الرد على ابن عثيمين حول بعض أبيات البردة
الرد على ابن عثيمين حول بعض أبيات البردة
تأليف : خادم العلم الشريف :
عيسى بن عبد الله بن مانع الحميري
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأكمل التسليم على سيدنا محمد وعلى آله الطيبين وأصحابه أجمعين.
وبعد:
ففي الوقت الذي تعصف فيه بالأمة الإسلامية ريح هوجاء، تكاد تأتي على جذورها، وفي الوقت الذي يجب فيه وأد الخلافات، والوقوف صفاً واحداً أمام هجمات أعداء الإسلام، التي تحاصر وتحاول القضاء على جذوة هذا الدين – دين الإسلام – في القلوب.
يأبى على فريق من الناس إلا نكأ جراح الأمة وإثارة الخلافات العقدية والمذهبية، بدافع سوء الظن بالأمة الإسلامية ورميها بالشرك والضلال، دون تعقل أوفهم. وإنما ركوباً لمسالك الهوى وعصبية في الرأي، وشططاً في التفكير.
ولا تمر فترة من الفترات، إلا ونسمع أو نقرأ هذه الأفكار وتقرع الأسماع، وتؤذي الأبصار، وتضلل العامة بأفكارها المسمومة، وتخدع الشباب بمعسول الدعاوي والتباكي على السنة.
لذا رأيت لزاماً عليّ، أن أوضح حقيقة هذه الأمور، وما فيها من خطل تدفع وهم المتوهمين، وتذهب الحيرة عن نفس المسلمين، وتبين لهم الحق من الباطل.
ومما أثير أخيراً، وحصلت بسببه ضجة بين أهل السنة ما كتبه الأستاذ الشيخ ابن عثيمين حول بعض أبيات بردة للإمام العارف بالله البوصيري التي رددها ويرددها المسلمون منذ عدة قرون مستحسنين ما فيها من مدح لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، ولم نجد أحداً ينكر ما فيها ، بل الكل مستحسن لها ، فكان هذا الاستحسان من الأمة تلقياً بالقبول لهذه القصيدة المباركة.
ولكن الشيخ العثيمين، هدانا الله وإياه، لا يرضيه هذا التلقي وينتقد البوصيري في الأبيات التالية:
يا أكرم الخلق مالي من ألوذ به
سواك عند حلول الحادث العمم
إن لم تكن في معادي آخذاً بيدي
فضلاً وإلا فقـل يا زَلَّة القـدم
فإن من جودك الدنيا وضرتها
ومن علومك علـم اللوح والقلم
فقال ابن عثيمين هدانا الله وإياه :” مثل هذه الأوصاف لا تصح إلا لله – عز وجل – وأنا أعجب لمن يتكلم بهذا الكلام إن كان يعقل معناه كيف يسوغ لنفسه أن يقول مخاطباً النبي – عليه الصلاة والسلام- فإن من جودك الدنيا وضرتها.
(ومن) للتبعيض، والدنيا هي الدنيا وضرتها هي الآخرة، فإذا كانت الدنيا والآخرة من جود الرسول عليه الصلاة والسلام وليس كل جوده فما الذي بقي لله عز وجل؟
ما بقي له شيء من الممكن لا في الدنيا ولا في الآخرة وكذلك قوله:”ومن علومك علم اللوح والقلم”.
ومن هذه للتبعيض ولا أدري ماذا يبقى لله تعالى من العلم إذا خاطبنا الرسول عليه الصلاة والسلام بهذا الخطاب؟”. انتهى كلام الشيخ العثيمين بلفظه، وفقنا الله وإياه للصواب.
وقبل أن نخوض في الرد التفصيلي عن تلك الشبهات والإثارات نتساءل:
1- هل ذات الله تعالى محدودة؟
2 – هل علم الله تعالى محدود؟
3 – هل جوده وكرمه محدودان؟
4 – هل كل ما في اللوح المحفوظ محيط بعلمه تعالى؟
الجواب على هذه الأسئلة والذي يتبادر إلى ذهن عوام المسلمين فضلاً عن علمائهم، أن الله تعالى لا نهاية لكماله ولا حدود لصفاته، لأنه (ليس كمثله شي وهو السميع البصير)
فكل من اعتقد المحدودية في ذات الله تعالى أو في صفاته، أو حَصَر علم الله في شيء مخلوق كاللوح والقلم فقد أخطأ الصراط المستقيم واتبع السبل، لأنه هدم أعظم ركن من أركان الإسلام وهو التوحيد الذي يقتضي تقديس الله تعالى عن مشابهة المخلوقات في ذاته وصفاته وأفعاله.
