الباب الأول/مباحث فى العقيدة وفيها بيان فساد مقاييس التكفير والتضليل اليوم
التحذير من المجازفة بالتكفير
يخطئ كثير من الناس – أصلحهم الله – في فهم حقيقة الأسباب التي تخرج صاحبها عن دائرة الإسلام وتوجب عليه الحكم بالكفر ، فتراهم يسارعون إلى الحكم على المسلم بالكفر لمجرد المخالفة حتى لم يبق من المسلمين على وجه الأرض إلا القليل ، ونحن نلتمس لهؤلاء العذر تحسيناً للظن ، ونقول لعل نيتهم حسنة من دافع واجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، ولكن فاتهم أن واجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لابد في أدائه من الحكمة والموعظة الحسنة وإذ اقتضى الأمر المجادلة يجب أن تكون بالتي هي أحسن كما قال تعالى : } ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ { .. وذلك أدعى إلى القبول وأقرب للحصول على المأمول ومخالفته خطأ وحماقة .
فإذا دعوت مسلماً يصلي ، ويؤدي فرائض الله ، ويجتنب محارمه وينشر دعوته ، ويشيد مساجده ، ويقيم معاهده ، إلى أمر تراه حقاً ويراه هو على خلافك والرأي فيه بين العلماء مختلف قديماً إقراراً وإنكاراً فلم يطاوعك في رأيك فرميته بالكفر لمجرد مخالفته لرأيك، فقد قارفت عظيمة نكراء ، وأتيت أمراً إدّاً نهاك عنه الله ودعاك إلى الأخذ فيه بالحكمة والحسنى.
قال العلامة الإمام السيد أحمد مشهور الحداد : وقد انعقد الإجماع على منع تكفير أحد من أهل القبلة إلا بما فيه نفي الصانع القادر جل وعلا، أو شرك جلي لا يحتمل التأويل، أو إنكار النبوة، أو إنكار ما علم من الدين بالضرورة أو إنكار متواتر أو مجمع عليه ضرورة من الدين .
والمعلوم من الدين ضرورة كالتوحيد والنبوات وختم الرسالة بمحمد صلى الله عليه وسلم والبعث في اليوم الآخر والحساب والجزاء والجنة والنار يكفر جاحده ، ولا يعذر أحد من المسلمين بالجهل به إلا من كان حديث عهد في الإسلام فإنه يعذر إلى أن يتعلمه فإنه لا يعذر بعده.
والمتواتر الخبر الذي يرويه جمع يؤمن تواطؤهم على الكذب عن جمع مثلهم إما من حيث الإسناد كحديث :
(( من كذب عليَّ متعمداً فليتبوأ مقعده من النار )) ..
وإما من حيث الطبقة كتواتر القرآن فإنه تواتر على البسيطة شرقاً وغرباً درساً وتلاوة وحفظاً وتلقاه الكافة عن الكافة طبقة عن طبقة فلا يحتاج إلى إسناد.
وقد يكون تواتر عمل وتوارث كتواتر العمل على شيء من عصر النبوة إلى الآن ، أو تواتر علم كتواتر المعجزات فإن مفرداتها وإن كان بعضها آحاداً لكن القدر المشترك منها متواتر قطعاً في علم كل إنسان مسلم .
وإن الحكم على المسلم بالكفر في غير هذه المواطن التي بيناها أمر خطير ،وفي الحديث (إذا قال الرجل لأخيه يا كافر فقد باء بها أحدهما) .
رواه البخاري عن أبي هريرة .
ولا يصح صدوره إلا ممن عرف بنور الشريعة مداخل الكفر ومخارجه والحدود الفاصلة بين الكفر والإيمان في حكم الشريعة الغراء .
فلا يجوز لأي إنسان الركض في هذا الميدان والتكفير بالأوهام والمظان دون تثبت ويقين وعلم متين وإلا اختلط سيلها بالأبطح ولم يبق مسلم على وجه الأرض إلا القليل .
كما لا يجوز التكفير بارتكاب المعاصي مع الإيمان والإقرار بالشهادتين ، وفي الحديث عن أنس رضي الله عنه قال صلى الله عليه وسلم :
(( ثلاث من أصل الإيمان الكف عمن قال : لا إله إلا الله لا نكفره بذنب ولا نخرجه عن الإسلام بالعمل ، والجهاد ماض منذ بعثني الله إلى أن يقاتل آخر أمتي الدجال لا يبطله جور جائر ولا عدل عادل والإيمان بالأقدار )) .. (أخرجه أبو داود) ..
وكان إمام الحرمين يقول : لو قيل لنا : فصِّلُوا ما يقتضي التكفير من العبارات مما لا يقتضي ، لقلنا : هذا طمع في غير مطمع فإن هذا بعيد المدرك وعر المسلك يستمد من أصول التوحيد ومن لم يحظ بنهايات الحقائق لم يتحصل من دلائل التكفير على وثائق .
لذلك نحذر كل التحذير من المجازفة بالتكفير في غير المواطن السابق بيانها لأنه جد خطير والله الهادي إلى سواء السبيل وإليه المصير .
