لأحتنكنَّ ذرِّيته إلا قليلا
لأحتنكن ذريته إلا قليلا
زارني صديق ذات ليلة ، وكان ممن يزور غِبَّا ويُكِن حُبَّا ، وكنت ألاحظ على هذا الصديق شيئا يجعلني أشفق عليه ، وذلك أنه أثناء كلامه وبينما هو مسترسل في حديثه يقطع حديثه فجأة ويستغفر مُقَطِّباً جبينه مغمضاً عينيه ، فكان كأنه يحاول إبعاد شيء خطر في قلبه فجأة ، ويزيح صورة طفت على سطح مخيلته قسرا
كان هذا يتكرر أمامي كثيرا ، وكنت أتحاشى الحديث معه بشأنه خشية أن أحرجه وأسئ إليه بتطفلي بيد أنى لم أتمكن هذه المرة من السكوت ، فابتدرته قائلا :
لا يزال الشيطان بالإنسان مادام الشيطان والإنسان ، فالحرب القديمة التي ابتدأت بإخراج أبينا وأمنا من الجنة لا تزال معاركها دائرة وأوارها مستعرا ، والشيطان لن يقنع منا بغير الانصياع له والطاعة ، وفى هذا الهلاك والخسران ، فلا بد من المقاومة والرفض ، ولابد من تعلِّم الطريقة الصحيحة في التعامل مع العدو ، وإلا سينجح بتعذيبنا وإتعابنا .
ابتدأت حديثي بهذا وتوقفت هنا لأنظر أثر ما قلت على صاحبي ، ففوجئت بما لم أكن أتوقعه ، فوجئت به ودموعه تنهمر بغزارة ، ثم أخذ ينشج بشدة ، مما جعلني أندم على ما قلت ، وأخذت أجلد نفسي بالملامة والتأنيب .
ففلما هدأ وسكنت عبرته ، قلت له معتذرا : أنا آسف جدا ولم أكن أقصد إثارة شجونك ، فقاطعني : كلا، كلا ، أنت أصبت في كل ما قلت ، ولأنك وضعت أصبعك في موضع الداء آلمني فانفجرت باكيا ، ولم يعد للتحفظ مكان ، نعم ، لقد أنهكني الوسواس وأتعبني ، حتى أنى أكاد أن أجن وأفقد عقلي ، وأنا عاجزٌ أمامه .
فقلت محاولاً على قدر فهمي مساعدته:
نعم إن الأمر صعب ومجهد ، فنحن نقاتل عدوّا يرانا ولا نراه ، وقد تزوّد لحربنا بأسلحة مدمرة من الإغواء والإغرار والتزيين والتخييل والتخويف والتهويل ، مكّنته خبرة آلاف السنين من تطويرها وشحذها وابتكار غيرها ، عدوّا قادرا على النفوذ داخل صدورنا وعقولنا وقلوبنا ، وهو يعلم موضع ضعفنا ، ويجرى منا مجرى الدم في القلب والعروق .
نعم إن الأمر شاق ، ولكن هذا لا يعنى إننا قد تركنا نهبة للشيطان ولم نزود بسلاح للمقاومة ، كلا، بل نحن نملك سلاحا فتاكا لا يقدر شياطين الأرض كلها على الوقوف في وجهه ، هو ذكر الله تعالى .
الله تعالى التي اقتضت حكمته إطلاق يد الشيطان بالوسوسة والإغراء وذلك بقوله:
( واستفزز من استطعت منهم بصوتك واجلب عليهم بخيلك ورجلك )
اقتضت رحمته تعالى ولطفه بأن يزود بني آدم بسلاح الدفع والمقاومة والاحتماء ، فقال عز وجل :
( إن عبادي ليس لك عليهم سلطان )
وأعطانا السلاح الذي يخولنا أن نكون من عباده المُخلَصين الذين لا سلطان للشيطان عليهم بقوله:
( وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله إنه سميع عليم )،
وقال سبحانه : ( فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم ، إنه ليس له سلطان على الذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون )
ولا يزال العبد يذكر الله تعالى حتى يتقلّص موضع الشيطان من قلبه ويصغر ، ويمتلئ قلبه نورا يطرد خفافيش الظلمة .
قال صاحبي: ولكن مع كثرة ذكرى لله تعالى لا يزال سلطان الوسوسة في قلبي طاغياً متزايدا.
