الباب الثانى / فيمن يحرم بالرضاع
الباب الثاني
فيمن يَحرُمُ بالرضاع
الأصل في هذا الباب أن الرضاع يتعلق بالمرضعة ، وبالفحل الذي له اللبن ، وبالطفل الرضيع .
ثم تنتشر الحرمة منهم إلى غيرهم ، فيحرم بالرضاع ما يحرم بالنسب .
روى البخاري ،ومسلم ، ومالك ، وأبو داود ، والترمذي والنسائي عن عائشة رضي الله عنها قالت : ” إنَّ أََفْلَحَ أخا أبي القعيس، استأذَنَ عليَّ بعدما نزل الحجاب ، فقلت : والله لا آذنُ حتى استأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنَّ أخا أبي القعيس ليس هو أرضعني ، ولكن أرضعتني امرأة أبي القُعَيْس، فدخَلَ عليَّ رسول ُ الله صلى الله عليه وسلم ، فقلتُ: يا رسول الله ، إن َّ الرجل ليس هو أَرْضعني، ولكْن أرضعتني امرأتُهُ ، فقال: ائْذَني له ، فإنَّهُ عَمُّكِ،تَرِبَتْ يمينُكِ، قال عروة: فبذلِكَ كانت عائشة تقول : حَّرِّموا من الرَّضاعِ ما يَحْرُمُ من النَّسَبِ “(1)
وروى البخاري ، ومسلم ، ومالك ، عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان عندها، وأنها سمعتْ صوتَ رجلٍ يستأذِن في بيت حفصة، قالت عائشة: فقلتُ: يارسول الله ، هذا رجُلٌ يستأذِنُ في بيتك ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أراهُ فلاناً لِعَمِّ حَفْصَةَ من الرَّضاعةِ ، فقالت عائشة : يارسول الله ، لو كان فلانٌ حياً – لعمها من الرَّضاعةِ – دَخَلَ عَلَيَّ ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( نَعَمْ ، إن الرَّضاعةِ تُحَرِّمُ ما تُحَرِّمُ الولادة ))(2) .
روى مسلم ن والنسائي، عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم أُريدَ على ابنةِ حمزَةَ، فقال: (( إنها لا تحلُ لي، إنها ابنة أخي من الرضاعَةِ، ويحرم من الرضاعةِ ما يَحْرُمُ من النَّسَبِ ))(3).
وفي رواية عن علي أنه قال: يا رسول الله، هل لك ففي بنتِ عمك بنتِ حَمْزةَ، فإنها أجملُ فتاةٍ في قريش ؟ فقال: (( أما عَلِمْت أن حَمْزَةَ أخي من الرضاعَةِ، وإن الله حرم من الرضاعة ما حرم من النسب )).
وروى البخاري ، ومسلم ، وأبو داود ، والنسائي ، عن أم حبيبة رضي الله عنها قالت: يا رسول الله ، أنكح أختي بنتَ أبي سفيان، قال : أوَتُّحبينَ ذلك ؟ فقلتُ : نعم ، لستُ لك بِمُخْلِيةٍ، وأحبُّ من شاركني في خيرٍ أختي، فقال النبي صلى الله الله عليه وسلم : إن هذا لا يَحلُّ لي، قلت : فإنما نُحدثُ أنك تريد أن تنكح بنتَ أبي سلمة، قال : بنت أم سلمة ؟ قلت : نعم ، قال : لو أنها لم تكنْ ربيبتي في حِجْري ماحَلَّتْ لي ، لأنها ابنة أخي من الرَّضاعَةِ ، أرْضَعتني وأبا سلمة ثُوَيْبَة ، فلا تَعْرِضْنَ علي بناتِكُنَّ ولا أخَواتِكُنَّ(4) .
تحريم المرضعة وما يتعلق به :
عرفنا أنه يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب، على ما ثبت في الحديث الصحيح، وبناء على ذلك إذا أرضعت المرأة طفلاً، فإن الحرمة تنتشر منها إلى آبائها من النسب والرضاع، فهم أجداد الرضيع، فإن كان الرضيع أنثى حرم عليهم نكاحه، وكذلك تسري الحرمة إلى أمهات المرضعة من النسب والرضاع، فهن جدات الرضيع ، فإن كان الرضيع ذكراً، حرم عليهن نكاحه ، وحرم عليه نكاحهن، كما تنتشر الحرمة إلى أولادها من النسب والرضاع، فهم أخوته وأخواته، وإلى إخوتها وأخواتها من النسب والرضاع ن فهم أخواله وخالاته .
