الصفحة الرئيسية » مقالات » من وحى الألم / المقامة الكروية

من وحى الألم / المقامة الكروية

من وحي الألم
“المَقامة الكروية”

بقلم الأستاذ أحمد إبراهيم المحمد
brhom _ 20006 @ hotmail.com

قبل أن أبدأ مقالتي اليوم سأقف عند تعقيب وردني على بريدي من الدكتور محمد حسان الطيان يثني من خلاله على مقالاتي السابقة “وحي الألم”، وأنشره بين أيديكم كما وصلني من سعادته:
الأخ الحبيب أبو إبراهيم سلام الله عليك وبعد:
فقد أحسنت وربي كل الإحسان، ولولا ما أرجوه لك من سرعة الشفاء وتمامه، لقلت جزى الله المحنة كل خير فقد أخرجت لنا أدبًا مصفى وبيانًا عذبًا يطرب الأذن ويشفي الروح، وعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خيرٌ لكم وعسى أن تحبوا شيئاً وهو شرٌ لكم” :

كم فرحةٍ مطويةٍ لك تحت أثنـاء النوائـب
ومساءةٍ قد أقبلت من حيث تنتظر المواهب

ولله أنت إذ حولت المحنة منحة، وصيرت الألم لحنًا، ولقد كنتَ في غاية التوفيق حين تخيرتَ العنوان” من وحي الألم ” سدد الله خطاك، ونفع بك وبعلمك وقلمك، وأسبغ عليك شفاءً من عنده، نقرأ فيه لك وحي الكلم، دمت بخير، ودام يراعك السامي، وعلا صوتك المجلجل.
أخوك المحب: د. حسان الطيان.

الرد على هذا التعقيب:
ما كنت أظن _ أيها القراء _ أن تلقى مقالاتي المتواضعة كل هذا الترحيب والإطراء من أستاذ كبير، وعلَمٍ من أعلام اللغة والأدب، تأرَّج من نفحات علاّمة العربية أحمد راتب النفاخ([1])، والتقط من نِثار فرائد الشيخ محمد صالح الفرفور([2])، وتربى قبل ذلك في حِجْر والده الأزهري الشيخ حسني الطيان([3])،

ولما علمت أنّ مقالاتي يقرؤها من هو مثله شعرتُ بالتبعة الثقيلة، فانقطعت عن الكتابة منذ أن نشرت مقالات وحي الألم التي تحدثت فيها عن مَرض ألمّ بي، ولم أنشر أي مقال بعدها، وربما ظن بعض القراء أنني متُّ، ولكنني _ والحمد لله _ حَيٌّ أُرزق، وها أنا ذا أَجمعُ ما تبعثر من شجاعتي؛ لأكتب لكم:

“المَقامة الكروية”

وفي بداية مقالتي هذه، سأقوم ببيان معنى المَقامة لمن لا يعرفها، فهي عبارة عن قصة قصيرة مسجوعة تشتمل على عِظة أو مُلحة، كان الأدباء يظهرون فيها براعتهم([4])، ألا تذكرون معي _ أيها القراء _ مقامات بديع الزمان الهَمَذَاني([5])، والمقامات الحريرية([6])،

ألا تذكرون منها _ أي: المقامات الحريرية _: المقامة البغداذية([7]) عندما التقى فيها بالرجل الغافل، فقال: ظَفِرْنَا وَاللهِ بِصَيْدٍ، وَحَيَّاكَ اللهُ أَبَا زَيْدٍ، مِنْ أَيْنَ أَقْبَلْتَ؟ وَأَيْنَ نَزَلْتَ؟ وَمَتَى وَافَيْتَ؟ وَهَلُمَّ إِلَى البَيْتِ.
فَقَالَ الرجل: لَسْتُ بِأَبِي زَيْدٍ، وَلَكِنِّي أَبْو عُبَيْدٍ، فَقال: نَعَمْ، لَعَنَ اللهُ الشَّيطَانَ، وَأَبْعَدَ النِّسْيانَ، أَنْسَانِيكَ طُولُ العَهْدِ، وَاتْصَالُ البُعْدِ، فَكَيْفَ حَالُ أَبِيكَ؟ أَشَابٌ كَعَهْدي، أَمْ شَابَ بَعْدِي؟ فَقَالَ: َقدْ نَبَتَ الرَّبِيعُ عَلَى دِمْنَتِهِ([8])، وَأَرْجُو أَنْ يُصَيِّرَهُ اللهُ إِلَى جَنَّتِهِ،

ثم قال له: هَلُمَّ إِلى البَيْتِ نُصِبْ غَدَاءً، أَوْ إِلَى السُّوقِ نَشْتَرِ شِواءً، وَالسُّوقُ أَقْرَبُ، وَطَعَامُهُ أَطْيَبُ، ثم قال لِصَاحِبِ الحَلْوَى: زِنْ لأَبي زَيْدٍ مِنَ اللُّوزِينج([9]) رِطْلَيْنِ فَهْوَ أَجْرَى فِي الحُلْوقِ، وَأَمْضَى فِي العُرُوقِ، قَالَ: فَوَزَنَهُ ثُمَّ قَعَدَ وَقَعدْتُ، وَجَرَّدَ وَجَرَّدْتُ، حَتىَّ اسْتَوْفَيْنَاهُ، ثُمَّ قُلْتُ: يَا أَبَا زَيْدٍ مَا أَحْوَجَنَا إِلَى مَاءٍ يُشَعْشِعُ([10]) بِالثَّلْجِ، لِيَقْمَعَ هَذِهِ الصَّارَّةَ([11])، وَيَفْثأَ([12]) هذِهِ اللُّقَمَ الحَارَّةَ، اجْلِسْ يَا أَبَا َزيْدٍ حَتَّى نأْتِيكَ بِسَقَّاءٍ، يَأْتِيكَ بِشَرْبةِ ماءٍ،

