاء بالوسسيلة أيضاً يخالف وله صلى الله عليه وسلم : ”إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول، ثم صلوا علي، فإنه من صلى علي صلاة صلى الله عليه بها عشراً، ثم سلوا الله لي الوسيلة، فإنها منزلة في الجنة لا تنبغي إلا لعبد من عباد الله، وأرجو أن أكون أنا هو، فمن سأل لي الوسيلة حلت له الشفاعة“.

أول الأنبياء خلقاً

ومما اعتاده المؤذنون في الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم بعد الأذان أن يقولوا: ”الصلاة والسلام عليك يا أول خلق الله“ فأنكره بعض الناس، وزعم أنه بدعة؛ لأن أول الناس خلقاً هو سيدنا آدم عليه الصلاة والسلام.
وهذا لا دليل فيه؛ لأن الناس لا يعنون أنه صلى الله عليه وسلم أول الناس خلقاً أي جسمه، إنما المعنى أن روحه قد خلقت أول الأرواح، والذي ينبغي بيانه هنا هو الدليل على أن روحه صلى الله عليه وسلم أول أرواح الناس خلقاً، وقد ذكر كثير من المفسرين في ذلك حديثاً عن النبي صلى الله عليه وسلم، ويظهر ـ إن شاء الله ـ من مجموع طرقه أنه ثابت، وهو قوله صلى الله عليه وسلم: ”كنت أول النبيين في الخلق وآخرهم في البعث“.
قال ابن جرير الطبري في تفسير الآية السابقة من سورة الأحزاب (21/125): (حدثنا بشر قال ثنا يزيد ثنا سعيد عن قتادة… ذكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: كنت أول الأنبياء في الخلق، وآخرهم في البعث) وهذا مرسل رجاله ثقات، وقد رواه ابن سعد أيضاً([11]) ، ورمز السيوطي في الجامع الصغير لصحة سنده، وهو مرسل، وتأتي معضداته ـ إن شاء الله ـ لكن ينبغي قبل ذلك التنبيه إلى أن الحديث المرسل حجة عند الإمام مالك وأبي حنيفة، ويعمل به الإمام أحمد إذا لم يكن في الباب غيره، فلو أنه لم تعضده الروايات الأخرى لما جاز الإنكار على من يقول ”يا أول خلق الله“؛ لأن من بنى على قواعد الأئمة المعتبرين لا يقال له مبتدع وإن أخطأ، ولو صح أن يقال لمن يخطئ في الاستدلال إنه مبتدع لأدى ذلك إلى وصف الصحابة بالإبتداع؛ إذ كانوا يختلفون في اجتهاداتهم، فيكون المخطئ منهم مبتدعاً، لو كان خطأ الاجتهاد بدعة، وهذا لا يقوله أحد، وأما أن يكون قوله بدعة في نظر مخالفه، فهذا لا عبرة له؛ لأن مخالفه قد يكون في الواقع هو المخطئ، ولأن المخطئ في الاجتهاد مأجور بنص الحديث الشريف، ولا يمكن أن يعطيه الله الأجر لو كان مبتدعاً عند الله.
وأما الإمام الشافعي رضي الله عنه فالحديث المرسل عنده يحتج به بشرط أن يكون له معضد من رواية أخرى، وهذا هو المشهور عند المحدثين المتأخرين، وهذا الحديث معضد برواية مسندة من طريق قتادة عن الحسن عن أبي هريرة. ففي تفسير ابن كثير عند تفسير قوله تعالى: {وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم ومنك ومن نوح}([12]) (3/469): (قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو زرعة الدمشقي حدثنا محمد بن بكار حدثنا سعيد بن بشير حدثني قتادة عن الحسن عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى: {وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم ومنك ومن نوح} الآية. قال النبي صلى الله عليه وسلم: ”كنت أول النبيين في الخلق وآخرهم في البعث، فبدأ بي قبلهم“ سعيد بن بشير فيه ضعف) فهذا المرفوع معضد لذاك المرسل؛ لأن سعيداً هذا ضعفه يسير كما يتضح من عبارة ابن كثير، وكذلك تنجبر عنعنة قتادة بالطريق الأخرى الآتية، أما عنعنة الحسن فلا تضر؛ لأن تدليسه يسير، نص الحافظ ابن حجر في كتابه تعريف أهل التقديس بمراتب الموصوفين بالتدليس ص (103) على أنه من أهل المرتبة الثانية، وذكر ص (62) في هذا الصنف أن المحدثين احتملوا تدليسه لندرته وجلالة صاحبه، وبذلك يكون متن هذا الحديث حسناً لذاته([13]) إذا أخذنا بتعديل سعيد بن بشير؛ إذ هو مختلف فيه كما يظهر من ترجمته في تهذيب التهذيب، ويكون حسناً لغيره إذا أخذنا بتضعيف سعيد بن بشير.

