الردة عن الإسلام .. من حيث هو دين .. والردة عنه من حيث هو دولة !!
الردة عن الإسلام .. من حيث هو دين .. والردة عنه من حيث هو دولة !!
الردة .. هي ترك دين الإسلام بعد الدخول فيه دخولا اختيارياً مبنياً على العلم واليقين والبرهان ، ترك الإسلام إلى دين آخر أو إلى الإلحاد و ( اللادين ) ، ونتساءل :
أليس الدين والعقيدة شيئا بين الإنسان وربه ؟
أليس هو مبنيا على الإرادة الحرة التي أعطاها الله له ؟
ألم يقل ربنا سبحانه { لا إكراه في الدين } وهذا كلام عام كما يقول الأصوليون من أن النكرة إذا جاءت في سياق النفي أفادت ودلت على العموم ؟
نعم .. نعم .
إذن !
لماذا هذا التشديد مع من ارتدَّ عن الإسلام بناءً على إرادته الحرة واتخذ ديناً غيره ؟! أليس هذا عدواناً عليه وجريمة منكرة في حقه ؟
ثم ما حاجة الإسلام والمسلمين بإنسانٍ بات على عقيدة غير عقيدتهم ؟
أو ..
ما الضرر الذي سوف يسببه هذا الإنسان وغيره ـ وإن بلغوا المئات والآلاف ـ على الإسلام وهوالدين الحق الذي ليس بعده حق ـ كما يعتقد هذا كل مسلم ـ {إن الدين عند الله الإسلام ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين }؟
أقول :
إن الاعتداء على الإنسان بسبب دينه أو مذهبه أو فكره جريمة منكرة في حقه ، والإسلام قد شدَّد على احترام حريات الآخرين وعدم إكراههم على الإيمان بما يخالف قناعاتهم الخاصة ، وعليه ..
فإن معاقبة المرتد في دين الإسلام جريمة في حقه ، وحكم كهذا لا ينبغي إلصاقه بدين الإسلام مع كثرة النصوص الدالة على نفي الإكراه والنهي عنه
{ لا إكراه في الدين }
{ فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر }
{ وما أنت عليهم بجبار فذكر }
{ أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين }
وغيرها من الآيات الناصَّة على حرية الإنسان في ما يختار من العقيدة والدين .
أقول هذا في نفس الوقت الذي أقول فيه :
إن معاقبة المرتد في النظام الإسلامي حق ، وهو ما أعتقده بناءً على ما نصَّت عليه أحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وبناء على ما استقر عليه إجماع الأمة .
ولبيان وتوضيح ما مرَّ مما يبدو للوهلة الأولى بصورة التناقض والاضطراب
أقول :
لا بد من التفريق بين الإسلام ( من حيث هو دين )
والإسلام ( من حيث هو قاعدة وأساس قام عليه نظام دولة وأمة )
وهذا التفريق ـ في نظري ـ هو الفيصل في هذه القضية التي كثر حولها الجدل .
إن الإسلام ( من حيث هو دين ) ينصُّ على حرية الناس جميعاً في ما يعتقدون وما يدينون به ، ويؤكد بشدة على هذه الحرية وأن كل إكراه يقع على الناس في الدين باطل ومردود وأن الإكراه جريمة ونتائجه مرفوضة لا قيمة لها عند الله تعالى ولا في قانون الله تعالى المطبق بين الناس ، وأن ما يقبل عند الله تعالى هو ما كان مبنياً على حرية الإرادة والاختيار
ودليل ذلك أن الإسلام ودولة الإسلام لا يتعرضان لمن لا يدين بالإسلام أي من كان كافراً به كفراً أصليا ، بل إنه لا يكتفي بعدم التعرض لهم بسوء ، وإنما يدافع عنهم وعن أديانهم وعقائدهم دفاعه عن عقيدته ، ولهذا وجد أصحاب الديانات الأخرى كل أسباب الأمن والطمأنينة بين المسلمين ، متمتعين بكل حقوقهم ، لا يضيق عليهم أحد في دينهم
وعلى هذا المعنى تُحمل كل النصوص الشرعية التي تنوه باحترام حريات الناس فيما يعتقدون من مثل قوله تعالى { لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي } ونحوها من آيات حاثة على إطلاق حريات الناس في ذلك وعدم قسرهم على اعتناق الإسلام .
