الشافعي والحديث المرسل
الشافعي والحديث المرسل
اعلم أنه قد وقع خبط مثير في فهم مذهب الإمام الشافعي رضي الله عنه في المرسل .
فمنهم من قال : إنه يرده مطلقاً
ومنهم من قال : لا يرد المراسيل ، ولكن يبقى فيها مزيد تأكيد يغلب الظن ، وإضرابه عنها بمثابة تقديم المسند عليها .
ومنهم من قال : أنه يقبل مراسيل سعيد بن المسيب مطلقاً .
ومنهم من قال : أنه لا يوجب العمل بمراسيل سعيد ، وإنما يستحبه .
وليس واحداً من هذه الأقوال هو الصواب – كما سنبين ذلك إن شاء الله – ولكن قبل بيانه يجدر بنا أن نقدم قول الإمام في الرسالة فنقول :
قال الإمام الشافعي في الرسالة (فقرة 1264) :
” فمن شاهد أصحاب رسول الله من التابعين ، فحدث حديثاً عن النبي ، اعتبر عليه بأمور :
منها : أن ينظر إلى ما أرسل من الحديث ، فإن شركه فيه الحفاظ المأمونون فأسندوه إلى رسول الله بمثل معنى ما روى – كانت هذه دلالة على صحة من قبل عنه وحفظه .
وإن انفرد بإرسال حديث لم يشركه فيه من يسنده قبل ما ينفرد به من ذلك .
ويعتبر عليه بأن ينظر : هل يوافقه مرسل غيره ممن قبل العلم عنه ، من غير رجاله الذين قبل عنهم ؟
فإن وجد ذلك كانت دلالة يقوى له مرسله ، وهى أضعف من الأولى .
وإن لم يوجد ذلك نظر إلى بعض ما يروى عن بعض أصحاب رسول الله قولاً له ، فإن وجد يوافق ما روى عن رسول الله كانت في هذه دلالة على أنه لم يأخذ مرسله إلا عن أصل يصح ، إن شاء الله .
وكذلك إن وجد عوام من أهل العلم يفتون بمثل معنى ما روي النبي.
قال الشافعي : ثم يعتبر عليه : بأن يكون إذا سمى من روى عنه لم يسمى ([2]) مجهولا ولا مرغوبا عن الرواية عنه ، فيستدل بذلك على صحته فيما روى عنه .
ويكون إذا شَرِك أحداً من الحفاظ في حديث لم يخالفه فإن خالفه وجد حديثه أنقص – كانت في هذه دلالة على صحة مخرج حديثه.
ومتى خالف ما وصفت أضر بحديثه، حتى لا يسع أحداً منهم قبول مرسله.
قال: وإذا وجدت الدلائل بصحة حديثه بما وصفت أحببنا أن نقبل مرسلة.
ولا نستطيع أن نزعم أن الحجة تثبت به ثبوتها بالمتصل.
وذلك إن معنى المنقطع مغيب ، يحتمل أن يكون حمل عن من يرغب عن الرواية عنه إذا سمي ، وأن بعض المنقطعات – وإن وافقه مرسل مثله – فقد يحتمل أن يكون مخرجهما واحداً ، من حيث لو سمي لم يقبل ، وإن قول بعض أصحاب النبي – إذا قال برأيه لو وافقه – يدل على صحة مخرج الحديث دلالة قوية إذا نظر فيها ، ويمكن أن يكون إنما غلط به حين سمع قول بعض أصحاب النبي يوافقه ، ويحتمل مثل هذا فيمن وافقه من بعض الفقهاء .
فأما من بعد كبار التابعين الذين كثرت مشاهدتهم لبعض أصحاب رسول الله – فلا أعلم منهم واحداً يقبل مرسله لأمور :
أحدهما : أنهم أشد تجوزًا عليهم فيمن يروون عنه .
والآخر : أنهم توجد عليهم الدلائل فيما أرسلوا بضعف مخرجه .
والآخر : كثرة الإحالة كان أمكن للوهم وضعف من يقبل عنه .
وقد خبرت بعض من خبرت من أهل العلم فرأيتهم أُتوا من خصلة وضدها .
رأيت الرجل يقنع بيسير العمل ، ويريد إلا أن يكون مستفيدا إلا من جهة قد يتركه من مثلها أو أرجح ، فيكون من أهل التقصير في العلم .
ورأيت من عاب هذه السبيل ورغب في التوسع في العلم ، من دعاه ذلك إلى القبول عن من لو أمسك عن القبول عنه كانت خيراً له .