ويكون أولاد أولادها أولاد إخوة وأولاد أخوات للرضيع ولا تثبت الحرمة بين الرضيع وأولاد إخوة المرضعة ، وأولاد أخواتها ، لأنهم أولاد أخواله وخالاته .
الفحل وما يتعلق به :
وكما تنتشر الحرمة من المرضعة، كذلك تنتشر من الفحل إلى آبائه وأمهاته، فهم أجداد الرضيع وجداته، وإلى أولاده ، فهم إخوة الرضيع وأخواته، وإلى إخوته وأخواته ، فهم أعمام الرضيع وعماته، على ما مر من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث أثبت عمومة الرضاع وألحقها بالنسب .
كما روى مالك في الموطأ، والترمذي في السنن عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما أنه سئل عن رجلٍ كانت له امرأتان، أَرْضَعَتْ إحداهما جاريةً، والأخرى غلاماً، أيَحلُّ للغلام أن ينكِحَ الجاريةَ، قال : (( لا ، لأن اللقاحَ واحدٌ ))(5)، والمراد باللقاح ماء الفحل الذي حملت منه (6).
قال الشافعي رحمه الله في ” الأم “(7): وفي نفسِ السُّنَّةِ أنه يَحْرُمٌ من الرضاع ما يحرمُ من الولادةِ، وأن لبنَ الفحلِ يُحَرَِمُ، كما يُحَرِّمُ ولادةُ الأبِ يُحَرِّمُ لبنُ الأبِ، لا اختلاف في ذلك .
أخبرنا مالك، عن ابن شهاب، عن عمرو بن الشَّريد أن ابن عباس سُئِلَ عن رجل كانت له امرأتان، فأرضعتْ إحداهما غلاماً، وأرضعت الأخرى جاريةً، فقيل له: هل يتزوج الغلامُ الجاريةَ فقال: لا، اللقاحُ واحد .
أخبرنا سعيد بن سالم، قال : أخبرنا ابن جريج، أنه سأل عطاءً عن لبنِ الفحل أيُحَرِّمُ، فقال : نعم فقلتُ له : أبلغك من ثَبْتٍ، فقال : نعم قال ابن جريج : قال عطاء : (( وأخَواتكُمْ من الرَّضاعَةِ )) فهي أختك من أبيك .
أخبرنا سعيد بن سالم ، عن ابن جريج ، أن عمرو بن دينار أخبره ، أنه سمع أبا الشَّعْثاء يرى لَبَنَ الفحلِ يُحَرِّمُ، وقال ابن جريج عن ابن طاووسٍ ، عن أبيه أنه قال : لبنُ الفحل يُحَرِّمُ .آه .
المرتضع وما يتعلق به :
وأما المرتضع فتنتشر الحرمة منه إلى أولاده من الرضاعة أو النسب فقط ، فهم أحفاد المرضعة أو الفحل الذي له اللبن، ولا تنتشر الحرمة إلى آبائه، وأمهاته، وإخوته، وأخواته ،فيجوز لأبيه وأخيه أن ينكحا المرضعة وبناتها.
وبهذا يفارق الرضاع النسب ، فيحرم أربع نسوة من النسب ولا يحرمن منَ الرضاع ، وهن :
1 – من أرضعت أخاك، إذا لم تكن أماً لك، ولا زوجة لأبيك.
2 – من أرضعت نافلتك، وهو ولد ولدك، إذا لم تكن ابنتك أو زوجة ابنك.
3 – أم مرضعة ولدك ( أي جدة ولدك من الرضاعة ) إذا لم تكن أمك، أو أم زوجتك.
4 – بنت مرضعة ولدك ( أي أخت ولدك من الرضاعة ) إذا لم تكن ابنتك أو ربيبتك (8).
قال الشهاب الرملي: إعلم أنه ينتشر التحريم عن كل من المرضعة والفحل. إلى أصوله وفروعه وحواشيه، وينتشر من الرضيع إلى فروعه دون أصوله وحواشيه .
وهذا اختصار التطويل الذي في كتب الفقه .
قال الإمام الشافعي في” الأم “(9): وكلُّ امرأةِ أبٍ أو ابنِ حَرَّمتُها على ابنه بِنَسَبٍ، فكذلك أُحَرمُها إذا كانت امرأةَ أبٍ أو ابنٍ من الرَّضاعةِ.
