النزول إلى الحق
النزول إلى الحق
تعاني الأمة منذ زمن بعيد من الضعف والتمزق ، ولذلك أسباب كثيرة لا تستوعبها سطور مقالة ، إلا أني سأتطرق إلى أهم أسباب تفرقها وهو خلاف الفرقاء نتيجة اختلافهم على مالا يعتبر الاختلاف عليه ، أو خلاف معتبر يتشبث كل فيه برأيه ، ولا يريد النظر إلى ما تقتضيه المصلحة ، أو ما يتحقق نتيجته من مفسدة
ولا يبرأ من ذلك فريق دون فريق ، فالكل يرى نفسه مصيبا ، ويرى صاحبه مخطئاً ، والكل يرى أن نزوله عن رأيه إلى رأي الآخر استسلام وتخاذل ، ونزولٌ عن الحق إلى الباطل ،
والذي يدهشني في هذا ، أن الذي يقع فيه، علماء أجلة ، يعرفون ضوابط الخلاف، وما يعتبر فيه ومالا يعتبر ولم يسلم من الخلاف بينهم خلاف أصول أو خلاف فروع ، وهم ينقلون خلاف الأئمة السابقين ، يوم كان للإسلام قوة وشوكة إلى إسلام اليوم ، حيث لا قوة ولا شوكة ، و حيث حالنا وحال عدونا كقول القائل:
وزعيمهم شاكي السلاح مدجج *** وزعيمنا في كفه منديل
لا أدري لماذا لا يحتفظ فرقاؤنا كلٌ برأيه ، ويحترم رأي الآخر ، أو يتنازل عن رأيه للآخر ، والحال ما نراه من حال زعيمنا و زعيمهم ؟؟!!
لماذا يشتد الخلاف الموسمي كلما حصلت مناسبة، وكأنه لا يكفينا خلافنا اليومي.
ما هو المحظور وما المفسدة المترتبة على القول بأن الله تبارك وتعالى ينزل إلى السماء الدنيا نزولاً يليق بجلاله ؟!
وبالمقابل كذلك ، ما المحظور وما المفسدة المترتبة على القول بأن رحمته هي التي تنزل ، مادام النص يحتمل التأويل الصحيح ، وكلا القولين قال به أئمة كبار؟؟!!
وما هي المفسدة المترتبة لاعتبار القولين ، أو المصلحة المتحققة بوجوب إبطال أحد القولين؟؟
هذا مثال على الأصول ، و إليك مثالاً على الفروع.
التشبث بأن زكاة الفطر لابد أن تكون عيناً ولا تصح فيها القيمة.
لماذا لا نقول، تكون زكاة الفطر حيث تكون أصلح للفقير؟! ففي دولة مثل دول الخليج ، تكون القيمة أفضل لعدم وجود مجاعة ، وفقيرنا أحوج للمال ليشتري ما يحتاجه ويفرح به أطفاله ، وفي دول المجاعة مثلا ، تكون العين أفضل ، حيث حاجتهم للرز أو القمح أكثر ، وهكذا ،
وبالأخص أن المسألة خلافية بين أبي حنيفة والجمهور، والخلاف فيها معتبر.
وما دمنا في مناسبة موسمية، وأعني الاحتفال بمولده –صلى الله عليه وسلم-، فلنتكلم فيما يناسب المناسبة.
الاحتفال بمولده –صلى الله عليه وسلم- هو دعوة للتمثل بشمائله واتباع سنته ولكنه انقلب سبباً لاختلاف موسمي يتجدد بتجدد الموسم ، تختلف فيه القلوب ويبدع فيه الفرقاء بعضهم ، فجعلوا من مناسبة تذكُّرِهِ سبباً لحزنه على أمته ،
ومن المحزن أن الخلاف لا يحتمل كل هذا الاختلاف، وحتى يستبين ذلك، ننظر إلى حجة الفريقين.
يقول المانعون بأن الاحتفال بالمولد لا أصل له ، ولم يثبت عن الصدر الأول ، ضف إلى ذلك المنكرات الملازمة للاحتفال بالمولد.
ويقول المجوزون أن دعوى لم يثبت عن الصدر الأول ، هو من باب ما سكت عنه الشارع ، ولا يقتضي ما سكت عنه الشارع النهي ، على ما يقوله جمهور الأصوليين، كما أن النبي جوَّز لليهود احتفالهم بنجاة موسى فاحتفالنا بمولد النبي من باب أولى ، ضف إلى ذلك أنه لا يلزم من الاحتفال بالمولد وجود المنكرات.
هذا مختصر حجج الفريقين، ولكل وجاهته، وبكل قال علماء أفاضل
وسأستسمح الفريقين لأقول للمجوِّزين.
لو نظرنا إلى واقع احتفالات المولد في عالمنا الإسلامي لوجدنا أن المخالفات فيها وما يخل بمقصود الاحتفال هو الصبغة الغالبة ، كما أن حكم الاحتفال بمولده مباح ، فإذا أدى المباح في الغالب إلى مفسدة ، وهي وجود المنكرات ، وفساد ذات البين بين المسلمين ، أليس الأولى تركه، وقد ترك النبي –صلى الله عليه وسلم- إدخال الحِجْر إلى البيت لمَّا رأى المصلحة تقتضي تركه؟؟
وهل يرتقي التمسك بالمباح إلى ترك التأليف بين القلوب وما أحوجنا إليه اليوم؟!
ولأنتقل إلى المانعين للاحتفال لأقول:
ماذا لو خلا الاحتفال بالمولد من المنكرات، واقتصر على قراءة سيرته، وذكر شمائله، فما القول؟؟
ستقولون لم يثبت عند السلف
فإن قيل دعوى لم يثبت دعوى واسعة لا يصح الاحتجاج بها على المنع، لعدم اقتضاء عدم الثبوت للنهي والتحريم، فما تقولون؟!
أقول النظرة المتجردة تقول بتكافئ الأدلة ، والنظر إلى الحكم فقط دون النظر إلى الأثر المترتب عليه وبالأخص عند تكافئ الأدلة يشير إلى شيئين ، قصر نظر المتحاكم، وبالتالي الوصول إلى طريق مسدود ، وهذا مالا نريده.
ولذا فإنني سأخاطب عقلاء الفريقين ، وأقول..
كان يقال “إذا كنت في الكوفة فحدِّثْ بفضائل عثمان، وإن كنت في الشام فحدِّثْ بفضائل علي”
أعني لابد للقائلين بالمنع أن يشيعوا بين عوامهم الاقتصار على القول بعدم الجواز دون التبديع ، أو أنه يجوز الاحتفال بالمولد إذا خلا من المنكرات
ولابد للقائلين بالجواز أن يشيعوا بين عوامهم ، أن الاحتفال مستحب ، و أنه لو دعا التمسك به إلى الفرقة لجاز تركه
وبذا نكون قد تخلصنا من تبادل التبديع ، وضيقنا شقة الخلاف ، وقس على ذلك كل حكم يسوغ العدول عنه لاقتضاء مصلحة ، أو دفع مفسدة ، حسب الضوابط الشرعية.