والرواية الأخرى ذكرها الطبري في تفسيره (15/6ـ11) ضمن حديث الإسراء من([14]) رواية أبي هريرة رضي الله عنه، ونقلها عنه ابن كثير أول تفسير سورة الإسراء، وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر فيما عدد الله له من فضله عليه أنه قال له: ”وجعلتك أول النبيين خلقاً وآخرهم بعثاً“.

قال ابن كثير (5/36) تعليقاً على أحد رجال سند هذه الرواية: (وأبو جعفر الرازي قال فيه الحافظ أبو زرعة الرازي: يهم في الحديث كثيراً، وقد ضعفه غيره أيضاً، ووثقه بعضهم، والظاهر أنه سيء الحفظ، ففيما تفرد به نظر).

قلت: وهذه اللفظة ليست مما تفرد به، وقد قال فيه الحافظ ابن حجر في تقريب التهذيب: ”صدوق سيء الحفظ“ فأقل حاله أن تصلح روايته للتعضيد على قول الذين ضعفوه، وتكون روايته حسنة عند الذين عدلوه، وأما مع مجموع الطرق فالحديث حسن أو صحيح لغيره، ولا يعترض على من وصف النبي صلى الله عليه وسلم بأنه أول خلق الله، أي أول الناس خلقاً كما جاء في بعض ألفاظ رواية الحديث المتقدم.

وصف النبي صلى الله عليه وسلم بالسيادة

بقيت كلمة لا بد منها، وهي وصف النبي صلى الله عليه وسلم بالسيادة عند ذكره والصلاة عليه، وقد كثر الإنكار عليه في أيامنا هذه، ومستند المنكرين أمران. أولهما: أن الأحاديث التي جاء فيها تعليم الصلاة عليه ليس فيها لفظ السيادة. وثانيهما: قول النبي صلى الله عليه وسلم لمن قال له: أنت سيدنا: ”السيد الله“ وقال لهم: ”لا يستجرينكم الشيطان“([15]).

وهو استناد يحتاج إلى الإيضاح والمناقشة، أما أنه لم يرد في الأحاديث التي فيها تعليم كيفية الصلاة عليه، فهذا إنما يصح أن يقال في الصلاة عليه ضمن الصلاة ونحوها مما ينبغي فيه التقيد بالألفاظ الواردة دون زيادة، ومع ذلك فقد ثبت([16]) عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: ”إذا صليتم على النبي صلى الله عليه وسلم فأحسنوا الصلاة عليه… قولوا: اللهم اجعل صلاتك ورحمتك وبركاتك على سيد المرسلين…“ وهذا أمر جاء بعد أداة الشرط، فهو يعم ما يكون في الصلاة بعد التشهد، وغير ذلك، لاسيما أنه ذكر في آخر هذه الرواية صيغة الصلوات الإبراهيمية المشهورة، التي تقال في الصلاة، وحسب المسلم قدوة من السلف ابن مسعود رضي الله عنه، وقد جاءت رواية ابن مسعود ـ التي تقدمت هنا ـ مرفوعة إلى النبي صلى الله عليه وسلم عند ابن أبي عاصم في كتابه الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم بسند جيد([17]) ، ولا تعارض بين الرفع والوقف، بل هو من زيادات الثقات([18]) ، فلا يكون هذا الرفع شاذاً يضعف به هذا الحديث.

وأما حكم ذلك في الصلاة فهو موضع اختلاف، لم يتكلم فيه المتقدمون بمنع ولا استحباب، سوى قول ابن مسعود هذا ورواية عن ابن عمر أو ابن عمرو، رواه إسحاق القاضي في فضل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، فلا ينسب إليهم قول، واختلف المتأخرون فيه بين مستحب له وكاره ومتردد، وكلهم من الأئمة المقتدى بهم، فلا ينكر على قائل، ولا تارك، مثل كل أمر اجتهادي، ومما احتج به المجيزون قولهم: إن الآتي بالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم مع السيادة آت بالمطلوب وزيادة في التعظيم موافقة لما جاء في الأحاديث الأخرى، وقد ذكر المهم من ذلك الإمام السخاوي([19]) .

