شذرات من سيرة الشيخ محمد جميل الكسِّر (رحمه الله)
شذرات من سيرة الشيخ محمد جميل الكسِّر (رحمه الله)
بقلم ابنه:محمود محمد جميل الكسِّر
ـ اسمه ونسبه وكنيته: هو العالم ُ العاملُ، والفقيه الفاضل، والمقرئ الحافظ، واللغوي، والخطيب البارع، محمد بن جميل بن جاسم بن حسين (كسِّر) بن علي بن حمادة، ينتسب إلى عشيرة الحمدون التي تفرعت من قبيلة الجبور القحطانية .
وكان يكنى بأبي جميل ، وهو أكبر أولاده الذكور . والكسِّر هو لقب لجده (حسين).
ـ مولده ونشأته : ولد عام 1930م ، في البادية (الشامية) ، وعاش طفولته متنقلاً مع أسرته التي عاشت حياة الحل والترحال بحثاً عن المرعى في قضاء منبج ، فقد كان والده من كبار مُلاك المواشي آنذاك وبيته عامر بالجود والكرم ، ثم استقروا في منبج في حدود عام 1956م.
ـ أسرته وأولاده :نشأ رحمه الله في أسرة فاضلة لأبوين كريمين ، تزوج والده أمه ( أمينة) بعد وفاة زوجته الأولى التي أنجبت له من الأولاد (منصور، وذكرى ، وأمينة )، وله من الأخوة الأشقاء الذكور (حجي، وفواز) ومن الإناث ( فريدة، ومدينة، وفوزية) ، وهو أكبرهم .
وتزوج رحمه الله في سن متأخرة وعمره 35 سنة ؛ لانشغاله بالعلم وتحصيله ، من بيت فاضل في حلب زوجته (نجوى صديق ) التي تصغره في السن عشرون سنة ، ورزقه الله من البنين ستة ذكور (جميل ، وفواز ، ومحمد ، محمود ، وأحمد ، وإبراهيم ) ، وأربع بنات .
ـ دراسته وطلبه للعلم الشرعي : قرأ القرآن الكريم في طفولته وجوَّده عند الشيخ علي الصلاحي رحمه الله، ثم درس مفاتيح العلم الشرعي ؛ فتلقى علوم النحو والفقه الحنفي من الشيخ جمعة أبو زلام ، والشيخ محمود العلبي رحمهما الله ، ثم انتسب إلى معهد العلوم الشرعية بحلب للتحصيل العلمي الشرعي في عام 1949 م ، وكان يمتاز بنباهة وذكاء وفصاحة لسان ، فأكمل وأخذ الشهادة في عام 1956م، ثم انتقل إلى دمشق ؛ لمتابعة تحصيله العلمي ؛ فدرس سنة واحدة في جمعية الغرَّاء بدمشق وحصل على شهادة من معهد العلوم الشرعية التابع للجمعية في سنة 1377هـ / 1957م ، ثم انتسب إلى كلية الشريعة بجامعة دمشق لمدة أربع سنوات حتى عام 1962م ، وحصل على شهادة الإجازة في الشريعة ، وفي عام 1411هـ ، 1990 م ، رغَّبة محبيه بمتابعة الدراسات العليا وسجلوا له في كلية الإمام الأوزاعي ، ولكن لم يقدر الله له متابعة ذلك لظروف خاصة .
ـ شيوخه وتلامذته : يُعدُّ الشيخ جمعة أبو زلام رحمه الله هو أول من وجهه إلى طريق طلب العلم وحببه إليه ودلَّه عليه ، فكان له الفضل في تشجعيه للعلم الشرعي. وكان من مشايخه الذين درس عندهم علوم الشريعة والنحو والبلاغة: الشيخ محمد الملاح ، و الشيخ عبد الله سراج الدين ، والشيخ عبد الفتاح أبو غدة ، والشيخ عبد الرحمن زين العابدين ، والشيخ محمد أبو الخير زين العابدين ، والشيخ بكري رجب، والشيخ أحمد القلاش، والدكتور محمد معروف الدواليبي، والعلامة الشيخ مصطفى الزرقا رحمهم الله تعالى .
