الدعوة والعصبية
الدعوة والعصبية
لقد كنت أتكلم في موضوع علمي مهم، يتعلق بالعقيدة فبحثته من جميع جوانبه، وبينت أقوال العلماء فيه ثم عرضت لرأي ابن القيم – رحمه الله – في الموضوع، وكان مما انفرد به عن عامة المسلمين، وبيّنتُ خطأه فيه، ووجّهْت ذلك بالدليل والبرهان لكي لا يكون في الأمر لبس أو شبهة، وإن كان لا يحتاج إلى دليل، لأنه مما كاد يكون معلوماً من الدين بالضرورة.
رسالة على المكتب ؟
وفوجئت بعد يومين برسالة على مكتبي من أحد الطلبة، يشكر فيها اهتمامي بالمحاضرات وأثري في الطلاب ويثني ويؤكد الثناء بالثناء، ثم قال : بلغني أنك تعرضت في المحاضرة الماضية لابن القيم، وبينت خطأه في الموضوع الفلاني، وليتك لم تفعل، لأن أحد الطلبة، ممن كان يكن لك المحبة والاحترام، قد آلمه ما ذكرت عن ابن القيم، لأنه يحبه، ونشأ على كتبه، ومن ثم قال : إنك سقطت من عينه، إذ أبنت خطأ من يحب …؟! طويت الرسالة ، ولم يكن ما وجدته فيها مفاجأة، لأني عهدت من قبل مثل هذا الخلق في بعض من ينتسب إلى الدعوة …
المنهج الوسط في النقد
ثم دخلت إلى قاعة الدرس، وافتتحت بما يمس هذا الموضوع، مما يجب أن يعلمه كل داعية مسلم، وينتبه له، فقلت إننا نحن المسلمين، من علماء … ودعاة … ومفكرين … عندما نثني على إنسان ما، في موضوع ما، لا نعني أن هذا الإنسان معصوم عن الخطأ، ومصيب في كل ما أتاه من عمل، وإنما نريد الثناء عليه، فيما عرضنا له من موضوع الساعة، أو على مجمل خلقه وسيرته، وعندما ننقد إنساناً ما، في موضوع ما، لا نعني أننا نريد انتقاص هذا الإنسان، ونفي صفة العلم عنه إذا كان عالماً، أو صفه الداعية إذا كان داعية، ولا نريد أن نحط منزلته، وإنما نريد أن نبين أنه أخطأ في المسألة الفلانية، مع المحافظة على ماله من مكانة في العلم، وتضحية في الدعوة، وأثر في الفكر، إذ النقاش والنقد حول فكرة معينة، لا حول الرجل وفكره ودعوته .
العصمة لمن عصمة الله
ونحن المسلمين لا يوجد عندنا إنسان معصوم عن الخطأ، أياً كان هذا الإنسان، صحابياً، أم تابعياً، أم إماماً مجتهداً، أم من عامة الناس، سوى من عصمة الله تعالى من نبي أو رسول. وما سواهم، يؤخذ منه ويرد عليه، كما قال الإمام مالك رحمه الله ” كل رجل يؤخذ منه يرد عليه إلا صاحب هذا القبر، وأشار على قبره صلى الله عليه وسلم “، يستوي في ذلك عندنا كل إنسان من المسلمين، كبر شأنه أو صغر، علت منزلته أو نزلت، لأننا جميعاً خاضعون لشرع الله، وهو الحاكم علينا،
ونحن نعرف الرجال بالحق، ولا نعرف الحق بالرجال، ونزن الإنسان بميزان الشرع، ولا نزن الشرع بميزان الناس، والدين عندنا غير منوط برجل، لا يؤخذ إلا منه، ولا يروى إلا عنه، ولا يعرف إلا منه، لأن ديننا جاء ليوجِّه الناس، لا ليوجَّه من قبل الناس، فما قاله أي إنسان في الدنيا نعرضه على مصادر التشريع، فما وافقها أخذنا به، وما خالفها أعرضنا عنه، ولا يغيّر هذه القاعدة مكانةُ الرجل ولا منزلته.
