الشيخ محمود محمد خطاب السبكي
الشيخ محمود محمد خطاب السبكي رحمه الله
إن في حياة الأمم علامات بارزات تحفظ على الأمة سمتها وعلى الناس قيمهم، وأمة الإسلام إذا اختلفت الأزمان ظل فيها مصابيح للهدى يذكرون الناس بأصحاب العزائم الأول، ووجودهم حفظ للعلم، ورفع لراية الحق.
ولنا هنا وقفة مع أحد هؤلاء الأعلام، النجوم الزاهرات في سماء هذه الأمة، هذا العلم هو الشيخ محمود خطاب السبكي.
لمحة عن حياة الرجل
قلب صادق لم تلوث فطرته الشوائب، نشأ في ريف قرية “سبك الأحد” بالمنوفية بمصر وهي مكان مولده، جمع الله تعالى له مواهب فريدة ومتعددة، منها:
رعي الغنم، ترويض الخيل، التجارة، الحياكة، الزراعة، كما أنه رامٍ لا يخطئ الرمية، حتى إنه كان يصيد بالليل بناء على الصوت المسموع من الطائر… إلى غير ذلك من المواهب التي جعلته يشعر بهموم الناس والقطاعات العريضة من المجتمع؛ مما أضفى على نهجه مسحة الواقعية.
– طلب العلم بعد العقد الثاني من عمره، وأثناء هذه الفترة تربى التربية الصوفية على يد الشيخ “محمد جبل السبكي الخلوتي”، وسما قدره وعلا حتى أصبح مرشدا للمريدين في هذه الطريقة.
– وبعد أن فتح له سبيل المعرفة بالأزهر – مع تقدم السن به- نهل من نبع العلم الفياض، فأصّل جوانب الخير التي تربى عليها، وزاد فيه وحسن مع الاحتفاظ بالطابع التربوي النوراني الصوفي الذي تربى عليه ولم يخطئه؛ إذ لا تعارض ولا تنافر كما بينا.
الإسلام الوسطي في حياة الرجل وفكره
ارتكز إيمانه على الدين الصحيح وليس البدع والخرافات، وعرض كل ما يرى وما يسمع على ميزان الشرع الحنيف.. فما وافق الشرع قبله وما عارضه نبذه.
قبل الرجل فكرة الصوفية في مقتبل عمره كمحاولة لتربية النفس، وتهذيب الروح، وإخلاص الوجهة لله تعالى لا غير، وهذا ما تضمنته كتبه من إشارات تربوية ولفتات روحية. ثم توجه بالعلم والمعرفة الصحيحة؛ حيث بها يسلم الدين وتصلح الدنيا لا بتحذلق الإنسان بالعلم وتظاهره بالهدي الإسلامي وقلبه خواء ودينه رقيق.
أخذ الرجل من الصوفية صوفية عمر بن الخطاب الذي نادى “يا سارية الجبل الجبل”. والتي لم تقعده عن الجهاد أو حمل هموم المسلمين أو السعي في طلب الحلال، وأخذ من الهدي الظاهر -وهو صحيح الآثار- الأحسن والأقوم ولم يغفل معه الحقائق التربوية التي عليها مبنى هذا الدين من إخلاص وصدق ووفاء وبر وصلة وغير ذلك. فمرحبا بالصوفية إذا كانت دعوة لتطهير النفس من أدرانها وتصفية الإيمان مما يفسده، أما أن تزيد عن ذلك فلا.
فمرحبا بالصوفية إذا سمت بها النفوس، وصفت بها الأرواح في غير شطط ولا انحراف ولا ابتداع في الدين مع اعتبار أنها ليست كل الدين.
ومرحبا أيضا بالتزام السنة وكمال الاتباع للرسول صلى الله عليه وسلم في هديه ومعاشه وطريقه في التزود لأمور معاده، بشرط تعاهد النفس الدائم بالإصلاح والتهذيب، مع عدم الاقتصار على الشكليات والطلسمية في تطبيق شعائر الدين.
إلى هؤلاء وهؤلاء وجه الشيخ -رحمه الله – دعوته، فانتقد كل ما خالف الدين عند المنحرفين من الصوفية، وقطع دابر البدع المنكرة التي أحدثوها في الدين تحت ستار سلامة القلوب كالأضرحة والنذور لغير الله تعالى، والموالد وغير ذلك.
