التردد على الآثار النبوية والمشاهد الدينية والتبرك بزيارتها
التردد على الآثار النبوية والمشاهد الدينية
والتبرك بزيارتها
كتب في هذا الموضوع الشيخ ابن تيمية كلاماً نفيساً جداً ، ونحن ننقل منه هذه الفوائد المهمة .
فأما مقامات الأنبياء والصالحين وهي الأمكنة التي قاموا عليها أو أقاموا أو عبدوا الله سبحانه وتعالى فيها لكنهم لم يتخذوها مساجد ، فالذي بلغني في ذلك قولان عن العلماء المشهورين :
أحدهما : النهي عن ذلك وكراهته ، وأنه لا يستحب قصد بقعة للعبادة إلا أن يكون قصدها للعبادة مما جاء به الشرع مثل أن يكون النبي r قصدها للعبادة كما قصد الصلاة في مقام إبراهيم وكما كان يتحرى الصلاة عند الاستطوانة.
وكما يقصد المساجد للصلاة ويقصد الصف الأول ونحو ذلك .
والقول الثاني : أنه لا بأس باليسير من ذلك كما نقل عن ابن عمر [أنه كان يتحرى قصد المواضع التي سلكها النبي صلى الله عليه وسلم وإن كان النبي r قد سلكها اتفاقاً لا قصداً] .
قال سندي الخواتيمي : سألنا أبا عبد الله عن الرجل يأتي هذه المشاهد يذهب إليها ترى ذلك ؟ قال : أما على حديث ابن أم مكتوم أنه سأل النبي r أن يصلي في بيته حتى يتخذ ذلك مصلى ، وعلى ما كان يفعله ابن عمر يتتبع مواضع النبي r وأثره فليس بذلك بأس أن يأتي الرجل المشاهد إلا أن الناس قد أفرطوا في هذا وأكثروا فيه .
وكذلك نقل عنه أحمد بن القاسم : أنه سئل عن الرجل يأتي هذه المشاهد التي بالمدينة المنورة وغيرها يذهب إليها فقال: أما على حديث ابن أم مكتوم (أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم : أن يأتيه فيصلي في بيته حتى يتخذه مسجداً)، أو على ما كان يفعل ابن عمر : كان يتتبع مواضع سير النبي r حتى أنه رؤي يصب في موضع ماء ، فسئل عن ذلك ، فقال : (كان النبي r يصب هاهنا ماء) . قال : أما على هذا فلا بأس . قال : ورخص فيه ثم قال : ولكن قد أفرط الناس جداً وأكثروا في هذا المعنى ، فذكر قبر الحسين وما يفعل الناس عنده . رواهما الخلال في كتاب الأدب .
قال الشيخ ابن تيمية : فقد فصل أبو عبد الله في المشاهد وهي الأمكنة التي فيها آثار الأنبياء والصالحين من غير أن تكون مساجد لهم كمواضع بالمدينة بين القليل الذي لا يتخذونه عيداً أو الكثير الذي يتخذونه عيداً كما تقدم
وهذا التفصيل جمع فيه بين الآثار وأقوال الصحابة ، فإنه قد روى البخاري في صحيحه عن موسى بن عقبة قال : رأيت سالم بن عبد الله يتحرى أماكن من الطريق ويصلي فيها ، ويحدث أن أباه كان يصلي فيها وأنه رأى النبي r يصلي في تلك الأمكنة ، قال موسى : وحدثني نافع أن ابن عمر كان يصلي في تلك الأمكنة] ، فهذا ما رخص فيه أحمد رضي الله عنه ، وأما ما كرهه فروى سعيد بن منصور في سننه : حدثنا أبو معاوية حدثنا الأعمش عن المعرور بن سويد عن عمر رضي الله عنه قال :(خرجنا معه في حجة حجها فقرأ بنا في الفجر بـ } أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ { ،و } لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ { في الثانية ، فلما رجع من حجته رأى الناس ابتدروا المسجد فقال : ما هذا ؟ قالوا مسجد صلى فيه رسول الله r فقال : ((هكذا هلك أهل الكتاب قبلكم : اتخذوا آثار أنبيائهم بيعاً من عرضت له منكم الصلاة فيه فليصل ومن لم تعرض له الصلاة فليمض)) ..
فقد كره عمر رضي الله عنه اتخاذ مصلى النبي r عيداً ، وبين أن أهل الكتاب إنما هلكوا بمثل هذا .
قال الشيخ ابن تيمية : قد اختلف العلماء رضي الله عنهم في إتيان المشاهد .
فقال محمد بن وضاح : كان مالك وغيره من علماء المدينة يكرهون إتيان تلك المساجد وتلك الآثار التي بالمدينة ما عدا قباء وأحداً ، ودخل سفيان الثوري بيت المقدس وصلى فيه ، ولم يتتبع تلك الآثار ولا الصلاة فيها .
فهؤلاء كرهوها مطلقاً لحديث عمر رضي الله عنه هذا ولأن ذلك يشبه الصلاة عند المقابر إذ هو ذريعة إلى اتخاذها أعياداً وإلى التشبه بأهل الكتاب ،ولأن ما فعله ابن عمر لم يوافقه عليه أحد من الصحابة ، فلم ينقل عن الخلفاء الراشدين ولا عن غيرهم من المهاجرين والأنصار أن أحداً منهم كان يتحرى قصد الأمكنة التي نزلها النبي r ([1]2).
ثم قال : واستحب آخرون من العلماء المتأخرين إتيانها وذكر طائفة من المصنفين من أصحابنا وغيرهم في المناسك استحباب زيارة هذه المشاهد وعدوا منها مواضع وسموها .
وأما أحمد : فرخص منها فيما جاء به الأثر من ذلك إلا إذا اتخذت عيداً مثل أن تنتاب لذلك ويجتمع عندها في وقت معلوم كما يرخص في صلاة النساء في المساجد جماعات وإن كانت بيوتهن خيراً لهن إلا إذا تبرجن ، وجمع بذلك بين الآثار واحتج بحديث ابن أم مكتوم . اهـ اقتضاء الصراط المستقيم في مخالفة أصحاب الجحيم (ص387) .