وسنتعرف أخي القارئ في هذه الرسالة عن هذه القضايا بشيء من التفصيل بحول الله وتوفيقه.
نقد كلام الشيخ العثيمين وبيان خطره على العقيدة
وهنا يقف الإنسان مندهشاً أمام هذا الكلام، أيعي الشيخ حقاً ما قاله أم هي زلة لسان، لم ينتبه لها بعد ذلك؟
مع أن هذا الكلام نشر في مجلة ثم جمع في كتاب، ومن اللازم أن يعرض عليه ليوافق على نشره، فكيف سمح لنفسه أن يتصور صفات الله سبحانه وتعالى بهذه المحدودية وهذا الحصر؟.
وكلنا يعلم أن من الأمور التي يجب أن تكون راسخة في عقيدة المسلم، أن صفات الله عز وجل غير متناهية ولهذا ندرك خطورة أي كلام ينطوي على نعت العلم أو الكرم الإلهي، بما يماثل صفة العلم أو الكرم في الخلْق.
فهما في الخلْق صفتان متناهيتان، أما بالنسبة لله تعالى فصفاته غير متناهية، وإلا لصدق أن يوصف بالعجز والجهل لأن التناهي يصدق عليهما، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً، فَمَنْ وصف صفات الله عز وجل بالتناهي، فقد أساء إساءة كبيرة وخطيرة تمس العقيدة الإسلامية.
وتعال معي إلى ما كتبه ابن عثيمين في فتواه، وتأمل قوله:
” فإذا كانت الدنيا والآخرة من جود الرسول عليه الصلاة والسلام وليس كل جوده، فما الذي بقي لله عز وجل ؟ ما بقي له شيء من الممكن لا في الدنيا ولا في الآخرة”؟!!!
لعلك أخي القارئ أدركت خطورة هذا الفهم للصفات الإلهية.
وخطورةُ هذا الكلام – لمن لم يدرك حتى الآن مكمن الخطورة فيه – تكمن في تحديد دائرة الجود والكرم الإلهي في نطاق الخلق، وهذا يدل على محدودية هذه الصفة، والحد من تعلق هذه الصفة في الجائزات يفضي إلى تصور الحصر في الذات الإلهية، وهذا يتنافى مع تنـزيه الخالق سبحانه وتعالى، ويتنافى مع ما يجب اعتقاده من كمال الله عز وجل، الذي لا يحد كرمه، ولا يحصر جوده، ولا يعجزه إيجاد مسالك لكرمه وجوده.
ولا أدري كيف يفهم قول الله تعالى كما ورد في الحديث القدسي الجليل، الذي خَرَّجه مسلم والترمذي وابن ماجه ، عن أبي ذر الغفاري رضي الله عنه وفيه :”… لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجِنَّكم، قاموا على صعيد واحد، فسألوني فأعطيت كل واحد مسألته ما نقص ذلك من ملكي إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل البحر”.
ونقص المخيط من البحر هو من باب التمثيل، للتقريب للأذهان، وإلا فلا نسبة هنا وإن دقت – تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً –
فَتَوَهُّمُ أن الجود الإلهي منحصر في الدنيا والآخرة فقط، معارض لأمثال هذا النص المتقدم، الذي يفيد:” أن جود الله لا يتناهى، ولا يحد، ولا يعد، وإذا كانت الدنيا والآخرة – وهما مما يتصور من سؤال الإنس والجن – لا تُنقصان ملك الله عز وجل إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل البحر فكيف يصح لمسلم أن يفهم أن الجود والكرم الإلهي محدود بهما؟
وأين باقي هذا البحر الذي لم يذهب منه إلا ما أنقصه المخيط؟ …
سبحان الله وتبارك وتقدس أن يحد كرمه، أو أن يماثله شيء من خلقه.