وأما غير الصلاة كمجالس الذكر فلا يقال لا يجوز الزيادة عليها؛ لأن مثل هذا يكفي فيه أن تكون الزيادة في نفسها موافقة لأدلة الشرع، ووصفه صلى الله عليه وسلم بالسيادة ثابت في حديث مسلم برقم (194): ”أنا سيد الناس يوم القيامة“ وهو عند البخاري برقم (3162)، فوصفه صلى الله عليه وسلم بالسيادة جائز ثابت في كلامه صلى الله عليه وسلم، وقد وصف الله تعالى من هو أقل منه مرتبة من الأنبياء سيدنا يحيى عليه السلام فقال: {وسيداً وحصوراً}([20])، فكيف يمتنع وصفه به وهو أفضل الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وقد وصف به النبي صلى الله عليه وسلم الحسن بن علي رضي الله عنه فيما رواه البخاري برقم (2557) فقال: ”إن ابني هذا سيد، ولعل الله أن يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين“، بل أمر النبي صلى الله عليه وسلم الرقيق فيما رواه مسلم برقم (2249) أن لا يقول لمالكه ربي، وقال: ”ولكن ليقل سيدي“.
فلفظ السيد من الألفاظ المشروعة، وهو مما يستعمل عند التكريم، وقد أمرنا الله تعالى بتكريم نبيه صلى الله عليه وسلم في الخطاب، فقال سبحانه: {لاتجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضاً}([21])، وقال سبحانه: {فالذين آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون}([22]) والتعزير: معناه النصرة مع التعظيم، كما في مفردات الراغب الأصبهاني.

وإنما نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يخاطب المنافق فقط بلفظ السيادة فقال: ”لا تقولوا للمنافق سيدنا، فإنه إن يك سيدكم فقد أسخطتم ربكم“ رواه الإمام أحمد في مسنده برقم (22939) عن عبد الله بن بريدة عن أبيه([23]).

ولو كان حديث ”السيد الله“ يعارض وصف المخلوق بالسيادة لكانت الأحاديث متضاربة؛ إذ يقال حينئذٍ: كيف يقول النبي صلى الله عليه وسلم عن نفسه ”أنا سيد ولد آدم“ بعد أن قال: ”السيد الله“، وحاشا أن يكون في السنة شيء من التناقض، ولو افترضنا الحديثين متعارضين لوجب أن يقدم الأثبت منهما، وحديث ”أنا سيد ولد آدم“ متواتر([24])، وبعض رواياته بلفظ: ”أنا سيد الناس“ لا يقدم عليه شيء، بل يقدم على كل ما يخالفه، لو وجد له مخالف.

الجمع بين الأحاديث

والواقع أن حديث ”السيد الله“ يدل بنفسه على المقصود منه، لو نظر إليه الباحث المنصف من خلال قواعد تفسير الألفاظ الشرعية؛ وذلك لأن كلمة ”سيد“ حين تكون مقرونة بالألف واللام تدل على الكمال في الصفة، فيكون معنى الحديث أن السيد الذي جمع وصف السيادة المطلقة بحيث لا يساويه غيره هو الله تعالى. وكل من وصف بالسيادة غيره فمعنى السيادة فيه غير معناه في الخالق سبحانه، كما يوصف غيره سبحانه بالحلم ونحوه، ويكون معناه في المخلوق غير معناه في الخالق سبحانه.

على أن الحديث نفسه معه من الألفاظ ما يدل على جواز وصفه صلى الله عليه وسلم بالسيادة؛ لأنه صلى الله عليه وسلم قال للذين قالوا له: ”أنت سيدنا، فقال: السيد الله، قلنا: وأفضلنا فضلاً وأعظمنا طولاً، فقال: قولوا بقولكم أو ببعض قولكم، ولا يستجرنكم الشيطان“ فقوله صلى الله عليه وسلم: ”قولوا بقولكم“ إذنٌ في أن يقولوا الألفاظ التي تقدم ذكرها، ونهي عما يدعو إليه الشيطان من الخروج عما أحل الله إلى غير ذلك، وهو وصفه صلى الله عليه وسلم بالسيادة على معنى السيادة الخاصة بالله تعالى، وقوله: ”أو ببعض قولكم“ تخيير بين تلك الألفاظ لمن أراد الاقتصار على بعضها.

