أدب الحوار
الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله
والصلاة و السلام على حبيبه سيدنا محمد و مصطفاه و على آله الطاهرين وصحبه الطيبين ومن سار على هداه…
وبعد … فهذه أولى رسائل الاستنارة و الاستبانة وسمتها بموضوعها وهو أدب الحوار نستنير من قبسها منهج موقع المستنير ونتلمس من خلالها وأمثالها ما نستطيع أن نقدمه من مساهمة في وضع لبنة إعادة بناء الشخصية الإسلامية القادرة على إدراك أولويات متطلبات الأمة وأملنا في ذلك بالله كبير وهو مولانا فنعم المولى ونعم المصير…
فأقول وعلى الله التوفيق …تعاني الأمة من أمراض كثيرة و لكن الأشد فيها فتكا ثلاثة أمراض :
أولها : اختلاف أهل الدين على ما لا يصح الاختلاف فيه، وهم من يرجى منهم النهوض بالأمة.
ثانيها : غفلة كثير من هؤلاء عن احتياجات الأمة الماسة.
ثالثها : اليأس الذي أصاب الكثير من المخلصين من وجود علاجا لهذا الخلاف ، وبالتالي تركه كما هو ينخر بالأمة…
ولو بحثنا في أسباب هذه الأمراض لما احتجنا إلى كثير عناء ولوجدناها راجعة إلى انعدام الحوار أو إلى الخلل فيه فإذا توصلنا إلى إيجاد حوار أو علاج الخلل في هذا الحوار نكون قد وضعنا أيدينا على الداء وبالتالي يسهل بعد ذلك الحصول على الدواء …
ولا أعني بالحوار حوار المجالسة وشروطه و آدابه ولكن أعني فكر الحوار من حيث النتيجة والأثر، من عدم إغفال الرأي المقابل إن كان معتبرا، والوصول إلى حتمية الخلاف والتسليم بأن الخلاف ظاهرة صحية لا مرضية وأن حاجة الأمة ماسة إلى مثل هذا الخلاف، إذ لا سبيل إلى حجر العقول على قول واحد، حيث أن هذا الحجر هو نفق الغلو ومحضن التصنيف والتبديع…
مما سبق يتبين لنا أهمية الحوار، ومعناه المطلوب… وإذ فرغنا من ذلك نقول : متى يكون الحوار صحيحا؟! أو بمعنى آخر ما هي ضوابط الحوار المطلوب ؟!
تتلخص ضوابط الحوار من المطلوب بما يلي :
أولا : نية جمع الكلمة ونبذ الفرقة .
ثانيا : ظهور الحق دون اعتبار لجهة ظهوره.
ثالثا : الصواب والخطأ محتمل عند الطرفين.
رابعا : لا ينبغي أن يكون الحوار سبيلا لفساد الود وذات البين.
ولا يتأتى ذلك إلا بمعرفة أصول الاختلاف ودواعيه وأدبه وثمراته … وهو فحوى الخطاب في هذه الرسالة…
ولنبدأ ببيان معنى الاختلاف بسؤال :
هل الخلاف و الاختلاف شيء واحد أم هناك تغاير بينهما؟!
ولنترك الإمام أبا البقاء الكفوي يفرق بينهما من خلال “كلياته” فيقول …
أولا : الاختلاف هو أن يكون الطريق مختلفا و المقصود واحدا
والخلاف أن يكون الطريق والمقصود مختلفا.
ثانيا : الاختلاف من آثار الرحمة والخلاف من آثار البدعة… يتبين من ذلك أن الخلاف ما يحمل في مضمونه النزاع و الشقاق والتباين الحقيقي… والاختلاف ما يحمل التغاير اللفظي لا الحقيقي، لذا لا يقتضي الاختلاف التنازع و الشقاق كما يقتضيه الخلاف…وعلى هذا المعني يحمل قول سيدنا عبدالله بن مسعود “الخلاف شر”.
وبناء على ما علمناه من الفرق بين الخلاف والاختلاف نرى أن ما يجري على الساحة هو الخلاف و هو الشر…فكيف تحول الاختلاف المشروع إلى خلاف ممنوع؟! وأين الخلل في ذلك؟!
أقول يمكن إجمال لك فيما يلي :
أولا : عدم الوعي بأسباب الاختلاف.
ثانيا : الاقتصار على رأي دون اعتبار للرأي المخالف.