فإن قال قائل: إنما قال الله تبارك وتعالى: ] وحلائِلُ أبنائِكُمْ الذينَ من أصْلابِكُم [ فكيف حرمت حليلة الابن من الرضاعة ؟
قيل: بما وصفت من جمعِ الله بين الأم والأخت من الرضاعة، والأم والأخت من النسب في التحريم، ثم بأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (( يَحْرُمُ من الرَّضاعَةِ ما يَحْرمُ من النسبِ )).
فإن قال قائل: فهل تعلم فيم أنزلت ] وحلائِلُ أبنائِكُمْ الذينَ من أصْلابِكُم [ ؟
قيل : الله تعالى أعلم فيم أنزلها .
فأما : معنى ما سمعتُ مُتَفَرقاً فجمعتُه ، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم أراد نكاح ابنة جَحْشٍ
فكانتْ عند زيدِ بن ِحارِثَةَ، فكان النبي صلى الله عليه وسلم تَبَنّاهُ، فأمر الله تعالى ذكره أن يُدْعَى الأدعياءُ لآبائهم ] فإنْ لم تعلموا آباءَهم فإخوانُكُم في الدين [ وقال:] وما جَعَلَ أدْعِياءَكُمْ أبناءَكُمْ [إلى قوله: ] ومواليكم [ .
وقال لنبيه صلى الله عليه وسلم : ] فَلَما قَضَى زَيْدٌ منها وَطَراً زَوَّجْناكها لكيلا يكونَ على المؤمنين حَرَجٌ [ الآية .
قال الشافعي: فأشبه والله تعالى أعلم أن يكون قوله: ] وحلائِلُ أبنائِكُمْ الذينَ من أصْلابِكُم [ دون أدعيائكم الذين تسمونهم أبنائكم، ولا يكون الرضاع من هذا في شيء .
وحرمنا من الرضاع بما حَرَّمَ الله قياساً عليه ، وبما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إنه ” يَحْرُمُ من الرضاع ما يَحرُمُ من الولادة ” .
قال الشافعي : وإذا حرم من الرضاع ما حرم من النسب، لم يحل له أن ينكح من بنات الأم التي أرضعته، وإن سَفَلن ، وبنات بنيها وبناتها، وكلِّ ما ولدته من قبل ولد ذكر أو أنثى امرأة،وكذلك أمهاتها، وكل من وَلَدَها، لأنهن بمنزلة أمهاته وأخواته، وكذلك أخواتها، لأنهن خالاتُه .
وكذلك عماتها وخالاتها ، لأنهن عماتُ أُمِّه ، وخالات أمه . وكذلك ولد الرجل الذي أرضعته لبنه ، وأمهاته وأخواته وخالاته وعماته، وكذلك من أرضعته بلبن الرجل الذي أرضعته ، من الأم التي أرضعته ، أو غيرها، وكذلك من أرضع بلبن ولد المرأة التي أرضعته ، من أبيه الذي أرضعه بلبنه ، أو زوج غيره .
قال الشافعي: وإذا أ رضعت المرأة مولوداً، فلا بأس أن يتزوج المرأة المرضع أبوه .
ويتزوج ابنتها وأمها ، لأنها لم ترضعه هو وكذلك إن لم يتزوجها الأب ، فلا بأس أن يتزوجها أخو المرضع الذي لم ترضعه هو، لأنه ليس ابنها، وكذلك يتزوج ولدها .
ولا بأس أن يتزوج الغلامُ المرضَعُ ابنة عمه وابنة خاله من الرضاع ،كما لا يكون بذلك بأس من النسب.
ولا يجمع الرجلُ بين الأختين من الرِّضاعة بنكاح ولا وطء ملك وكذلك المرأة وعمتها من الرضاعة يحرم من الرضاعة ما يحرم من النسب.
وذوات المحرم من الرضاعة، مما يحرم من نكاحهن، ويسافر بهن، كذوات المحرم من النسب.
وسواء رضاعة الحرة ، والأمة ، والذمية ، كلهن أمهات ، وكلهن يحرمن كما تحرم الحرة، لا فرق بينهن، وسواء وطئت الأمة بملك أو نكاح، كل ذلك يحرم، ولا بأس أن يتزوج الرجل المرأة، وامرأة أبيها من الرضاع والنسب .اهـ .
اللبن لمن نسب له الولد :
عرفنا أن اللبن يكون للفحل، كما يكون للمرأة، وأن الحرمة تثبت بينه وبين الرضيع إذا رضع لبنه المنسوب إليه، وذلك بأن ينتسب إليه الولد الذي نزل بسببه اللبن، بنكاح، أو وطء شبهة، إتباعا للرضاع بالنسب ، والنسب فيه ثابت ، فالرضاع أيضا ثابت .