ورأيت الغفلة قد تدخل على أكثرهم فيقبل عن من يرد مثله وخيراً منه .
ويدخل عليه ، فيقبل عن من يعرف ضعفه ، إذا وافق قولاً يقوله ! ويرد حديث الثقة ، إذا خالف قولاً يقوله !!
ويدخل على بعضهم من جهات .
ومن نظر في العلم بخبرة وقلة غفلة ، استوحش من مرسل كل من دون كبار التابعين ، بدلائل ظاهرة فيها .
قال : فلم فرقت بين التابعين المتقدمين الذين شاهدوا أصحاب رسول الله ، وبين من شاهد بعضهم دون بعض ؟
فقلت : لبعد إحالة من لم يشاهد أكثرهم .
قال : فلم لم تقبل المرسل منهم ومن كل فقيه دونهم ؟
قلت : لما وصفت اهـ .
هذا نص الشافعي في الرسالة ، وبه يتبين أن مذهبه كالآتى :
1- لا يقبل إلا مرسل كبار التابعين ، ويرد مرسل من عداهم من صغار التابعين ، وأنه لا يقبل مرسل الكبار إلا باعتضاده بأحد أمور وهى :
أ- إذا أسند من جهة أخرى .
ب- إذا أرسله من أخذ عن غير رجال الأول ممن يقبل عن العلم .
ج- إذا وافق قول بعض الصحابة .
د- إذا أفتى أكثر العلماء بمقتضاه .
2- يشترط الإمام الشافعي في هذا التابعي الكبير أن يكون إذا سمى من روى عنه لم يسم مجهولا ولا مرغوباً عن الرواية عنه ، وإن يكون إذا شرك أحداً من الحفاظ لم يخالفه.
3- مذهب الإمام رضي الله عنه أن الحديث المرسل إذا اعتضد بما أسلفنا لم يصل في الحجة إلى درجة الحديث المسند المتصل كما قال في الرسالة : ” ولا نستطيع أن نزعم أن الحجة تثبت به ثبوتها بالمتصل ” .
وهذا يفيدنا عند الترجيح . فإذا عارض المرسل المعتضد مسند متصل قدم عليه . لأن حجة المرسل ضعيفة رغم الاعتضاد .
فهذا كلام الإمام الشافعي ، وهذا مذهبه كما يفهم من نص الرسالة .
إلا أنه رضي الله عنه قال في مختصر المزني في باب بيع اللحم بالحيوان آخر باب الربا (2/158 ط بولاق) : أخبرنا مالك ، عن زيد بن أسلم ، عن ابن المسيب ، أن رسول الله r نهى عن بيع اللحم بالحيوان .
وعن ابن عباس ، أن جزوراً نحرت على عهد أبى بكر رضي الله عنه ، فجاء رجل بعناق ، فقال : أعطونى جزءاً بهذا العناق ، فقال أبو بكر : لا يصلح هذا .
وكان القاسم بن محمد ، وابن المسيب ، وعروة بن الزبير ، وأبو بكر بن عبد الرحمن ، يحرمون بيع اللحم بالحيوان عاجلاً وآجلاً ، يعظمون ذلك ولا يرخصون فيه .
قال : وبهذا نأخذ ، كان اللحم مختلفاً أو غير مختلف ، ولا نعلم أحداً من أصحاب النبي r خالف في ذلك أبا بكر .
” وإرسال ابن المسيب عندنا حسن ” اهـ .
قال الإمام النووى في المجموع (1/99) : فقد اختلف أصحابنا المتقدمون في معنى قول الشافعي إرسال ابن المسيب عندنا حسن على وجهين حكاهما الشيخ أبو إسحق في كتابه اللمع ، وحكاهما أيضاً الخطيب البغدادى في كتابيه ،كتاب الفقيه والمتفقه ، والكفاية ، وحكاهما جماعة آخرون :
أحدهما : معناه أنها حجة عنده بخلاف غيرها من المراسيل .
قالوا : لأنها فتشت فوجدت مسندة .
والوجه الثاني : أنها ليست بحجة عنده ، بل هي كغيرها على ما ذكرناه .
وقالوا : إنما رجح الشافعي بمرسله ، والترجيح بالمرسل جائز .
وقال الخطيب البغدادي في كتاب الفقيه والمتفقه : والصواب الوجه الثاني ، وأما الأول فليس بشيء .
وكذا قال في الكفاية : الثانى هو الصحيح عندنا من الوجهين ، لأن في مراسيل سعيد ما لم يوجد مسنداً بحال من وجه يصح .