ومن زعم أنه لا يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم إلا بالألفاظ الواردة ـ ولم تأت الصلاة عليه في السنة مقرونة بالسيادة ـ فليأت بقول السلف في المنع، ولا يصح أن يقال إن سكوتهم يدل على المنع؛ لأن السكوت إنما يستدل به حيث لا يوجد دليل، والإطلاق الذي في الآية يدل على المشروعية، أما من منع السيادة بلا دليل راجح على هذا فقد خالف الإطلاق الذي خاطب الله تعالى به عباده في قوله تعالى: {ياأيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليماً“، وضيق ما وسع الله على عباده، وقد ثبت عن ابن مسعود ذكر لفظ السيادة في الصلاة، كما سبق، بل ثبت رفع ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وإذا ثبت في الصلاة فمشروعيته في غيرها أولى، ولكن المانعين يوجبون على الناس ألا يصححوا من الأحاديث إلا ما صح في نظرهم، وألا يأخذوا بدليل إلا ما ثبت في نظرهم، وفهمهم من السنة هو السنة، وفهمهم من القرآن هو القرآن، وما يقبلونه من أقوال السلف هو مذهب السلف، وما سوى ذلك هو بدعة ضلالة.

وهذه كتب العلماء قديماً وحديثاً مليئة بالألفاظ المنوعة في الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى كتب ابن تيمية وتلاميذه وأتباعه، ومن أقدم ما جاء عن الأئمة في الألفاظ التي لم ترد عن النبي صلى الله عليه وسلم قول الشافعي رضي الله عنه في مقدمة كتابه الرسالة([25]) : (صلى الله على نبينا كلما ذكره الذاكرون، وغفل عن ذكره الغافلون، وصلى عليه في الآخرين أفضل وأكثر وأزكى ما صلى على أحد من خلقه) وغيره في كتبه وكتب غيره كثير، وهو داخل في عموم تعظيمه، وقد أمر الله تعالى بتعزيره ـ والتعزير: النصرة مع التعظيم، كما قال الراغب في مفردات القرآن، قال تعالى: {فالذين آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون}([26])ـ بالألفاظ الدالة على تعظيمه المأمور به في قوله سبحانه: {لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضاً}([27]).

وأما الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم بعد التشهد الأخير في الصلاة فهي ـ وإن احتملت الإلزام بالألفاظ الواردة لكونها ضمن الصلاة ـ إلا أنها عند النظر في الاستدلال لا تختلف عن غير الصلاة؛ وذلك لأن الدليل على وجوبها أو استحبابها في الصلاة وخارج الصلاة، هو الأمر المطلق في قوله سبحانه: {ياأيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليماً}([28])، والأمر المطلق إذا ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم الأمر أو العمل ببعض ما يصدق عليه لم يكن ذلك مانعاً من غيره، وإن كان ما عمل به أو أمر به صلى الله عليه وسلم هو الأفضل([29])، ولذلك ذكر الإمام الشافعي في الأم (2/272): أن الواجب في الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم آخر الصلاة هو أقل ما يقع عليه اسم الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، وذكر أنه إذا اقتصر على ذلك كرهه له، ثم قال: (ولم أر عليه إعادة؛ لأنه قد جاء باسم تشهد وصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم).

هذا بالإضافة إلى أن الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم هي من قبيل الدعاء، وقد جاءت الأحاديث والأدلة الأخرى بمشروعية عموم الدعاء، فلا يقال عن شيء منه إنه ممنوع إلا بدليل يخص ذلك الشيء المعين من عموم نحو قوله تعالى: {إن ربي لسميع الدعاء}([30])، ومن خص شيئاً منه بلا دليل فقد ابتدع، بل رفض ما شرع الله تعالى، ويكفي في ذلك قوله صلى الله عليه وسلم فيما رواه البخاري بعد التشهد برقم (800) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال بعد ذكر التشهد: ”ثم يتخير من الدعاء أعجبه إليه فيدعو“، وفوق ذلك فإن الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم من توابع التشهد، والتشهد وردت فيه ألفاظ عن الصحابة، ليست مروية عن النبي صلى الله عليه وسلم كزيادة عمر رضي الله عنه في التحيات: (الزاكيات) كما رواه مالك في الموطأ موقوفاً عليه([31])، وكما مر في رواية ابن مسعود الموقوفة المشتملة على لفظ الزيادة([32]).
وعلى كل حال لسنا ممن يستنكر على الأئمة الذين منعوا لفظ السيادة في الصلاة لأدلة بنوه عليها، إنما المستنكر حقاً هو أن يمنع المرء غيره من أهل العلم أن يثبتوا لفظ السيادة ؛ لما عندهم من الأدلة التي بنوه عليها، ثم يزعم أن ما وصل إليه باجتهاده هو السنة، وأن ما وصل إليه غيره باجتهاده هو البدعة، وأن يزعم ضمناً أن اجتهاده هو الميزان لكل العلماء، فما وافقه فهو الحق وما خالفه هو البدعة.