قال الإمام الشافعي رحمه الله في ” الأم “(10) : واللبنُ إذا كان من حَمْل، ولا أحسبه يكون إلا من حَمْل، فاللبنُ للرجل والمرأة، كما يكون الولد للرجل والمرأة.
فانظر إلى المرأة ذات اللبن، فإن كان لبنها نزل بولدِ من الرجل، نُسِبَ ذلك الوَلَدُ إلى والده،
لأن حمله من الرجل .
فإن رضع به مولودُ، فالمولودُ، أو المرضَعُ بذلك اللبن ، ابنُ الرجل الذي الابن ابنه من النسب .
كما يثبت للمرأة، وكما يثبت الولد منه ومنها، وإن كان اللبنُ الذي أرضعت به الولد لبنَ ولدٍ لا يَثْبُتُ نسبُهُ من الرجل الذي الحمل منه، فأسقط اللبن ، فلا يكون المرضَعُ ابن الذي الحمل منه .
إذا سقط النسبُ الذي هو أكبر ُمنه، سقط اللبن أُقيمَ مقام النسب في التحريم .
فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ” يَحرمُ من الرّضاعَةِ ما يَحرمُ من النَّسَبِ ” وبحكاية عائشة تحريمه في القرآن .
لبن ولد الزنا :
وبناء على أن اللبن لمن نسب له الولد، إذا نزل اللبن على ولد الزنا ، فلا حرمة له، لأن ابن الزنا لا ينسب إلى الزاني، فلا يحرم على الزاني أن ينكح الصغير المرتضعة من ذلك اللبن ،لكنه يكره له نكاحها (11)
لكنها لو أرضعت بلبن الزنا طفلاً ، صار أخاً لولد الزنا ، لأن أخوة الأم تثبت لولد الزنا ، لثبوت نسبته من الأم ، فكذلك الرضاع (12)
قال الإمام الشافعي رحمه الله في ” الأم ” (13) :فإن وَلَدتْ امرأةُ حملت من الزنا _ اعترف الذي زنا بها أو لم يَعْترِفْ _ فأرضَعَتْ مولوداً فهو ابنها، ولا يكون ابن َالذي زنى بها .
وأكره له في الوَرَعِ أن يَنْكِحَ بناتِ الذي وَلَدَ له من الزنا ،كما أكرهه للمولود من زنا، وإن نكح من بناتِه أحداً لم أفسخه، لأنه ليس بابنه في حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فإن قال قائل: فهل من حُجَّةٍ فيما وصفتَ، قيل : نعم، قضى النبي صلى الله عليه وسلم بابن أَمَةِ زَمْعَةَ لِزَمْعَة، وَأَمَرَ سَوْدَةَ أن تَحْتَجِبَ منه، لما رأى منه من شَبَهِةِ بِعُتْبَةَ، فلم يرها، وقد قضى أنه أخوها، حتى لقيت الله عز وجل، لأن ترك رُؤْيتها مباحٌ، وإن كانَ أخاً لها، وكذلك تركُ رؤيةَ المولودِ من نكاحٍ أُختَهُ مباحٌ، وإنما منعني من فسخه أنه ليس بابنه إذا كان من زنا .
الزوج ينفي ولداً باللعان :
ولو نفى الزوج ولداً باللعان، فإنه ينتفي عنه نسبة اللبن له بذلك أيضا، تبعا للولد المنفي.
وبناء عليه لو ارتضعت صغيرةٌ اللبن ، لم تثبت الحرمة بين الفحل والصغيرة ، لأنها لم ترتضع من لبنه ، وإنما من لبن انقطعت عنه نسبته إليه .
ولو أرضعت المرأة طفلاً، ثم بعد ذلك لا عن الزوج، انتفى الرضيع عنه، كما ينتفي الولد.
فلو استلحق الولد بعد ذلك ، لحقه الرضيع أيضاً ، تبعاً له .
قال الرافعي : ولم يذكروا هنا الوجهين المذكورين في نكاحه التي نفاها باللعان ، ولا يبعد أن يسوي بينهما .
قال الخطيب الشربيني : قلت : والصحيح حرمة نكاحها والله أعلم .
قال الشافعي في (( الأم )): وإذا أرضعتِ المرأةُ ولداً بلبن رجلٍ ، فانتفى أبو المولود منه ، فلاعنها ، فنفى عنه نسبه ، لم يكن أباً للمرضَعِ .
فإن رَجَعَ الأبُ بنسبه إليه ، ضُرِبَ الحَدَّ ، ولحقَ به الولدُ ، ورَجَعَ إليه أن يكونَ أبا المرضَعِ من الرَّضاعَةِ (14) .