قال : وقد جعل الشافعي لمراسيل كبار التابعين مزية على غيرهم كما استحسن مرسل سعيد ، هذا كلام الخطيب .
وذكر الإمام الحافظ أبو بكر البيهقى نص الشافعي ثم قال : فالشافعي يقبل مراسيل كبار التابعين إذا انضم إليها ما يؤكدها ، فإن لم ينضم لم يقبلها سواء كان مراسيل ابن المسيب أو غيره ، قال : وقد ذكرنا مراسيل لابن المسيب لم يقبلها الشافعي حين لم ينضم إليها ما يؤكدها ، ومراسيل لغيره قال بها حيث انضم إليها ما يؤكدها ، قال : وزيادة ابن المسيب في هذا على غيره أنه أصح التابعين إرسالاً فيما زعم الحفاظ اهـ .
قال النووي: فهذا كلام البيهقي والخطيب ، وهما إمامان حافظان فقيهان شافعيان مضطلعان من الحديث والفقه والأصول والخبرة التامة بنصوص الشافعي ومعاني كلامه ، ومحلهما من التحقيق والإتقان ، والنهاية في الفرقان ، بالغاية القصوى ، والدرجة العليا ,
وأما قول الإمام أبو بكر القفال المروزي في أول كتابه ” شرح التلخيص ” : قال الشافعي في الرهن الصغير : مرسل ابن المسيب عندنا حجة فهو محمول على التفصيل الذي قدمناه عن البيهقي والخطيب والمحققين والله أعلم ا هـ .
قلت : قال الشافعي في الرهن الصغير من الأم (3/164) : فالسنة تدل على إجازة الرهن ، ولا أعلم مخالفا إجازته .
أخبرنا محمد بن إسماعيل بن أبى فديك ، عن أبى ذئيب ، عن ابن شهاب عن سعيد بن المسيب ، أن رسول الله r قال : ” لا يغلق الرهن من صاحبه الذي رهنه ، له غنمه وعليه غرمه ” .
وقال في (3/167) : قال – أي الخصم – : فكيف قبلتم عن ابن المسيب منقطعاً ولم تقبلوه عن غيره ؟
قلنا لا نحفظ أن ابن المسيب روى منقطعاً ، إلا وجدنا ما يدل على تسديده ، ولا أثره عن أحد فيما عرفنا عنه إلا ثقة معروف ، فمن كان بمثل حاله قبلنا منقطعة ، ورأينا غيره يسمى المجهول ، ويسمى من يرغب عن الرواية عنه ، ويرسل عن النبي r وعن بعض من لم يلحق من أصحابه – المستنكر الذي لا بوجد له شئ يسدده ففرقنا بينهم لافتراق أحاديثهم ، ولم نحاب أحداً ، ولكنا قلنا في ذلك بالدلالة البينة على ما وصفنا من صحة روايته ، وقد أخبرنى غير واحد من أهل العلم عن يحيى بن أبى أنيسة ، عن ابن شهاب ، عن ابن المسيب ، عن أبي هريرة ، عن النبي r مثل حديث ابن أبى ذئيب .
ثم قال الشافعي : والسنة ثابتة عندنا والله تعالى أعلم بما قلنا ، وليس مع السنة حجة ولا فيها إلا اتباعها مع أنها أصبح الأقاويل مبتدأ ومخرجا . اهـ .
فهذا الكلام من الشافعي – رضي الله عنه – يدل دلالة قوية على ما ذكره القفال المروزي الذي نقله عنه النووي أنفا ، والجواب عليهما أجاب به النوى من الحمل على التفصيل السابق .
علما بأن ابن الرفعة قد أشار إلى أن الرهن الصغير من القديم وإن كان من كتب الأم ، وتعلق في ذلك بأن الماوردي وغيرة ، قالوا عند الكلام في أجال الراهن وعتقه : إنه من القديم . قال :وكذلك نسب الماوردي هنا قبول رواية ابن المسيب إلى القديم .تكملة المجموع للسبكي (11/142) .
فإن صح أن الرهن الصغير من القديم فذاك ولا داعي للحمل والتأويل ، وإلا فالقول قول النووي في الحمل على تفصيل الخطيب والبيهقي.
وأما نسبة القول بقبول مرسل سعيد إلى القديم فهو الصحيح .