خطأ العثيمين في تصور العلم الإلهي
يقول هذا الشيخ – هدانا الله وإياه – :
” ومن علومك… ولا أدري ماذا يبقى لله تعالى من العلم إذا خاطبنا الرسول عليه الصلاة والسلام بهذا الخطاب”.
وهذا كلام خطير جداً يمس جانب العقيدة مساً واضحاً بيِّناً، لأن الله تعالى لا يحد علمه ولا يحاط به، تعالى عن ذلك علواً كبيراً… فعلمه سبحانه المتعلق بالواجبات والجائزات والمستحيلات، لا يوصف ببداية ولا ينعت بنهاية، ولا تحده غاية، سبحان الله عما يصفون ويتوهمون.
ومنشأ الخطأ – عند الشيخ – هو تصوره أن علم الله تعالى محدود باللوح والقلم أو الدنيا والآخرة؟!
ولا أدري كيف يتصور عاقل فطن أن اللوح والقلم، وهما مخلوقان من خلق الله يستوعبان علم الله تعالى، فيحصر – بهذا التصور – العلم والقدرة الإلهيين فيهما.
فسبحان الله، لعل الشيخ نسي قصة الخضر الثابتة في الصحيح:”…… فمرت بهما سفينة فكلموهم أن يحملوهما، فعُرِف الخضرُ فحملوهما بغير نول، فجاء عصفور فوقع على حرف السفينة فنقر نقرة أو نقرتين في البحر، فقال الخضر : يا موسى، ما نقص علمي وعلمك من علم الله إلا كنقرة هذا العصفور في البحر…” الحديث.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى:”وقد وقع في رواية ابن جريج بلفظ أحسن سياقاً:”ما علمي وعلمك في جنب علم الله إلا كما أخذ هذا العصفور بمنقاره من البحر”.
وهذا من باب إيضاح المعنى بالمثال، وإلا فعلم الله لا يحد كما يحد البحر مهما عظم واتسع.
يقول ربنا عز وجل: (قل لو كان البحر مداداً لكمات ربي لنفذ البحر قبل أن تنفذ كلمات ربي ولو جئنا بمثله مدداً) الكهف 10.
ملاحظات على كلام الشيخ العثيمين
وهنا يتبادر إلى عقل المسلم السؤال التالي:
مادام الشيخ فهم أن العلم محصور باللوح والقلم فأين كان علم الله قبل خلقهما، سبحانه وتعالى لا يوصف بأين ولا ينعت بكيف.
ثم ألم يفطن هداه الله إلى أن حصر العلم في المتناهي من صفات علم المخلوقين وهذا تشبيه للباري بخلقه؟
وهو يعلم خطورة التشبيه في العقيدة الإسلامية وموقف علماء الإسلام من المشبهة.
فإذا كان قصد المؤلف دفع غائلة وصف المخلوقين بصفة من صفات الخالق، تنـزيهاً وتقديساً للباري سبحانه، فإن الأخطر من ذلك هو أن نصف الباري تعالى بصفات المخلوقين، كما حصل للشيخ المذكور، وكأنه بجعله العلم محصوراً في عالم الدنيا والآخرة غفل عن قوله تعالى : (إن الله كان بكل شيء عليماً) ( النساء 32)
وقوله تعالى : (وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً) (الإسراء 36)
واللوح والقلم شيئان من الأشياء الكثيرة التي خلقها الله تعالى …
وكأنه غفل عن قوله عليه الصلاة والسلام:
“إن أول ما خلق الله القلم فقال له : اكتب فقال : رب وماذا أكتب؟ قال : اكتب مقادير كل شيء حتى تقوم الساعة .”
ومن الواضح أن ما بعد يوم القيامة من عوالم لم يسجلها القلم كما يفهم من هذا الحديث، فما المانع أن يطلع الله من شاء من خلقه على هذه العوالم التي لم يسجلها القلم، ولم تحفظ في اللوح المحفوظ، ولا سيّما حبيبه ورسوله وخاتم الأنبياء صلى الله عليه وآله وسلم وخاصة أن نصوصاً كثيرة جاءت لتكشف عن ذلك وسيأتي ذكرها.
والمشكلة عند ابن عثيمين ومن معه أنهم يخلطون بين الأسباب ومسبباتها، ولا يفرقون بين السبب الظاهر والسبب الخفي، ويغفلون عن أن الله تعالى ربط الأسباب بالمسببات.