الحق لا الرجال
وإنما يعرف الحق بالرجال عند غيرنا من الوثنيين. الذين اتخذوا من الرجال أرباباً من دون الله، فـما رضوا عنـه؛ فهو الحق وما سخطوا عليه فهو الباطل ؟ وإن كان في الواقع خطأ، فأنزلوا الناس بمنزلة الله، ولا كذلك نحن المسلمين، وليس عندنا من يقال فيه، لا يسأل عما يفعل إلا الله، أو من أوجب الله على الناس طاعته من نبي أو رسول .
وإن مما يخلّ بمكانه الرجل ، وينزل بمرتبته، إن يوضع في منزلة غير منزلته، فمن زعم أن زيداً من الناس معصوم لا يخطئ، فقد وضعه في منزلة غير منزلته، ألا وهي منزلة الله، أو الرسول، وهذا هبوط بالإنسان.
إذ الهبوط بالمرء عند العقلاء أن يوضع في غير موضعه، علا الموضع أو نزل، لقد جاء الإسلام ليخرج بالناس من عصبية الجاهلية المنتنة، إلى سماحة الدين الغضة، ومن التحيز لقبيلة أو جنس أو لون إلى العدالة والمساواة بين جميع الخلق.
النقد للإصلاح
ولقد علمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ينقد بعضناً بعضاً من أجل الإصلاح، فجعل المرء مرآة لأخيه، وأمرنا أن نقبل النقد، لأن كل بني آدم خطاء، ولقد علمنا أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم – وعلى رأسهم الخلفاء الراشدون – بسلوكهم العملي، كيف يرضى الإنسان المسلم بما يوجه إليه من نقد ويستغفر مما كان قد وقع به من خطأ .
أسلوب الصحابة
لقد رد عبد الله بن عباس ، وهو من أصغر الصحابة سناً، على أمير المؤمنين، الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه في كثير من مسائل العلم، ولم يقل أحد من الناس إن ابن عباس أخطأ لأنه رد على عمر …، ولم يفهم أحد من الناس أن ابن عباس كان ينتقص عمر أو يحط من شأنه، بل ردت عليه امرأة، وأبانت عن وجه خطئه، وقَبِل .
واستدركت عائشة – رضي الله عنها – على العشرات من كبار أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يفهم أحد منهم أنها أساءت، لأنها بينت خطأ أو وهم من أخطأ أو وهم، ولم يفهم أحد من الناس أنها كانت تنتقصهم، أو تحط من شأنهم .
بين الشافعي ومالك
ورد الشافعي على مالك ، في كتاب كامل ” كتاب الوضع على مالك ” ولم يقل أحد إن الشافعي أساء ، أو أنه انتقص مالكاً ، كيف…؟ وهو القائل فيه : إذا ذُكر العلماء فمالك النجم ، وكان تلميذاً له، تفقه عليه، ورَوَى عنه، لأن الأمر ليس أمرَ شخص، وذات، وهوى ، وإنما هو أمر دين يستوي فيه قَدَمُ الجميع، والحق أحق أن يتبع.
بين القاضي والشافعي
لقد كان القاضي عبد الجبار من أشد الناس تمسكاً بأصول الشافعي، شديد الدفاع عنها، ولما وصل إلى مسألة نسخ الكتاب بالسنة – والشافعي يقول : لا ينسخ الكتاب بالسنة، ولا السنة بالكتاب، في مذهب خاص له، انفرد به عن جمهور الأصوليين، وعلى تفصيل فيه، ليس هذا مكانه – عندما وصل القاضي إلى هذه المسألة قال :
الشافعي كبير، والحق أكبر منه، ألا إن القرآن ينسخ السنة، والسنة تنسخ القرآن، ولم يقل أحد من الناس إنه أساء، وإنما قالوا ولا زالوا يقولون، إن القاضي من أشد الناس تمسكاً بأصول الشافعي، إلا أن القاضي أنزل الشافعي منزلة البشرية، ورد عليه فيما يعتقد أنه خطأ، ومن قرأ كتب فقهاء هذه الأمة وجد أمراً عجباً من حرية الرأي – ضمن الضوابط والقواعد العلمية – وحرية النقد والاختيار، ما لم يكن هوى.
