الخلاف: سنة بشرية
الخلاف: سنة بشرية
الحمد لله رب العالمين, والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على إمام الأنبياء والمرسلين, سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين, أما بعد,,,
أيها الإخوة الفضلاء
هذه مشاركة من إخوانكم طلبة العلم في المدارس الشرعية في الأحساء, بمناسبة ندوة “الاختلاف: رؤية واقعية ومعالجة موضوعية”, المقامة في الرياض يوم الخميس 24/5/1429 هـ, يرجون بها رضا الله أوَّلا, ثم تقريب القلوب وتصفية النفوس وإصلاح ذات البين, وقد سرَّني وسرَّهم هذه الدعوة الكريمة, وتشاورت مع جملة منهم في إعداد هذا الخطاب المقدم لكم.
لقد شاء الله بحكمته البالغة أن يختلف الناس اختلافا بيِّنًا في عقائدهم وثقافاتهم ونظرتهم للكون وفلسفتهم للحياة, ولو شاء الله لخلق الناس كلهم على نسق واحد, ولجعلهم نسخا مكررة, لا تفاوت بينها, ولا تنويع فيها, كما قال سبحانه: )ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة, ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك, ولذلك خلقهم( (هود/118-119),
وشاء الله أن تتنوع استعدادات هذا المخلوق الإنساني واتجاهاته, وأن يختار طريقه متحملاً تبعة قراره, إن خيرا فخير, وإن شرا فشر, كما قال سبحانه: )ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة, ولكن ليبلوكم فيما آتاكم, فاستبقوا الخيرات( (المائدة/48), وكل هذا الاختلاف والتنوع كائن بمشيئة الله وإرادته, كما قال تعالى: )ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة, ولكن يضل من يشاء ويهدي من يشاء( (النحل/93).
ولقد كان تنوع الثقافات في المجتمع الإسلامي أمرًا مقبولاً في العصور السابقة, فقد عاش بين ظهراني المسلمين كثير من غير المسلمين, من يهود ونصارى ومجوس, متمتعين بحريتهم في التمسك بثوابتهم العقدية وهويتهم الثقافية, بل وصل الأمر إلى أنهم كانوا أحيانا يتحاورون مع المسلمين حول مسائل الخلاف بينهم رغم كونهم أهل ذمة, وقد كانت بعض تلك الحوارات تعقد في مساجد المسلمين,
وقد نقلت لنا كتب التاريخ والتراجم عددا من تلك الحوارات والمناظرات, كمناظرة القاضي أبي بكر الباقلاني رحمه الله مع أسقفٍ سأله عن عائشة رضي الله عنها, وما رميت به من الإفك – منتقصا لها -, فقال الباقلاني: هما امرأتان ذُكِرتا بسوء, مريم وعائشة, فبرأهما الله , وكانت عائشة ذات زوج, ولم تأت بولد, وأتت مريم بولد, ولم يكن لها زوج.
وقد دب سم الخلاف في جسد الأمة الإسلامية, فظهرت الطوائف والفرق, فكان علماء أهل السنة والجماعة يتناظرون مع رؤوس الفرق وعلمائها؛ لإدراكهم أن الحوار والجدال الحسن هو الطريق الأقصر والأمثل لكشف الحقائق, فقد قال تعالى: )وجادلهم بالتي هي أحسن( (النحل/125), ومعنى “أحسن”: التفوق في الحجة, والتفوق في الأسلوب, والتفوق في الأخلاق,
وكانوا – في الوقت نفسه – ينهون العامة عن مجالسة تلك الفرق والاستماع إليها؛ خشية أن تعلق شبههم بأذهانهم, فقد ناظر عبد الله بن عباس t فرقة الخوارج الذين خرجوا على أمير المؤمنين علي بن أبي طالب t, فرجع منهم في يوم واحد ألفان أو أربعة آلاف,
وناظر عبد الله بن عباس t نافع بن الأزرق في تفسير كلمات من كتاب الله , وتناظر عمر بن عبد العزيز t مع فرقة من الخوارج خرجت عليه, وناظر الإمام الشافعي رحمه الله حفصًا الفرد في مسائل دقيقة من علم الكلام, وناظر الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله المعتزلة في محنة خلق القرآن, وناظر أبو الحسن الأشعري رحمه الله كثيرا من المعتزلة, كمناظرته المشهورة في وجوب الأصلح.