أما تلامذته : فعددهم كثير ؛ إذ أن كل من درسهم طوال حياته في حلب ومنبج فهم تلاميذه ويذكرونه بالخير دائماً ، ومنهم الدكتور الشيخ محمود عكام (مفتي الشافعية بحلب) ، وغيره من العلماء الأفاضل والخطباء في منبج أمثال الشيخ بكري المشهود ، والشيخ محمد الصغير ، والشيخ كمال عارودة ، والدكتور حسن خطاف ، والدكتور إبراهيم الديبو ، والدكتور أحمد إدريس الطعان ، والدكتور بكار الحاج جاسم … إلخ .
ـ الأعمال التي زاولها: في بداية مشواره العملي عمل مدرساً في المدرسة الكلتاوية بحلب ثم مدرساً للغة العربية لمدة خمس سنوات في المدرسة الشرعية مدينة (عفرين) عام 1964م ، ثم عمل خطيباً في الجامع الكبير في منبج لمدة ثلاث سنوات، وذلك بعد وفاة الشيخ سعيد الغانم رحمه الله عام 1960 م، ثم عمل مدرساً وموجهاً في الثانوية الشرعية بحلب في عامي (1973م ـ 1974م).وفي عام 1974م عمل في مديرية الأوقاف بحلب ، وعين مفتشاً للشؤون الدينية فيها من عام 1981م إلى عام 1982م ، ثم انتقل إلى التدريس الديني في محافظة حلب حتى عام 1983م .
و في الثمانينات من القرن الماضي عمل خطيباً لمدة أربع سنوات في جامع الصدِّيق بحلب ، وسنتان في جامع الحموي بحلب ، وثلاث سنوات بجامع طارق بن زياد بحلب .
وفي تاريخ 5/6/ 1983م عين مفتياً لمنطقة جرابلس (الواقعة على الحدود التركية ) بقرار صادر من وزير الأوقاف آنذاك الدكتور محمد محمد الخطيب رحمه الله ، وبتصديق من المفتي العام آنذاك الشيخ أحمد كفتارو رحمه الله ؛ فاستقر مع أسرته في منبج موطنه الأصل منذ ذلك الزمن ، وبالإضافة إلى عمله مفتياً ؛ فقد كانت له دروس في الفقه الحنفي وعلوم القرآن الكريم بمعهد الأرقم بن أبي الأرقم الشرعي بمنبج لمدة سنتين ، ثم درَّس مادة التربية الإسلامية في ثانوية منبج للبنين مابين عامي (1983ـ 1991م ) ، وفي عام 1985م طلب منه الشيخ جمعة أبو زلام رحمه الله أن يكون إماماً لصلاة التراويح في المسجد الكبير بمنبج وصاحب ذلك دروس يومية بعد صلاة العصر بالإضافة إلى الخطابة في الجامع الكبير بمدينة جرابلس من عام 1985م إلى عام 1999م.
ــ صفاته وشخصيته ، وجهوده العلمية : وكان رحمه الله خطيباً بارعاً شجاعاً ، فصيح اللسان ، صادق الكلمة ، يعبر بصدق عما يجيش في وجدانه من مشاعر الخوف من الله والتعظيم له ، أحبه الناس ودخل قلوبهم بتواضعه ومحبته لهم ، وحسن أخلاقه وإخلاصه لدين الله عزوجل.
يقول عنه الشيخ عبدالباسط محمد أديب حسون : « كان رحمه الله صاحب أخلاق حسنة وابتسامة دائمة ، ما عرفت عنه إلا كل خير وفضل واستقامة، درس معنا في معهد العلوم الشرعية بحلب سبع سنوات ، وقد اهتم رحمه الله بالفقه الحنفي وتضلع فيه .. وله ذاكرة قوية في الحفظ وخاصة الشعر في المناسبات ..»
وللشيخ رحمه الله أثر طيب في نشر العلم وتوضيح الأحكام الشرعية لأبناء مدينة منبج و جرابلس ، ولم تكن له مؤلفات تذكر وإنما اختار منهج الدعوة إلى الله علماً وعملاً خالصاً لوجهه تعالى .
