الشيخ سليم المسوتي..شيخ المتوكلين
الشيخ سليم المسوتي..شيخ المتوكلين
بقلم د. محمد حسان الطيان
رئيس مقررات اللغة العربية بالجامعة العربية المفتوحة
عضو مراسل بمجمع اللغة العربية بدمشق
منذ وعيت الدنيا كنت أطالع صورته في بيت جدي لأمي _ بيت المسوتي_ ذلك البيت الذي فيه ولدت، وفيه نشأت وترعرعت، وفيه لعبت وسلوت، وفيه مرابع طفولتي ومواطن هواي وملاعب أحبتي. حتى لقد ظنني كثير من الناس مسوتي النسب _أعني نسب الوالد والشهرة واللقب _ وما أنا كذلك، وإن كنت مسوتي الهوى والرضاع والنزعة والمحبة.
قلت إني كنت أطالع صورته _صورة الشيخ سليم المسوتي رحمه الله_ بطلعته البهية، وهيبته السنية، وبسمته النورانية، ولحيته التي كنت أرى الطهر تحت كل منبت من منابت شعرها.. وقد كتب تحتها ذلك البيت الذي كان أول بيت حفظته في الشعر العربي:
حَلَفَ الزمانُ لَيأتيَنَّ بمثلِهِ
حنِثَتْ يمينُكَ يا زمانُ فكفِّرِ
كنت أردد هذا البيت دون أن أدرك معناه، حتى إذا شببت عن الطوق واستبان لي معناه طفقت أسأل أيَّ رجل كان هذا الجدُّ حتى عصي على الزمان أن يأتي له بنظير؟
وأيَّ علم طوى عليه صدره؟
بل أيَّ خلق اشتملت عليه نفسه؟
وأيَّ نور نشر بين الناس؟ وأيَّ ذكر ترك في أذهانهم؟
وكانت الإجابات تأتيني من هنا وهناك، فما إن يُسمع لقب المسوتي حتى يذكر الشيخ سليم رحمه الله، وما إن يذكر الشيخ سليم حتى تتوالى الحكايات عنه مشفوعة بالثناء الجميل، والذكر العطر، والمناقب التي ندر أن تجتمع لواحد بمفرده، ولا سيما توكله الذي قيل فيه: لو وزع على أهل بلد لكفاهم.
من ذلك أن طارقاً طرقه قبل موعد الإفطار في رمضان، يشكو كثرة العيال وقلة المال بل عدمه، فما كان من الشيخ رحمه الله إلا أن أعطاه طنجرة الطعام برمتها، لم يبق منها لأهل الدار شيئاً، على كثرتهم، إذ لم يكن البيت يخلو من أربع نساء ولكل امرأة أولادها، وكلهم من نسل الشيخ ، فعلا الصياح وكثر الاعتراض، والشيخ صامت يسبِّح وهو واثق من عطاء الله مسلم أمره كله لله،
وما إن ارتفع أذان المغرب حتى قرع الباب، وإذا وراءه خيرٌ كثير وطعام وفير أمر به الوالي والي دمشق لبيت الشيخ رحمه الله.
فما جازَهُ جودٌ ولا حلَّ دونَهُ ولكن يسيرُ الجودُ حيثُ يسيرُ
ومن ذلك أن سائلاً سأله كساءً في المسجد, ولم يكن الشيخ رحمه الله يملك إلا ما يلبس, وقوام لباسه جبة تحتها صاية, والصاية ما يلبس تحت الجبة من دثار, وهي أشبه ما تكون بالجلابية أو (الدشداشة) إلا أنها مفتوحة يُرَدُّ طرف منها على الطرف الآخر, ويوضع في الوسط ما يشبه الحزام العريض ويتخذ عادة من قماش فاخر,
فما كان من الشيخ إلا أن دخل غرفته في المسجد ليخرج حاملاً صايته ولوازمها ويقدمها للسائل و قد ارتدى جبته على شعاره ( أي ملابسه الداخلية التي تلي الجسد مباشرة).
وأكمل نهاره على هذه الشاكلة.
وعندما عاد إلى بيته بعد العشاء وافاه ولده بتسع صايات أهديت إليه, فما كان من الشيخ إلا أن طالبه بالعاشرة, وفغر الولد فاه متعجبا من معرفة أبيه خجلا من تصرفه! إذ أخفى عنه واحدة استئثاراً بها وخوفا من أن يوزع والده الصايات العشر على أصحاب الحاجات فلا يقع له منها شيء
وسرعان ما اعتذر عن فعله وهو يبدي تعجبه من فطنة الشيخ ومكاشفته!
فقص عليه الشيخ رحمه الله قصة السائل الذي سأله مردفا: كنت على يقين بأن الحسنة بعشرة أمثالها.
كلما قيلَ قد تناهى أرانا
كرماً ما اهتدَتْ إليه الكرامُ
ومن حديث توكله على الله وتسليمه الأمر كله لله , أنه مات له ولد في شرخ الشباب و ميعة الصبا كان يرى فيه نفسه و يعده لخلافته, وقد أرسله إلى مصر ليدرس في الأزهر, ويعود بعلم غزير و خير كثير
إلا أن أجله كان أسبق من أمله, وتوفي بين يدي والده, فما زاد الشيخ على أن قال : إنا لله وإنا إليه راجعون, اللهم منك وإليك, ووسده التراب في مقبرة الدحداح بدمشق الشام , ليلحق به بعد حين ويدفن إلى جواره ومازال القبران متجاورين, يؤمُّهما الناس من كل مكان، ويدلان على رفعة الشيخ وعلو منزلته.