صيغ الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم

وقد زعم بعضهم أنه لايجوز ـ حتى في غير الصلاة ـ أن يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم بصيغ وردت في أحاديث ضعيفة، أو آثار عن السلف ضعيفة الإسناد، أو هي مما عبر به بعض العلماء الصالحين.
أما الأحاديث الضعيفة: فالعمل بالحديث الضعيف في فضائل الأعمال جائز عند الجمهور الأعظم من أهل الحديث والفقه، ولم يخالف في ذلك إلا الأقل النادر، كما يتضح ذلك من كتب مصطلح الحديث، وقد اشترط كثيرون منهم أن يكون الحديث الضعيف في فضائل الأعمال مما عرفت مشروعيته بدليل شرعي غير الحديث الضعيف، وأفاد الحديث الضعيف الدلالة على ذكر فضيلة أو مقدارها أو مقدار الأجر، والأصل الشرعي هنا هو الإطلاق الذي في قوله تعالى: {ياأيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليماً}، فالأحاديث الضعيفة والآثار السلفية الضعيفة داخلة في ذلك الإطلاق، وهذا الأصل الشرعي كاف وحده في دليل المشروعية، وتلك الأحاديث والآثار مؤكدة لمشروعية هذه الجزئية الواردة فيها مبينة لمقدار الأجر أو الفضيلة، وهذا هو معنى أن يعتمد الحديث الضعيف في فضائل الأعمال.

وأما الصيغ التي عبر بها بعض الأئمة وبعض الصالحين كالذي سبق نقله عن الشافعي رضي الله عنه فليس لها دليل يخصها، وقد اكتفى الشافعي وأمثاله بدليل المشروعية العامة في الآية والأحاديث الواردة بألفاظ العموم أو الإطلاق.

الصيغ المشتملة على التوسل

وأعجب من هذا أنهم فسروا بعض الصيغ المشهورة بما لا تحتمله من المعاني حتى يتسنى لهم إنكارها أشد الإنكار، فقد زعم بعضهم أن الصيغة التالية مشتملة على الشرك بالله، وهي ”اللهم صل صلاة كاملة، وسلم سلاماً تاماً على سيدنا محمد الذي تنحل به العقد، وتنفرج به الكرب، وتقضى به الحوائج، وتنال به الرغائب وحسن الخواتيم…الخ“ فزعم المنكرون: أن التلفظ بهذه الصيغة ينسب إلى النبي صلى الله عليه وسلم أفعال الخالق سبحانه، فالذي يحل العقد ويفرج الكرب هو الله تعالى لا رسوله صلى الله عليه وسلم، ونسبة ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم شرك أكبر، هكذا زعموا، وهو اتهام باطل قائم على تفسير باطل، فقولهم ”تنحل به العقد“ ليس بمعنى أنه يحل العقد، لكنه بواسطته ووسيلته تحل العقد، كما هو مفهوم لكل من يعرف لغة العرب، وكذلك قولهم: ”اللهم صل على سيدنا محمد طب القلوب ودوائها، ونور الأبصار وضيائها، وعافية الأبدان وشفائها“، هذا ليس فيه شيء من صفات الله تعالى؛ لأن معناه أنه وسيلة إلى ذلك، ولا يقال عن الله تعالى إنه طب القلوب، إنما يقال عن الرسول صلى الله عليه وسلم إنه طب القلوب بمعنى سبب يتوصل به إلى طب القلوب، وكذلك يقال في نور الأبصار، وعافية الأبدان وشفائها، وهذا توسل، والتوسل ليس بشرك (حتى عند هؤلاء المنكرين) إنما هو عندهم بدعة عملية، وبين الشرك والبدعة فرق عظيم.