والحاصل الظاهر من كلام الإمام أحمد أنه يجيز التردد على الآثار والمشاهد والأماكن المنسوبة إلى الأنبياء والصالحين ويرى أن تتبع ذلك والاعتناء به له أصل في السنة النبوية وهو ليس ببدعة ولا ضلالة فضلاً عن أن يكون شركاً أو كفراً ، لكنه انتقد الإفراط في ذلك والاشتغال به بصورة زائدة . هذه خلاصة رأيه رضي الله تعالى عنه .
أما الشيخ ابن تيمية فقد فهم نم كلام أحمد التفصيل في هذا الأمر بين القليل والكثير ، وفهم أن الكثير من ذلك هو المكروه عند أحمد وحكم عليه بأنه مكروه فقط ولم يزد على القول بالكراهة شيئاً وقد بين ابن تيمية القدر الكثير الذي يصير به هذا التردد والتتبع للآثار النبوية مكروهاً ، وهو أن تتخذ تلك الأماكن والآثار عيداً يجتمعون عليه عندها ويحتفلون بها في أوقات مخصوصة .
ويفهم من كلام الشيخ ابن تيمية أيضأً أن الآثار التي ثبت أن الأنبياء اتخذوها مسجداً أو صلوا فيها فإنها خارجة عن هذا التفصيل ، وينبني عليه أن الأماكن والآثار التي ثبت أن الأنبياء صلوا فيها لها ميزة على غيرها وأنها تقصد للعبادة والصلاة ، وهذا صريح كلامه حين قال في أول البحث : [لكنهم لم يتخذوها مساجد] ، وحين قال : (فقد فصل أبو عبد الله في المشاهد وهي الأمكنة التي فيها آثار الأنبياء والصالحين من غير أن تكون مساجد لهم كمواضع بالمدينة بين القليل الذي لا يتخذونه عيداً والكثير الذي يتخذونه عيداً كما تقدم) . اهـ (من اقتضاء الصراط ص385) .
معنى العيد المنهي عنه في الحديث : وقد حدد الشيخ ابن تيمية معنى العيد المنهي عنه في الحديث بقوله r : ((لا تتخذوا قبري عيداً)) .. فقال : وفي الجملة هذا الذي يفعل عند هذه القبور هو بعينه الذي نهى عنه رسول الله r بقوله : ((لا تتخذوا قبري عيداً)) .. فإن اعتياد قصد المكان المعين في وقت معين عائداً بعود السنة أو الشهر أو الأسبوع هو بعينه معنى العيد ثم ينهى عن دق ذلك وجله وهذا هو الذي تقدم عن الإمام أحمد إنكاره قال: وقد أفرط الناس في هذا جداً وأكثروا ، وذكر ما يفعل عند قبر الحسين .
وقال في موضع آخر : فأما اتخاذ قبورهم أعياداً فهو مما حرمه الله ورسوله واعتياد قصد هذه القبور في وقت معين والاجتماع العام عندها في وقت معين هو اتخاذها عيداً كما تقدم ولا أعلم بين المسلمين من أهل العلم في ذلك خلافاً ولا يغتر بكثرة العادات الفاسدة ، فإن هذا من التشبه بأهل الكتابين الذي أخبرنا النبي r أنه كائن في هذه الأمة . اهـ اقتضاء الصراط المستقيم (ص377) .
عقيدة المؤلف :
وهذا الذي ذكره الشيخ ابن تيمية هو عين ما نعتقده في هذا الموضوع بفضل الله سبحانه وتعالى وهو ما ندعو إليه ونحث الناس عليه في كل مجال وفي كل مناسبة إننا ننهاهم أن يتخذوا قبر النبي r أو الآثار والمشاهد عيداً وننهاهم أن يخصوها بشيء من أنواع العبادات التي لا يجوز صرفها إلا لله سبحانه وتعالى ، وننهاهم أن يخصصوا لها يوماً يجتمعون فيه ويحتفلون به ، هذا ما نعتقده وندين الله به ، لا من اليوم ولا من الأمس بل خلف عن سلف وأبناء عن آباء ، بفضل الله سبحانه وتعالى .
فالواجب علينا أن نلاحظ بعين الاعتبار هذه الأقوال والتحليلات العلمية الدقيقة التي تدل على حسن الفهم في تذوق العلم وأن لا نبادر إلى تكفير المسلمين أو الحكم عليهم بالضلال والبدعة لمجرد تتبعهم للآثار النبوية واهتمامهم بالمقامات والمشاهد والأماكن المنسوبة إلى الأنبياء والصالحين ، وأن نحسن الظن بهم وأن نعلم أن المقصود الأصلي هو الله سبحانه وتعالى ، وهذه كلها أسباب ووسائل تزيد في النفس الإيمان والاعتبار والادكار والارتباط بأصحابها وتاريخهم ، وهم القدوة الحسنة للبشر مع ما في ذلك من التعرض للنفحات والبركات المتنـزلة في أماكن الخير ومواطن الهدى لأن الأماكن التي كانت معمورة بأهل الخير والصلاح لا تزال هي محل الرضا والرضوان ، والأماكن التي كانت معمورة بأهل الشر والفساد هي محل السخط والغضب ، ولذلك أمر r أصحابه أن لا يدخلوا ديار ثمود إلا وهم باكون ، وأن لا يشربوا من مائها ، بل أمرهم أن يهريقوا ما أخذوه ، وأن لا يأكلوا ما طبخوه بها ، وكذلك أمرهم بالإسراع في المشي إذا دخلوا وادي محسر المعروف بوادي النار ، وقد فصلنا هذا الموضوع بعينه في مبحث خاص : بالتبرك بالآثار النبوية .