بين الأمس واليوم
وكان هذا دأب سلف هذه الأمة، وخلفها، من العلماء، والدعاة، إلى أن وصلنا إلى ما نحن فيه من عصبية، كادت وللأسف أن تذهب برواء كثير ممن يتكلمون في هذا الدين، ويدعون إليه.
الرأي والهوى
فوصل بعض الشباب إلى مرحلة، إذا تقلد فيها رأياً، عَمِيَ عما سواه، وأصم أذنه عند سماعه، وكأنه أوحي إليه أن الله قد جمع الحق في هذا الذي أُشرب قلبه بمحبته، فهو ليس بمستعد لسماع أي نقد، أو أي نصح، أو أي اعتراض، ومن ثم فهو ليس على استعداد لأن يعتقد أن هذا الذي اعتقد رأيه قابل للخطأ…؟
بعض الشباب قرأ لسيد قطب – رحمه الله -، وأسكنه فسيح جناته – وتعشق كتبه وأفكاره وإلى هنا نعتبر هذه فضيلة، ونقبـلها، إلاّ أنه وصل الأمر ببعضهم إلى ما ذكرت، مما وصفت من العصبية المفرطة لكل ما قال، وهذا لا نقبله.
وبعضهم قرأ لأبي الأعلى المودوري – رحمه الله، وأسكنه فسيح جنته – وصار أيضاً أمره كما ذكرت.
نحن لا ننكر أن سيداً، وأبا الأعلى وغيرهما، قد أثروا المكتبة الإسلامية بتراث فكري كان ينقصها، وسدوا ثغرة من ثغر العلم، وجهروا بمبادئ الحق، وزيّفوا أباطيل الخصوم، وجزاهم الله عن كل من قرأ لهم واستفاد منهم خيراً .
إلا أن هذا لا يعني أنهم معصومون، بل هم من بني آدم الذين قال فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ” كل بني آدم خطاء …” .
وربما جاء من بعدهم يساويهم، بل يفوقهم، وفضل الله واسع، يؤتيه من يشاء، ولكل مجتهد نصيب، ولم يخل ذلك بمرتبتهم ومقالهم، فإذا ما سمعنا اعترضا على أحدهم، ممن ألِفنا و أحببنا، لا يجوز أن نرد الدعوى والاعتراض ، لأنه قائل الكلام فلان، فلا أعترض عليه، ولا يخطئ، بل نسمع الاعتراض، ونناقشه، فإما أن نقتنع، وإما أن نقنع .
الفكرة لا أصحابها
والجدل يجب أن يدور حول الفكرة المعترض عليها، لا حول قائلها، لأن قائلها لم يقل هذه الكلمة فقط حتى يصبح رهيناً لها، ولن ينقصه أن يثار حول بعض آرائه الجدل، لما ذكرت من سلوك سلف هذه الأمة وخلفها، وكفى المرء نبلاً أن تعد معايبه .
الغلو في النقد
وعلى العكس من ذلك نجد إنساناً آخر، يغالي في النقد، ويفرط فيه فيأتي إلى كلمة جرت على لسان أحد الأئمة، ويجعل منها شخصية الرجل الكامل، ومن ثم يفجرها فيه، ليذهب بكل فضل له من أجلها.
كمن يأتي إلى كلمة جرت على لسان حسن البنا رحمه الله ككلمة القومية، أو الجمهورية، أو غير ذلك، ويحاول أن يتخذ من مثل هذه الكلمات ذريع إلى هدم ( أفكار ) حسن البنا، وأنه كان لا يفهم الدعوة، وأنه كان وكان… ويغمض الطرف عن كل ما كان من فضل لهذا الداعية العظيم، وينسى كل كلماته، وأقواله، وينسى تضحيته وجهاده، وينسى أنه هـو الذي أنشأ الجيل الجديد الذي سوف يعود للإسلام على يديه – بإذن الله – عـزته وكرامتـه، والذي يمتد اليوم من شرق الأرض إلى غربها.