لبن الولد من وطء الشبهة :
ولو كان الولدُ من وطءِ شُبْهة فاللبن النازلُ عليه يُنْسبُ إلى الواطئ، كما ينسب إليه الوالد.
هذا هو المشهور، واشترط ابن القاصِّ في حرمة الرضاعِِ ، في حق من ينسب إليه الولد ، ثبوت الوطء بالإقرار وغيره ، ومثله استدخال الماء، فإن لم يكن ذلك ولحقه بمجرد الإمكان، لم تثبت الحرمة، إلا إن الأصحاب ضَعَّفوا هذا الشرط ، كما قاله شيخ الإسلامِ زكريا الأنصاري ، واعتمده الشهاب الرملي (15).
قال الشربيني: والراجح كفاية الإمكان، وعليه فالتحريم بحسب الظاهر، أما في الباطن فلا تحريم، حيث علم أنه لم يطأها، ولا استدخلت منيه .
قال: والظاهر أن ذلك كاف ولو في الوطء في الشبهة، مع أن وطء الشبهة لا يثبت إلا بالإقرار مع البينة (16) .
فإذا وطئت منكوحة بشبهة ، أو وطئ رجلان امرأة بشبهة ، أو نكح رجل امرأة في العدة جاهلاً، وأتت بولد، وأرضعت باللبن النازل عليه طفلاً، فهو تبع للولد، فإن لحق الولد أحدهما ، لانحصار الإمكان فيه ، فالرضيع ولده من الرضاع .
وإن لم يلحق أحداً منهما ، لامتناع الإمكان ، فالرضيع مقطوع عنهما، وإذا تحقق الإمكان فيهما،عرض الولد على القائف(17)، فبأيهما ألحقه تبعه الرضيع، فإن لم يكن قائف ، أو كان ونفاه عنهما ، أو أشكل ، توقفنا حتى يبلغ المولود ، فينتسب إلى أحدهما .
فإن بلغ مجنوناً صبرنا حتى يفيق، فإذا انتسب تبعه الرضيع، فإن مات قبل الانتساب، وكان له ولد قام مقامه في الانتساب فإن كان له أولاد، فانتسب بعضهم إلى هذا وبعضهم إلى هذا، استمرالإشكال.
فإن لم يكن له ولد، وبقي الاشتباه، ففي الرضيع قولان، أظهرهما: لا يكون ابنهما، لأنه تابع للولد.
وإذا قلنا بالأظهر هل للرضيع أن ينتسب بنفسه ؟ قولان، نص عليهما في الأم.
أظهرهما: نعم، كما للمولود.
فإن قلنا: له الانتساب، فهل يجبر عليه، كما يجبر المولود ؟
وجهان، أصحهما: لا.
والفرق أن النسب تتعلق به حقوق له وعليه، كالميراث، والعتق، والشهادة، وغيرها، فلابد من رفع الإشكال.والذي يتعلق بالرضاع حرمة النكاح،والامتناع منه سهل (18) .
قال في ” الروض ” : ولا يعرض على القائف .
قال شيخ الإسلام زكريا : ويفارق الولد بأن معظم اعتماد القذائف على الأشباه الظاهرة ، دون الأخلاق ، وجواز انتسابه ، بأن الإنسان يميل إلى من ارتضع من لبنه .
وإذا انتسب إلى احدهما كان ابنه وانقطع عن الآخر، فله نكاح بنته، ولا يخفى الورع.
وإذا لم ينتسب أو قلنا: ليس له الانتساب، فليس له أن ينكح بنتيهما جميعاً لأن إحداهما أخته.
والأصح أنه لا يجوز له أن ينكح بنت أحدهما، لأن إحداهما أخته، فأشبه ما إذا اختلطت أخته بأجنبيات.
قال الشافعي رحمه الله في ” الأم “: ولو أن امرأة أرضعت، ولا يُعْرفُ لها زوجٌ، ثم جاء رجلٌ، فادعى أنه كانَ نَكَحَها صحيحاً، وأقَرَّ بولدها، وأقَرْت له بالنكاح، فهو ابنها كما يكون الولد.
قال الشافعي : ولو أن امرأة نكحت نكاحاً فاسداً ، فولدت من ذلك النكاح ولداً ، وكان النكاحُ بغير ولي ، أو بغيرِ شهودٍ عدولٍ ، أو أي نكاح فاسدٍ ، ما كانَ ما خلا أن تَنْكِحَ في عدتها من زوجٍ – يلحقُ به النسب، أو حَمَلَتْ ، فنزلَ لها لَبَنٌ ، فأَرْضَعَتْ به مولوداً ، كان ابنَ الرجلِ الناكِحِ نكاحاً فاسداً ، والمرأةِ المرضِعِ ، كما يكون الحملُ ابن الناكحِ نكاحاً صحيحاً .