و يُعدُّ رحمه الله رائداً في تحصيل العلوم وجمعها وتدقيقها، ومجمعاً علمياً فقهياً خاصة تبحره في الفقه الحنفي ، فقد كان متأئراً بأستاذه الشيخ عبد الرحمن زين العابدين رحمه الله ، وهو صاحب الصدر السليم والسريرة الصافية ، وقد عرف بتواضعه وعفوه وسامحته للناس، وبمحبته وخدمته لهم، وتعاونه مع العلماء العاملين في حقل الدعوة الإسلامية، وهو يتقن اللغة التركية تحدثاً وكتابة
ومن وصيته لطلاب العلم الشرعي: إخلاص العمل وتقوى الله امتثالاً لقوله تعالى: «واتقوا الله ويعلمكم الله»
والتصوف الحقيقي الصافي عنده؛ هو تطبيق شرع الله وأحكامه على منهج كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
وكان رحمه الله يفتي في مسألة الطلاق الثلاث بمجلس واحد ، بطلقة واحدة ؛ وذلك أخذاً برأي شيخ الإسلام ابن تيمية من الحنابلة ، وتيسيراً على الناس .
ومن الوفاء والبر له رحمه الله أن أقول فيه ما أعرفه بكل صدق وإنصاف ولو عددت مناقبه الحميدة وخصاله المجيدة لطال الكلام ولكن حسبي في ذلك مسيرته العلمية المباركة.
كان رحمه الله يتجاوز عن زلات الجاهلين .. مشيته مشية السكينة والوقار .. أما حاله في بيته ؛ فكان يقوم بأكثر حاجاته بنفسه ، وتجده في أكثر أوقاته قارئاً ، وقد اتخذ من الاعتدال مذهباً ، ومن الوسطية منهجاً ، واستغنى عن الناس في دنياهم فاحتاجه الناس في دينهم ، وكان بسيط الكف، رَحب الصدر، سهل الخلق، كريم الطباع ، ضحوك السن ، بشير الوجه ، يستقبل ضيوفه بطلاقة ويودعهم بكرم، وإن سُئِلَ بذل، وإن قال فعل، وإن حكم بين متخاصمين عدل .. وكم كان يردد تلك الأبيات للإمام الشافعي رحمه الله :
همتي همةُ الملوك ونفسي نفسُ حرٍ ترى المذلة كفرا
وإذا ما قنعت بالقوت عمري فلماذا أزور زيداً وعمرا
والورع رحمه الله من صفاته ؛ فقد كان شديد الورع في علاقاته ومعاملاته، كثير الانتباه إلى لسانه ؛ فلا يحركه بغيبة أحد ، وربما كان صمته أكثر من كلامه ، ولكنه إذا سُئل أجاب ، وإذا رأى منكراً عالجه بكل نصح وحكمة ولطف .. وإن دخل مسجداً فيه إماماً صلى مؤتماً مع عامة الناس ، وإن وجد خطيباً في المسجد جالس ينصت إليه .
ــ أقرانه وأصدقائه : إن من أعز أصدقائه وأحبهم إلى قلبه ، والتي لم تنقطع الزيارات بينهم إلى وقت وفاته هو الشيخ الفاضل عبد الباسط محمد أديب حسون حفظه الله ، والشيخ عبد الرحمن حمادة رحمه الله ، والشيخ سعيد رحمو رحمه الله ، والشيخ عبد الرحمن نعناع رحمه الله .
ويقول عنه صاحبه وصديقه الودود المخلص الشيخ عبد الباسط محمد أديب حسون ـ حفظه الله ـ : « عشت معه خمسون سنة زميلاً وصديقاً وحبيباً وأخاً مخلصاً منذ السنة الأولى بالدراسة عندما كنا في المدرسة الشرعية بحلب ، وحتى آخر سنة دراسية في تلك المدرسة الطيبة المباركة ، وبعد أن انتهت الدراسة قويت بيننا عُرا المحبة وازدادت الصداقة فلا نترك بعضنا بعضاً ذاهبون آيبون وأخوتنا وأحبابنا يعرفون ذلك .. نعم الأخ الصالح ، وكم كانت مجالسنا في دراسة العلم ومتطلباته ، إذ لا نجلس مجلساً إلا وبحثنا والحمد لله عدة أحكام وبذلك نخرج من المجلس من علم وفهم وحكمة بسرور وما إلى ذلك .. » .