أما الإسلام ( من حيث هو دستور دولة وقاعدة نظام ) فالأمر فيه مختلف ، إنه يفرق بين من كان كافراً بدين الإسلام كفراً أصليا وبين من آمن بدين الإسلام عن اختيارٍ حرٍّ وعلمٍ وبرهان ثم بعد ذلك كفر وارتد عنه
فهما في نظر النظام الإسلامي مختلفان ، ففي حين أن النظام الإسلامي لا يتعرض لمن كان كافراً أصلياً بسوء بل إنه يحميه ويدافع عنه وعن حريته ، نجده يعاقب بشدة من يرتد عن الإيمان به بعد دخوله في الإسلام دخولاً اختياريا .
ولبيان هذا الاختلاف في الحكم أقول :
إن النظام والدولة الإسلامية نظام ودولة فريدان من نوعهما ، لم يوجد لهما مثيل في الماضي ولا يوجد لهما مثيل في كل الأنظمة والدول المعاصرة ، فهوالنظام الوحيد الذي يقوم على قاعدة دستورية لحمتها وسُداها الدين ذاته ، ومن هنا يأتي تفرد النظام الإسلامي
هذا التفرد الذي يجعل الارتداد عن( الدين ) الإسلام والكفر به ( من حيث هو دين ) كفراً وارتداداً عنه ( من حيث هو نظام ودولة ودستور جماعة وأمة )
وهذه الخاصية التي لا توجد وتظهر إلا في النظام والدولة الإسلامية هي منشأ الالتباس والخلط لدى كثير ممن تكلم في عقوبة المرتد سواء منهم من كان منطلقاً من نقطة التأييد للعقوبة ومن كان منطلقاً من نقطة المناهضة لها
ولهذا فإن النظام الإسلامي يعاقب كل من يكفر بدستوره وقاعدته التي قام عليها واجتمعت عليها أمته ، شأنه في هذا شأن كل أنظمة الدنيا ، فما من نظام إلا ويعد العصيان للدستور عدوانا على الأمة بأجمعها وهو ما يسمى في الاصطلاح المعاصر بـ ( الخيانة العظمى أو خيانة الأمة ) أي التنكر للمبادئ التي قامت عليها الأمة واجتمع عليها الناس وتأسس عليها النظام
فكل نظام في الأرض يتفق مع النظام الإسلامي على تجريم من يتعرض لقاعدته الدستورية بالكفر والارتداد ، ولكن لوجود الافتراق عند هذه الأنظمة غير الإسلامية بين القاعدة الدستورية والدين الذي يدين به البعض أو الكل كان هذا الافتراق في الحكم بين من يكفر بدين المجتمع وبين من يكفر بالقاعدة الدستورية للأمة والمجتمع .
بينما النظام الإسلامي لكون قاعدته الدستورية هي دينه يعتبر مفارقة الدين مفارقة للجماعة وحربا عليها وعلى قاعدتها الدستورية .
فالارتداد عن الإيمان بالقاعدة الدستورية جريمة في كل الأنظمة التي عرفها الاجتماع البشري ، فلماذا ينحى باللائمة على النظام الإسلامي فقط مع أنه لا فرق بينه وبين غيره من الأنظمة التي شرعت عقوبات لحماية أنظمتها الدستورية ؟!
ولأضرب مثلا لذلك هذا دستور ألمانية الاتحادية ينص على الآتي :
المادة 5 الناصَّة على ( حرية التعبير ) في البند الثالث منها ( حرية الفنون والمنح الدراسية والبحوث والتدريس مكفولة ، ولا تعفي حرية التدريس أحداً من الولاء للدستور )
أي أن هذه الحرية مقيدة بما يوافق الدستور ومن عارض الدستور فهو غير معفي من المساءلة القانونية
وفي المادة التاسعة ( حرية تكوين الرابطات ) نص البند الثاني منها على :
( الرابطات التي يكون أهدافها أو أنشطتها متعارضة مع القوانين الجنائية أو التي تكون موجهة ضد النظام الدستوري أو فكرة التفاهم الدولي محظورة )
أي أنها ممنوعة وفي حال إقامتها فإن للدولة أن تعاقب على ذلك ، وهذا صريح في الحد من هذه الحرية التي قد تهدد نظام الدولة وأمنها ، وفي غيرها من المواد التي تقيد الحريات في ما لو أدت تلك الحريات إلى التشكيك بالدستور أو العصيان لمواده .