ثالثا : نقل الاختلاف من العقل إلى القلب.
رابعا : تقديس الرجال.
خامسا : التراشق عن بعد دون الاتصال المباشر.
ونأتي الآن لبيان ما أجملنا … ونبدأ بعدم الوعي بأسباب الاختلاف … والتي تتلخص في ثلاثة أمور …
أولها : اختلاف العقول مما يقتضي اختلاف إدراك المدرك، فما يفهمه زيد مثلا من النص ليس بالضرورة أن يفهمه بكر … وما يقرره بكر لا يلزم أن يوافقه عمرو …وهكذا.
ثانيها : طبيعة النصوص التكليفية وما يعرض لها من احتمال او يطرأ عليها من إجمال، ما يجعلها تقتضي التقلب بين راجح ومرجوح،ومجمل ومبين، وخاص وعام، مما يدور حول المظنونات فلا سبيل للقطع في الرجحان فيتخرج من ذلك أكثر من رأي وقول.
ثالثها : طبيعة اللغة العربية وما يقتضيه اختلاف المعاني من اختلاف في المدلول … فتجد اللفظ يشترك فيه الجمع من المعاني، مترادفات كانت أو متغايرات ومتضادات … وذلك راجع إلى اتساع الساحة المجازية في اللغة كاحتمال لفظ القرء للطهر والحيض … واحتمال لفظ العين للباصرة والجاسوس والشيء … وهكذا مما لا يحصى كثرة في اللغة و الكتاب والسنة… هذه هي أسباب الاختلاف والتي تجعل ممن يدركها ويعلم أن الاختلاف واقع مسلم، وحتمية صحية، لابد من تأصيلها والتأكيد عليها وما تقتضيه الطباع السليمة …
ولو قال قائل … فما توجيه قوله تعالى إذا في صورة هود “ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك”
نقول … توجيه الآية أن الاختلاف المذكور في الآية يتناول الاختلاف المذموم في أصول الدين لا الفروع … أو بما كان قطعي الثبوت و الدلالة بما لا يحتمل غيره… كقوله تعالى “ليس كمثله شيء”… و قوله تعالى “ماكان لله أن يتخذ من ولد”… وأما الاختلاف في الفروع فهو رحمة واسعة للأمة وقد وقع بين الصحابة رضي الله تعالى عنهم على عهد النبي صلى الله عليه وسلم و أقره كما في غزوة بني قريظة في أمره للصلاة …كما وقع كذلك في جميع العصور … وقد فقه السلف ذلك وفرحوا به وارتضوه … قال الإمام الحجة القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق رضي الله عنهم “لقد نفع الله باختلاف أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في أعمالهم، لا يعمل العامل بعمل رجل منهم إلا رأى أنه في سعه، ورأى أن خير منه قد عمله …” جامع بيان العلم وفضله “ابن عبدالبر”
بل إن عمر بن عبدالعزيز يقول : “ما أحب أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يختلفوا لأنه لو كانوا قولا واحدا كان الناس في ضيق، وإنهم أئمة يقتدى بهم، فلو أخذ رجل بقول أحدهم لكان في سعه”… المصدر السابق.
وذلك ما دعى الموفق ابن قدامة الحنبلي وغيره أن يقول : “اتفاقهم حجة قاطعة، واختلافهم رحمة واسعة”.