كما انتقد الطريقة الرسمية الشكلية العقيمة عند كثير من المتدينين، فانتقى من المجتمع مجموعة من الوعاظ، وقام بإعدادهم تربويا وعلميا بإخلاص، وبهؤلاء انتشرت السنن في ربوع مصر كلها، ومضت الدعوة بعد إنشاء الجمعية الشرعية قرابة قرن من الزمان إلى يوم الناس هذا، وما زالت تؤتي ثمارها.
وليس كل من يتقن الهدي الظاهر صالح للقيام بمهام الدعوة في الجمعية الشرعية، يخبرنا عن ذلك قانون الوعظ الذي وضعه الإمام 1912م منذ ميلاد الجمعية الشرعية والإسلام الشمولي المتكامل في فكرة الإمام.
والواقع يؤكد أن الإمام السبكي -رحمه الله- كان في باله أن الإسلام دين شامل تنتظم فيه شئون الحياة جميعها، ونجده قد جسد الدعوة عمليًّا في عدة جوانب، أنبتتها الحاجة الماسة في عصره، ويا ليت الناس يلتفتون إلى أن الإسلام دين واقعي يحل مشكلات الناس في شتى المجالات؛ فنجده قد جسد الإسلام في حياة الناس على النحو التالي:
1- مجال الدعوة والإرشاد، إيمانا منه بأنه لا بد أن يكون للإسلام منبر ينشر معالمه من خلاله؛ فبنى المساجد، وشرح من خلالها أحكام الدين، وحارب البدع والمنكرات، ولكي يتسنى له ذلك أقام بنفسه أول حركة وعظية سنة 1914 بمسجده بالخيامية، ثم حملها عنه الوعاظ في كل مكان، وفي أول عهد الجمعية سنة 1912 كان لها مائتان من أكفاء الوعاظ الذين رباهم الإمام، يجوبون القطر المصري، حاملين الدعوة إلى الناس والفكر الإسلامي السليم.
2- كما أعاد فكرة المدارس الملحقة بالمساجد، وأقام بها فصولا للتقوية ودروسا لشرح المناهج الدراسية؛ في محاولة منه لربط العلم بالدين على غرار المساجد العريقة في عهد سلف الأمة.
3- كما لم يهمل النساء؛ فجعل لهن دروسا خاصة، وجعل من التخطيط العمراني في مساجد الجمعية مصلى للنساء ملحقا بمساجدها ، هذا بالإضافة إلى تعليم بعضهن الحياكة والتطريز لإغنائهن عن السؤال لا سيما إذا كن فقيرات. هذا في عصر لم تأخذ المرأة حقها من التعليم.
4- كما وضع الإمام بذرة الخدمات الطبية في حسبان الجمعية مساهمة من المساجد في حل مشكلات المرضى وذوي الاحتياجات الخاصة؛ فأقام المستوصفات الإسلامية الملحقة بالمساجد للتمريض والعلاج المجاني.
5- وفي الجانب الاقتصادي: أدرك الإمام –رحمه الله– أن مشكلات التخلف يأخذ بعضها برقاب بعض، ولا يصلح أن تحل إحداهما بمعزل عن الأخرى، فأراد للأمة أن تبني اقتصادها المستقل من خلال ما يأتي:
أ- رأى ضرورة استغناء الناس عن الكماليات التي هي من صنع العدو، والتي ستستنزف اقتصاد المسلمين، كما رأى أنه من القصد والوسطية في الدين ترك التقتير والإسراف معا.
ب- بدأ تصنيع أقمشة لدى الغير بتصميمات يضعها بنفسه ويختار لها الألوان، وكان ذلك منه رمزا للنهوض الوطني الذي يأخذ موقعه في مصاف أبناء الغرب ممن يأخذون نبات التربة المصرية بأبخس الأثمان، ثم يردونها إلينا منسوجات بعشرات الدنانير، فحقق الاستغناء في هذا الجانب لأصحاب الاتجاه الوطني الصادق، واعتمدت الجمعية على يد مؤسسها – وكلاء للتوزيع، ثم أنشأت مصنعا يدويا خاصا بها بدلا من تشغيل الآلات المؤقتة التي ابتكرها الشيخ خارج الجمعية، كما أعدت معرضا للمنتجات في مقرها مع بقاء الوكلاء في الأقاليم، وزادت شهرة المنسوجات حتى صدرت إلى خارج البلاد كالسعودية وفلسطين. وما استغنت الجمعية عن هذه المنسوجات إلا بعد مزاحمتها بالمنسوجات الأخرى المحلية الوطنية الكثيرة، والحمد لله.
ج- كما نادى بمقاطعة منتجات العدو المحتل، والإقبال على المنتج المحلي، وقد أثر هذا في العدو تأثيرا بليغا.