موقف الشيخ محمد بن عبد الوهاب
وقد وقف الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله في هذا الميدان موقفاً عظيماً ، قد يستنكره كثير ممن يدعي أنه منسوب إليه ومحسوب عليه ، ثم يكيل الحكم بالتكفير جزافاً لكل من خالف طريقته ونبذ فكرته ، وها هو الشيخ محمد ابن عبد الوهاب ينكر كل ما ينسب إليه من هذه التفاهات والسفاهات والافتراءات فيقول ضمن عقيدته في رسالته الموجهة لأهل القصيم ، قال :
ثم لا يخفى عليكم أنه بلغني أن رسالة سليمان بن سحيم قد وصلت إليكم وأنه قبلها وصدقها بعض المنتمين للعلم في جهتكم ، والله يعلم أن الرجل افترى عليَّ أموراً لم أقلها ولم يأت أكثرها على بالي .
فمنها : قوله : إني مبطل كتب المذاهب الأربعة ، وإني أقول : إن الناس من ستمائة سنة ليسوا على شيء ، وإني أدعي الاجتهاد ، وإني خارج عن التقليد ، وإني أقول : إن اختلاف العلماء نقمة ، وإني أكفر من توسل بالصالحين ، وإني أكفر البوصيري لقوله : يا أكرم الخلق ، وإني أقول : لو أقدر على هدم قبة رسول الله r لهدمتها ، ولو أقدر على الكعبة لأخذت ميزابها وجعلت لها ميزاباً من خشب ، وإني أحرم زيارة قبر النبي r ، وإني أنكر زيارة قبر الوالدين وغيرهما ، وإني أكفر من حلف بغير الله ، وإني أكفر ابن الفارض وابن عربي ، وإني أحرق دلائل الخيرات وروض الرياحين ، وأسميه روض الشياطين .
جوابي عن هذه المسائل : أن أقول : } سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ { ، وقبله من بهت محمداً صلى الله عليه وسلم أنه يسب عيسى بن مريم ، ويسب الصالحين ، فتشابهت قلوبهم بافتراء الكذب ، وقول زور . قال تعالى : } إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللّهِ { الآية ، بهتوه صلى الله عليه وسلم بأنه يقول : إن الملائكـة وعيسى وعزيراً في النار ، فأنزل الله في ذلك : } إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُم مِّنَّا
الْحُسْنَى أُوْلَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ { .
أنظر الرسالة الأولى من الرسائل الشخصية ضمن مجموعة مؤلفات الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب المنشورة باهتمام جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية .
(القسم الخامس ص )
رسالة مهمة أخرى للشيخ في الموضع
هذه رسالة أرسلها الشيخ محمد بن عبد الوهاب إلى السويدي عالم من أهل العراق ، وكان قد أرسل له كتاباً وسأله عما يقول الناس فيه ، فأجابه بهذه الرسالة : قال فيها :
إن إشاعة البهتان بما يستحي العاقل أن يحكيه فضلاً عن أن يفتريه مما قلتم : أنني أكفر جميع الناس إلا من اتبعني ، ويا عجباً كيف يدخل هذا في عقل عاقل ، وهل يقول هذا مسلم ؟ .
وما قلتم : لو أنني أقدر على هدم قبة النبي r لهدمتها ، وفي دلائل الخيرات وحرمته ، وأنهى عن الصلاة على النبي r بأي النظم كان ، فهذا من البهتان ، والمسلم لا يظن من قلبه أجلّ من كتاب الله .
وفي صحيفة 64 من نفس الكتاب قال رحمه الله : وما قلتم : أنني أكفر من توسل بالصالحين ، وأكفر البوصيري لقوله : يا أكرم الخلق ، وأنكر زيارة قبر النبي r ، وأنكر زيارة قبور الوالدين وغيرهم ، وأكفر من حلف بغير الله.
جوابي على ذلك أقول : سبحانك هذا بهتان عظيم .
أنظر القسم الخامس – الرسائل الشخصية ص37 من مجموعة مؤلفات الشيخ -.
سباب المسلم فسوق وقتاله كفر
إعلم أنّ كراهة المسلمين ومقاطعتهم ومدابرتهم محرّمة وكان سباب المسلم فسوقاً وقتاله كفراً إذا استحل، وكفى رادعاً في هذا الباب حديث خالد بن الوليد رضي الله عنه في سريته إلى بني جذيمة يدعوهم إلى الإسلام ، فلما انتهى إليهم تلقوه ، فقال لهم : أسلموا ، فقالوا : نحن قوم مسلمون ، قال : فألقوا سلاحكم وانزلوا ، قالوا : لا والله ما بعد وضع السلاح إلا القتل ما نحن بآمنين لك ولا لمن معك ، قال خالد فلا أمان لكم إلا أن تنزلوا فنزلت فرقة منهم وتفرقت بقية القوم ، وفي رواية انتهى خالد إلى القوم فتلقوه ، فقال لهم ما أنتم أي : أمسلمون ؟ أم كفار ؟ قالوا : مسلمون قد صلينا وصدقنا بمحمد صلى الله عليه وسلم وبنينا المساجد في ساحتنا وأذنا فيها ، وفي لفظه لم يحسنوا أن يقولوا : أسلمنا ، فقالوا: صبأنا صبأنا ، قال فما بال السلاح عليكم ؟ قالوا : إن بيننا وبين قوم من العرب عداوة فخفنا أن تكونوا هم فأخذنا السلاح ، قال : فضعوا السلاح فوضعوا ، فقال : استأسروا فأمر بعضهم فكتف بعضاً وفرقهم في أصحابه فلما كان السحر نادى منادي خالد : من كان معه أسير فليقتله ، فقتل بنو سليم من كان معهم وامتنع المهاجرون والأنصار رضي الله عنهم ، وأرسلوا أسراهم فلما بلغ النبي صلى الله عليه وسلم ما فعل خالد ، قال : اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد ، قال ذلك مرتين .