بعد أن فرغنا من بيان السبب الأول من تحول الاختلاف المشروع إلى خلاف ممنوع نشرع في بيان السبب الثاني وهو الاقتصار على رأي دون اعتبار للرأي الآخر فنقول … الاقتصار على رأي دون اعتبار للرأي الآخر مظنة لقصور الرأي وقصر النظر، واعتداد لا محل له من الاعتداد … وواجب على المسلم أن يخرج من قوقعة الاعتداد بالرأي والإزراء بالرأي الآخر إلى رحبة تعدد الرؤية … فنحن نقر ونعتقد بأن كلا يؤخذ من رأيه ويرد إلا المعصوم صلى الله عليه وسلم … وبناء على ذلك فلا يمكن ادعاء الصواب المحض مادام الغلط محتملا …ومادام الحال كذلك فلم إعمال القول وتهميش القول المخالف؟…لماذا لايمكننا أن نعيش هذه المقولة المريحة الدافعة للضيق بالقول المخالف “قولي خطأ يحتمل الصواب وقولك صواب يحتمل الخطأ … أليس ذلك ما يقرره العقل والنقل والواقع …لماذا نحرك كوامن الشقاق بتهييج طبيعة القلب المخالف ممايستغله المتربصون و الفرحون بكل شقاق يوهن الأمة، وفي مقدورنا أن نفسد عليهم ذلك بتوسيع ساحة الرأي، والتسليم بحتمية الاختلاف … مما ينبني على ما سبق وهو إغفال القول الآخر والاعتداد بالقول الواحد تحول الاختلاف العقلي المحمود إلى الخلاف القلبي المذموم، وتحوله من رحمة وسعه إلى عذاب وشقه …وهو السبب الثالث لخلل الحوار …فالعقل محل الأحكام و القلب محل العواطف ولابد من فصل هذين المحلين حين الفصل بالقول أو العمل … قال تعالى : “يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ولا يجرمنكم شنئان قوم على ألا تعدلوا”…أي لا تجعلوا البغض وهو عاطفة وانفعال يؤثر على العدل وهو حكم …ولذا قال صلى الله عليه وسلم لا يقضي القاضي حين يقضي وهو غضبان …وقيس على الغضب السرور بجامع الانفعال واستواء المؤثر…وقال تعالى “أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى” …أي إذا غلبت عليها عاطفتها …
ومما يجدر ذكره أن بعض المحاكم الغربية لا تختار القاضي امرأة حينما يكون المتهم امرأة منعا لانجراف العواطف واختلال الأحكام بذلك.
ودفعا لهذا الخلط بين العقل والعاطفة يجب تنبيه التقوى وتحسين النيات واستحضار الالتماسات …فكما أنك مسلم تريد الاتباع، فالمخالف كذلك مسلم يريد الاتباع … ولابد من إعمال هذا الظن، بل يجب إعمال هذا الظن لأننا مأمورون بإعمال الظاهر في الأحكام …وينبغي علينا الحرص على ظهور الحق دون الحرص على إظهار جهته… قال الشافعي : “وددت لو نشر هذا العلم دون أن يعرف صاحبه” …وبمثل ذلك تسمو النفس عن حطيطة حظوظها… ويدفع العقل ما قد يغشاه من العاطفة … فإذا توصلنا إلى ذلك نكون قد وصلنا إلى التصور الصحيح فيأتي الحكم صحيحا فرعا على هذا التصور … وبذلك نكون قد وضعنا القاعدة التي نسلم بواسطتها من تقديس الرجال …وهو السبب الرابع لخلل الحوار …فما سبب هذا التقديس؟!
يرجع سبب تقديس الرجال و إن نفاه الواقعون به إلى الإعجاب الشديد الذي يتولد منه الانبهار و الاندهاش المولدان … بدورهما الحب الشديد الموصل بغياب ضوابط الحب إلى الغلو … فيتحصل من ذلك تصور خاطئ ينبني عليه حكم خاطئ وهو أن القول الصواب ملازم لهذا الرجل، أو أن الحق عند هؤلاء الرجال دون غيرهم …فتصاغ هالة التقديس بلسان الحال وإن كذبها لسان المقال ويزرى برجال القول المخالف فيتم تصنيف المتبع والمبتدع تبعا لقول هذا الرجل أو هؤلاء الرجال فتزداد الشقة والخصومة وتتنافر القلوب فيتم التراشق عن بعد وهو آخر أسباب خلل الحوار وسبب الأسباب …والتباعد قد يكون بالأبدان وقد يكون بالأفكار ولا سبيل لدفعه إلا بالنصح والصبر الجميل، والدفع بالحسنى ومخاطبة العقل أبدا، والتذكير بواقع الأمة و حاجتها الماسة إلى هذه الجهود الضائعة فيما لا يجوز الاختلاف فيه … فتأليف القلوب مطلوب لذاته مقدم في كثير من الأحيان على غيره… ومما يقرب من ذلك يقول الإمام ابن تيمية رحمه الله يقرب “يستحب للرجل أن يقصد إلى تأليف القلوب لترك هذه المستحبات ، لأن مصلحة التأليف في الدين أعظم من مصلحة فعل هذا…” مجموع الفتاوى
هذا ما أردت بيانه من أسباب الخلل في الحوار من خلال هذه الرسالة، وسيليها إن شاء الله الرسالة التالية بعنوان “ضوابط النصيحة”.
كتبه:
حمد السنان