والعجب أننا نجد الشيخ ابن عثيمين – غفر الله لنا وله – يناقض نفسه بفتوى أخرى عندما يسأل عن قول الصحابة “الله ورسوله أعلم”
فأجاب بقوله: قولهم “الله ورسوله أعلم” جائز، وذلك لأن علم الرسول من علم الله، فالله تعالى هو الذي يُعلِّمه ما لا يدركه البشر، ولهذا أتى بالواو.
توضيح الأبيات كما فهمها العلماء الثقات
والآن ماذا يعني البوصيري رحمه الله تعالى بهذه الأبيات، وهل كفر هو من أُعجب بقصيدته وأحبها ؟ كما أفتى ابن عثيمين حيث قال في فتواه:
“… هذا بقطع النظر عما بهذه الاحتفالات من الغلو بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم المؤدي إلى الشرك الأكبر المخرج عن الملة الذي كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نفسه يحارب الناس عليه، ويستبيح دماءهم وأموالهم وذراريهم فإننا نسمع أنه يلقى في هذه الاحتفالات من القصائد ما يخرج عن الملة قطعاً كما يرددون قول البوصيري يا أكرم الخلق…” ثم ذكر الأبيات المتقدمة!!!
ونحن نقول لابن عثيمين إن العشرات من الأعلام والعلماء الراسخين في العلم شرحوا هذه القصيدة وتفننوا في شرحها وتخميسها وتسبيعها فهل كلهم دعاة إلى الشرك الأكبر؟
وتداولها العلماء الأعلام كابراً عن كابرٍ وهل كلهم جهل ما فهمه ابن عثيمين؟!!!
وقانا الله مزالق الردى، وحفظنا من سبق الوهم، ورسوخه في النفس، وعافانا من الشذوذ عن السواد الأعظم لهذه الأمة.
أما قوله :
يا أكرم الخلق مالي من ألوذ به
سواك عند حلول الحادث العمم
ولن يضيق رسول الله جاهك بي
إذا الكريم تجلى باسم منتقم
قال الشيخ العلامة النحوي خالد الأزهرى شارحاً هذا البيت :
(يا أكرم كل مخلوق مالي غيرك ألتجئ إليه يوم القيامة من هوله العميم، والخلق متطلعون إلى جاهك الرفيع، وجنابك المنيع، ولن يضيق بي جاهك يا رسول الله إذا اشتد الأمر وعيل الصبر وانتقم الله تعالى ممن عصاه…)
والناظم، هنا يتحدث عن موقف المقام المحمود الذي يقفه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عندما تدنو الشمس من الخلائق، ويطول الأمر بالناس وهم في خوف وضجر وقلق شديد، حتى يتمنى الكفار أن يُذهب بهم ولو إلى النار، فيلجئون إلى الأنبياء بدءاً من آدم ثم نوح فإبراهيم فموسى فعيسى عليهم الصلاة والسلام، وكلهم يعتذر، ويأبى الشفاعة، ولا تهمه إلا نفسه في ذلك الموقف
ثم يلجئون إلى سيدنا محمد صلى الله عليه وآله وسلم فيقول : أنا لها..
والشاعر يذكر رسول الله بهذه الخصوصية الجليلة العظيمة التي دلت عليها الأحاديث الصحيحة وفي الحديث:
“فيلهمني الله محامد لا أقدر عليها الآن فأحمده بتلك المحامد، ثم يقال : يا محمد ارفع رأسك، وسل تعطه واشفع تشفع…” الحديث.
والشاعر البوصيري رحمه الله يذكر الشفاعة الكبرى التي دلت عليها الأحاديث الصحيحة وهي خاصة بسيدنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
وهناك أنواع أخرى من الشفاعات الخاصة لنبينا صلى الله عليه وآله وسلم غير هذه الشفاعة لا مجال هنا للحديث عنها.
فهل في هذا ما يمس العقيدة في شيء؟.
بل هل هذا إلا محض الإيمان؟
والإيمان بالشفاعة من الأمور التي يتميز بها أهل السنة والجماعة بخلاف بعض المبتدعة الذين أنكروا شفاعته صلوات الله وسلامه عليه.
