المقامة الغَزَّيِّة
“المَقَامَةُ الغَزَّيِّة([1])”
هذه المقامة الغَزَّيِّة، بعد المقامة الدِّيناريَّة، سميتُها بهذا الاسم، لِمَا حل بغزة من الظلم، من جوع وحصار، ثم بطش ودمار، فقُتِلَ الأبرياء، وسالت الدماء، وتناثرت الأشلاء، فلا يُلام حرٌّ إن مات بعد ذلك من الهَمِّ، أو ذهبت نفْسُه حَسرةً من الغَمِّ([2])، والكلامُ عن مأساة غزة غيرُ كافٍ، والوصفُ غيرُ وافٍ، والبيانُ غيرُ شافٍ.
خطبٌ ألمَّ فلم يَسْطِعْ تحمُّلَهُ لفرط وطأته قلبٌ ولا خَلَدُ([3])
لقد رأينا المعتدين يدمرون المساجد([4])، ويدنسون الكتاب الخالد، ولم يرحموا طفلاً صغيراً، ولا شيخاً كبيراً، قتلوا الطفلَ أمام والدته، والرجلَ مع أسْرَته.
يا غيرةَ اللَه ابطشي بعصابة ألهاهمُ الجبروتُ والطغيانُ
ولقد أُهينت للمساجد حرمةٌ وأُهين في محرابها القرآنُ([5])
ونحن ـ لعجزنا ـ لاَ نَمْلِكُ عُدَّةً غَيْرَ الدُّعَاءِ، وَلا حِيلَةً إِلاَّ الرَّجَاءِ، فيا رَبِّ:
أدركْ بنصركَ أهلَ غزةَ إنهم ظُلموا فرِيعَ الشيبُ والشبانُ
أدركْ بها الضعفاءَ واستعجل فقد عزَّ النصيرُ وقلَّت الأعوانُ
وجرت دموع الحزن فوق خدودهم وتقرحت منهم بها الأجفانُ([6])
أيها الناس إني سائلُكم، وبالله مستحلُفكم، هل رأت البشريةُ منذ وجودها، مثل هذه الفظائع، أو عرفت البَرَيَّة عبر عهودها، مثلَ تلك الشنائع، هل فعل فرعونُ عُشْرَ ما فعلوا؟ وهل قتل نُمْرودُ([7]) معشارَ معشارِ ما قتلوا؟ بل لو وُضعت جرائم الطغاة عبر القرون في كِفّة، ووضعت جرائم أولئك في كِفة، لرجحت كِفة إجرامهم، وطاشت كِفة أقرانهم.
يا قوم اقطعوا حبال مَنْ ساند الطغاة، وانبذوا مَنْ صمت عن أفعال البغاة، يا قوم كيف تأكلون وتشربون، وتلعبون وتطربون، وأهل غزة يموتون؟
أَينَ الحَفائِظُ ما لَها لَم تنبَعِث أَينَ العَزائِمُ ما لَها لا تَنبَري
عِندَ الخُطوبِ النُكرِ يَبدو فَضلُكُم وَالنارُ تُخبِرُ عَن ذَكاءِ العَنبَرِ([8])
فاجْأروا بالدعاء لهم في الأسحار، وسلوا لهم التثبيت والنصر آناء الليل وأطراف النهار، ادعوا لهم، قولوا: اللهم كن معهم. فمن كان الله معه فهو الغالب، ومن كان عليه فهو الخائب، ولا تبخلوا بمدِّ يد العون لهم، فقد أعرض قريبُهم عنهم، وجار عدوُّهم عليهم، فلا تغضوا الطرف عن مأساتهم.
وَكَيفَ تَنامُ العَينُ مِلءَ جُفونِها عَلى نَكَبَات أَيقَظَتْ كُلَّ نائِمِ([9])
يا قوم عودوا إلى أصلكم، عودوا إلى جوهركم، ففي أصلكم الشهامة والوفاء، وفي جوهركم النجدة والإباء، فأنتم أحفاد الفاتحين، وأبناء الغر الميامين، فخذوا نصيباً من مآثرهم، وأعيدوا شيئاً من مفاخرهم، وهبوا لنصرة غزة، وسجلوا وقفة عزة.