ولقد أذهلني والله حين قمت بزيارة لبعض دول جنوب شرق آسيا في الصيف الماضي ورأيت مئات الآلاف من الشباب يسيرون على قدمه، ويعتنقون الدعوة طريقه، ولو أن حسن البنا لم يقل في حياته إلا هاتين الكلمتين فقط لسلمنا لذاك المعترض اعتراضه، ولجرينا في الرجل مجراه، إلا أنه قال الكثير، وفعل الكثير سواهما، مما أضاء الطريق لكثير من السالكين.
فمن الخطأ أن نترك كل فضله ونمسك ببعض خطئه.
نعم… ونحن نقول كما يقول… لا نؤمن بالقومية، ولا بالجمهورية، ونعتبر هذا خطأ، إلا أنه لا يذهب بمكانة قائله، ولا يسقطه، لأنا نعلم يقيناً، أنه ما قال ما قاله إلا اجتهاداً أخطأ فيه، ولقد عفَي الله عنه، ونسأله أن يؤجره أجراً واحداً عليه .
الهوى أعمى
ومن هذا القبيل ما يكون من بعض الدعاة الذين يتخذون الدعوة وسيلة لتثبيت مواقفهم، وتدعيم آرائهم، وإن كانت مواقفهم وآرائهم خاطئة – وعلى حساب الدعوة.
يختصم اثنان حول فكرة ما، أو حول أمر معين، فما يكون من أحدهما إلا أن يذهب إلى أصحابه، الذين يؤمنون بفكره، ويقول لهم : إن فلاناً اعترض علي، أو علينا، وما يكون منهم إلا أن يقاطعوه، بل يذموه، دون أن يعرفوا وجه اعتراضه، ودون أن يناقشوا رأيه، أو يسمعوا كلامه، بل لمجرد سخط فلان عليه، أو لمجرد اعتراضه، فجعلوا من أنفسهم إمعة يأباها الإسلام، و يأباهم الخلق الإسلامي الكريم.
ولقد حفظوا جميعاً أن الله عاتب نبيّه داود إذ تسرّع بالحكم في مسألة النعاج، دون أن يسمع من الخصم، وعرفوا جميعاً أن هذه عصبية يمقت الإسلام عليها، وأدركوا جميعاً أننا يجب علينا أن نبني آراءنا في الرجال على قواعد العقل و الدين، لا على قواعد العاطفة والهوى، وإن هذا الميزان يقول: لا يمكن أن ينقلب الرجل، وبلحظة واحدة، من صديق إلى عدو، دون أن يحدث أي تغيير في فكره أو دينه بل لمجرد أنه رأى رأياً يخالف رأي من يحب، أو اعترض عليه، وتزاد الثقة، ويتسع الخلاف، وينقض العدو فيفتك بالفريقين، بعد أن تفرقا ففشلا، فذهبت ريحهما .
ولولا أن الظروف لا تسمح لي بالكلام التفصيلي لسردت من الوقائع والأرقام ما يشيب له رأس الداعية، مما يعانيه إخواننا المسلمون في الدعوة اليوم .
الإنصاف، الإنصاف
ولذلك يجب علينا جميعاً أن نتحلى بفضائل الإنصاف، وأن نعلم أن الأشخاص ذاهبون، وأن الدين باق، وأن الأشخاص محكومون، وأن الشرع حاكم، وأن كل إنسان يؤخذ منه ويرد عنه إلا صاحب الدعوة صلى الله عليه وسلم.
ولا يجوز بحال من الأحوال أن يكون المرء إمعة، إن أحسن الناس أحسن، وإن أساءوا أساء.
فما جاء الإسلام إلا لينقذنا من العصبية ويبعدنا عن الهوى والله الموفق والهادي إلى سواء الرشاد.