الاعتناء بالآثار والمشاهد
المحافظة على الآثار النبوية أصل عظيم وتراث كريم وتاريخ ، إنه تاريخ الأمة الذي تفخر به والذي يظهر به شرفها وشرف رجالها وأئمتها الذين بنوا مجدها وأقاموا عزها وصنعوا منها أمة قائدة رائدة في كل مجال ، ولذلك فإن إهمال هذه الآثار إهدار لشواهد الحضارة الإسلامية الواقعية ومسخ لأصول طبيعية باقية من تراثنا الإسلامي وجناية على أعز ما تملكه الأمة في هذا المجال ، إنه هو وصمة في الجبين وقذاة في العين يعكر صفو الرؤية ويشوه الصورة ويفوت علينا خيراً عظيماً لا يعوض ولا يدرك لأنه ستتغير معالمه وتنطمس رسومه ثم لا يبقى منه شيء ثم لا يبقى من يعرف منه شيئاً .
فإن قيل إن بعض الناس يتخذها عيداً ويشرك بالله عندها بعبادتها دون الله أو بالطواف حولها وربط الحبال وإلقاء الأوراق أو الذبح لها .
فنقول : إن ذلك كله لا نرضاه ولا نوافق عليه بل وننهى عنه ونحذر الناس منه وهو من الجهل الذي يجب محاربته لأن هؤلاء يؤمنون بالله ويقرون له بالتوحيد ويشهدون أنه لا إله إلا هو ولكنهم يخطئون العمل ويجهلون الصواب ، فالواجب تعليمهم وإرشادهم ولكن ذلك كله لا يدعو إلى إهمالها أو إزالتها ومحوها من الوجود والاعتذار بتلك الحجج اعتذار بارد وتعليل عليل ليس بمقبول عند العلماء والعقلاء إذ يمكن إزالة تلك العوارض إذا وجدت بالمنع والمراقبة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة والخلق الحسن مع بقاء آثارنا والمحافظة عليها والاعتناء بها حفظاً لأصالة الأمة ووفاء للتاريخ وأداء للأمانة التي في أعناقنا والتي هي جزء أصيل من تاريخنا المجيد وتاريخ نبينا محمد r ، والمفكرون اليوم يحافظون على آثار بائدة لأمم ملعونة مسخوطة معذبة ممن سبقنا كقوم ثمود وعاد ، فهل يصح أن نحافظ على تلك الآثار ونعتني بها ونجاهد في سبيل بقائها ونضيع آثار أشرف خلق الله الذي تشرفت به البلاد والعباد وأعز الله به الأمة ورفعها وجعل لها المكانة العالية والرتبة السامية التي ما نالها نائل ولا وصل إليها واصل إلا بسبب الانتماء إلى الحظ السعيد والمجد التليد محمد بن عبد الله r.
اعتناء القرآن بآثار الأنبياء السابقين :
ذكر الله سبحانه وتعالى في كتابه العزيز قصة تابوت بني إسرائيل الذي جعله علامة صحة ملك طالوت عليه ، فقال : } وَقَالَ لَهُمْ نِبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَن يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِّمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلآئِكَةُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ { .
هذا التابوت شأنه عظيم ومقامه كريم وكان عندهم يقدمونه بين أيديهم في حروبهم فيحصل لهم النصر ببركة التوسل إلى الله تعالى به وبما فيه ، فلا يقاتلون أحداً من أعدائهم إلا ويكون معهم هذا التابوت ، وقد أخبر الله تعالى في الآية عن محتوياته بأنه فيه سكينة إلهية وآثار نبوية وهي التي قال عنها: } وَبَقِيَّةٌ مِّمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلآئِكَةُ { ، وهذه البقية من تركة آل هارون هي عصا موسى وعصا هارون وثيابه والنعلان ولوحان من التوراة . كذا في تفسير ابن كثير (ج1 ص313) ، وفيه أيضاً طست من ذهب كان يغسل فيه صدور الأنبياء . انتهى من البداية والنهاية (ج2 ص8) .
وبسبب هذه الآثار العظيمة المنسوبة إلى أولئك المصطفين الأخيار من عباد الله عظم الله قدر هذا التابوت ورفع شأنه وحفظه ورعاه برعايته الخاصة لما غلبوا بسبب معاصيهم ومخالفتهم إذ لم تتحقق أهليتهم للاحتفاظ به فعاقبهم الله تعالى بأخذه وسلبه منهم ثم حفظه الله تعالى ثم رده إليهم ليكون علامة على صحة ملك طالوت عليهم ، وقد رده إليهم بالتعزيز والتكريم والتقدير إذ جاءت به الملائكة تحمله إليهم .
فأي عناية أعظم من هذه العناية بالآثار والاهتمام بها والمحافظة عليها وتنبيه العقول والأفهام إلى أهمية ذلك الأمر وجلالته وقيمته التاريخية والدينية والحضارية .
] ] ]
محافظة الخلفاء الراشدين على خاتم النبي r
روى الإمام البخاري بسنده عن ابن عمر رضي الله عنهما قال : اتخذ رسول الله صلى اله عليه وآله وسلم خاتماً من ورق وكان في يده ثم كان بعد في يد أبي بكر ثم كان بعد في يد عثمان حتى وقع بعد في بئر أريس نقشه محمد رسول الله .
رواه البخاري في الصحيح في كتاب اللباس باب خاتم الفضة ، قال الحافظ ابن حجر : جاء في رواية النسائي : أنه التمس فلم يوجد ، وجاء في رواية ابن سعد : أنه كان في يد عثمان ست سنين . اهـ (فتح الباري ج10 ص313) .
قال العيني : وبئر أريس حديقة بقرب مسجد قباء . اهـ عمدة القاري (ج22 ص31) . قلت : وهذه البئر صارت معروفة اليوم ببئر الخاتم وهو خاتم رسول الله r الذي سقط فيها أيام خلافة عثمان وقد اجتهد ثلاثة أيام في استخراجه بكا ما وجد سبيلاً فلم يلقه . (أنظر المغانم المطابة في معالم طابة للفيروز آبادي ص26) .