6- وفي جانب السياسة وهموم المسلمين وقضايا الساحة لم يكن الشيخ بمعزل عنها، وهذا الأمر قد لا يتنبه إليه الكثيرون من الذين يريدون طمس معالم دعوته الناجحة وحصرها في شكليات وأوراد لا صلة لها بواقع المسلمين.
وتمثل ذلك في المواقف الآتية:
أ- أثارت دعوة الشيخ ضجة واضحة في المجتمع المصري؛ مما جعل الاحتلال يرتاب منه، وبالفعل اعتُقل الشيخ الإمام ثلاثة أشهر، وأوقفت حلقات العلم التي كان يقوم بها إبان الحرب العالمية الأولى، ثم عاد بعدها إلى إكمال مسيرة الدعوة، وكانت التهمة هي محاولة الاتصال بالأستانة عاصمة الخلافة في تركيا، وفي السجن أظهر عزة الإسلام، وعبَّر عن اعتراضه على ذلك بأن أضرب عن الطعام حتى علمت أسرته، فكانت تنفذ إليه ما يقوته بمجاهدات شاقة.
ب- كانت قضية فلسطين في بؤرة اهتمامه؛ فقامت الجمعية بإرسال كميات من المنسوجات إلى بيت المقدس لتوزيعها على المنكوبين، وأرسلت الطرود العاجلة بطريق سكة حديد (مصر – فلسطين)، وكان هذا مدعاة إلى أن يرسل أمين الحسيني – رئيس المجلس الأعلى الإسلامي- شكرا للجمعية وإمامها على ما قامت به، كما فتحت الجمعية مجال التبرعات فيما بعد لما اشتدت الأزمة.
ج- نادى بمقاطعة كل ما يصنع في إنجلترا لموقفها السافر الممالئ لليهود وضد الفلسطينيين، واستجاب له فريق كبير من أبناء الشعب.
د- نادى بضرورة الاحتكام إلى كتاب الله تعالى، وترك الاحتكام إلى قوانين الكفر، وإعداد العدة لنصرة الدين، وبيان أن سر تأخر المسلمين هو ترك قانون السماء؛ مما سلط عليهم عدوا لا يرحمهم.
هـ- ولوضوح هذه المبادئ في فكر رجالات الجمعية؛ فإن عددا منهم استشهد في مواجهة الاحتلال الإنجليزي كما حدث في ثورة 1919؛ مثل الشيخ أحمد جاد الله، وكان قائد العمل الذي قامت به ورش العنابر التابعة للسكك الحديدية، وقد تسبب في مقتل السيرلي ستاك، وقد كان معه المجاهد إبراهيم موسى، وقدما للمحاكمة ليستقبلا الشهادة بسعادة بالغة، وما كان هذان وأضرابهما إلا أعضاء من المبرزين الذين رباهم الإمام في الجمعية المباركة.
* هذه بعض الجوانب ذكرناها باختصار ليتجلى الفكر الإسلامي الصحيح من خلال حياة الرجل المصلح الشيخ محمود خطاب السبكي الذي فهم الإسلام، وعمل به دون جمود ولا ابتداع؛ فخرجت دعوته صافية كالإسلام الصافي.
توريث الدعوة
لم يغفل الإمام المصلح عن نقطة في غاية الخطورة؛ حيث عمل على مستويين رئيسيين:
الأول: توريث الدعوة للكوادر النابهة، متمثلا في معهد الإمامة وهيئة العلماء التي تجمع الكوادر النابهة من المخلصين والدعاة الصادقين، وبهؤلاء استمرت الجمعية إلى الآن جيلا تلو جيل، ولم تشغله الدعوة العامة عن تربية الخاصة.
الثاني: دعوة عموم الناس إلى الإسلام الصافي؛ وذلك من خلال الدروس والخطب والمؤلفات التي قاربت 27 مؤلفا، أشهرها “الدين الخالص” في 9 مجلدات كبيرة تشرح العبادات وتوضح الإسلام الصافي الخالي من البدع.
– وهذان الأمران جعلا الإمام في حاجة لإنشاء جمعية تبقى على مر الدهر تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها؛ فكان ذلك في سنة 1912 حيث أسس الجمعية الشرعية.
كانت هذه وقفة على سيرة الشيخ، ولا نزعم أننا وفيناه بها حقه، ولكنها علامة لمن أراد التعلم، وأثر لمن أراد المسير.
خالد عبد المعطي
من دعاة الجمعية الشرعية