والتوسل ليس ببدعة عند أئمة الهدى كالإمام أحمد، فقد نقل عنه ابن تيمية في كتابه الرد على الإخنائي، وهو المطبوع باسم (استحباب زيارة خير البرية الزيارة الشرعية) بمدينة الشارقة في الإمارات العربية المتحدة، فقال ص (536): (وسل الله حاجتك متوسلاً إليه بنبيه صلى الله عليه وسلم تُقضَ من الله تعالى)، وذكر نحو ذلك الإمام النووي وابن قدامة الحنبلي في أدعية زيارة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإذا كانت المسألة خلافية فإتباع هؤلاء أهدى سبيلاً، وأصح دليلاً لمن بحث عن الحق دون تأويل، والذين استنكروا تلك الصيغة لم يفرقوا بين التوسل والشرك، ففسروا التوسل بالشرك ليكفروا المسلمين، مع أن نسبة فعل الله إلى المخلوق الذي تسبب به ثابتة في القرآن كثيراً، كقول جبريل عليه السلام: {إنما أنا رسول ربك لأهب لك غلاماً زكياً}([33])، وتقول الملائكة لإبراهيم عليه السلام في شأن سيدنا لوط وقومه وامرأته {إلا امرأته قدرنا إنها لمن الغابرين}([34])، والمقدر هو الله، أما الملائكة فهم كاتبون للمقدر، وهم منفذون للمقدر، فنسبته إليهم هي نسبة الفعل إلى المتسبب بوقوعه، وهذا موجود في الحديث الشريف أيضاً، كما روى مسلم برقم (209) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال عن عمه أبي طالب: ”وجدته في غمرة من النار، فأخرجته إلى ضحضاح منها“ وهو لم يذهب إلى النار ليخرجه منها، وإنما شفع له كما صرحت الرواية الأخرى عند مسلم، فنسب الإخراج من النار ـ وهو فعل الله تعالى ـ إلى نفسه صلى الله عليه وسلم؛ لأنه تسبب به بواسطة الشفاعة.

الصيغ المشتملة على مديح المصطفى
صلى الله عليه وسلم

ويعترض آخرون على هذه الصيغ من جانب آخر، وهو أنها تشتمل على مديح لرسول الله صلى الله عليه وسلم فيه مبالغة، ولاسيما تلك الأشعار المنظومة في ذلك المعنى، وهي مخالفة لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما أخرجه البخاري برقم (3261)، ومسلم برقم (2368): ”لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم“، وهو اعتراض غير صحيح.

فتفسير الحديث بالنهي عن الإطراء مطلقاً يتركه وكأنه قال صلى الله عليه وسلم : ”لا تطروني“ فقط، وهذا لا يصح سواء فسرنا الإطراء بالمديح أو بالمديح الزائد عما ينبغي؛ لأنا إذا فسرنا الإطراء بالمديح فقط يكون قوله: ”كما أطرت النصارى ابن مريم“ تقييداً للمديح المنهي عنه، كأنه قال: لا تطروني الإطراء الذي أطرت النصارى عيسى بن مريم عليهما السلام.

وإذا فسرناه بالمبالغة في المديح يكون قوله: ”كما أطرت النصارى ابن مريم“ زيادة وتوضيحاً في بيان معنى الإطراء، أي أن المبالغة المنهي عنها هي إعطاؤه صفات الله الخاصة، أو ما هو باطل كما فعلت النصارى.

والمهم هو أن المديح المنهي عنه إنما هو المشتمل على إعطائه الصفات الخاصة بالله تعالى، كما يفهم من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم ”كما أطرت النصارى ابن مريم“، أما ما دون ذلك فلا مبالغة فيه؛ لأنه صلى الله عليه وسلم منبع الفضائل، لم يعط أحد من الخلائق منها مثل ما أعطي صلى الله عليه وسلم.
وقد كان الصحابة رضي الله عنهم يمدحونه بشعرهم، وينشدون ذلك بين يديه، كما قال حسان لعمر ـ في رواية مسلم في فضائل حسان برقم (2485) ـ حين مر به وهو ينشد الشعر في المسجد، فلحظ إليه فقال: (قد كنت أنشد وفيه من هو خير منك) يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وروى مسلم في الباب نفسه من ذلك الشعر قصيدة حسان التي بدأها مسلم بقوله:
هجوتَ محمداً فأجبت عنه وعند الله في ذاك الجزاء
إلى أن يقول:
فمن يهجو رسول الله منكم ويمدحـه وينصــره سواء

وروى مسلم في الباب نفسه أيضاً مديحه لعائشة رضي الله عنها، ومديحه لبني هاشم عموماً، فإذا كان المديح بالحق جائزاً فإن أحق من يمدح به هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأحق ما يذكر به في الشعر هو الصلاة عليه والثناء عليه صلى الله عليه وسلم.

أما الذين يقولون إن الله مدحه في كتابه، وذلك يغني عن مديح الخلق له، فكلامهم هذا مردود من جهتين:
الأولى: أنا إذا مدحناه لا نمدحه لأجل احتياجه إلى المدح، بل لأنه جدير بأن يمدح.

والثانية: أنه كان الصحابة يمدحونه فيقرهم على ذلك، والإقرار نوع من السنة النبوية، وإتباعه إتباع للسنة.