] ] ]
محافظة الخلفاء الراشدين على حربة كانت عند النبي r
روى الإمام البخاري بسنده إلى الزبير رضي الله تعالى عنه قال : لقيت يوم بدر عبيدة بن سعيد بن العاص وهو مدجج لا يرى منه إلا عيناه وهو يكنى أبا ذات الكرش فقال : أنا أبو ذات الكرش فحملت عليه بالعنزة فطعنته في عينه فمات ، قال هشام : فأخبرت أن الزبير قال : لقد وضعت رجلي عليه ثم تمطأت فكان الجهد أن نزعتها وقد انثنى طرفاها ، قال عروة : فسأله إياها رسول الله r فأعطاه ، فلما قبض رسول الله r أخذها ثم طلبها أبو بكر فأعطاه إياها ، فلما قبض أبو بكر سأله إياها عمر ، فأعطاه إياها ، فلما قبض عمر أخذها ، ثم طلبها عثمان منه فأعطاه إياها ، فلما قتل عثمان وقعت عند آل علي فطلبها عبد الله ابن الزبير ، فكانت عنده حتى قتل . رواه البخاري في كتاب المغازي باب شهود الملائكة بدراً ، وقوله فحملت عليه بالعنزة . العنزة بفتح النون هي كالحربة ، وقال بعضهم : هي شبه العكاز .
وحاصل القصة هو أن الزبير قتل عبيدة بن سعيد بن العاص يوم بدر طعنه في عينه بالعنزة فمات ، ثم طلب النبي r منه تلك العنزة عارية فأعطاه ، فلما قبض r أخذها الزبير ثم طلبها أبو بكر من الزبير عارية فأعطاه وبقيت عنده إلى أن مات ثم رجعت إلى الزبير صاحبها الأول ثم طلبها عمر من الزبير فأعطاه وبقيت عنده مدة حياته ثم رجعت إلى الزبير صاحبها الأول ثم طلبها عثمان منه فأعطاه إياها فلما قتل عثمان وقعت عند عليّ فطلبها الزبير صاحبها الأول فكانت عنده حتى قتل. أنظر (الفتح ج7 ص314 ، وعمدة القاري ج17 ص107) .
ونحن نتساءل لماذا هذا الحرص العظيم والاهتمام بهذه الحربة والحراب كثيرة ، ولعل هناك ما هو أحسن منها وأجود وممن هذا الحرص ؟ إنه من الخلفاء الأربعة الراشدين المهتدين أئمة الدين وأركان التوحيد وأمناء الدين .
] ] ]
محافظة عمر بن الخطاب على ميزاب العباس
لأنه وضعه r
عن عبد الله بن عباس – رضي الله عنهما – قال : كان للعباس ميزاب على طريق عمر – رضي الله عنه – فلبس عمر ثيابه يوم الجمعة وقد كان ذبح للعباس فرخان ، فلما وافى الميزاب صب فيه من دم الفرخين فأصاب عمر فأمر عمر بقلعه ثم رجع فطرح ثيابه ولبس غيرها ، ثم جاء فصلى بالناس فأتاه العباس فقال : والله إنه الموضع الذي وضعه رسول الله r ، فقال عمر للعباس : عزمت عليك لما صعدت على ظهري حتى تضعه في الموضع الذي وضعه رسول الله r ففعل ذلك العباس . كذا في الكنز (ج7 ص66) .
وقال الإمام أبو محمد عبد الله بن أحمد بن محمد بن قدامة في كتابه المغني :
فصل : ولا يجوز إخراج الميازيب إلى الطريق الأعظم ولا يجوز إخراجها إلى درب نافذ إلا بإذن أهله .
وقال أبو حنيفة ومالك والشافعي : يجوز إخراجها إلى الطريق لأن عمر – رضي الله عنه – اجتاز على دار العباس وقد نصب ميزاباً إلى الطريق فقلعه ، فقال العباس : تقلعه وقد نصبه رسول الله r بيده ؟ فقال : والله لا نصبته إلا على ظهري وانحنى حتى صعد على ظهره فنصبه . اهـ من المغني لابن قدامة (4/554) .
ابن عمر لم يكن وحده مع الآثار
اشتهر ابن عمر رضي الله عنهما بتتبعه للآثار واعتنائه بها ومحافظته عليها ، قال الشيخ ابن تيمية : سئل الإمام أحمد بن حنبل عن الرجل يأتي هذه المشاهد ، فأجاب وذكر في جوابه : أن ابن عمر كان يتتبع مواضع سير النبي r حتى أنه رؤي يصب في موضع ماء ، فسئل عن ذلك ، فقال : كان النبي r يصب هاهنا ماء .
وروى البخاري في صحيحه عن موسى بن عقبة قال : رأيت سالم بن عبد الله يتحرى أماكن من الطريق ويصلي فيها ويحدث أن أباه كان يصلي فيها وأنه رأى النبي r يصلي في تلك الأمكنة ، قال موسى : وحدثني نافع أن ابن عمر كان يصلي في تلك الأمكنة اهـ . اقتضاء الصراط المستقيم (ص385) .
ولكن لم ينفرد ابن عمر بهذا الأمر بل شاركه كثير من الصحابة رضي الله عنهم في التتبع للآثار والمحافظة عليها والاهتمام بها ، وقد ذكرنا ما يؤيد هذا من قبل من فعل الخلفاء الراشدين والأئمة المهدين الذين جعل النبي r فعلهم سنة متبعة مستمدة من سنته وهديه وأمر بالتمسك بها والرجوع إليها ، ومعلوم أن سنتهم هي سنته لأنهم لا كلام ولا اجتهاد ولا نظر أمام كلامه الذي صح وثبت عنه r .