وقد يقال أن خالداً فهم أنهم قالوا ذلك على سبيل الأنفة وعدم الانقياد إلى الإسلام وإنما أنكر عليه صلى الله عليه وآله وسلم العجلة وعدم التثبت في أمرهم قبل أن يعلم المراد من قولهم صبأنا ، وقد قال عليه الصلاة والسلام نعم عبد الله أخو العشيرة خالد بن الوليد سيف من سيوف الله سله الله على الكافرين والمنافقين .
وكذلك قصة أسامة بن زيد حب رسول الله وابن حبه فيما رواه عنه البخاري عن أبي ظبيان قال : سمعت أسامة بن زيد يقول : بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الحرقة ، فصبحنا القوم فهزمناهم ولحقت أنا ورجل من الأنصار رجلاً منهم ، فلما غشيناه قال : لا إله إلا الله ، فكف الأنصاري عنه وطعنته برمحي حتى قتلته ، فلما قدمنا بلغ النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، فقال : يا أسامة ! أقتلته بعدما قال : لا إله إلا الله ، قلت : كان متعوذاً ، فما زال يكررها حتى تمنيت أني لم أكن أسلمت ذلك اليوم ، وفي رواية أخرى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له : ألا شققت على قلبه ، فتعلم أصادق أم كاذب قال أسامة : لا أقاتل أحداً يشهد أن لا إله إلا الله .
وقد سئل علي – رضي الله عنه – عن المخالفين له من الفرق أكفار هم ؟ قال : لا ، إنهم من الكفر فروا ، فقيل : أمنافقون هم ؟ فقال : لا ، إن المنافقين لا يذكرون الله إلا قليلاً ، وهؤلاء يذكرون الله كثيراً ، فقيل : أي شيء هم ؟ قال : قوم أصابتهم الفتنة فعموا وصمُّوا .
مقام الخالق ومقام المخلوق
إن الفرق بين مقام الخالق والمخلوق هو الحد الفاصل بين الكفر والإيمان ، ونعتقد أن من خلط بين المقامين فقد كفر والعياذ بالله .
ولكل مقام حقوقه الخاصة ، ولكن هناك أموراً ترد في هذا الباب وخصوصاً فيما يتعلق بالنبي صلى الله عليه وسلم وخصائصه التي تميزه عن غيره من البشر وترفعه عليهم هذه الأمور قد تشتبه على بعض الناس لقصر عقولهم وضعف تفكيرهم وضيق نظرهم وسوء فهمهم ، فيبادرون إلى الحكم بالكفر على أصحابها وإخراجهم عن دائرة الإسلام ظناً منهم أن في ذلك تخليطاً بين مقام الخالق والمخلوق ، ورفعاً لمقام النبي صلى الله عليه وسلم إلى مقام الألوهيـة ، وإننا نبرأ إلى الله سبحانه وتعالى من ذلك .
وإننا بفضل الله تعالى نعرف ما يجب لله تعالى ، وما يجب لرسوله صلى الله عليه وسلم ، ونعرف ما هو محض حق لله تعالى وما هو محض حق لرسوله صلى الله عليه وسلم من غير غلو ولا إطراء يصل إلى حد وصفه بخصائص الربوبية والألوهية في المنع والعطاء والنفع والضر الاستقلالي [دون الله تعالى] والسلطة الكاملة والهيمنة الشاملة والخلق والملك والتدبير والتفرد بالكمال ، والجلال والتقديس والتفرد بالعبادة بمختلف أنواعها وأحوالها ومراتبها .
أما الغلو الذي يعني التغالي في محبته وطاعته والتعلق به ، فهذا محبوب ومطلوب كما جاء في الحديث :
((لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم)) ..
والمعنى أن إطراءه والتغالي فيه والثناء عليه بما سوى ذلك هو محمود ، ولو كان معناه غير ذلك لكان المراد هو النهي عن إطرائه ومدحه أصلاً ومعلوم أن هذا لا يقوله أجهل جاهل في المسلمين ، فإن الله تعالى عظم النبي صلى الله عليه وسلم في القرآن بأعلى أنواع التعظيم ، فيجب علينا أن نعظم من عظمه الله تعالى وأمر بتعظيمه .. نعم يجب علينا أن لا نصفه بشيء من صفات الربوبية ورحم الله القائل حيث قال :
دع ما ادعته النصارى في نبيهم :: واحكم بما شئت مدحاً فيه واحتكم
فليس في تعظيمه صلى الله عليه وسلم بغير صفات الربوبية شيء من الكفر والإشراك ، بل ذلك من أعظم الطاعات والقربات ، وهكذا كل من عظمهم الله تعالى كالأنبياء والمرسلين صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين ، وكالملائكة والصديقين والشهداء والصالحين ، قال الله تعالى : } ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ{ ، وقال تعالى : } ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ عِندَ رَبِّهِ { .