أخيراً أسأل الله تعالى أن يرزقني كثرة الصلاة على رسوله صلى الله عليه وسلم ودوامها، وأن يجزي خير الجزاء كل من ألف في الصلاة عليه كتاباً أو جمعه أو اختصره.

والحمد لله رب العالمين، وصلى الله تعالى وسلم على سيدنا محمد وآله وصحبه أفضل صلاته وسلامه، كلما ذكره الذاكرون، وغفل عن ذكره الغافلون.

كتبه د: محمود أحمد الزين

***************************

فهرس الموضوعات

الموضوع

1ـ مقدمة في فضائل الصلاة والسلام على سيدنا
رسول الله صلى الله عليه وسلم
2ـ مجالس الذكر والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم
3ـ استحباب الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم
في كل الأوقات
4ـ أدلة العموم كافية لإثبات مشروعيته دائماً
5ـ الجهر بالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم آخر الأذان
6ـ متى حدث الجهر
7ـ الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم بعد الإقامة
8ـ أول الأنبياء خلقاً
9ـ وصف النبي صلى الله عليه وسلم بالسيادة
10ـ الجمع بين الأحاديث
11ـ صيغ الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم
12ـ الصيغ المشتملة على التوسل
13ـ الصيغ المشتملة على مديح المصطفى
14ـ فهرس الموضوعات
_________________________
([1]) ذكره في فيض القدير برقم (8810)، ونسبه إلى أحمد، والبخاري في الأدب المفرد، والحاكم في المستدرك عن أنس، وقال الحاكم في المستدرك: صحيح، وأقره الذهبي، وصححه ابن حبان، وقال ابن حجر: رواته ثقات.
وذكره برقم (91) بلفظ ”أتاني آت من ربي فقال: من صلى عليك…“ عن أبي طلحة، ونسب روايته إلى الإمام أحمد، ورمز السيوطي لصحته.
([2]) المراد بالصلاة هنا الدعاء؛ لأن الصلاة الشرعية فيها قرآن وركوع وسجود، فلا يمكن أن تكون كلها صلاة على النبي%، والمعنى هنا: إذا دعوت الله تعالى بدعاء فكم أجعل منه صلاة عليك؟ فلما قال: أجعل لك صلاتي كلها، أجابه% بهذا الجواب.
([3]) وكذا رواه الحاكم في المستدرك (2/420) وصححه ووافقه الذهبي، وأخرجه كثيرون بأسانيد متعددة، وروى أحمد نحوه برقم (1662) عن عبد الرحمن بن عوف بأسانيد عدة، وهو عند الحاكم في المستدرك (1/242) وصححه على شرط الشيخين، ووافقه الذهبي.
([4]) كذا هو في طبعة الشيخ محمد عوامة، وهو في الطبعات السابقة برقم (2041).
([5]) ورواه ابن حبان في صحيحه، وهو في ترتيب ابن بلبان برقم (911)، وذلك يعني أنه صحيح عنده، قال ابن حجر في فتح الباري ـ (11/172) ط: دار الريان ـ آخر شرحه للحديث رقم (6358): (وله شاهد عند البيهقي عن أبي أمامة بلفظ ”صلاة أمتي تعرض علي في كل يوم جمعة، فمن كان أكثرهم علي صلاة كان أقربهم مني منزلة“ ولا بأس بسنده)، وهو في السنن الكبرى له (3/249).
([6]) أشار بعضهم إلى تضعيفه احتمالاً، ولو ثبت ضعفه لم يضره؛ لأنه في فضائل الأعمال، ولأن معناه موجود ضمناً في رواية الشيخين.
([7]) سبق تخريجه ص (7).
([8]) كتاب الأم، طبعة: دار الوفاء.
([9]) ومن عجيب ما يفعله بعض المذيعين المنتسبين إلى من ينكر الجهر بالصلاة على رسول الله% بعد الأذان أنهم بعد نهاية الأذان يدعون جهراً في الإذاعة بدعاء الوسيلة، دون أن يظهروا قبله الصلاة على رسول الله%، ثم يدعون جهراً بأدعية كثيرة، كأنه لم يرد الدعاء بعد الأذان.
([10]) سورة الأعراف، الآية:55.
([11]) في طبقاته (1/119) قال: أخبرنا عبد الوهاب بن عطاء عن سعيد بن أبي عروبة عن قتادة، قال وأخبرنا عمرو بن عاصم الكلابي أخبرنا أبو هلال عن قتادة.
([12]) سورة الأحزاب الآية/7.