وذكرنا في مبحث التبرك بالآثار جملة صالحة من النصوص التي لها اتصال وثيق بهذا المبحث وبها ينجلي ويتضح كيف كان الصحابة رضي الله عنهم يتبركون بآثاره وفيهم ابن عمر وغيره ، والحق أن هذا البحث وذاك متصلان ونابعان من أصل واحد لأن التبرك بالآثار هو فرع المحافظة عليها والاعتناء بها إلا أن الثانية ألصق بالتاريخ والحضارة الاجتماعية والأولى أنسب للإيمان والمحبة والتعلق .
ابن عباس والآثار القديمة
لما أراد عبد الله بن الزبير هدم الكعبة جمع الصحابة فاستشارهم في ذلك فاقترح عليه ابن عباس أن لا يهدمها كلها وأن يصلح المواضع التي تحتاج إلى إصلاح فقط ليبقى الصالح على ما هو عليه محافظة على الحجارة القديمة التي كانت في العهد الأول عهد الإسلام عهد البعثة عهد النبي r .
عن عطاء قال : لما احترق البيت (زمن يزيد بن معاوية) حين غزاها أهل الشام فكان من أمره ما كان . تركه ابن الزبير حتى قدم الناس الموسم يريد أن يجرّئهم (أو يَحْربهم) على أهل الشام . فلما صدر الناس قال : يا أيها الناس ! أشيروا عليَّ في الكعبة أنقضها ثم أبني بناءها أو أصلح ما وهي منها ؟ قال ابن عباس: فإني قد فُرق لي رأي فيها أرى أن تصلح ما وهي منها وتدع بيتاً أسلم الناس عليه وأحجاراً أسلم الناس عليها وبُعث عليها النبي r .
(صحيح مسلم كتاب الحج باب نقض الكعبة وبنائها شرح النووي ص92/94 ج9).
] ] ]
غيرة عمر على الآثار النبوية
وقد كان سيدنا عمر رضي الله عنه شديد الغيرة على الآثار النبوية عظيم العناية بها والحماية لها ، ولذلك لما رأى الناس مجتمعين على شجرة زعموا أنها شجرة الرضوان التي حصلت عندها بيعة الرضوان ، وذكرها الله تعالى في كتابه بقوله: } لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ { ، إذ كان رضي الله عنه يعرف حق المعرفة أن الشجرة غير معروفة ولا أحد يعلم مكانها فضلاً عن عينها وأن أصحابها الذين حضروها وشهدوها وبايعوا تحتها هم بأنفسهم لا يعرفونها فكيف بغيرهم بل قد صرحوا بذلك كما جاء في الصحيحين عن ابن عمر رضي الله عنهما إنه جاء في العام التالي لعام بيعة الرضوان ، قال : فبحثنا عن الشجرة فلم يقع عليها رجلان .
قال المسيب والد سعيد : لقد رأيت الشجرة ثم أنسيتها بعد فلم أعرفها ، وقول طارق بن عبد الرحمن : طلعت حاجاً فمررت بقوم يصلون فقلت : ما هذا المسجد ؟ قالوا : هذه الشجرة حيث بايع رسول الله r بيعة الرضوان فأتيت سعيد بن المسيب فأخبرته ، فقال :حدثني أبي أنه كان فيمن بايع تحت الشجرة قال : فلما خرجنا من العام المقبل نسيناها وعلمتموها أنتم فأنتم أعلم . وفي رواية أنه قال : فعميت علينا . أنظر صحيح البخاري كتاب المغازي ، باب غزوة الحديبية ، وصحيح مسلم كتاب الإمارة باب استحباب متابعة الإمام .
أي لم يتفق رأي رجلين على شجرة واحدة بالتعيين ، فإذا كان هذا في خلال سنة واحدة في عهد واحد ومع توافر وجود أصحاب الرضوان الذين حضروا عندها وبايعوا تحتها فما بالك بشجرة ظهرت في زمن عمر بعد سنوات عديدة .
اختلف العهد ومات أكثر من حضر الموقف ، واختلف الناس في تعيين الشجرة المباركة التي تشرفت بالبيعة المحمدية ، وحصل عندها أعظم موقف من مواقف التضحية والجهاد اهتزت له السموات والأرض ، وشهدته الملائكة الكرام وسجله القرآن بقوله : } لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً { الآية .
ثم كان عند هذه الشجرة المباركة الميمونة إعلان منقبة من أعظم مناقب وخصائص النبي الأعظم والرسول الأكرم r سجّلها القرآن بقوله : } إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ { الآية .
فعمر رضي الله عنه لم يقطعها ليمنع التبرك بالآثار أو لأنه لا يرى ذلك ولم يقع ذلك المعنى في قلبه أصلا ولم يخطر على باله أبداً بدليل أنه رضي الله عنه ثبت عنه التبرك وطلب التبرك بالآثار ونحوها كطلبه من أبي بكر العنزة التي كانت عند رسول الله r ومحافظته على خاتم رسول الله r وغير ذلك ، وكان رسول الله r قد استعار تلك العنزة من الزبير كما في البخاري في باب شهود الملائكة بدراً اهـ من المغازي . وفي نسخة القسطلاني (ج6 ص264) .
] ] ]
الاهتمام بالنعال النبوية والقيام بدراسة علمية لها
ومن الآثار النبوية التي نالت اهتمام العلماء وعنايتهم النعال النبوية ، بل حظيت بدراسة عميقة ودقيقة عن صفتها ومثالها ولونها ، فكتبوا عنها البحوث المتخصصة وألفوا فيها الرسائل المستقلة .
والمقصود من ذلك كله هو صاحب النعال ، ألا وهو النبي الأعظم والرسول الأكرم صلى الله عليه وسلم .
وإذا كنا نهتم بآثار العظماء وملابسهم وثيابهم ومتاعهم ونبذل في حصيلها الغالي والرخيص ونقيم لها المتاحف الخاصة والخبراء المتخصصين فإنه r نفسي له الفداء أولى وأحق ، فلو بذلت المهج وحر الأموال في سبيل ذلك لكان رخيصاً لأجله صلى الله عليه وسلم .