ومن ذلك الكعبة المعظمة والحجر الأسود ومقام إبراهيم عليه السلام ، فإنها أحجار وأمرنا الله تعالى بتعظيمها بالطواف بالبيت ومس الركن اليماني وتقبيل الحجر الأسود وبالصلاة خلف المقام ، وبالوقوف للدعاء عند المستجار وباب الكعبة والملتزم ، ونحن في ذلك كله لم نعبد إلا الله تعالى ، ولم نعتقد تأثيراً لغيره ولا نفعاً ولا ضراً فلا يثبت شيء من ذلك لأحد سوى الله تعالى .
مقـام المخلـوق
أما هو صلى الله عليه وسلم فإننا نعتقد أنه صلى الله عليه وسلم بشر يجوز عليه ما يجوز على غيره من البشر من حصول الأعراض والأمراض التي لا توجب النقص والتنفير كما قال صاحب العقيدة :
وجائز في حقهم من عرض :: بغير نقص كخفيف المرض
وأنه صلى الله عليه وسلم عبد لا يملك لنفسه ضراً ولا نفعاً ولا موتاً ولا حياة ولا نشوراً إلا ما شاء الله ، قال تعالى : } قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلاَ ضَرّاً إِلاَّ مَا شَاء اللّهُ وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَاْ إِلاَّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ { الأعراف : 188.
وأنـه صلى الله عليـه وسلم قد أدى الرسالـة وبلغ الأمانة ونصح الأمــة، وكشف الغمة وجاهد في سبيل الله حتى أتاه اليقين ، فانتقل إلى جوار ربه راضياً مرضياً كما قال تعالى : } إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ { .
وقال : } وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِّن قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِن مِّتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ { .
والعبودية هي أشرف صفاته صلى الله عليه وسلم ، ولذلك فإنه يفتخر بها ويقول : [ إنما أنا عبد ] ووصفه الله بها في أعلى مقام } سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ { وقال : } وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً { . والبشرية هي عين إعجازه فهو بشر من جنس البشر لكنه متميز عنهم بما لا يلحقه به أحد منهم أو يساويه كما قال صلى الله عليه وسلم عن نفسه في الحديث الصحيح : ((إني لست كهيئتكم إني أبيت عند ربي يطعمني ويسقيني))..
وبهذا ظهر أن وصفه صلى الله عليه وسلم بالبشرية يجب أن يقترن بما يميزه عن عامة البشر من ذكر خصائصه الفريدة ومناقبه الحميدة ، وهذا ليس خاصاً به صلى الله عليه وسلم ، بل هو عام في حق جميع رسل الله سبحانه وتعالى لتكون نظرتنا إليهم لائقة بمقامهم ، وذلك لأن ملاحظة البشرية العادية المجردة فيهم دون غيرها هي نظرة جاهلية شركية ، وفي القرآن شواهد كثيرة على ذلك ، فمن ذلك قول قوم نوح في حقه فيما حكاه الله عنهم إذ قال : } فَقَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قِوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلاَّ بَشَراً مِّثْلَنَا { سورة هود : 27 .
ومن ذلك قول قوم موسى وهارون في حقهما فيما حكاه الله عنهم إذ قال : } فَقَالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ { المؤمنون : 47 .
ومن ذلك قول ثمود لنبيهم صالح فيما حكاه الله عنهم بقوله : } مَا أَنتَ إِلَّا بَشَرٌ مِّثْلُنَا فَأْتِ بِآيَةٍ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ { سورة الشعراء : 154
ومن ذلك قول أصحاب الأيكة لنبيهم شعيب فيما حكاه الله عنهم بقوله :} قَالُوا إِنَّمَا أَنتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ وَمَا أَنتَ إِلَّا بَشَرٌ مِّثْلُنَا وَإِن نَّظُنُّكَ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ { سورة الشعراء : 186 .
ومن ذلك قول المشركين في حق سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم قد رأوه بعين البشرية المجردة فيما حكاه الله عنهم بقوله : } وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ { ، ولقد تحدث رسول الله صلى الله عليه وسلم عن نفسه حديث الصدق بما أكرمه الله تعالى به من عظيم الصفات وخوارق العادات التي تميز بها عن سائر أنواع البشر ([1]).
فمن ذلك ما جاء في الحديث الصحيح أنه قال : (( تنام عيناي ولا ينام قلبي )) .
وجاء في الصحيح أنه قال : (( إني أراكم من وراء ظهري كما أراكم من أمامي )) ..
وجاء في الصحيح أنه قال : (( أوتيت مفاتيح خزائن الأرض )) .
وهو صلى الله عليه وسلم وإن كان قد مات إلا أنه حي حياة برزخية كاملة يسمع الكلام ويرد السلام وتبلغه صلاة من يصلي عليه وتعرض عليه أعمال الأمة فيفرح بعمل المحسنين ويستغفر للمسيئين وأن الله حرم على الأرض أن تأكل جسده فهو محفوظ من الآفات والعوارض الأرضية .
