رأى صاحب أضواء البيان فى مصير والدى رسول الله صلى الله عليه وسلم
ومجلس في بيت سماحة الشيخ عبدا لله الزاحم
أخبرني العلامة الشيخ محمد عبدا لله بن محمد بن آدُّه الجكنى ثم من بني رمضان رحمه الله تعالى أن رئيس القضاء الشرعي بالمدينة المنورة ، سماحة الشيخ عبد الله الزاحم عليه رحمة الله أوصاه في الستينيات من التاريخ الهجري أن يعلمه بأيِّ قادم من علماء القطر الشنقيطى يقدم لهذه البلاد المقدسة وقال : إن جلالة الملك عبد العزيز عليه رحمة الله أوصاه بهذا كذلك ، فلما قدم الشيخ محمد الأمين في عام 1368 هـ قال : أخبرته أنه قدم في هذا الموسم علامة لا مثيل له .
فقال له الزاحم : أخبره أنكم مدعوون لتناول الطعام بمنزلنا فى وقت كذا .
قال : فأجاب الشيخ محمد الأمين الدعوة ، وفى ذلك المجلس سأل سماحته شيخنا قائلاً : ما تسمعون عنا ؟
فقال : منهم المثنى عليكم ومنهم القادح
قال الشيخ عبد الله الزاحم : حقيقة أمرنا أننا في الفروع الفقهية على مذهب الإمام أحمد ما لم يخالفه الدليل ، وفى العقائد ، نثبت لله تعالى من الصفات ما أثبته لنفسه في كتابه العزيز ، أو أثبته له نبيه صلى الله عليه وسلم في سنته الصحيحة إثباتا يليق بجلاله ، إثباتا على غرار (( ليس كمثله شئ وهو السميع البصير )) ولا نتعلق بمخلوق ، ولا نعتقد فيه إفادة بنفعٍ أو ضرّ .
وأخبرن أخي الشيخ محمد الأمين بن الحسين : أن الشيخ محمد عبد الله أخبره أن الشيخ محمد الأمين قال للزاحم : أما أنا فإني فمثلكم فيما ذكرتم من المعتقد . أو ما يؤدى هذا المعنى
قال وبعد مدة غير طويلة أُمِرَ الشيخ محمد الأمين عليه رحمة الله تعالى بإلقاء دروس في تفسير كتاب الله العزيز في المسجد النبوي الشريف على مؤسسه أفضل الصلاة وأزكى التسليم
وكانت حلقة الشيخ محمد الأمين في المسجد النبوي تكاد تكون الوحيدة به ؛ وذلك أن كثرة المدرسين بالمسجد إذا جلس الشيخ في حلقته التحقوا بها للإستفادة , وكان الشيخ قد ذكر في بعض هذه الدروس أن والدي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من أهل الفترة , وذكر ما يقوله أهل العلم في أهل الفترة.
وحدثني – عليه رحمة الله – أنه استدعاه سماحة الشيخ عبد الله الزاحم إلى منزله , فلما حضر رحب به وأوسع له في المجلس إلى جنبه ، وكان مجلسه ذلك الوقت ليس به إلا المنتسبون للعلم , وكان بين أيديهم كتاب فيه مرجع.
قال الشيخ محمد الأمين: فلما انتهى التسليم ناولني الشيخ عبد الله الزاحم الكتاب ، فإذا هو شرح النووي على صحيح مسلم والمرجع فيه عند حديث ” إن أبي وأباك في النار “.
فقلت: هذا الحديث كنت أعرفه!
قال سماحة الشيخ عبد الله الزاحم: إنك قبل أيام قلت في الدرس كذا ، لما قرر من أنهما أهل فترة.
قال شيخنا: قلت: نعم ، قلت ما قلت اعتماداً على نص من كتاب الله القطعي المتن وقطعي الدلالة ، وما كنت لأرد نصاً قطعي المتن قطعي الدلالة ، بنص ظني المتن وظني الدلالة عند الترجيح بينهما ، فهذا الحديث خبر آحاد ، ومثله حديث أبي هريرة-رضي الله عنه- عند مسلم: ” استأذنت ربي لأزور أمي فأذن لي ، واستأذنته أن أستغفر لها فلم يأذن لي ” ، ولكن أخبار الآحاد ظنية المتن ، فلا يرد بها نص قرآني قطعي المتن ، وهو قوله تعالى: ” وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً” [ الإسراء:15 ] ؛ أي: ولا مثيبين.