([13]) وقد روى الترمذي في سننه برقم (1583) حديثاً فيه سعيد بن بشير عن قتادة، وقال: حسن صحيح. رغم قوله فيه ”غريب“. وحسن الحديث رقم (3230) وفيه سعيد، رغم قوله فيه: هذا حديث حسن غريب، لا نعرفه إلا من حديث سعيد بن بشير، والغريب ما ليس له إلا إسناد واحد.
([14]) قال: حدثني علي بن سهل قال: ثنا حجاج قال: أخبرنا أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس عن أبي العالية الرياحي عن أبي هريرة أو غيره (شك أبو جعفر).
([15]) الحديث في سنن أبي داوود (5/278) رقم (4773)، وسنن النسائي الكبرى (6/70) رقم (10074)، والأدب المفرد ص (83) رقم (211)، ومسند أحمد رقم (16311) دون لفظ ”السيد الله“ عند أحمد.
([16]) رواه الطبراني في الكبير برقم (8594) (9/114)، وفي القول البديع للسخاوي ص (126): (وإسناد الموقوف حسن، بل قال الشيخ علاء الدين مغلطاي: إنه صحيح)، وفي الترغيب والترهيب للمنذري برقم (2600) رواه ابن ماجه موقوفاً وإسناده حسن، وفي القول البديع ص (127) أنه اعترض عليه بوجود المسعودي في سنده، وقد اختلط، وهذا ليس على إطلاقه، ففي العلل ومعرفة الرجال (1/325) برقم (570) أن أحمد قال: (اختلط المسعودي ببغداد، ومن سمع منه بالبصرة والكوفة فسماعه جيد) وزياد البكائي الراوي عنه عند ابن ماجه كوفي، وكذا الفضل بن دكين الراوي عنه عند الطبراني، كما جاء في ترجمتها في التقريب.
([17]) انظر: هامش القول البديع ص (106).
([18]) في تقريب النووي مع تدريب الراوي (1/184): (فالصحيح أن الحكم لمن وصله أو رفعه، سواء كان المخالف له مثله أو أكثر؛ لأن ذلك زيادة ثقة، وهي مقبولة).
([19]) في كتابه البديع ص (225) وما بعدها، تحقيق فضيلة الشيخ محمد عوامة، وكتب الدكتور زين العابدين العبد كتاباً خاصاً بذلك، ط: دار البحوث للدراسات الإسلامية في دبي، عنوانه ”الإفادة في حكم السيادة“.
([20]) سورة آل عمران، الآية/39.
([21]) سورة النور، الآية/63.
([22]) سورة الأعراف، الآية/157.
([23]) وقال المنذري في الترغيب والترهيب: إسناده صحيح، وقد قالوا عن رواية قتادة: إنه لم يسمع من عبد الله بن بريدة، وعلى التسليم بذلك فالسند الآتي يقويه، فيكون حسناً.
([24]) ذكر الشيخ أحمد الغماري في تشنيف الآذان ص (68) وما بعدها طرقه عن اثني عشر صحابياً، وعن ثلاثة من التابعين مرسلاً.
([25]) الرسالة ص (16)، ط: الشيخ أحمد شاكر.
([26]) سورة الأعراف، الآية/157.
([27]) سورة النور، الآية/63.
([28]) سورة الأحزاب، الآية/56.
([29]) في غاية الوصول شرح لب الأصول للقاضي زكريا الأنصاري ص (80) في مسألة العموم قال: (وذكر بعض أفراد العام بحكم العام لا يخص العام) ومثلوا له بحديث الترمذي: ”أيما إهاب دبغ فقد طهر“ مع حديث مسلم أنه صى الله عليه وسلم مر بشاة ميتة فقال: ”هلا أخذتم إهابها فدبغتموه فانتفعتم به“. ثم قال ص (82): (والمطلق والمقيد كالعام والخاص فيما مر… فيجوز تقييد الكتاب بالكتاب… بخلاف مذهب الراوي، وذكر بعض جزئيات المطلق).
([30]) سورة إبراهيم، الآية/39.
([31]) في الموطأ، كتاب الصلاة، باب التشهد برقم (53)، وعن ابنه برقم (54)، وعن عائشة برقم (55) #، والثلاث موقوفات، بخلاف رواية ابن مسعود الخالية من الزيادة، فإنها مرفوعة صراحة، وهذه الثلاث قالوا: إن لها حكم المرفوع، والشافعي رجح العمل برواية ابن مسعود؛ لأن رفعها صريح.
([32]) هذا إذا لم يؤخذ برواية ابن مسعود المرفوعة المشتملة على الزيادة.
([33]) سورة مريم، الآية/19.
([34]) سورة الحجر، الآية/60.