وعن أوس بن أوس رضي الله عنه قال :
((قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : من أفضل أيامكم يوم الجمعة : فيه خلق آدم وفيه قبض وفيه النفخة وفيه الصعقة ، فأكثروا عليَّ من الصلاة فيه ، فإن صلاتكم معروضة عليَّ)) . قالوا : يا رسول الله ! وكيف تعرض صلاتنا عليك وقد أرمت يعني بليت ؟ فقال : ((إن الله عز وجل حرم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء)) .. رواه أحمد وأبو داود وابن ماجه وابن حبان في صحيحه والحاكم وصححه،.وفي ذلك رسالة خاصة للحافظ جلال الدين السيوطي أسماها ((إنباء الأذكياء بحياة الأنبياء)) .
عن ابن مسعود رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :
(( حياتي خير لكم تحدثون ويحدث لكم ، فإذا أنا مت كانت وفاتي خيراً لكم تعرض عليَّ أعمالكم فإن رأيت خيراً حمدت الله وإن رأيت شراً استغفرت لكم)) ،قال الهيثمي : رواه البزار ورجاله رجال الصحيح .
وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :
((ما من أحد يسلم عليَّ إلا رد الله عليَّ روحي حتى أرد عليه السلام)) .
رواه أحمد وأبو داود . قال بعض العلماء : رد عليَّ روحي أي نطقي .
وعن عمار بن يسار رضي الله عنه قال : ((قال رسول الله r : إن الله وكّل بقبري ملكاً أعطاه الله أسماء الخلائق ، فلا يصلي عليَّ أحد إلى يوم القيامة إلا أبلغني باسمه واسم أبيه ، هذا فلان بن فلان قد صلى عليك)) .
([1]) سيأتي بحث خاص في هذا الموضوع بعنوان (( الأنبياء بشر ولكن )) .
رواه البزار وأبو الشيخ ابن حبان ولفظه : قال رسول الله r : ((إن لله تبارك وتعالى ملكاً أعطاه أسماء الخلائق فهو قائم على قبري إذا مت ، فليس أحد يصلي عليَّ إلا قال : يا محمد ! صلى عليك فلان بن فلان ، قال : فيصلي الرب تبارك وتعالى على ذلك الرجل بكل واحدة عشراً)) ..
رواه الطبراني في الكبير بنحوه ([1]) .
وهو صلى الله عليه وسلم وإن كان قد مات إلا أن فضله ومقامه وجاهه عند ربه باق لا شك في ذلك ولا ريب عند أهل الإيمان ، ولذلك فإن التوسل به إلى الله سبحانه وتعالى إنما يرجع في الحقيقة إلى اعتقاد وجود تلك المعاني واعتقاد محبته وكرامته عند ربه وإلى الإيمان به وبرسالته ، وليس هو عبادة له ، بل إنه مهما عظمت درجته وعلت رتبته فهو مخلوق لا يضر ولا ينفع من دون الله إلا بإذنه .
قال تعالى : } قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ { .
أمور مشتركة بين المقامين
لا تنافي التنــزيه
وقد أخطأ كثير من الناس في فهم بعض الأمور المشتركة بين المقامين ( مقام الخالق ومقام المخلوق ) فظن أن نسبتها إلى مقام المخلوق شرك بالله تعالى .
ومن ذلك بعض الخصائص النبوية مثلاً ([1]) ، التي يخطئ بعضهم في فهمها فيقيسونها بمقياس البشرية ، ولذلك يستكثرونها ويستعظمونها على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ويرون أن وصفه بها معناه وصفه ببعض صفات الألوهية ، وهذا جهل محض لأنه سبحانه وتعالى يعطي من يشاء وكما يشاء بلا موجب ملزم وإنما هو تفضل على من أراد إكرامه ورفع مقامه وإظهار فضله على غيره من البشر وليس في ذلك انتزاع لحقوق الربوبية وصفات الألوهية ، فهي محفوظة بما يناسب مقام الحق سبحانه وتعالى : وإذا اتصف المخلوق بشيء منها فيكون بما يناسب البشرية من كونها محدودة مكتسبة بإذن الله وفضله وإرادته لا بقوة المخلوق ولا تدبيره ولا أمره إذ هو عاجز ضعيف لا يملك لنفسه ضراً ولا نفعاً ولا موتاً ولا حياة ولا نشوراً ، وكم من أمور جاء ما يدل على أنها حق لله سبحانه وتعالى ، ولكنه سبحانه وتعالى منَّ بها على نبيه صلى الله عليه وسلم وغيره ، وحينئذ فلا يرفعه وصفه بها إلى مقام الألوهية أو يجعله شريكاً لله سبحانه وتعالى.
فمنها : الشفاعة ، فهي لله ، قال الله تعالى :” قُل لِّلَّهِ الشَّفَاعَةُ”، وهي ثابتة للرسول صلى الله عليه وسلم ولغيره من الشفعاء بإذن الله كما جاء في الحديث : ((أوتيت الشفاعة)) .. وحديث : ((أنا أول شافع ومشفع)) ..
ومنها : علم الغيب ، فهو لله سبحانه وتعالى :” قُل لَّا يَعْلَمُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ” ، وقد ثبت أن الله تعالى علّم نبيه من الغيب ما علّمه وأعطاه ما أعطاه”عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً {26} إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ “.