وقد سرى الخلاف لِيَصل إلى كيان أهل السنة والجماعة منذ قرون, وأبرزه الخلاف القديم المشهور بين الأشاعرة والحنابلة, فلما ضاقت النفوس بين الفريقين وقعت مصادمات لم تحمد عقباها إلى يومنا هذا, وكان الأولى أن يبقى الخلاف محصورا في الإطار النظري, وأن يعالج بالحوار والمناظرة والمجادلة بالتي هي أحسن.
وما زال بعض المسلمين – إلى يومنا هذا – يضيقون بتعدد المذاهب الإسلامية وتشعب اختلافها, فضلا عن إمكانية إجراء الحوار معها, مقتصرين على ثقافة واحدة, ومنطلقين من زاوية حادة ضيقة, مصرين على أنه لا يصح من تلك النماذج العلمية والفكرية الكثيرة المنتشرة في أرجاء العالم الإسلامي إلا أنموذج واحد فقط, ومنكرين ما عداها من مذاهب المسلمين, حتى لو كان ينتمي إلى دائرة أهل السنة والجماعة.
وكان من مظاهر تلك النظرة الضيقة إقامة المحاضرات وتأليف الكتب التي تنتهي بتكفير الآخر وتبديعه, فظهرت كتب التصنيف والتوصيف, مثل الطائفة المنصورة, وتنزيلها على جماعة واحدة تحتل الترتيب الأعلى, ثم الطائفة الناجية, وتنزيلها على أطياف أخرى في المرتبة الثانية, ثم الطوائف الهالكة من المسلمين, وتنزيلها على بعض مذاهب وفرق أهل السنة والجماعة
ومن مظاهرها أيضا إقصاء أصحاب المذاهب الإسلامية الأخرى عن مراكز التأثير والقيادة, والاستيلاء على أوقافهم, والتحجير على إمامتهم للمساجد والجوامع, واقترن ذلك بإشاعة مبدأ وجوب هجر المبتدع, الأمر الذي أدى إلى تمزيق وحدة المجتمع المسلم, وتفريق أجزائه.
فما أحوجنا في هذا العصر إلى وحدة الكلمة وجمع الصف ولم الشمل, ولن يتحقق ذلك إلا بتوسيع دائرة أهل السنة والجماعة, بحيث تشمل جماهير المسلمين المتمسكين بثوابت الكتاب والسنة, والمتمثل في منهج سلف الأمة وخلفها, وهم الأشاعرة والماتريدية والأثرية, كما قال الإمام محمد بن أحمد السفاريني الحنبلي رحمه الله:
“أهل السنة والجماعة ثلاث فرق: الأثرية وإمامهم أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى, والأشعرية وإمامهم أبو الحسن الأشعري رحمه الله تعالى, والماتريدية وإمامهم أبو منصور الماتريدي رحمه الله تعالى”[1],
وكما قال الإمام عبد الباقي المواهبي البعلي الحنبلي رحمه الله:
“تقدمة: وهي أن طوائف أهل السنة ثلاثة: أشاعرة وحنابلة وماتريدية”[2],
فإن أصحاب هذه الفرق من أهل السنة والجماعة يقفون على أرض صلبة من العلم والرأي.
وهنا يتبين واجب أهل الحكمة والغيرة من العلماء والمفكرين بأن ينهضوا بمداواة جراح الخلاف, بدلا من نكئها من حين لآخر, وأن يقربوا وجهات النظر, بدلا من توسيع الشقة, وأن يحترموا الآراء المتعددة, بدلا من إعجاب كل ذي رأي برأيه, وأن ينشروا ثقافة “نجتمع فيما اتفقنا عليه, ويعذر بعضنا البعض فيما اختلفنا فيه” – أي في الخلاف المتقدم بين أهل السنة والجماعة -, وثقافة “رأيي صواب يحتمل الخطأ, ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب”, وأن يفعلوا الحوار بين مذاهب أهل الإسلام, وليست هذه الاقتراحات من نسيج الخيال وعالم المثاليات, بل يمكن تحقيقها متى ما توفرت الإرادة والرغبة والشجاعة.