سأفعلُ فعلَ أجدادي فإمَّا كما نالوا وإمَّا حيثُ صاروا([10])
وأنتم أيها المعتدون، وايْم الله([11]) إنكم أنتم الخاسرون، نعم خسرتم كل ما تريدون، ولم تحققوا ما إليه تَصْبُون، فإذا كانت غايتكم من عدوانكم تحقيق الأمن والأمان، فهذا لم يكن ولن يكون لمجرم عبر الزمان، لأن اللص يحسب كل صيحة عليه، وكل سهم موجهاً إليه، فلا يطيب له رقاد، ولا يتحقق له مراد.
وإن كان مرادكم من فعلكم، التخويف والترويع، والترهيب والتركيع، فهذا ضرب من المُحال، لأن الخوف لا مكان له في قلوب الرجال، وأمامكم رجال يطلبون الموت ويريدونه، كما تفرون منه وتخشونه.
كفاكم أيها المعتدون عدوانًا، وتجبراً وطغياناً، واعلموا أن دماء أجدادنا، ما تزال تسري في عروقنا، وغبار فتوحهم ما يزال محلِّقاً في سمائنا، فاحذروا غضب الحليم، كما نحذر منكم غدر اللئيم، فلقد أوشك صبر الأمة على النفاد، وهي عازمة على إعادة الأمجاد.
فَتَقوم أحفاد لأجداد مضوا وَتعيد مجد أولئك الأجداد([12])
ويا أهل غزة، أنتم رمز العزة، أرضكم مثوى الكرام، ومنبت الأعلام، ولست مبالغاً في هذا الكلام، ألم تضم أرضكم في بطنها هاشماً([13])، وتُخْرج للإسلام عالِماً([14])؟ هاشم عنوان الجود والبذل، والشافعي صِنوان العِلْم والفضل، اسمع إلى قول القائل من الفحول الأوائل([15])، يرثي هاشماً، فيقول متألماً:
مات الندَى بالشام لما أن ثوى … فيه بغزة هاشمٌ لا يبعد
واسمع إلى قول الآخر ([16])، يُجَلِّي ما للشافعي من المفاخر:
لِرَأيِ اِبنِ إِدريس اِبنِ عَمِّ مُحَمَّدٍ ضِياءٌ إِذا ما أَظلَمَ الخَطبُ ساطِعُ
أَبى اللَهُ إِلاّ رَفعَهُ وَعُلُوَّهُ وَلَيسَ لِما يُعليهِ ذو العَرشِ واضِعُ
فَمَن يَكُ عِلمُ الشافِعِيِّ إِمامَهُ فَمَرتَعهُ في باحَةِ العِلمِ واسِعُ
قال الشافعيّ يحن إلى غزة حنين المشتاق، بعد أن طوَّف في الآفاق:
وإني لمشتاق إلى أرض غزة … وإن خانني بعد التفرُق كتماني
سقى اللهَُ أرضاً لو ظفرتُ بتُربها … كحلتُ به من شدة الشوق أجفاني ([17])
فيا أيها الغزِّيُّون، أنتم ـ لعمر الله ـ منصورون، عرفتم الطريق فَسِرْتم، وما ضعفتم وما استكنتم، ولم تلتفتوا إلى أحد، وتوجهتم إلى الواحد الأحد، ومن كان مع الله كان الله معه، ومن كان الله معه، فلن يغلبه الوجود أجمعه.
——————————————————————————–
([1]) عند النسبة إلى اسم في آخره تاءُ التأنيث، فإن التاء تحذف، كـ ( مَكّي ) نسبة إلى مكة، و (غَزَّي) نسبة إلى غزة، وأَما قَوْلُ العامَّةِ مَكّاوِيٌّ وغَزَّاوي، فخَطَأ. انظر: الزبيدي: محمّد بن محمّد _ تاج العروس _ مادة: م ك ك. والكفوي: أبا البقاء _الكليات _ (ج 1 / ص 891).
([2]) مات ناسٌ وهم يتابعون الأخبار الواردة من غزة، في عدد من البلدان، منهم مَنْ نعرفه، ومنهم من سمعنا عنه.