وهذا النص قطعي الدلالة لا يحتمل غير ما يدل عليه لفظه بالمطابقة ، بخلاف حديث: ” إن أبي وأباك في النار ” ؛ فإنه ظني الدلالة ؛ يحتمل أنه يعني بقوله: ” إن أبي ” عمه أبا طالب ؛ لأن العرب تسمي العم: أباً ، وجاء بذلك الاستعمال كتاب الله العزيز في موضعين:
أحدهما: قطعي المتن قطعي الدلالة ، وهو قوله تعالى في البقرة: ” قَالُواْ نَعْبُدُ إِلَـهَكَ وَإِلَـهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ ” [ البقرة:133 ] ، وإسماعيل عمه قطعاً ؛ فهو يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم.
والموضع الثاني: قطعي المتن لكنه ظني الدلالة ، وهو قوله تعالى: ” وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلاًّ هَدَيْنَا وَنُوحاً هَدَيْنَا مِن قَبْلُ” إلى أن قال: ” وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطاً ” [ الأنعام:84/86] ؛ فهو نص قرآني على أن إبراهيم يطلق عليه أبٌ للوط ، وهو عمه على ما وردت به الأخبار ، إلا أن هذا النص ظني الدلالة لأنه يحتمل أن يكون الضمير من قوله تعالى: ” وَمِن ذُرِّيَّتِهِ ” يرجع إلى نوح ، لأنه قال في الآية من قبل ذلك: ” وَنُوحاً هَدَيْنَا مِن قَبْلُ ” ، ولكنه احتمال مرجوح ؛ لأن الكلام عن إبراهيم.
وإذاً فإنه يحتمل أنه -صلى الله عليه وسلم- لما سأله الأعرابي بقوله: أين أبي ؟ وقال له: إن أباك في النار وولّى والحزن باد عليه ، فقال -صلى الله عليه وسلم- : ” ردوه علي ” فلما رجع قال له: ” إن أبي وأباك في النار ” .
يحتمل أنه يعني بأبيه: أبا طالب ؛ لأن العرب تسمي العم أبا لا سيما إذا انضمّ إلى العمومية التربية , والعطف والدفاع عنه.
ثم قال: والتحقيق في أبوي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنهما من أهل الفترة ؛ لأن تعريف أهل الفترة أنهم القوم الذين لم يدركوا النذارة قبلهم , ولم تدركهم الرسالة التي من بعدهم , فإذا كان ذلك كذلك , فإن والد النبي -صلى الله عليه وسلم- التحقيق أنه مات والنبي – بأبي وأمي هو – حمل في بطن أمه , وأمه -صلى الله عليه وسلم- ماتت وهو ابن ستة أعوام بلا خلاف ؛ وإذاً فإنهما من أهل الفترة.
فقال أحد الحضور: العرب كانوا على دين إسماعيل فعندهم نذارة أدركوها.
فقال له الشيخ الأمين: هل أنت على بصيرة مما تقول ؟
فقال نعم.
لتُنذِرَ}فقال له الشيخ محمد الأمين: أين أنت من قوله تعالى في سورة يس: قَوْماً مَّا أُنذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ ” الآية [ يس:6 ] وما هنا نافية على التحقيق بدليل الفاء في قوله: ” فَهُمْ غَافِلُونَ ” ؛ أي: لعلة عدم إنذارهم.
وأين أنت من قوله تعالى في سورة القصص: ” وَلَكِن رَّحْمَةً مِّن رَّبِّكَ لِتُنذِرَ قَوْماً مَّا أَتَاهُم مِّن نَّذِيرٍ مِّن قَبْلِكَ ” الآية [ القصص: 46 ].
وأين أنت من قوله تعالى في سورة سبأ: ” مَا آتَيْنَاهُم مِّن كُتُبٍ يَدْرُسُونَهَا وَمَا أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِن نَّذِيرٍ” الآية [سبأ:44].