قال النووي : قلت : ولا يصح تعلق من قال : إن مرسل سعيد حجة ، بقوله إرساله حسن، لأن الشافعي رحمه الله لم يعتمد عليه وحده ، بل اعتمده لما انضم إليه قول أبى بكر الصديق ومن حضره ، وانتهى إليه قوله من الصحابة رضي الله عنهم ، مع ما انضم إليه من قول أئمة التابعين الأربعة الذين ذكرهم ، وهم أربعة من فقهاء المدينة السبعة ، وهو مذهب مالك وغيره . فهذا عاضد ثان للمرسل ، فلا يلزم من هذا الاحتجاج بمرسل ابن المسيب إذا لم يعتضد اهـ .
ومن خلال هذا الكلام الذي نقلناه عن الأئمة ، عن معنى قول الشافعي إرسال ابن المسيب حسن ، أو حجة على ما نقله المروزى استنباطا من كلامه في الرهن الصغير ـ يتبين لنا أن الإمام الشافعي – رضي الله عنه – لا يحتج بمرسل سعيد ، وإنما يرجح به ، والترجيح بالمرسل جائز ، وأن الشافعي يسوى بين مرسل سعيد وغيره من كبار التابعين فلا يقبله إلا بالشروط التي قدمناها آنفا عن نص الرسالة ويتبين لنا أن الشافعي رضي الله عنه لا يرد المرسل مطلقا – وإن كان يرده من حيث هو – ولا يحتج بمرسل سعيد مطلقا .
قال النووي في المجموع (1/103): ” مع أنه قد شاع في ألسنة كثيرين من المشتغلين بمذهبنا ، بل أكثر أهل زماننا – أن الشافعي رحمه الله لا يحتج بالمرسل مطلقا إلا مرسل ابن المسيب فإنه يحتج به مطلقا ”
وهذان غلطان ، فإنه لا يرده مطلقا ، ولا يحتج بمرسل ابن المسيب مطلقا بل الصواب ما قدمناه – أي عن البيهقي والخطيب – والله أعلم ” اهـ .
وقال الماوردي : ومذهب الشافعي في الجديد أن مرسل سعيد وغيره ليس بحجة اهـ . تكملة المجموع (11/141) .
وقال الإمام الجليل عبد الرحمن بن أبى حاتم في كتاب المراسيل في قول الشافعي رضي الله عنه : ليس المنقطع بشيء ما عدا منقطع ابن المسيب فلا بأس أن يعتبر به “اهـ .تكملة المجموع (11/139) أي أنها يعتبر بها ولا يحتج . فلا فرق بيتها وبين غيرها من مراسيل كبار التابعين من حيث الاحتجاج . فلا بد لها من عاضد .
وذلك رد مرسله في دية الذمي الذي أورده أبو داود في مراسيله بسند جيد عن ابن المسيب قال : قال رسول الله r : ” دية كل ذي عهد في عهده ألف دينار “.
رد هذا المرسل الذي أرسله سعيد لأنه لم يعتضد ، بأن صرح لنا باسم المتروك ، بل عارضة أن سعيدا نفسه ، قال فيها رواه الدارقطني : كان عمر رضي الله عنه يجعل دية اليهودي والنصراني أربعة آلاف درهم ، والمجوسي ثمان مائة درهم ، وهذا وإن كان عند قوم منقطعا ، لأن ابن المسيب لم يسمع من عمر ، لكنه ينتهض معارضا لمرسله . لأن المرسل في نفسه ليس بحجة , فإن لم ينضم إلية ما يقوية ولكن ما يضعفه ، كان أضعف .
فهذا مرسل لسعيد رددناه لأننا لم نجده مسندا بحال . وهذا مؤيد لكلام البيهقى في أن لسعيد مراسيل لم تسند ، ومؤيد لكون مراسيل ابن المسيب وغيره سواء في الاحتجاج ، وإن كان يرجح بمراسيل ابن المسيب ويعتبر بها ، والسبب في ذلك كما قال البيهقى عن الحفاظ أنه أصح التابعين إرسالا .
ولأنه عرف من حال صاحبها أنه لا يروى إلا مسندا عن ثقة . فحملت مراسيله على ما عرف من عادته ، وما ظهر أنه على خلاف عادته كمرسله في دية الذمى لم نقبله .
ومما يجدر بنا ذكره أن مراسيل أبى سلمة بن عبد الرحمن كمراسيل ابن المسيب عند الشافعي كما نقله الماوردي في الحاوى في باب الشفعة حيث قال: إن مرسل أبى سلمة بن عبد الرحمن عند الشافعي حسن .