ولا أدري إن كان بعض الناس يثيره أن يوصف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بأنه أكرم الخلق …؟؟!
علماً بأن هذه الخصوصية لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من المسَلَّمات عند المسلمين، والأحاديث التي تؤكد هذا المعنى كثيرة جداً مثل قوله صلى الله عليه وآله وسلم:
“أنا أكرم ولد آدم على ربي” أخرجه الترمذي والدا رمى.
ومثل قوله صلى الله عليه وآله وسلم :”أنا سيد ولد آدم يوم القيامة.”
وأما قوله : مالي من ألوذ به، فهو من الأمور المسلمة عند من يقرأ أو قرأ حديث الشفاعة العامة لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وقد تقدمت الإشارة إليه، وهذا المقام الكريم ثابت لرسول الله في القرآن قبل السنة،
قال الله تعالى( ومن الليل فتهجد به نافلة لك عسى أن يبعثك ربك مقاماً محموداً) (الإسراء)،
وسميت الشفاعة العظمى بالمقام المحمود، لأن جميع الخلق المؤمنين، والكافرين، الأتقياء والفجار يحمدون له هذا الموقف.
وكونه صلى الله عليه وآله وسلم الملاذ الوحيد، يومئذ واضح جلي، فكل الأنبياء والمرسلين يعتذرون عن الشفاعة في ذلك المقام وكلهم يقول: نفسي ، نفسي.
وقد يسأل متحذلق: لم لا يلجأ الإنسان إلى الله تعالى مباشرة في ذلك اليوم؟
والجواب كما بينه الناظم بقوله : ( إذا الكريم تجلى باسم منتقم)
ففي ذلك المقام لا يجرؤ أحد من الناس بمن فيهم الأنبياء على طلب أي شيء فيه تخفيف أو رحمة من الله تعالى لشدة غضبه الذي يصفه الأنبياء جميعاً بقولهم:
“إن ربي غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله” كما هو في حديث الشفاعة.
إذاً لابد من شافع، وهذا الشافع هو الحبيب الأعظم والسيد المكرم سيدنا محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وتأمل حديث الشفاعة تجد هذا بيناً واضحاً لا ريب فيه ولا شك ولا لبس.
وأما قول الناظم رحمه الله تعالى:
فإن من جودك الدنيا وضرتها
ومن علومك علم اللوح والقلم
1 ) ضرة الدنيا : هي الآخرة.
2) اللوح : جسم نوراني، كتب فيه القلم بإذن الله تعالى ما كان وما يكون إلى يوم القيامة.
3) القلم : هو جسم نوراني خلقه الله تعالى، وأمره أن يكتب ما كان وما يكون إلى يوم القيامة.
4) الجود: إفاضة ما ينبغي لا لعوض ولا لغرض.
شرح البيت:
قال الشيخ خالد الأزهري:
“وإِنّ خيري الدنيا والآخرة من جودك، وعلمي اللوح والقلم من علمك، وأنت الحقيق بذلك، والمعول في الشفاعة عليك”.
وقال الشيخ إبراهيم الباجوري أحد شراح البردة وهو ممن ولي مشيخة الأزهر في القرن الثالث عشر من الهجرة: والمراد من الدنيا ما قابل الأخرى، ولذلك جعلها الناظم ضرتها، وفي كلامه تقدير مضاف إي خيري الدنيا هدايته صلى الله عليه وآله وسلم للناس، ومن خير الآخرة شفاعته صلى الله عليه وآله وسلم فيهم”.
فأي إشكال في هذا الفهم يا عباد الله؟
بل إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رفض الدنيا بما فيها زاهداً فيها فضلاً عن تملكها ثم الجود بها، والأحاديث في هذا متوافرة.
أخرج أبو يعلى بإسناد حسَّنه الهيثمي عن عائشة رضي الله عنها قالت:
قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم :”يا عائشة لو شئت لسارت معي جبال الذهب.”
عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال:
“أوتيت مفاتيح كل شيء إلا الخمس إن الله عنده علم الساعة وينزل الغيث ويعلم ما في الأرحام وما تدري نفس ماذا تكسب غداً وما تدري نفس بأي أرض تموت إن الله عليم خبير”
فرفض رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هذه الدنيا واختار أن يكون عبداً يأكل يوماً ويجوع يوماً…
ثم إقدامه عليه الصلاة والسلام على الشفاعة يوم القيامة عندما يحجم الأنبياء كلهم لا تهمهم إلا أنفسهم، فيتصدى أبو القاسم صلى الله عليه وآله وسلم – بأبي هو وأمي – للشفاعة حتى يرضى الله سبحانه بعد غضبه وتزول الأهوال والشدائد عن الناس، فأي جود يريده الناس بعد ذلك؟!
بل إن رتبة الجود لتنـزل عن هذه الرتبة العظيمة.
ثم إن الدنيا والآخرة وجدتا من أجل رسالة الإسلام، والنبي صلى الله عليه وآله وسلم يمثل هذا الإسلام، بل هو الإسلام الفعلي الواقع والدليل عليه قوله صلى الله عليه وآله وسلم يوم بدر:
اللهم إن تهلك هذه العصابة اليوم فلن تعبد في الأرض.
وقد قال الله تعالى:( والأرض وضعها للأنام ) (الرحمن10)
والأنام هم الخلق وأفضلهم محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، فمن باب أولى أنها له صلى الله عليه وآله وسلم
وقال تعالى:( هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعاً) (البقرة 29.)
ثم إن الدنيا لا تعدل عند الله جناح بعوضة، كما جاء في الحديث الشريف، فلا يرضى الله عز وجل أن تكون الدنيا كل ما أعطي لحبيبه صلى الله عليه وآله وسلم.
ولابد من الإشارة في شرح بيت البوصيري أيضاً:
فإن من جودك الدنيا وضرتها… إلى أن العرب استعملوا المجاز، وهو أسلوب من أساليب العربية المتفق عليه، ومن نفاه فقد نفى عن العربية بعضاً من الفصاحة.
وفي كلام الشاعر البوصيري رحمه الله تعالى في هذا البيت نجد استعماله للقرينة السببية في علاقة المجاز المرسل، فكأنه أراد: إن من جودك هداية الناس في الدنيا، وهذه الهداية موصولة لرب العالمين وهي سبب الحياة الطيبة في الدنيا والآخرة، ومن جودك أيضاً الشفاعة في الآخرة، وهي علاقة مجاز على القرينة السببية
وفي القرآن الكريم : ( وينزل لكم من السماء رزقاً) (غافر13)
أي ما ينزل هو الماء الذي هو سبب الرزق المتنوع الأشكال.
هل يعلم رسول الله علم اللوح والقلم :
وأما قوله :”ومن علومك علم اللوح والقلم” والذي استعظمه واستنكره وشنع عليه بعض الناس، فإنني لا أريد من القارئ المنصف إلا التمعن في هذه الأحاديث:
1 ) جاء في الصحيحين واللفظ لمسلم عن أنس رضي الله عنه أن الناس سألوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم حتى أحفوه بالمسألة فخرج ذات يوم فصعد المنبر فقال:
” سلوني، لا تسألوني عن شيء إلا بينته لكم، فلما سمع القوم أرموا ورهبوا أن يكون بين يدي أمر قد حضر، قال أنس: فجعلت ألتفت يميناً وشمالاً فإذا كل رجل لافٌّ رأسه في ثوبه يبكي، فأنشأ رجل من المسجد، كان يلاحى فيُدعى لغير أبيه، فقال: يا نبي الله من أبي؟
قال: أبوك حذافة
ثم أنشأ عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال:
رضينا بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد رسولاً، عائذاً بالله من سوء الفتن ثم قال صلى الله عليه وآله وسلم:
“لم أر كاليوم قط في الخير والشر، إني صورت لي الجنة والنار فرأيتهما دون هذا الحائط”.
2 ) روى البخاري عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال:
قام فينا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مقاماً فأخبرنا عن بدء الخلق حتى دخل أهل الجنة منازلهم، وأهل النار منازلهم حفظ ذلك من حفظه ونسيه من نسيه.
3 ) وروى أبو داود عن حذيفة رضي الله عنه قال:
“والله ما أدري أنسيَ أصحابي أم تناسوا، والله ما ترك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من قائد فتنة إلى أن تنقضي الدنيا يبلغ من معه ثلاثمائة فصاعداً إلا قد سماه لنا باسمه واسم أبيه واسم قبيلته”.