قال الشافعي: ولو أن امرأة نكحت في عدتها من وفاة زوج، صحيح أو فاسد، أو طلاقه – رجلاً، ودخَلَ بها في عِدَّتها، فأَصابها، فجاءَتْ بحمل، فَنَزَلَ لها لبَنٌ، فأَرْضَعَتْ بذلك اللبنِ مولوداً، كان ابْنَها.
وكان أشبَهَ عندي – والله تعالى أعلم – أن يكونَ موقوفاً في الرجلين معاً ، حتى يرى ابنها القَافَةُ ، فأي الرجلين ألحقه القافَةُ ، لحِقَ الولدُ .
وكان المرضَعُ ابن الذي يَلْحَقُ به الوَلَدُ ، وسَقَطَتْ عنه أُبوّةُ الذي سقطَ عنه نَسَبُ الولدِ .
قال الشافعي : ولو كان حملُ المرأةِ سَقْطاً لم يَبنْ خَلْقُه ، أو ولدت ولداً ، فماتَ قبلَ أن يراهُ القافَةُ ، فأرضعت مولوداً ، لم يكن المولودُ المرضَعُ ابنَ واحداٍ منهما دونَ الآخر في الحكم ، كما لا يكون المولودُ ابنَ واحد منهما دون الآخر في الحكم ، والورعُ أن لا ينكح ابنة َ واحدٍ منهما .
وأن لا يرى واحدٌ منهما بناته حُسَّراً، ولا المرضَعَة إن كانت جارية، ولا يكون مع هذا محرماً لهن ، يخلو أو يسافر بهن .
ولو كان المولودُ عاشَ حتى تراه القافَةُ ، فقالوا : هو ابنهُما معاً ، فأمر المولودِ موقوفٌ ، فَيَنْتَسِبُ إلى أيهما شاء .
فإذا انتسبَ إلى احدِهما انقطع عنه أبوه الذي ترك الإنتسابَ إليه .
ولا يكون له أن يترك الانتساب إلى أحدهما دون الآخر ، يجبر أن ينتسب إلى احدهما .
وإن ماتَ قبل أن ينتسِبَ، أو بلغَ معتوهاً ، لم يلحق بواحد منهما حتى يموت وله ولدٌ، فيقومَ ولدُهُ مقامَهُ، في أن ينتسبوا إلى أحدهما ، أولا يكون له ولد، فيكون ميراثه موقوفاً .
قال الشافعي : وهذا مَوضِعُ فيه قولان :
أحدهما : أن المرضع مخالف للابن ، لأنه يثبت للابن على الأب، وللأب على الإبن حقوق الميراث ، والعقل، والولاية للدم، ونكاح البنات، وغير ذلك من أحكام البنين، ولا يثبت للمرضِعِ على ابنه الذي أرضعه ، ولا لابنه الذي أرضعه عليه من ذلك شئ، ولعل العلةَ في الامتناعِ من أن يكون ابنهما معاَ لهذا السبب.
فمن ذهب هذا المذهب جعل المرضَعَ ابنهما معاً ، ولم يجعل له الخيارَ في أن يكون ابنَ أحدهما دونَ الآخر، وفال ذلك في المسائل قبله التي في معناها .
والقول الثاني :
أن يكون الخيارُ للولدِ فأيهما اختارَ الولدُ أن يكون أباه ، فهو أبوُه، وأبو المُرْضَع، ولا يكون للمرضَعِ أن يختار غير الذي اختارَ المولودُ، لأن الرضاع تبع للنسب، فإن ماتَ المولودُ، ولم يختر كان للمرضَعِ أن يختار أحدهما ، فيكونَ أباه ، وينقطع عنه أبوةُ الآخر .
والورعُ أن لا ينكح بنات الآخرِ ، ولا يكون لهن محرماً يراهن – بانقطاع أبوته عنه(19). اه.