قلت : مادمت تُرعى سمعك لما يقوله الشيطان ، فلن يقطع هو الرجاء منك ، لا سيما وهو يراك تحزن وتتألم وتبكى من فعله ، فهو يواصل الضغط عليك، أملاً بان يحظى منك بالمزيد ، لابد يا صاحبي من صرف الفكر والانتباه عما يلقيه عليك ، والتجاهل التام والمضي قدما دون التفات له ولأباطيله
ولعل الذي يؤلمك هو اقتناعك أن هذا الذي تجده في صدرك منبعه قلبك الشاك وضميرك المرتاب، وهذه هي الحيلة التي يلقيها الشيطان عليك ،
كلا يا أخي، إن مصدر الذي تجده في قلبك هو الشيطان وليس ضميرك، والدليل هو رفضك وألمك وبكاؤك، فما عليك إلا التجاهل والمضي.
يحكى أن رجلا مصاب بوسواس التطهر جاء إلى احد العارفين وشكي له ما يجده من ذلك ، وبين له انه على حافة الجنون ، فابتسم الشيخ والتقط روثة يابسة بيده وقال :
ضع هذه الروثة في ثوبك وصلِّ بها
فقال الرجل مستغربا : ولكنها نجسة !!
قال الشيخ : اعلم أنها نجسة ، وأنا أجيز لك الصلاة بها ، ألا تثق بكلامي ؟
وكان الرجل يثق بكلام الشيخ، ويعرف تقواه وورعه وزهده ، ففعل ما قاله ، وبعد فترة انقطع الوسواس عنه .
المغزى من القصة وما فعل الشيخ هو صرف الانتباه عن الباطل الذي يلقيه الشيطان ، وأنت يا أخي متى تمكنت من ذلك سترى أن الوسواس انقطع عنك ،
أرأيت لو أن رسالة من السلطان الذي تثق به وتحبه وصلتك ، وفيها أن السلطان يدعوك إلى قصره ليكرمك ويخلع عليك وتنعم بجواره ، وكان فيها أن الطريق إلى القصر بعيدة شاقة متعبة ، وانك ستلتقي فيها بقوم من الغوغاء الكذابين الذين سيحاولون عاقة طريقك ، فما عليك إلا صمّ أذنك عن كلامهم والتجاهل التام لهم والمضي قدما نحو القصر ، وألا تلتفت وتصغي لقولهم ، فانك ستسمع كلاما كثيرا القصد منه تأخيرك حتى يحل عليك الظلام ، فلا تتلكأ وتتوان ، ولا تحزن لما تسمع ، فما هو إلا كلام هراء لن يؤذيك
وعندما سلكت الطريق وجدت كل ما أخبرك به السلطان حقا ، فوجدت هؤلاء القوم ، فهل أنت آخذ بنصيحة مليكك ، أم تراك ستتوقف بسبب كثرة إلحاحهم ؟
أتعرف يا صاحبي أين موضعك الآن ؟
إنك متوقف هناك في منتصف الطريق، لشدة ما تجده من ألم نتيجة كلام الغوغاء ونباح كلابهم، وما دمت مصغيا لهم سيزداد ألمك ولن تقدر على الاستمرار وبلوغ الغاية.
قم الآن من عثرتك وانفض عن أذنك ما سمعته، فما هو إلا هراء، وامض حيث وجهتك، سيلحقون بك بعض الوقت، وسيحاولون مجددا، فلا تكترث، واعلم انه كلام لا حقيقة له، ولا طائل تحته، أما سمعت زعيمهم يقول:
( وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي )
أما سمعت مليكك يقول : ( إن الشيطان كان للإنسان عدوّا مبينا )
( إن الشيطان لكم عدوّ فاتخذوه عدوّا )
واعلم يا صاحبي انك لست وحدك على الطريق إلى الملك ، كلا ، فبنو أبيك كلهم على الطريق معك ، وكلهم يجد من هؤلاء الكذابين ما تجده ، فمن أصغى منهم وتوقف وطال به الوقوف حتى حل عليه المساء والظلام استحوذ علبه أولئك القوم ، ومن تجاهل وحث السير وتابع الخطى صامّا عن كل ما يقال وصل وأمن .
واعلم أن اللصوص لا تقصد بيتا خاليا خربا، كلا، ونما وجهتها دائما البيوت الغنية بالجواهر الزاخرة بالتحف، وقلبك ما قصده الشيطان إلا لكونه غنيا، فأحكم إغلاقه وداوم على حراسته، وإياك أن تفتر قبضتك وتتراخى عن السلاح.
أخذت نفسا عميقا ونظرت إلى صاحبي ، فوجدت ابتسامة حلوة على ثغره ، وعلا البشر محياه ولمع في عينيه بريق أخَّاذ
فقلت: نعم يا صديقي بهذه الروح مستطيع مواصلة الحرب مع عدوّنا وهزيمته ودحره
ثم قام صديقي مودّعا وتبعته داعياً ومشيّعا