حقائق يجب أن تموت
حقائق تموت بالبحث
يجري البحث بين العلماء في حقائق كثيرة من مسائل العقيدة مما لم يكلفنا به الله تعالى ، وأنا أرى ذلك البحث يذهب بَهاءَ تلك الحقائق وجلالها ، وذلك مثلاً كاختلاف العلماء في رؤية النبي r لله سبحانه وتعالى كيف كانت، والخلاف الطويل العريض الدائر بينهم في ذلك الباب ، فمن قائل رآه بقلبه ومن قائل رآه بعينه ، وكل يورد دليله ويستنصر له بما لا طائل تحته ، والذي أراه أن كل ذلك عبث لا فائدة فيه ، بل ضرره أكبر من نفعه خصوصاً إذا سمع هذا العوام، فإنه يُدخل التشكيك في قلوبهم لا محالة ، ولو أننا ألغينا البحث عن هذا واكتفينا بإيراد هذه الحقيقة كما جاءت لبقيت مكرمة معظمة في النفوس بأن نقول إنه r رأى ربه ونقتصر على هذه الحقيقة ونترك الباقي له هو .
وكلم الله موسى تكليما :
ومن ذلك أيضاً ما يجري بين العلماء من البحث في حقيقة كلام الله تعالى والخلاف الكبير الدائر في هذا الباب ، فمن قائل إن كلامه سبحانه وتعالى كلام نفسي ، ومن قائل إن كلامه سبحانه وتعالى بحرف وصوت ، وأنا أعتقد أن كلا الطرفين يطلب حقيقة التنزيه لله سبحانه وتعالى ويبعد عن الشرك بكل أنواعه.
ومسألة الكلام حقيقة ثابتة لا مجال لإنكارها إذ هو ينافي الكمال الإلهي هذا من جهة ، ومن جهة أخرى أن صفاته سبحانه وتعالى الواردة في القرآن يجب الإيمان بها وإثباتها لأنه لا يعرف الله إلا الله .
والذي أراه وأدعو إليه هو إثبات هذه الحقيقة دون الغوص في كيفيتها وشكلها ، فنثبت لله سبحانه وتعالى الكلام ونقول هذا كلام الله ونقول إنه سبحانه وتعالى متكلـم ، ونصرف النظر عما بعد ذلك مـن الباطـل مـن كونـه كلامـاً نفسياً وغير نفسي بحرف وصوت أو بلا حرف ولا صوت ، وكل هذا تنطـع لم يتكلـم فيـه الذي جـاء بالتوحيـد وهـو المصطفـى صلى الله عليـه وسلـم ، فلم الزيادة على ما جاء به ؟ أليس هذا من أقبح البدع ؟ سبحانك هذا بهتان عظيم.
هو صلى الله عليه وسلم يحدثنا عنه يوم نجتمع به عند الله سبحانه وتعالى، نحن ندعو إلى أن يكون حديثنا دائماً عن هذه الحقيقة وأمثالها مجرداً عن الغوص في كيفياتها وصورها وأشكالها .
إني أراكم من خلفي :
ومن ذلك أيضاً ما يجري بين العلماء من البحث في حقيقة قوله r :[ إني أراكم من خلفي كما أراكم من أمامي ] . فمن قائل : إن الله تعالى يجعل لنبيه r عينين من الخلف ، ومن قائل : إن الله سبحانه وتعالى يجعل لعينيه الأماميتين قوة نفاذة ترى بها ما خلفهما ، ومن قائل : إن الله سبحانه وتعالى يعكس له r ما خلفه حتى تكون صورته أمامه بين عينيه ، وكل هذا تنطع يخرج هذه الحقيقة عن جمالها ورونقها ، ويضعف هيبتها وجلالها في القلوب .
أما كونه r يرى من خلفه كما يرى من أمامه فهي حقيقة ثابتة أخبر بها بنفسه فيما صح عنه فلا مجال لإنكارها ، ولكن الذي ندعو إليه ونراه هو أن نثبت هذه الحقيقة هكذا مجردة كما وردت دون الدخول في كيفيتها وشكلها يجب علينا أن نعتقد إمكان ذلك وثمرته بأن نشهد بخارق من الخوارق التي تضمحل عندها الأسباب وتتلاشى لتظهر قدرة الواحد القهار ومنقبة النبي المختار r .
جبريل يتمثل رجلاً :
ومن ذلك أيضاً اختلاف العلماء في كيفية تشكل جبريل عليه السلام إذا جاء بالوحي على صورة رجل مع هول خلقه .
فمن قائل : إن الله يفني الزائد من خلقه ، ومن قائل : إنه ينضم بعضه إلى بعض حتى يصير صغيراً ، والذي أراه أن كل ذلك عبث ، وأن البحث فيه تعب لا فائدة منه فنحن نعتقد أن الله سبحانه وتعالى قادر على ذلك ، وأن هذا واقع ومشاهد ، فقد رآه كثير من الصحابة على تلك الصورة ونحن لا يهمنا معرفة الطريقة التي يتم بها تمثل الملك بصورة رجل ، وندعو إخواننا من طلاب العلم إلى إيراد هذه الحقيقة دون التعرض لما وراءها من خلافات لتبقى جليلة عظيمة في النفوس .