على أن الموقف الذي لم أر للشيخ فيه نظيراً هو ذاك الذي كان مع تلميذه ومريده الأثير لديه، الشيخ أبو الخير الميداني, شيخ الشام و رئيس رابطة العلماء فيها, فقد لزم الشيخ سليماً وأخذ عنه وانتفع بعلمه و بحاله
وانقضت على صحبته سنوات, ختمها الشيخ بتوجيه تلميذه إلى شيخ آخر بعد أن نفِد ما عند ه من علم, لما رآه فيه من النجابة الفطنة, وقد ائتمر المريد بأمر شيخه فلزم الشيخ عيسى الكردي, وتزوج ابنته, وتخرج به بعد أن تخرج بالشيخ سليم, فكان بعد ذلك من نوادر العلماء, رحمه الله.
ومن عرف الشيوخ معرفتي بهم، علم علماً لا يخالطه شك أن من أصعب الأمور عند كثير منهم وأقساها على قلوبهم أن يفارقهم تلاميذهم, وأن يحضروا مجالس غيرهم,ولعل فراق الولد عند بعضهم أهون عليه من فراق التلميذ أو المريد!
فما بالك بمن يدفع تلميذه دفعاً ليحضر عند شيخ غيره بل ليلزم هذا الشيخ؟
حلف الزمان ليأتين بمثله
إن الزمان بمثله لضنين
لقد توكل على الله فأحسن التوكل و كان شعاره في الحياة {ومن يتوكل على الله فهو حسبه } أي كافيه وكافله و معطيه وحارسه , ومن كان الله كافيه فماذا ينقصه؟
ومن كان الله كافله فماذا يعتريه؟
و مم يخاف؟
إلهي ماذا فقد من وجدك ؟
وماذا وجد من فقدك؟
لا ريب أن قوة الإيمان تصنع المعجزات. ولو تدبرنا سياق الآية التي مرت لاستبان لنا مبلغ العناية الإلهية لكل من كان هذا شعاره, فالله سبحانه و تعالى يقول: {…وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا . وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ، وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ، إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ، قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا } الطلاق 2-3
رحم الله الشيخ السليم المسوتي وجزاه عنا وعن الأمة خير ما جزى عالما عن أمته، ومربيا عن أولاده وتلامذته، ومتوكلا عن إيمانه وعقيدته، وجعل الخير والبركة والعلم في نسله وحفدته. وقدر لهذا الزمان أن يبر بيمينه فينجب الأخيار والأطهار والأبرار الذين يحيون حياة سلفهم، وينشرون الفضيلة والسماحة والتقى، ويثبتون أن الخير موصول في هذه الأمة إلى يوم القيامة. والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.
الشيخ سليم المسوتي في سطور 1248- 1324هـ ، 1832- 1906م.
– فقيهٌ، وليٌّ، زاهد.
ـ سليم بن خليل، الشهير بالمسوتي، الدمشقي، الحنفي، الخلوتي، الأرناؤوطي الأصل. وُلِدَ في دمشق سنة 1248هـ في محلة العقيبة، ونشأ في حجر والده، وقرأ العلوم العربية على مشايخ محلته كالشيخ محمد سعيد البرهاني (الجد)، والشيخ بكري العطار.
ـ أخذ الفقه عن الشيخ أحمد الحلبي، والتفسير عن الشيخ سليم العطار، والحديث عن الشيخ أحمد مسلم الكزبري، والتصوف عن الشيخ محيي الدين العاني.
ـ درَّس في جامع التوبة مدة طويلة، وأمَّ الناس فيه، وأفاد، وكان يهتم بكتب الحديث كالبخاري الذي بدأ بتدريسه فيه منذ سنة 1265هـ، وأقرأ الفقه الحنفي. ومن تلاميذه من اشتُهر بعده كالشيخ أبي الخير الميداني.
ـ وصفه الشيخ يوسف النبهاني بقوله: ((رأيت بوجهه من النور وسيماء الصلاح والولاية ما يقضي لمن جعل الله في قلبه شيئاً من فراسة المؤمن بأنه من أخيار العلماء العاملين والأولياء العارفين)).
ـ ووصفه الشيخ محمد جميل الشطي فقال: ((كان من أفراد دمشق صلاحاً، وزهداً، ودعوة إلى الخير والدين، وسيراً على طريقة السلف، وكان معتقداً، مباركاً، نير الوجه، حسن المنظر، جليل القدر، محبباً للنفوس، وكان له درس عام في جامع التوبة بعد طلوع الشمس، وبين العشاءين تستفيد منه الخاصة والعامة.
وإذا وقع خلاف بين جماعة من أهل محلته حضر بينهم فأزال خلافهم، وحل مشاكلهم، وأصلح بينهم، وكان يغلب صلاحه على علمه)).
ـ كان عالماً، فقيهاً، زاهداً، عفيفاً، ورعاً، عظيم التوكل، يعتقد فيه أهل حيه، ويتحدثون بكراماته، يميل إلى مجالسه الفقراء ويكره الرسميات والتردد على الحكام.
ـ توفي بدمشق يوم الأربعاء 8 شعبان سنة 1324هـ، ودُفن في مقبرة الدحداح.
ـ وقيل في رثائه أبيات منها:
قضى الله أن يختار من فضله له
إمام الهدى بدر العلوم المكرمـا
فبشرى له من ربه حيث إنـه
أتى الله بالقلب (السليم) مسلِّما
ليبك العلا والمجد والفضل والتقى
هُماماً بدين الله ذي العرش قد سما
أصيبت دمشق الشام أرخ ببدره
فعين الهدى من فقده قد بكت دما