المطلقة ترضع الطفل بلبن الزوج الأول :
إذا طلق الرجل زوجته، أو مات عنها ولها لبن منه، فأرضعت به طفلاً قبل أن تنكح، أو نكحت غير الأول ولم تلد، فالرضيع ابن المطلق والميت، ولا تنقطع نسبة اللبن بموته وطلاقه، إذ لم يحدث ما يحال اللبن عليه ، والأصل بقاؤه، سواء ارتضع في العدة أو بعدها، وسواء قصرت المدة أم طالت، كعشر سنين وأكثر، وسواء انقطع اللبن ثم عاد، أم لم ينقطع، لأنه لم يحدث ما يحال اللبن عليه ، فهو على استمراره منسوب إليه، فلو نكحت بعد العدة زوجاً ، وولدت منه ، فاللبن بعد الولادة للثاني سواء انقطع وعاد ، أم لم ينقطع، لأن اللبن تبع للولد ، والولد للثاني .
وأما قبل الولادة من الزوج الثاني ، فإن لم يصبها ، أو أصابها ولم تحبل ، أو حبلت ولم يدخل وقت حدوث اللبن لهذا الحمل – فاللبن للأول ، سواء زاد على ما كان ، أم لا، وسواء انقطع ثم عاد ، أم لا .
ويقال : أقل مدة يحدث فيها اللبن للحمل أربعون يوماً(20).
قال الإمام الغزالي : يرجع في أول مدة يحدث فيها اللبن للحمل – إلى قول القوابل .
وقال الماوردي : أول حدوثه عند استكمال خلق الحمل (21).
وإن دخل وقت حدوث اللبن للحمل ، فإما أن ينقطع اللبن مدة طويلة ، وإما أن لايكون كذلك ، بأن لم ينقطع ، أو انقطع مدة يسيرة ،ففي الحالة الأولى، الأظهر أنه لبن الأول، وفي الحالة الثانية، المشهور أنه للأول .
ولو نزل للبكر لبن ، فنكحت ، ولها لبن ، ثم حبلت من الزوج ، فحيث قلنا فيما سبق : للأول ، فهو هنا للمرأة وحدها ، ولا أب للرضيع .
ولو حبلت امرأة من الزنا ، وهي ذات لبن من زوج ، فاللبن للزوج ، ما لم تضع ، ثم بعد الوضع هو لبن الزنا ، نظير ما لو حبلت بغير زنا .
ووجهه ابن حجر بأن اللبن الآن للزنا يقيناً ، غايته أن الشارع قطع نسبته للزاني ، كما أن الولادة قطعت نسبته للأول ، إذ لا يمكن نسبته إليه بعدها .
فنتج أنه لا أب لهذا الرضيع ، وإن ثبت الرضاع من جهة الأم (22).
ولو نكحت امرأة لا لبن لها ، فحبلت ، ونزل لها لبن ، قال المتولي : في ثبوت الحرمة بين الرضيع والزوج وجهان ، أصحهما أنه لا يجعل الحمل مؤثراً ، ولا تثبت الحرمة حتى ينفصل الولد بناء على أن اللبن للأول دائماً ولا أب للرضيع والله أعلم (23) .
قال الشافعي : ولو أن امرأةً طلقها زوجُها ،وقد دخل بها أو ماتَ عنها وهي تُرْضِع ، وكانت تحيضُ في رضاعها ذلك ثلاثَ حيض، ولبنُها دائمٌ – أرضعتْ مولوداً ، فالمولودُ ابنَها وابنَ الزوجِ الذي طَلَّقَ أو ماتَ واللبنُ منه، لأنها لم يحدث لها زوجٌ غيره .
قال الشافعي : ولو تَزَوَّجَتْ زوجاً بعد انقطاعِ لبنها ، أو قَبْلَهُ ، ثم انقطع لبنها ، وأصابها الزوج ، فثابَ لها لبن ، ولم يظهر بها حَمْلٌ ، فاللبنُ من الزوجِ الأولِ، ومَنْ أرضعتْ فهو ابنُها وابنُ الزوجِ الأولِ ولا يكونُ ابنَ الآخرِ .
قال الشافعي : ولو أحْبَلَها الزوجُ الآخر ، بعد انقطاع لبنها من الزوجِ الأول ، فثابَ لبنُها – سُئِلَ النساءُ عن الوقتِ الذي ، يثوب فيه اللبن ، ويبين الحمل .
فإن قلن : الحملُ لو كان من امرأةٍ بِكرٍ أو ثَيِّبٍ ، ولم تلدْ قَطُّ ، أو امرأةٍ قد ولَدَتْ ، لم يأتِ لها لبنٌ في هذا الوقتِ، إنما يأتي لبنُها في الثامِنِ من شهورها أو التاسع – فاللبنُ للأول،فإن دام ، فهو ابنٌ للأول ما بينه وبين أن يبلغَ الوقتَ الذي يكونُ لها فيه لبنٌ من حملها الآخر .