ــ وفاته : توفي رحمه الله في منزله بمنبج بعد معاناة مع المرض لمدة سنتين ، وصلى عليه الشيخ الدكتور أحمد عيسى محمد(مفتي منبج) ، ودفن في مقبرة الشيخ عقيل المنبجي بمنبج ، وشيَّعتْهُ مدينة منبج وجرابلس بحزن وألم كبير ، شارك فيه الكثير من أبناء المدينتين ، وشهد جنازته وتعزيته جمع كثير من العلماء ، ووجهاء المدينة .
رحمه الله تعالى وأسكنه فسيح جناته ، وجزاه الله عنا وعن المسلمين خير الجزاء.
قَصِيْدَةٌ فِي رِثَاءِ شَيْخِنَا الرَّاحِلِ مُحَمَّد جَمِيْل الْكسّر رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى
نظم : الشيخ إبراهيم المحمد
مَضَى ابْنُ جَمِيْلٍ طَاهِرَ الرُّدْنِ فِي تُقًى
فَأعْقَبَ ثَلْمًا لا تُسَدُّ جَوَانِبُهْ
سَأبْكِيْكَ لِلآدابِ والْعِلْمِ مِنْ فَتًى
تُزَاحِمُ هَامَاتِ النُّجُومِ مَنَاكِبُهْ
سَقَى اللهُ قَبْراً فِي نَوَاحِيَ مَنْبِجِ
بِوَابِلِ غَيْثٍ لا تَزُولُ سَحَائِبُهْ
حَوَى عَلَماً فَذّاً وَفَارِسَ مِنْبَرٍ
وَشَيْخًا جَلِيْلاً لا تُعَدُّ مَنَاقِبُهْ
جَرَابُلْسُ تَبْكِيْ شَيْخَهَا وَخَطِيْبَهَا
شَجَاهَا زَمَانٌ لا تُرَدُّ نَوَائِبُهْ
أَصَابَتْ سِهَامُ الدَّهْرِ مِنْهَا مَقَاتِلا
وَجَلَّتْ بِفَقْدِ الشَّيْخِ_ فِيْهَا مَصَائِبُهْ
بَكَتْهُ جَوىً أَعْوادُ مِنْبَرِهَا مَجَالِسُ
الْعِلْمِ فِيْهَا بَعْدَ ثُكْلٍ نَوَادِبُهْ
تُصيخُ لَهُ اْلأَسْمَاعُ شوقًا إذا شَدَا
بِآيَاتِ وَحْيٍ لا تُقَضَّى عَجَائِبُهْ
بِصَوْتٍ شَجِيٍّ يَتْلُوَ اْلآيَ خَاشِعًا
وَمِحْرَابُهُ يُصْغِيْ لَهُ وَيُجَاوِبُهْ
يَزِيْنُ قَصِيْدُ الشِّعْرِ عَذْبَ حَدِيْثِهِ
سَمَتْ فِي مَيَادِيْنِ الْبَيَانِ مَرَاتِبُهْ
فَقِيْهٌ إذَا اسْتُفْتِيْ يُجِيْبُ بِحِكْمِةٍ
فكُلُّ سُؤالٍ عِنْدَهُ مَا يُنَاسِبُهْ
خَطِيْبٌ عَلَى هَامِ الْمنَابِرِ مِصْقَعٌ
كَلَامُهُ فَاقَ الدُّرَّ نَظْمًا أَطَايِبُهْ
فَلِلَّهِ وَجْهٌ كَالرِّيَاضِ بَشَاشَة
بَسِيْمٌ تَجِدْ فِيْهِ الَّذِيْ أنْتَ طَالِبُهْ
نَزَلْتَ جِوَارَ الْحَقِّ أَكْرِمْ بِمَنْ سَرَتْ
إِلَى سَاحِ مَوْلَاهُ الْكَرِيمِ رَكَائِبُهْ
عَلَيْكَ سَلامٌ مِنْ مُحِبٍّ وَعَبْرَةٌ
يُحَاوِلُ طَرْفِيْ دَفْعَهَا وَتُغَالِبُهْ