ومنها : الهداية فهي خاصة بالله تعالى ، قال الله تعالى :” إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ “، وقد جاء أنه صلى الله عليه وسلم له شيء من ذلك فقال :”وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ “، والهداية الأولى غير الهداية الثانية ، وهذا إنما يفهمه العقلاء من المؤمنين الذين يعلمون الفرق بين الخالق والمخلوق ، ولولا ذلك لاحتاج أن يقول : وإنك لتهدي هداية إرشاد ، أو أن يقول وإنك لتهدي هداية غير هدايتنا ، ولكن كل ذلك لم يحصل ، بل أثبت له هداية مطلقة بلا قيد ولا شرط ، لأن الموحد منا معشر المخاطبين من أهل الإسلام يفهم معاني الألفاظ ويدرك اختلاف مدلولاتها بالنسبة لما أضيف إلى الله ، وبالنسبة لما أضيف إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ونظير هذا ما جاء في القرآن من وصف رسول الله بالرأفة والرحمة إذ يقول :”بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ “، ووصف الله سبحانه وتعالى نفسه بذلك أيضاً في أكثر من موضع ، فهو سبحانه وتعالى”رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ “، ومعلوم أن الرأفة والرحمة الثانية غير الأولى ، ولما وصف نبيه صلى الله عليه وسلم بذلك الوصف وصفه به بالإطلاق بلا قيد ولا شرط ، لأن المخاطب وهو موحد مؤمن بالله يعلم الفرق بين الخالق والمخلوق ، ولولا ذلك لاحتاج أن يقول في وصفه صلى الله عليه وسلم : رؤوف برأفة غير رأفتنا ، ورحيم برحمة غير رحمتنا أو أن يقول : رؤوف برأفة خاصة أو رحيم برحمة خاصة ، أو أن يقول : رؤوف برأفة بشرية ورحيم برحمة بشرية ، ولكن كل ذلك لم يحصل ، بل أثبت له رأفة مطلقة ورحمة مطلقة بلا قيد ولا شرط،فقال:”بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ”.
] ] ]
المجاز العقلي واستعمـاله
ولا شك أن المجاز العقلي مستعمل في الكتاب والسنة ، فمن ذلك قوله تعالى :”وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً “، فإسناد الزيادة إلى الآيات مجاز عقلي لأنها سبب في الزيادة ، والذي يزيد حقيقة هو الله تعالى وحده .
وقوله تعالى :” يَوْماً يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيباً “، فإسناد الجعل إلى اليوم مجاز عقلي ، لأن اليوم محل جعلهم شيباً فالجعل المذكور واقع في اليوم ، والجاعل حقيقة هو الله تعالى ، وقوله تعالى :” وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيراً “، فإن إسناد الإضلال إلى الأصنام مجاز عقلي لأنها سبب في حدوث الإضلال ، والهادي والمضل هو الله تعالى وحده . وقوله تعالى حكاية عن فرعون :”يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحاً “، فإسناد البناء إلى هامان مجاز عقلي لأنه سبب فهو آمر يأمر ولا يبني بنفسه ، والباني إنما هم الفعلة ((من العمال)) .
وأما الأحاديث ففيها شيء كثير يعرفه من وقف عليها ، وكان ممن يعرف الفرق بين الإسناد الحقيقي والمجازي فلا حاجة إلى الإطالة بنقلها ، وقال العلماء : إن صدور ذلك الإسناد من موحد كاف في جعله إسناداً مجازياً لأن الاعتقاد الصحيح هو اعتقاد أن الخالق للعباد وأفعالهم هو الله وحده فهو الخالق للعباد وأفعالهم لا تأثير لأحد سواه لا لحي ولا لميت فهذا الاعتقاد هو التوحيد المحض ، بخلاف ما لو اعتقد غير هذا فإنه يقع في الإشراك .
] ] ]
ضرورة ملاحظة النسبة المجازية
في مقياس الكفر والإيمان
وقد تمسكت طوائف من أهل الضلالات بذيل شبهة ظواهر الألفاظ دون نظر إلى القرائن والمقاصد وبدون نظر إلى الجمع بما لا يؤدي إلى التعارض بين الوارد كالقائلين بخلق القرآن تمسكوا بنحو قوله تعالى :” إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً “، والقائلين بالقدر تمسكوا بنحو قوله تعالى : “فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ ” و ” بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ” إلى غير ذلك ، والقائلين بالجبر تمسكوا بنحو قوله تعالى ” وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ “، “وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَـكِنَّ اللّهَ رَمَى “.
وكشف الغطاء عن ذلك أن جميع الأمة غير القدرية على أن أفعال العباد مخلوقة لله تعالى: ” وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ ” ، وقوله تعالى : ” وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَـكِنَّ اللّهَ رَمَى”، وإن كان يجوز أن يوصف بها العبد على وجه آخر من التعلق يعبر عنه بالاكتساب كما في قوله تعالى :” لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ “، وقوله تعالى : “فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ ” إلى غير ذلك من الآيات المصرحة بإضافة الكسب إلى العبد ، وليس من ضرورة تعلق القدرة بالمقدور أن يكون بالاختراع فقط لأن قدرة الله تعالى في الأزل كانت متعلقة بالعالم قبل اختراعه تعالى لوجوده ، وهي عند اختراعه متعلقة به بنوع آخر من التعلق .
حقيقة نسبة الأفعال للعباد :
ومن هذا يظهر أن تعلق القدرة ليس مخصوصاً بحصول المقدور بها . وأفعال العباد نسبتها إليهم على طريق الكسب لا الاختراع لأن الله تعالى هو المخترع لها ، والمقدر لها ، والمريد لها ، ولا يرد أنه كيف يريد ما نهى عنه ، لأن الأمر يغاير الإرادة بدليل أمره جميع الناس بالإيمان ، ولم يرده من أكثرهم لقوله تعالى :” وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ “، فنسبة الأفعال إلى العباد من نسبة المسبب إلى السبب أو الواسطة ، وهذا لا منافاة فيه ، لأن مسبب الأسباب هو الذي خلق الواسطة وخلق فيها معنى الوساطة ولولا ذلك الذي أودع الله تعالى فيها لم تصلح أن تكون واسطة وسواء كانت مما لم يودع العقل كالجماد والأفلاك والمطر والنار ، أو كانت عاقلة نم ملك أو إنسي أو جني .
اختلاف المعنى باختلاف النسبة اللفظية :
ولعلك تقول : لا تعقل نسبة الفعل الواحد إلى فاعلين لاستحالة اجتماع مؤثرين على أثر واحد ، فنقول : نعم ،هو كما قلتم لكن محله إذا لم يكن الفاعل إلا معنى واحد في الاستعمال .
أما إذا كان له معنيان فيكون الاسم مجملاً متردداً بينهما في الاستعمال ،وحينئذ لا يمتنع إطلاقه على كل منهما كما هو المعلوم من الاستعمال في الأسماء المشتركة أو في الحقيقة والمجاز كما يقال : قتل الأمير فلاناً ، ويقال : قتله السياف ، فإطلاق القتل على الأمير بمعنى غير المعنى الذي أطلق به على السياف ، فقولنا : إن الله تعالى فاعل بمعنى أنه المخترع الموجد ، وقولنا : إن المخلوق فاعل فمعناه أنه المحل الذي خلق الله تعالى فيه القدرة بعد أن خلق فيه الإرادة بعد أن خلق فيه العلم ، فارتباط القدرة بالإرادة والحركة بالقدرة ارتباط المعلول بالعلة وارتباط المخترع بالمخترع هذا إذا كان المحل عاقلاً وإلا فهو من ترتيب المسببات على أسبابها ، فصح أن يسمى كل ما له ارتباط بقدرة فاعلاً كيفما كان الارتباط ، كما يسمى السياف قاتلاً باعتبار ، والأمير قاتلاً باعتبار ، لأن القتل ارتبط بكليهما ، وإن كان ارتباطه على وجهين مختلفين ساغ تسمية كل منهما فاعلاً ، فمثل ذلك اعتبار المقدورات بالقدرتين ، والدليل على جواز هذه النسبة وتطابقها نسبة الله تعالى الأفعال إلى الملائكة تارة ،وتارة إلى غيرهم من العباد ، ومرة أخرى نسبها بعينها إلى نفسه ، فقال تعالى :” قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ “، وقال تعالى :” اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا “، وقال تعالى :” أَفَرَأَيْتُم مَّا تَحْرُثُونَ “بالإضافة إلينا ، ثم قال تعالى : ” أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاء صَبّاً ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقّاً فَأَنبَتْنَا فِيهَا حَبّاً “الآيات ، وقال تعالى : ” فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَراً سَوِيّاً ” ، ثم قال تعالى : ” فَنَفَخْنَا فِيهَا مِن رُّوحِنَا ” ، والنافخ جبريل عليه السلام ، وقال تعالى :” فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ ” ، والقارئ الذي يسمع النبي قراءته جبريل ، وقال تعالى :” فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَـكِنَّ اللّهَ قَتَلَهُمْ “.. ” وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَـكِنَّ اللّهَ رَمَى ” ، فنفى عنهم القتل وأثبته لنفسه ، ونفى عنه الرمي وأثبته لنفسه ، وليس المراد نفي الحس من قتلهم الكفار ورميه لهم عليه السلام بالحصباء ولكن المعنى أنهم ما قتلوهم ولا رموهم بالمعنى الذي يكون الرب به قتلهم ورماهم وهو الاختراع والتقدير إذ هما معنيان مختلفان ، وتارة ينسب الفعل إليهما معاً كقوله تعالى : “وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوْاْ مَا آتَاهُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ سَيُؤْتِينَا اللّهُ مِن فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ”.
وروت عائشة – رضي الله عنها – : أن الله تبارك وتعالى إذا أراد أن يخلق الجنين يبعث ملكاً فيدخل الرحم فيأخذ النطفة بيده ثم يصورها جسداً ، فيقول : يا رب ! أذكر أم أنثى ؟ أسوي أم معوج ؟ فيقول تعالى ما شاء ، ويخلق الملك ، وفي لفظ آخر : فيصور الملك ثم ينفخ فيه الروح بالسعادة أو بالشقاوة .
فإذا فهمت هذا اتضح لك أن الفعل يستعمل على وجوه مختلفة ولا تناقض بينهما ، ولذلك الفعل ينسب تارة للجماد كما في قوله تعالى : ” تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا ” ، فالشجرة لا يتأتى منها الإتيان بثمرها ، وكما في قوله صلى الله عليه وسلم للذي ناوله تمرة : خذها لو لم تأتها لأتتك .. كما في الطبراني وابن حبان ، فإضافة الإتيان تختلف إلى الرجل وإلى التمرة ، فمعنى إتيان التمرة غير معنى إتيان الرجل ، فالإتيان منهما مجازان مختلفان في الاعتبار ، فمجاز إطلاق الإتيان على الرجل بمعنى أن الله خلق فيه القدرة والإرادة للإتيان بها .