أيها الإخوة الفضلاء, إننا – في عرض حلول مشكلة الاختلاف – ننطلق من البيئة العلمية الأحسائية التي احتضنتنا وسارت بنا في طريق العلم, فلقد عشنا – كما عاش علماؤنا السابقون منذ عدة قرون – في جو فسيح من التسامح والتفاهم وسعة الصدر وتقبل وجهات النظر
وكان من مظاهر تلك البيئة العلمية نشوء المدارس الشرعية للمذاهب العقدية السُّنِّيَّة المشهورة: الأشاعرة والماتريدية والأثرية, والمذاهب الفقهية السُّنِّيَّة المتبوعة: الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة, مما جعل الأحساء مقصدا لطلاب العلم من جميع المناطق المجاورة.
وقد وصف القاضي المفتي الشيخ محمد بن أحمد العمري الموصلي العراقي رحمه الله (…-1199هـ) ذلك التنوع العلمي والثقافي في الأحساء في أواخر القرن الثاني عشر الهجري, فقال:
جُبْتُ الفيافِيَ والقِفارَ جميعَها
برًّا وبحرًا كي أنال مُنائي
وشرعتُ في السفر الحميد ببلدتي
دارِ الأفاضل موصل الحدباء
وبقيتُ منتقلا إلى أنْ جئتُ في
بلدِ الكرام معادنِ الإسداء
أعني بها الأحساءَ أحسنَ كلِّ ما
في الأرضِ مِن بلدٍ بغير مِراء
فأقمتُ فيها مدةً أجني جَنَى
ثمراتِ روضةِ لذتي وصفاء
ووجدتُ أهليها مشايخَ سادةً
صافين من حسدٍ ومِن بغضاء
ورأيتُهم أهلَ اعتقادٍ صادق
وبها اجتمعتُ بغالبِ العلماء
ثم ذكر في قصيدته علماء الشافعية والحنفية والمالكية والحنابلة على هذا النسق, ثم ذكر علماء السلوك, وبلغ عدد العلماء الذين ذكرهم بأسمائهم وأوصافهم ثمانية وعشرين عالما, كان معظمهم على قيد الحياة في أواخر القرن الثاني عشر ومطلع القرن الثالث عشر الهجري.
ويرجع سبب هذا التعايش الحضاري بين هذه المذاهب الإسلامية السُّنِّيَّة – بعد توفيق الله – إلى إدراك علماء المدارس الشرعية في الأحساء حقيقة الخلاف المعتمد على الأصول العلمية, والذي تقتضيه طبيعة النصوص الشرعية واختلاف المدارك العقلية
فلقد أدرك أولئك العلماء طبيعة هذا الخلاف وفقهوه وفهموه, وأدركوا أن لكل مجتهد منهم نصيبا من الأجر, إن أصاب فله أجر الاجتهاد وأجر إصابة الحق, وإن أخطأ فله أجر الاجتهاد, وكانوا يعتقدون أن اختلاف مذاهبهم أقرب إلى اختلاف التنوع منه إلى اختلاف التضاد
ولقد ساعد أفقهم الواسع وطبعهم الرقيق ونفوسهم الصافية على أن يعيشوا جوا فسيحا من التسامح, ومناخا معتدلا من الحريات المذهبية, وهناك أدلة كثيرة من واقع الحال والمقال تبين ما ذكرناه في أبهى صورة.