وأين أنت من قوله تعالى في سورة السجدة: ” بََلْ هُوَ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ لِتُنذِرَ قَوْماً مَّا أَتَاهُم مِّن نَّذِيرٍ مِّن قَبْلِكَ ” الآية [ السجدة:3 ].
قال شيخنا: إن التحقيق في أهل الفترة , والبله , وأولاد المشركين الذين ماتوا صغاراً أنهم تشب لهم نار يوم القيامة في عرصات المحشر فيؤمرون باقتحامها , والله يعلم من خلقه منهم للجنة فيقتحمونها فتكون عليهم برداً ويذهب بهم ذات اليمين , ويعلم من خلقه منهم للنار فيمتنعون من دخولها فيذهب بهم ذات الشمال , ذكر ذلك ابن كثير في تفسير قوله تعالى: ” وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً ” الآية ( الإسراء:15)
وقال: إنه جاءت بذلك أحاديث منها الصحيح , ومنها الحسن , ومنها ما هو ضعيف يتقوى بالصحيح والحسن ؛ وإذا كانت أحاديث الباب متعاضدة على هذا النمط أفادت الحجة عند الناظر فيها.
فقال أحد الحضور: هذا تكليف والآخرة دار جزاء فهي يوم الدين.
فقال له شيخنا: هل أنت على بصيرة من قولك هذا ؟
قال : نعم.
قال الشيخ محمد الأمين: قال تعالى في سورة القلم: ” يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ ” الآية
[ القلم:42 ] , أي يوم هذا يا معشر الحضور ؟ وهل كان هذا تكليفاً في عرصات القيامة بنص كتاب الله ؟
وأيضاً , قد ثبت في الصحيح أن المؤمن يسجد لله يوم القيامة , وأن المنافق لا يستطيع السجود , وتكون ظهور المنافقين مثل صياصي البقر , أليس هذا بتكليف في عرصات القيامة ؟
قال أحد الحضور: أليس بالإمكان حمل الخاص على العام ؟ لأن الخاص يقضي على العام عند الجمهور ؛ فقوله تعالى: ” وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً ” الآية [ الإسراء:15 ]. دليل عام , والأحاديث الواردة في أشخاص معينين دليل خاص , فما أخرجه دليل خاص خرج من العموم , وما لم يخرجه بقي على عمومه داخلاً فيه .
قال شيخنا: إن هذا التخصيص لو قلنا به لأبطل ذلك حكمة العام ؛ لأن الله تعالى تمدح بكمال الإنصاف , وأنه لا يعذب أحداً حتى يقطع حجة المعذب بإنذار الرسل له في دار الدنيا , فلو عذب أحداً من غير إنذار لاختلّت تلك الحكمة التي تمدَّح الله بها , ولثبتت لذلك المعذب الحجة على الله التي أرسل الرسل لقطعها كما بينه تعالى في سورة النساء: ” رُّسُلاً مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ ” الآية [ النساء:165 ].
وهذه الحجة التي أرسل الرسل لقطعها بيّنها في آخر سورة طه بقوله تعالى: ” وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُم بِعَذَابٍ مِّن قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِن قَبْلِ أَن نَّذِلَّ وَنَخْزَى ” [ طه:134 ] ,
وقال تعالى في سورة القصص: ” وَلَوْلَا أَن تُصِيبَهُم مُّصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ” [ القصص:47 ].
فيتعين بكل هذه الحجج عذر أهل الفترة بفترتهم في الدنيا , وأنهم ممتحنون يوم القيامة , ولا يعلم من يقتحم منهم النار ممن يمتنع إلا الله الذي خلقهم , والعلم عند الله تعالى هو حسبنا ونعم الوكيل.
ثم أن الشيخ عبد الله الزاحم قد نصح بعض الحضور لهذه الجلسة قائلا : إن من نصيحتي لك أن لا تتكلم في مجلس فيه هذا الرجل الذي تسلح بآيات كتاب الله ، ينظر إليها كأنها بين عينيه ، فلا يؤمن على أحد عارضه أن يرميه بآية تخرجه من الملة ، نسال الله السلامة والعافية