] ] ]
اهتمام المملكة بالآثار
ولقد وفق الله حكومتنا السنية إلى العناية بالآثار عناية عظيمة ، حرصاً على تراثنا المجيد ، وحفظاً لمعالم الحضارة الإسلامية التاريخية ، فجعلت لها دائرة خاصة تعتني وتهتم بها تسمى ( إدارة الآثار ) وأصدرت لها نظاماً خاصاً معتمداً بالمرسوم الملكي رقم م/26 /وتاريخ 23/1396 هـ([2]).
وأنشأت مجلساً خاصاً للنظر فيما يتعلق بهذا الموضوع يسمى ( المجلس الأعلى للآثار ) وصدر قرار مجلس الوزارة رقم 235 وتاريخ 21/2/1398 هـ ، بتكوين أعضائه برئاسة وزير المعارف وعضوية مندوبين عن الداخلية والمالية والحج والأوقاف والإعلام والآثار .
وبين النظام أن الهدف من إنشاء المجلس الأعلى للآثار هو تجميع أكبر قدر من الخبرات لضمان وصول دائرة الآثار إلى غايتها المرجوة .
المحافظة على الآثار : جاء في المادة ( 6 ) من النظام : تتولى دائرة الآثار بالتعاون مع الأجهزة الأخرى في الدولة – كل في اختصاصه – المحافظة على الآثار والمواقع الأثرية كما تتولى تقرير أثرية الأشياء والمباني التاريخية والمواقع وما يجب تسجيله من آثار ويعني تسجيل أثر ما إقرار الدولة بأهميته التاريخية أو الفنية وعملها على صيانته ودراسته وإظهاره بالمظهر اللائق وفقاً لأحكام هذا النظام .
] ] ]
المساجد وأماكن العبادة من أهم الآثار
وجاء في المادة ( 7 ) : الآثار نوعان : آثار ثابتة وآثار منقولة :
( أ ) الآثار الثابتة هي الآثار المتصلة بالأرض مثل الكهوف الطبيعية أو المحفورة التي كانت مخصصة لحاجات الإنسان القديم ، والصخور التي رسم أو حفر عليها الإنسان صوراً أو نقوشاً أو كتابات وكذلك أطلال المدن والمنشآت المطمورة في بطون التلال المتراكمة والأبنية التاريخية المنشأة لغايات مختلفة كالمساجد وأماكن العبادة الأخرى والقصور والبيوت في المشافي والقلاع والحصون والأسوار والملاعب والحمامات والمدافن والقنوات المشيدة والسدود وأطلال تلك المباني وما تصل بها كالأبواب والنوافذ والأعمدة والشرفات والسلالم والسقوف والأفاريز والتيجان وما شابه ذلك .
( ب ) الآثار المنقولة هي التي صنعت لتكون بطبيعتها منفصلة عن الأرض أو عن المباني التاريخية والتي يمكن تغيير مكانها كالمنحوتات والمسكوكات والمنقوش والمخطوطات والمنسوجات والمصنوعات مهما كانت مادتها والغرض من صنعها ووجوه استعمالها .
الآثار ومشاريع الهدم والتخطيط : جاء في النظام : التحذير من تغيير الآثار سواء من الأهالي أم من تخطيط المدن تقول المادة ( 11 ) : يحظر اتلاف الآثار المنقولة أو الثابتة أو تحويرها أو إلحاق الضرر بها أو تشويهها بالكتابة والنقش عليها أو تغيير معالمهما كما يحظر على الأهالي إلصاق الإعلانات أو وضع اللافتات في المناطق الأثرية وعلى الأبنية التاريخية المسجلة ، وتقول المادة ( 12 ) : يتعين عند وضع مشروعات تخطيط المدن والقرى أو توسيعها أو تجميلها المحافظة على المناطق والمعالم الأثرية فيها ، ولا يجوز إقرار مشروعات التخطيط التي يوجد في نطاقها آثار ، إلا بعد اخذ موافقة دائرة الآثار عليها ، وعلى دائرة الآثار تحديد الأماكن التي يوجد فيها معالم أثرية وإحاطة جهاز تخطيط المدن علماً بذلك .
ومعلوم أن الآثار التي نص النظام على أن منها المساجد وأماكن العبادة تشمل بالدرجة الأولى الآثار الدينية المنسوبة إلى النبي r أو أصحابه الكرام بل هذه هي الآثار التي تستحق التكريم والتقديم ، وهي التي يفخر بها المؤمن ويعتز ، وهي التي تذكر الأبناء بالآباء والخلف بالسلف .
الحجرة النبوية والمسجد الشريف
وقد أراد بعض المفتنين تغيير وضع الحجرة النبوية بإخراج القبر الشريف المكرم من المسجد ، فلما سمع بذلك المرحوم الملك خالد بن عبد العزيز غضب غضباً شديداً وثارت فيه الحمية الدينية وتكلم كلاماً رادعاً لصاحب ذلك الاقتراح الأثيم سمعه من كان حاضراً في المجلس ولعل بعضهم لا زال على قيد الحياة رحم الله ذلك الملك الصالح وجعل موقفه هذا ذخيرة له عند الله ويداً بيضاء عند رسوله سيدنا محمد r ينال به إن شاء الله شفاعته يوم القيامة .
وبارك في خليفته الملك فهد ونصر به الدين وحفظ به الديار والآثار والعباد والبلاد آمين يا رب العالمين .