فكان أصحاب المدارس الشرعية الأحسائية يأخذ بعضهم العلم عن بعض في علوم الشريعة واللغة مهما اختلفت مذاهبهم العقدية والفقهية, ما دامت داخل دائرة أهل السنة والجماعة, وكانوا يَعرِضون الخلاف في المسائل العلمية بكل تأدب وإنصاف, بل ربما يصل الأمر ببعضهم إلى ترجيح مذهب فقهي آخر غير مذهبه, إما لوضوح الدليل, أو لأنه أقرب إلى روح الشريعة وسماحتها,
وكانوا يرشدون طلابهم بلسان الحال والمقال إلى عدم التعصب للمذهب على حساب المذاهب الأخرى, وكان بعضهم يحيل المستفتين على بعضهم الآخر, خصوصا إذا اقترن ذلك بالتيسير عليهم, وما ذاك إلا لإدراكهم أن المذاهب كالجداول التي من شرب من أحدها أرواه من عطشه
وكانوا يرشدون المستفتين إلى الأخذ عن علماء نواحيهم وجهاتهم, حتى يتعود الناس الأخذ عن علمائهم, وكانوا يوقفون الدروس العلمية يومين في الأسبوع, ويخصصونهما لزيارة بعضهم بعضا مع تلاميذهم,
وفي تلك اللقاءات كانت روح التسامح المذهبي تتجلى بأبهى صورها, وذلك بطرح المسائل العلمية وبحثها ومناقشتها, وكان الطلاب ينظرون إلى مشايخهم, ويتعلمون منهم الأدب وحسن الخلق ومشامة العلماء وحسن التعامل مع الخلاف نظريا وعمليا.
لقد كان – وما زال – علماؤنا في الأحساء يرسخون في طلبتهم قبول التعددية المذهبية واحترامها, ومنه قول القاضي الشيخ عبد الله بن علي العبد القادر الخزرجي الشافعي الأحسائي رحمه الله (1270-1344هـ):
يا سالِكاً وجد الطريقَ تعدَّدا
خُذ ما تشاءُ فسوف تَأتِي المقصِدا
واحذرْ وقوفَك حَيرةً وتردُّدَا
إنَّ المذاهبَ كالمناهلِ في الهُدَى
والمرءُ مِثلُ الواردِ الظَّمآنِ
نُعمانُهم والأصبحيُّ بمنزِلِ
ما كان عنه التَّاليانِ بمعزِلِ
أنهارُهم تَجرِي كعذْبٍ سَلسَلِ
والنَّفسُ إِن رَوِيَت بأوَّلِ منهلِ
غَنِيَت بلا كُرهٍ لشُربِ الثَّانِي
ومنه قول الشيخ عبد العزيز بن صالح العلجي المالكي الأحسائي رحمه الله (1288-1362هـ) -:
ولَكِن رضِينا مالِكاً وابنَ حنبلٍ
ونُعمانَنا والشافعيَّ المكرَّما
أَئِمةُ حقٍّ كالشُموسِ اشتهارُهم
فما انطَمَسوا إلا عَلى مَن به عَمَى
وهل جَمعوا إلاَّ كتاباً وسُنَّةً
وإلاَّ قِياساً صادقَ الجِدِّ مُحكَما
وإجماعَ أصحابِ النبيِّ كفى بِهم
لنا سبباً ما كان أنْ يَتصَرَّما
فإن قُلتُمُوا ماتوا فسيرتهم حيت
وإن هبطوا لحدًا فمنهاجهم سما
هم الخير أحياء وبعد مماتهم
نرى نهجهم للبر أهدى وأقوما
وهم حوَّطوا الشرع الشريف بفضلهم
فأضحى عن الجهال ممتنع الحمى
وكم قاصد للدين يبغي فساده
رآهم ليوثا خادرين فأحجما
نسأل الله أن يؤلف قلوبنا ويزكي نفوسنا ويهدينا سواء السبيل, ونسأله سبحانه أن يجزي القائمين على هذه الندوة خير الجزاء, وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
محبكم: عبد الحميد بن مبارك آل الشيخ مبارك
مدرس الفقه المالكي في الأحساء
وأستاذ الفقه المشارك بجامعة الملك فيصل
4. لوامع الأنوار البهية وسواطع الأسرار الأثرية, شرح الدرة المضية على عقائد الفرقة الناجية.
[2]. العين والأثر في عقائد أهل الأثر.