([3]) القائل عبد الكريم القيسي البَسطي، وهو من شعراء الأندلس في القرن الأخير قبل سقوطها، وكان شاهداً على مأساتها، وليست النائحة كالثكلى كما تقول العرب في أمثالها.
([4]) بلغ عدد المساجد التي هدمت في غزة حتى الآن (الجمعة 12/1/1430هـ الموافق 9/ 1 /2009) ثمانية عشر مسجداً، وهذا منذ بداية تلك المجزرة المروعة التي بدأوها (السبت 29 / 12 / 1429 هـ الموافق 27 / 12 / 2008م)، كما نقلت وكالات الأنباء.
([5]) البيتان لجميل صدقي الزهاوي (ت: 1354هـ).
([6]) الأبيات للزهاوي من نفس القصيدة السابقة، وأبدلنا (أهل غزة) مكان (أمر قومك) كما في الأصل.
([7]) أحد الطغاة الجبارين وهو الذي حاول حرق إبراهيم عليه السلام، ونمرود: بالضمّ وإِهمال الدالِ وإِعجامها أي : يجوز أن نقول: نمرود، و نمروذ ، وذهب بعض النحاة إِلى أن اشتقاقه من التَّمَرُّد . انظر: ابن منظور _ لسان العرب _، والزبيدي _ تاج العروس _ مادة: ن م ر د.
([8]) البيتان لإبراهيم بن سهل الأندلسي (ت: 649 هـ ) . انظر ترجمته في الأعلام للزركلي – (ج 1 / ص 42 و43).
([9]) قائل البيت هو الأبيوردي أبو المظفر محمد بن العباس (ت: 507 هـ)، وفي الأصل (هفوات) مكان(نكبات).
([10]) البيت لمصطفى صادق الرافعي إمام العربية _ رحمه الله تعالى _ (ت: 1356 هـ / 1937 م).
([11]) أَيْمُ الله وإيمُ الله أَيضاً بكسر الهمزة، هي كلمة قسم. ابن منظور _ لسان العرب _ مادة: ي م ن.
([12])البيت لجميل صدقي الزهاوي.
([13]) هاشم بن عبد مناف بن قصي بن كلاب بن مرة، من قريش(مات نحو 102 ق هـ، 524 م): أحد من انتهت إليهم السيادة في الجاهلية، ومن بنيه النبي صلى الله عليه وسلم قالوا: اسمه عمرو، وغلب عليه لقبه ” هاشم ” لأنه أول من هشم الثريد لقومه بمكة في إحدى المجاعات. مات في غزة، وبه يقال لغزة: ” غزة هاشم ” وإليه نسبة الهاشميين. انظر: الأعلام للزركلي – (ج 8 / ص 66).
([14]) المراد به الشافعي: هو محمد بن إدريس القرشي المطلبي، فقيه العصر، صاحب المذهب، لَهُ: كتاب (الأم)، وكتاب (الرسالة)، وغيرهما، ولد بغزة سنة (150 هـ) على الأصح، وتوفي _ رحمه الله تعالى _ بمصر سنة ( 204 هـ ). انظر: النووي _ تهذيب الأسماء _ (ج 1 / ص 64).
([15]) مطرود بن كعب الخزاعي: شاعر جاهلي فحل. لجأ إلى عبد المطلب بن هاشم ابن عبد مناف، لجناية كانت منه، فحماه وأحسن إليه، فأكثر مدحه ومدح أهله. الأعلام للزركلي (ج 7 / ص 251).
([16]) ابن دريد: محمد بن الحسن بن دريد الأزدي القحطاني )ت: 321 هـ ( من أئمة اللغة والأدب، كانوا يقولون: ابن دريد أشعر العلماء وأعلم الشعراء، وهو صاحب المقصورة الدريدية، من كتبه (الاشتقاق) في الأنساب، و(الجمهرة) في اللغة، ثلاثة مجلدات، و(أدب الكاتب)، و(الأمالي). المرجع السابق(ج 6 / ص 80).
([17]) انظر: الحموي: ياقوت _ معجم البلدان _ باب الغين والزاي وما يليهما.