وإتيان التمرة بمعنى أن الله يسبب من يأتي بها ، والحقيقة إنما هي إضافة الإتيان إلى الله تعالى في كل منهما ، ولأجل اختلاف الاعتبار في الوسائط تارة تكون ملاحظة الوسائط في الأفعال كفراً كما في جواب قارون لموسى عليه السلام بقوله : ” إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي ” ، وكما في حديث : أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر ، فأما من قال : مطرنا بفضل الله ورحمته فذلك مؤمن بي كافر بالكوكب ، وأما من قال : مطرنا بنوء كذا وكذا فذلك كافر بي مؤمن بالكوكب ، وهذا الكفر باعتبار أن الواسطة مؤثرة ومخترعة ، قال النووي : اختلف العلماء في كفر من قال : مطرنا بنوء كذا على قولين : أحدهما :-
هو كفر بالله تعالى سالب لأصل الإيمان مخرج من ملة الإسلام ، قالوا : وهذا فيمن قال ذلك معتقداً أن الكوكب فاعل مدبر منشئ للمطر كما كان بعض أهل الجاهلية يزعم ، ومن اعتقد هذا فلا شك في كفره ، وهذا القول هو الذي ذهب إليه جماهير العلماء ، والشافعي منهم وهو ظاهر في الحديث ، قالوا : وعلى هذا لو قال : مطرنا بنوء كذا معتقداً أنه من الله تعالى وبرحمته وأن النوء ميقات لـه ،وعلامة اعتباراً بالعادة ، فكأنه قال : مطرنا في وقت كذا ، فهذا لا يكفر ، واختلفوا في كراهته لكنها كراهة تنزيه لا إثم فيها ، وسبب الكراهة أنها كلمة مترددة بين الكفر وغيره ، فيساء الظن بصاحبها ولأنها شعار الجاهلية ، ومن سلك مسلكهم .
والقول الثاني :
في أصل تأويل الحديث : أن المراد كفر نعمة الله تعالى لاقتصاره على إضافة الغيث إلى الكوكب ، وهذا فيمن لا يعتقد تدبير الكوكب ، ويؤيد هذا التأويل الرواية الأخيرة في الباب : أصبح من الناس شاكر وكافر ، وفي الرواية الأخرى : ما أنزل الله تعالى من السماء من بركة إلا أصبح فريق من الناس بها كافرين . فقوله : بها يدل على أنه كفر النعمة ، والله أعلم اهـ .
فأنت تراه قال باتفاق العلماء على أن من نسب الفعل إلى الواسطة لا يكفر إلا إذا اعتقد أنها هي الفاعلة المدبرة المخترعة ، وإذا لم تكن ملاحظة الواسطة بهذا الاعتبار بحيث أن الواسطة علامة أو ظرف الخلق المقدور فيها فلا كفر ، بل تارة يندب الشرع إلى ملاحظتها كقول النبي صلى الله عليه وسلم : (( من أسدى إليكم معروفاً فكافئوه فإن لم تستطيعوا فادعوا له حتى تعلموا أنكم قد كافأتموه )) .
وقوله صلى الله عليه وسلم : ((من لم يشكر الناس لم يشكر الله)) ..
وذلك لأن ملاحظة الواسطة بهذا الاعتبار لا ينافي رؤية المنة لله سبحانه وتعالى ، وقد أثنى الله عز وجل على عباده في مواضع على أعمالهم بل وأثابهم عليها وهو الباعث لإرادتهم لها والخالق لقدرتهم عليها، كقوله تعالى : ” نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ ” ، وقوله تعالى : ” لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ ” ، وقـال تعالى : ” قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا ” الآية
وإذا ظهر لك أن الفعل يستعمل على وجوه مختلفة فلا تتناقض هذه المعاني إذا فهمت الفهم الصحيح السليم .
فالمعاني أوسع من العبارات ، والصدور أوسع من الكتب المؤلفات ، ولو وقفنا مع حقيقة اللفظ دون المجاز ،لم نجد إلى الجمع بين النصوص أو التفرقة من جواز ، ألا ترى إلى ما أخبر الله تعالى به عن إبراهيم عليه السلام من قوله : ” رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِّنَ النَّاسِ ” ، أترى أن إبراهيم يشرك مع الله تعالى الجماد وهو القائل : ” أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ ” ، والأمر الجامع في ذلك أن من أشرك مع الله جل جلاله غيره في الاختراع والتأثير فهو مشرك سواء كان الملحوظ معه جماداً أو آدمياً نبياً أو غيره ، ومن اعتقد السببية في شيء من ذلك اطردت أو لم تطرد ، فجعل الله تعالى لها سبباً لحصول مسبباتها ، وأن الفاعل هو الله وحده لا شريك له فهو مؤمن ، ولو أخطأ في ظنه ما ليس بسبب سبباً لأن خطأه في السبب لا في المسبب الخالق المدبر جل جلاله وعظم شأنه .
([1]) سيأتي في هذه الرسالة بحث خاص عن الخصائص المحمدية وموقف العلماء منها ، وما نذكره هنا هو من باب التنظير .