4 ) وفي حديث اختصام الملأ الأعلى الذي خرجه الإمام أحمد في مسنده والدرامي والترمذي والطبراني – ومما جاء فيه – … فعلمت ما في السموات والأرض وتلا:
(وكذلك نُري إبراهيمَ ملكوتَ السموات والأرض وليكون من الموقنين) (الأنعام 75)
وفي رواية : فتجلى لي كل شيء وعرفت، وفي رواية الطبراني: فعلمني كل شيء … إِلخ.
وانظر ما قاله الصحابي الجليل مالك بن عوف في وصف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كما ورد في الإصابة 9/64:
ما إِن رأيتُ ولا سمعتُ بواحد
في النّاس كلِّهم كمثلِ محمّد
أوفي فأعطى للجزيل لمجتدٍ
ومتى تشأ يخبرك عما في غد
ومن الواضح أن الله سبحانه وتعالى أفاض على نبيه صلى الله عليه وآله وسلم من العلوم والمعارف مالا يعلمه إلا الله تعالى القائل له :
( وأنزل الله عليك الكتب والحكمة، وعلمك ما لم تكن تعلم وكان فضل الله عليك عظيماً) (النساء113).
وما في الآية يدل على العموم والشمول، أي لتعم جميع العلوم التي علمها الله تعالى لرسله وأنبيائه صلوات الله وسلامه عليهم، ولتشمل غيرها من العلوم التي أفاضها الله سبحانه وتعالى عليه صلى الله عليه وآله وسلم ”
فما هو وجه الإشكال إن قال قائل:”إن الله علّمه علم اللوح والقلم.
ألست ترى النص النبوي الشريف يقول لك:”فعلمني كل شيء، أو فتجلى لي كل شيء وعرفت..” الخ.
أليس اللوح والقلم شيئين من هذه الأشياء، يا سبحان الله كم من عقول تبادر إلى إنكار مالا تعرف فتقع في محاذير!!
كان من الأولى لها أن تصون نفوسها عنها، ثم أليس معرفة الجنة والنار والإخبار عن بدء الخلق حتى دخل أهل الجنة، الجنة … الخ مما يزيد عما في اللوح والقلم، الذي لم يكتب إلا ما سيكون إلى يوم القيامة، أما ما بعد يوم القيامة فإن العلم به علم بما ليس في اللوح والقلم…
وهب أنه كتب في اللوح ما سيأتي بعد يوم القيامة، ألا يدخل علم ما يكتب في قوله:
فتجلى لي كل شيء، وعلمت ما في السموات والأرض…الخ.
فغدا من الجلي الواضح أن ما أعطاه الله لرسوله صلى الله عليه وآله وسلم من العلوم يفوق ما كتب في اللوح مما خطه القلم.
ولا نقول هذا من باب العصبية لرأي أو لرجل، وإنما هي مسألة إيمانية إذ أن إعطاء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حقه فيما أكرمه الله به هو من مقتضيات الإيمان به.
وأما الغلو المرفوض كقول النصارى:”عيسى ابن الله، أو حلت فيه روح الله” ونحوها من المكفرات، فهذا مرفوض مردود لا مرية فيه ولا ريب. والناظم البوصيري رحمه الله هو الذي قال لنا في بردته:
دع ما ادعته النصارى في نبيهم
واحكم بما شئت مدحاً فيه واحتكم
وأرجو من الله تعالى أن يلهم الشيخ، بل وكل من يمسك قلماً أو يعتلى منبراً أو يلقي محاضرة، أو يبث نصيحة وموعظة، أن يتحرى جانب الصواب وبخاصة فيما يتعلق بالله تعالى، فإن مزالق الأقدام هنا خطيرة قد تودي بإيمان الإنسان نفسه…
جمع الله القلوب على محبة رسوله المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم، وألهمنا جميعاً حسن الظن بالمسلمين وألف بين المسلمين الذين أصبحوا تائهين حائرين في هذه الليالي الحالكة وألهم العاملين من أجل هذا الدين، الابتعاد عن أسلوب التكفير والتضليل والتبديع، فإن هذا يزيد الجرح عمقاً، والقلوب بغضاً.
والحمد لله رب العالمين
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم