المتفاصحون
المتفاصحون
كنت أتهيب الخطابة ولا زلت، وكنت أتمنع منها طيلة سنوات حتى دفعني إليها دفعا بعض الخطباء وما كان دفعهم لي تحبيبا بها ولا اقتداء بهم بل على كره لها وتخلص منهم، لأنني كنت أرى اغتيال اللغة وإزهاق نحوها يتم بأيديهم على أعواد المنبر، فأردت أن اخلص نفسي بالتخلص من الاستماع إليهم
وحيث أن حضور الجمعة فرض فلن يكون التخلص من الاستماع إلا بالتسميع، أي بكونك خطيبا فكان لي ذلك، وكان أن تخلصت من رمضاء الإنصات إلى نار الخطابة وهي عندي بالطبع أقل اكتواء من الاستماع إلى مذابح اللغة العربية التي تقام في كل جمعة على منابر الجمعة.
والخطباء والأئمة هم أولو الشأن في اللغة، فإذا كان أولو الشأن لا شأن لهم بها، ولا شأن لها بهم فكيف بغيرهم؟؟
جاءني دكتور باكستاني يريد أن يتعلم قراءة القرآن، فقلت اقرأ الفاتحة وبدأ يقرأ، فأمضيت الوقت من بعد المغرب إلى أذان العشاء لأصحح له فقط آية “صراط الذين أنعمت عليهم” التي يقرأها “سرات الذين عنعمت أليهم”
إذا نجح في نطق “همزة” أنعمت فشل في نطق “عين” عليهم، وإذا نجح في نطق “عين” عليهم فشل في نطق “همزة” أنعمت
فازددت قناعة بأن العربي سيكون حسابه على جهله في قراءة القرآن مختلفاً عن حساب غيره، لأن ما يغتفر لغيره بفقده اللسان العربي سيكون حجة على العربي بوجوده عنده، فكم سمعنا وسمعنا من العرب من يقيم الصلاة فيقول:غد غامت الصلاة غد غامت الصلاة
ومن يقرأ القرآن فيقول:والله غدير والله قفور رحيم، أي “والله قدير والله غفور رحيم”
ومن العجب من هؤلاء ممن يتفاصح منهم بلغة غيره ويجهل لغته، فكم نسمع في المجالس أو المكاتب من يحلو له تزيين عاميته بكلمات أجنبية لا ضرورة لها.
نعم، نحن لا ننكر حاجتنا لتعلم لغات أخرى ولكننا نتعلمها لضرورة تدعو إليها، لا لنتفاصح بها لنفضح جهلنا بلغتنا، وقد كان أصحاب المروءات يعدون ذلك من الصََّغَار…
قال أبو العباس المبرد:
كان يقال، ثلاثة يحكم لهم بالنبل حتى يدرى من هم،
وهم:رجل رأيته راكبا، أو سمعته يعرب أو شممت منه طيبا،
وثلاثة يحكم عليهم بالاستصغار حتى يدرى من هم، و عد منهم رجلاً سمعته في مصر عربي يتكلم بالفارسية.
و ممن ساهم في اغتيال اللغة العربية عندنا وبالأخص النحو من ساهم بوضع منهج اللغة العربية بوزارة التربية، حيث كان النحو يحصل على أقل درجة في المادة (5) درجات،
و أما ترتيبه في الحصص ففي الحصة السابعة غالبا وما أدراك ما الحصة السابعة، و أما عدد الحصص فهو الأقل عددا،
فتمالأت ضآلة الدرجة وسآمة الحصة السابعة مع قلة العدد لنحكم نحن التلاميذ على النحو بالاستغناء لعدم الحاجة، وما أعظمه من فقرٍ اليوم كان نتيجته استغناء الأمس، وسوف نسأل عن هذا الاستغناء
قال تعالى:”وإنه لذكرٌ لك ولقومك وسوف تسألون”
أي وإنه لشرف لك ولقومك يا محمد أن خصكم الله بالقرآن وجعله عربيا على لغتكم، وسوف تسألون أي تسألون عن تضييعه، قاله ابن عباس ومجاهد وقتادة والسُّدِّي وابن زيد…
ونحن العرب لم نكتف بتضييعه بعدم إعمال أحكامه وحدوده بل زدنا على ذلك جهلا بقراءته وتجويده..فهل بعد هذا التضييع من تضييع؟؟!!