وسيجد القارئ مثل هذه النصوص التي يقصد منها حماية الدستور الناظم لاجتماع الأمة في كل دساتير الدول الديمقراطية التي تنادي بالحريات وتحض على احترامها بل ما من نظام يقوم إلا وهو قائم على تجريم أي فعل أول قول من شأنه أن يشكك بدستوره سواءٌ نصَّ على ذلك في دستوره أم لم ينص ، وسيجد أيضا أن مجرد التعرض بشيء من التحقير والازدراء لكل ما يمثل الأمة والنظام يعد جريمة يعاقب عليها القانون كازدراء شعار الدولة والنظام أوعلم الدولة أو أي شعار آخر يمثل شيئاً من دستورها كجنسيتها .
وبهذا نصل إلى أن النظام الإسلامي ليس بدعاً في فرضه عقوبة على من يكفر بدستوره ويرتد عنه ، بل هو في هذا مثل أي نظام قام أو هو قائم الآن أو سيقوم في المستقبل ، وهذه الأريحية التي تدعيها كل الأنظمة ـ عدا النظام الإسلامي ـ مع الذي يغير دينه ( الردة ) نجدها تفارقها وتتصف بضدها إذا ما كان الأمر متعلقاً بالكفر والارتداد عن دستور الأمة .
لهذا التطابق الفريد من نوعه في النظام الإسلامي بين دستوره ودينه نجد أنه من المحال أن يسمح لأحدٍ أن يفارق الدين ـ بعد أن يكون قد اعتنقه بكامل حريته واختياره ـ دون عقوبة كما أنه من المحال في الأنظمة الأخرى السماح لأي أحد بالارتداد عن الإيمان بدستورها لأنها بهذا ستسمح بهدم نظام الجماعة وهو يعني انتحار الدولة
أقول :
لهذا التطابق المميز والخاص بالنظام الإسلامي وهو التطابق بين الدستور الذي هو قاعدة الدولة والنظام وبين الدين بات التفريق بين المرتد عن الإيمان بالدستور وقاعدة النظام ـ الذي يعد جريمة في كل الأنظمة والدول بما فيها هذه الدول التي تنادي بالعلمانية الديمقراطية ـ والمرتد عن الإيمان بدين الأمة محالاً للتلازم الذي لا يقبل الانفكاك بين الأمرين في نظام الدولة في الإسلام
ولهذا التطابق ذاته لا يمكن أن يتصور من المسلم الذي يرتد خُلوُّ فعله هذا عن مفارقة الجماعة والمحاربة لها ، كما يظن البعض من الأساتذة الذين يفرقون ما بين فعل الردة وفعل المحاربة للأمة والدولة ، ويقولون بأن من ارتد عن الدين ولم يحارب الجماعة ويفارقها لا ينبغي إيقاع عقوبة عليه لأن معاقبته في هذه الحالة عدوان على حريته الشخصية ولأن الدين والعقيدة لا ينبغي أن تكون خاضعة للإكراه من قبل الدولة والنظام .
وهم بهذا الكلام يغفلون عن هذا التطابق والتلازم الذي ذكرناه بين الأمرين مما يجعل وقوع الردة دون محاربة ومفارقة للجماعة أمرا محالا ، فهذا المرتد التارك للإسلام يقول بلسان الحال إن الإسلام دين باطل ، ولأن النظام الإسلامي قائم على الإسلام فهو يعني بقوله إن القاعدة التي قامت عليها الدولة والنظام باطلة !!
فأي محاربة ومفارقة للجماعة تزيد على هذه المحاربة ؟!!
وكل من لم يدقق النظر في هذا ستظل القضية ملتبسة عليه ، ولن يخلوَ من أحد أمرين :
إما الخرق للإجماع الثابت عن الأمة في عقوبة المرتد وتجريم فعله
وإما إلصاق معاقبة المرتد بالإسلام ( من حيث هو دين ) مع كل النصوص التي تنهى عن الإكراه في الدين .
عقوبة الردة منوطة بالكفر بالإسلام من حيث هو نظام وقاعدة دولة ، لا من حيث هو دين ، ومتى انتفت هذه الدولة وهذا النظام الإسلامي الفريد الذي تتطابق فيه القاعدة الدستورية مع الدين باتت الردة لا تشكل جريمة ومحاربة للجماعة ، إذ لا جماعة ثمة أصلاً حتى تعتبر الردة محاربة لها
وواضح أنه لم يكن هذا إلا لأن التلازم الذي اقتضى الحكم بعقوبة المرتد ـ نعني التلازم والتطابق بين القاعدة الدستورية للجماعة وبين دين الجماعة ـ قد انفك بانتفاء الدولة والجماعة والنظام ، وبانفكاكه وزواله زال الحكم بعقوبة المرتد ، لما هو معلوم من دوران الحكم مع العلة وجوداً وعدما .
فوزي العنجري