] ] ]
فتوى الشيخ محمد بن عبد الوهاب
في شان الحجرة النبوية
وقد نسب بعض أهل الفتنة والسوء إلى الشيخ محمد بن عبد الوهاب القول بإخراج الحجرة النبوية من المسجد ، فأنكر ذلك وتبرأ منه ، ومن قائله كما جاء في رسالته لأهل المجمعة التي يقول فيها : إذا تبين هذا فالمسائل التي شنع بها منها :ما هو من البهتان الظاهر وهي قوله : إني مبطل كتب المذاهب ، وقوله : إني أقول : إن الناس من ستمائة سنة ليسوا على شيء ، وقوله : إني أدّعي الاجتهاد ، وقوله : إني خارج عن التقليد ، وقوله : إني أقول : إن اختلاف العلماء نقمة ، وقوله :إني أكفر من توسل بالصالحين ، وقوله : إني أكفر البوصيري لقوله : ياأكرم الخلق ، وقوله: إني أقول : لو أقدر على هدم حجرة الرسول لهدمتها ، ولو أقدر على الكعبة لأخذت ميزابها وجعلت لها ميزاباً من خشب،وقوله : إني أنكر زيارة قبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، وقوله : إني أنكر زيارة قبر الوالدين وغيرهم ، وإني أكفر من يحلف بغير الله ، فهذه اثنتا عشرة مسألة ، جوابي فيها أن أقول : } سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ { . انتهى من الرسائل الشخصية القسم الخامس ص63 ، والدرر السنية ج1 ص52 .
القبة الخضراء في رأي الشيخ محمد بن عبد الوهاب
أما القبة الخضراء فقد نسب بعضهم إلى الشيخ محمد بن عبد الوهاب القول بإزالتها وهدمها ، ولكن الشيخ رحمه الله نفى ذلك بكل قوة وتبرأ منه واستنكر هذا القول أشد الإنكار في عدة مواضع من رسائله الموضع الأول في رسالته لأهل القصيم التي يقول فيها :
فهذه عقيدة وجيزة حررتها وأنا مشتغل البال لتطلعوا على ما عندي والله على ما نقول وكيل .
ثم لا يخفى عليكم أنه بلغني أن رسالة سليمان بن سحيم قد وصلت إليكم وأنه قبلها وصدقها بعض المنتمين للعلم في جهتكم ، والله يعلم أن الرجل افترى عليَّ أموراً لم أقلها ولم يأت أكثرها على بالي .
((فمنها)) قوله : إني مبطل كتب المذاهب الأربعة ، وإني أقول : إن الناس من ستمائة سنة ليسوا على شيء ، وإني أدعي الاجتهاد ، وإني خارج عن التقليد ، وإني أقول : إن اختلاف العلماء نقمة ، وإني أكفر من توسل بالصالحين ، وإني أكفر البوصيري لقوله : يا أكرم الخلق ، وإني أقول : لو أقدر على هدم قبة رسول الله r لهدمتها ، ولو أقدر على الكعبة لأخذت ميزابها وجعلت لها ميزاباً من خشب ، وإني أحرم زيارة قبر النبي r ، وإني أنكر زيارة قبر الوالدين وغيرهما ،وإني أكفر من حلف بغير الله ، وإني أكفر ابن الفارض وابن عربي ، وإني أحرق دلائل الخيرات وروض الرياحين ، وأسميه روض الشياطين ، جوابي عن هذه المسائل أن أقول : } سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ { .
[مجموعة مؤلفات الشيخ القسم الخامس الرسالة الأولى من الرسائل الشخصية ص12 ، وهو في الدرر السنية الجزء الأول ص28] .
الموضع الثاني في رسالته إلى أهل العراق وهي رسالة أرسلها إلى السويدي عالم من أهل العراق وكان قد أرسل له كتاباً وسأله عما يقوله الناس فيه ، فأجابه بهذه الرسالة ، وفيها يقول في رد ما نسب إليه وتكذيبه منها : إشاعة البهتان بما يستحي العاقل أن يحكيه فضلاً عن أن يفتريه ومنها ما ذكرتم أني أكفر جميع الناس إلا من اتبعني ، وأزعم أن أنكحتهم غير صحيحة ، ويا عجباً كيف يدخل هذا في عقل عاقل هل يقول هذا مسلم أو كافر أو عارف أو مجنون ، وكذلك قولهم : إنه يقول : لو أقدر أهدم قبة النبي r لهدمتها ، وأما [دلائل الخيرات] فله سبب وذلك أني أشرت على من قبِل نصيحتي من إخواني أن لا يصير في قلبه أجلّ من كتاب الله ويظن أن القراءة فيه أجلّ من قراءة القرآن ، وأما إحراقه والنهي عن الصّلاة على النبي r بأي لفظ كان فهذا بهتان .
[مجموعة مؤلفات الشيخ القسم الخامس في الرسائل الشخصية ص37 ، الرسالة الخامسة وهو في الدّرر السنية الجزء الأول ص54] .
هذا الموقف من الشيخ محمد بن عبد الوهاب هو عين الحكمة والصوّاب ، وهو السّياسة الشرعية التي يجب أن يتحلّى بها العلماء والمرشدون والمشائخ في أمرهم ونهيهم ووعظهم وإرشادهم .
وقد كان الشيخ رحمه الله حريصاً كل الحرص على نفي زعم المفترين وردّ قول المفتنين الذين ألصقوا به هذا القول الشنيع ونسبوا إليه ذلك الرأي الفظيع فتراه أنكرها في عدة مواطن لخطر المسالة ولما ينبني عليها من السوء والفتنة والشر الذي يجرّ إلى مصائب وبلايا ، نحن عنها في غنى فأين هذا ممّن ضاقت العلوم في عينيه ولم يجد مسألة يكتب عنها أو بحثاً يقدمه إلا قضية القبّة الخضراء ، فما أتفه عقلاً هذا منتهاه ، وما أسفه علماً ذلك مؤداه .
ولنا بحث خاص عن هذا الموضوع نسأل الله أن ييسر إتمامه ونشره بعونه وفضله .