قال الشافعي : وإذا ثابَ لها اللبنُ ، في الوقتِ الذي يكونُ لها فيه لبنٌ من حَمْلها الآخر – كان اللبن من الأول بكل حال، لأني على علم من لبن الأولِ ـ وفي شكٍ من أن يكون خَلَطَهُ لبنُ الآخَرِ ، فلا أُحَرِّمُ بالشكِ شَيْئاً، وأُحِبُّ له أن يتوقى بنات الزوجِ الآخرِ في هذا الوقتِ .
قال الشافعي : ولو كان لبنُها انقطع ، فلم يَثُبْ حتى كان هذا الحملُ الآخَرُ في وقتٍ يمكن أن يثوبَ فيه اللبنُ من الآخر، ففيها قولان :
أحدهما: أن اللبن بكل حالٍ من الأول، وإن ثابَ بتحريك نُظْفَةِ الآخَرِ ، فهو كما يثوبُ بأن تَرْحَمَ المولودَ ، فَتَدرَّ عليه ، وتَشْربَ الدواءَ، أو تأكلَ الطعام الذي يزيدُ في اللبن، فتدرَّ عليه .
والقول الثاني: أنه إذا انقطعَ انقطاعاً بيناً، ثم ثابَ ، فهو من الآخر، وإن كان لا يثوبُ بحال من الآخر لبنٌ ترضع به حتى تلدَ أمه ، فهو من الأول في جميع هذه الأقاويل، وإن كان يثوبُ شيءٌ ترضعُ به، وإن قَلَّ، فهو منهما معاً .
فمن لم يفرق بين اللبنِ والولدِ قال: هو للأولِ أبدا، لأنه لم يُحْدث ولداً ، ولم يكن ابنَ الأخرِ إذا كان ابنَ الأولِ من الرضاعة، ومن فرق بينهما قال : هو منهما معاً .
قال الشافعي : وإن طُلِّقَتِ امرأةٌ ، فلم ينقطع لبنُها ، وكانت تحيض وهي ترضع ، فحاضت ثَلاَثَ حِيَضٍ ، ونكحت زوجاً ، فدخل بها ، فأصابها ، فحملت ، فلم ينقطع اللبن حتى ولدت ، فالولادة قطعت اللبن الأول .
ومن أرضَعَتْهُ فهو ابنُها وابنُ الزوجِ الآخَرِ ، لا يَحلُّ له أحدٌ ولدته ، ولا ولده الزوج الآخر ، لأنه أبوه، ويحل له ولدُ الآولِ من غيرِ المرأةِ التي أرضَعَتْهُ ، لأنه ليس بأبيه (24). آه .
(1) البخاري 9/295 نكاح ؛ ومسلم 1444 ؛ ومالك 2/401 ؛ وأبو داود
2055 ؛ والترمذي 1147 ؛ والنسائي 6/99 ؛
(2) مر تخريجه ص 12 .
(3) مسلم 1446 نكاح ؛ والنسائي 6 / 99 نكاح ؛ ورواه البخاري ومسلم من
طريق ابن عباس
(4) البخاري 9 / 121 نكاح ؛ ومسلم 1449 رضاع ؛ وأبو داود 2056 نكاح
؛ والنسائي 6 / 96 نكاح ؛ والشافعي 2 / 328 .
(5) الموطأ 2 / 602 ؛ والترمذي 1149رضاع .
(6) جامع الأصول 11 / 492 ؛ وشرح السنة 9 / 78 .
(7) 5 / 24 .
(8) شرح السنة 9 / 77 ؛ والمغني 3 / 176 .
(9) 5 / 25 – 26 .
(10) 5 / 29 ، وانظر الروضة 9 / 16 ؛ والمغني 3/ 418
(11) الروضة 9/ 16
(12) التحفة 8 / 493
(13) 5 / 30
(14) الأم 5 / 31 .
(15) شرح الروض 3 / 418 وحاشيته ؛ وشرح البهجة 4 / 378 .
(16) شربيني على شرح البهجة 4 / 378 .
(17) القائف : هو الذي يتتبع الآثار ويعرفها ، ويعرف شبه الرجل بأخيه وأبيه .
(18) الروضة 9 /17 – 18 .
(19) الأم 5 / 30 .
(20) الروضة 9 /18 – 19 ؛ وشرح الروض 3 / 419 .
(21) قيلوبي 3 / 65 .
(22) شرواني على التحفة 8 / 239 .
(23) الأم 5 / 31 .
(24) الأم 5 / 31 .