المحافظة على الآثار النبوية من رسالة
جلالة الملك فهد بن عبد العزيز
وهنا موقف عظيم يستحق التسجيل للأمانة والتاريخ وهو أن جلالة الملك فهد بن عبد العزيز لما اطلع على المخططات المرسومة لبناء توسعة مسجد قباء ورأى أن معالم المسجد الحالي القديمة ستزول داخل التوسعة الجديدة ، أمر جلالته حفظه الله بإلغاء المخطط الموضوع وإعداد مخطط جديد يبقي على المنبر والمحراب والمعالم القديمة ، بحيث تمتد التوسعة من جانبي المسجد ومن خلفه ليتعرف المسلمون جيلاً بعد جيل على الأماكن الأصلية والآثار النبوية الشريفة ، وقال جلالته : من الخير أن نزيد في مساجد الله ولا نزيل .
وكان لهذه اللفتة السامية الكريمة من جلالته أعمق الأثر في نفوسنا بما فيها من دلالة الحفاظ على معالم التراث الإسلامي وتخليده .
وقد نشرت الجرائد السعودية بالتفصيل هذه المقابلة والحديث في الأعداد الصادرة يوم السبت 17 صفر 1405هـ مثل جريدة ((المدينة)) و ((الندوة)) .
] ] ]
مفهوم الاجتماع
جرت عادتنا أن نجتمع لإحياء جملة من المناسبات التاريخية كالمولد النبوي وذكرى الإسراء والمعراج وليلة النصف من شعبان والهجرة النبوية وذكرى نزول القرآن وذكرى غزوة بدر ، وفي اعتبارنا أن هذا الأمر عادي لا صلة له بالدين فلا يوصف بأنه مشروع أو سنة كما أنه ليس معارضاً لأصل من أصول الدين لأن الخطر هو في اعتقاد مشروعية شيء ليس بمشروع وعندي أن أمثال هذه الأمور العادية العرفية لا يقال فيها أكثر من أنها محبوبة للشارع أو مبغوضة وأظن أن هذا القدر متفق عليه ، ويدعي البعض أن هذه المناسبات التي يجتمع الناس لإحيائها ينقصها التوقيت المضبوط المتفق عليه ، فيقول : إن الناس تعودوا أن يجتمعوا ليلة السابع والعشرين لإحياء ذكرى الإسراء والمعراج ، وأن يجتمعوا ليلة الاثني عشر من ربيع الأول لإحياء ذكرى المولد النبوي مع أن العلماء اختلفوا في تعيين وقت هاتين الحادثتين بالضبط ، وأنا أقول : إن عدم الاتفاق على تعيين الوقت لا يؤثر لأننا لا نعتقد مشروعية تحديد الاجتماع بوقت مخصوص بل الأمر عادي كما أسلفنا والذي يهمنا هو اغتنام فرصة الاجتماع وكسب ذلك لتوجيهه إلى الخير فهذه الليلة قد اجتمع الناس فيها بشكل فظيع وعظيم وسواء أخطأوا التوقيت أم أصابوا ، فإن مجرد اجتماعهم هذا على ذكر الله ومحبة رسول الله كاف في استجلاب رحمة الله وفضله .
إني أعتقد تمام الاعتقاد أن اجتماع هؤلاء الناس ما دام أنه لله وفي الله فإنه مقبول عند الله ولو أخطأوا في التوقيت ، وأضرب لذلك مثلاً لتقريب القضية للأذهان برجل دعا إلى وليمة في يوم معين فجاء بعض المدعوين في غير وقت الدعوة ظناً منهم أنه هو الوقت فهل ترى أن صاحب الوليمة يطردهم ويردهم بجفوة وغلظة ويصد عنهم ويقول لهم : ارجعوا وانصرفوا عني فليس هذا هو وقت الوليمة الذي دعوتكم إليه وحددته لكم ، أو ترى أنه يقابلهم بالحسنى ويشكرهم على قدومهم ويفتح لهم بابه ويطلب منهم الدخول ثم يطلب منهم الرجوع مرة أخرى في الوقت المحدد ؟ هذا الذي أتصوره وهو اللائق بفضل الله وكرمه .
ونحن إذا اجتمعنا للإسراء والمعراج أو للمولد النبوي ولأي ذكرى من الذكريات التاريخية لا يهمنا تعيين الوقت بالضبط لأنه إن كان موافقاً للصواب في الواقع ونفس الأمر فالحمد لله ، وإن كان غير ذلك فإن الله لا يردنا ولا يغلق بابه عنا .
فاغتنام فرصة الاجتماع بالدعاء والتوجه إلى الله سبحانه وتعالى والتعرض لنفحاته وخيراته وبركاته هو أجل من فائدة الذكرى نفسها عندي ،واغتنام اجتماع الناس بتذكيرهم وإرشادهم ونصحهم وتوجيههم إلى الخير هو أولى من صدهم وردهم والإنكار على اجتماعهم بما لا طائل تحته إذ المشاهد أن ذلك لا ينفع ولا يفيد وأن الناس يزيد إقبالهم ويعم تمسكهم كلما زاد الإنكار عليهم أو اشتد حتى كان الناهي لهم عن ذلك آمر لهم بفعله من حيث لا يشعر .
إن العقلاء من أرباب الفكر والدعوة يتمنون بكل قلوبهم أن يجدوا مكاناً يجتمع فيه الناس ليبثوا فيهم آراءهم ويكسبوهم إلى صفهم ، ولذلك تراهم يرتادون الحدائق والنوادي والأماكن العامة التي يكثر فيها اجتماع الناس ليصنعوا بهم ما يريدون ، ونحن نرى الأمة تجتمع في مناسبات متعددة برغبة وهمة وحرص فما هو الواجب علينا نحوهم ؟ .
إن الاشتغال بالإنكار والأخذ والرد في حكم اجتماعهم وما إلى ذلك هو عبث بل وحمق وجهالة لأننا نضيع كنزاً عظيماً ونفوت فرصة لا يمكن أن يجود الزمان بها إلا في مثل هذه المناسبات . فلنغتنم هذه المجامع الكبرى .
([1]2) أنظر تعليق رقم 21 في الملحق آخر الكتاب .
([2]) أنظر المذكرة الخاصة بنظام الآثار الصادرة عن وزارة المالية والاقتصاد الوطني سنة 1399 .