ثُمَّ خَرَجْتُ وَجَلَسْتُ بِحَيْثُ أَرَاهُ ولاَ يَرَانِي أَنْظُرُ مَا يَصْنَعُ، فَلَمَّا أَبْطَأتُ عَلَيْهِ قَامَ إِلَى حِمَارِهِ، فَاعْتَلَقَ الشَّوَّاءُ بِإِزَارِهِ، وَقَالَ: أَيْنَ ثَمَنُ ما أَكَلْتَ؟ فَقَالَ: أَبُو زَيْدٍ: أَكَلْتُهُ ضَيْفَاً، فَلَكَمَهُ لَكْمَةً، وَثَنَّى عَلَيْهِ بِلَطْمَةٍ، ثُمَّ قَالَ الشَّوَّاءُ: هَاكَ، وَمَتَى دَعَوْنَاكَ؟ زِنْ…عِشْرِينَ([13])، فَجَعَلَ الرجل يَبْكِي وَيَحُلُّ عُقَدَهُ بِأَسْنَانِهِ([14]) وَيَقُولُ: كَمْ قُلْتُ لِذَاكَ القُرَيْدِ، أَنَا أَبُو عُبَيْدٍ، وَهْوَ يَقُولُ: أَنْتَ أَبُو زَيْد.ٍ

انتهت هذه المقامة من مقامات الحريري بتصرف يسير من قِبَلي، ونحن نستمتع بهذا البيان الساحر ربما غفلنا عن الذي بين السطور، فانظروا _ أيها القراء الكرام _ كيف أنستنا العباراتُ الجميلةُ الأخّاذةُ فعلتَه الشنعاءَ، واستغلالَه طيب الرجل القادم من سواد العراق إلى بغداد.
ونحن نريد أن ننسِجَ على منوال تلك المقامات مقامةً تفيد قراءنا، وتوجِّه شبابنا، وهذه المقامة سميتها المقامة الكروية، فالكرة أضحت في عصرنا مالئة الدنيا وشاغلة الناس، أخبارها في كل مكان، ونجومها يباعون بأغلى الأثمان، بطولاتها([15]) لا تنتهي،

فاختر منها ما تحب وتشتهي، فهناك بطولة الكأس الأصغر، ثم بطولة الكأس الأكبر([16])، والمتنافسون كثر، فهذا فريق الحُمْر، وذاك نادي الصُّفْر، وتلك جماعة الخُضْر، ولكل فريق مشجعوه ومتابعوه، ولكل لاعب أتباعه ومناصروه، لأنه نادرة الزمان، وثروة الأوطان، فبِرَكْلته نِلْنا الكاس، وارتفع هاماتنا بين الناس، وبإتقان نقل الكرة بين الأقدام، يكون لنا الصدر بين الأنام،

وأما علوم العلماء وفنون الأدباء، فهي هَباءْ وستذهب جُفاءْ، فلا تجلب لنا مزية، ولا تحقق لنا “ميدالية”، ونحن بعد كل هذا الجنون، والجنون فنون، لا مكان لنا بارز بين اللاعبين، ولا موضع لنا بين الناجحين، ونسينا قول قائلنا: لنا الصدر دون العالمين أو القبر([17])،
وماذا نجني من تسجيل الأهداف دون بلوغ الأهداف([18])، وماذا يفيدنا فوز الألمان على الإسبان، أو خسارة الإنكليز أمام الطليان، وهل يعلو قدرنا بين العالمين، ونحرر فلسطين؟ إذا صار عندنا أمهر اللاعبين، لا لأَديب واحد أو عالمْ، خير لنا من ألف لاعب مدافع أو مهاجمْ، والأمم التي وصلت إلى القمر بعد جد وتعب، يحق لها أن تأخذ فاصلاً من اللعب، وأما من غط في النوم سنين، وسار في ركب المتأخرين، فعليه أن يضاعف الجُهْد، ويطيل السُّهْد([19])، ويدع اللعب، حتى يحقق الأرَب([20])، فهل وعيتم الدرس يا أحبابنا وأنتم كذلك يا شبابنا؟.
عند هذا الحد انتهت المقامة الكروية، ولا ينبغي عليكم أن تقارنوا بين المقامة البغداذية للحريري، والمقامة الكروية تلك، فالأولى كتبت في العصر العباسي، والثانية كتبت في عصر المآسي، والأولى موضوعها الطرافة والترفيه، والثانية محورها التوجيه والتنبيه، والفرق بينهما واسع والبون شاسع، وما أصعب على الإنسان أن تنصحه وتوجهه، وما أيسر عليه أن تسليه وتمازحه، وفي النهاية هي محاولة لمحاكاة الأكابر، والتشبه بأهل المآثر، كما قال الشاعر([21]):

فتشبهوا إن لم تكونوا مثلهم إن التشبه بالكرام فلاح.

——————————————————————————–

([1]) المتوفى سنة (1412هـ / 1992م).

([2]) المتوفى سنة (1407هـ / 1986م).

([3]) توفي _ رحمه الله تعالى _ في حدود سنة 2000م.

([4]) انظر: الزيات: أحمد حسن وآخرين _ المعجم الوسيط _ مادة: قوم.

([5]) أحمد بن الحسين بن يحيى الهمذاني، أبو الفضل، أحد أئمة الكتاب، وصاحبُ المقامات الشهيرة، المتوفى سنة (398هـ). انظر: الزركلي _الأعلام (ج 1 / ص 115).

([6]) وهي للقاسم بن علي بن محمد بن عثمان، أبو محمد، الحريري، البصري: الأديب الكبير، وله شعر حسن، توفي سنة (516 هـ). انظر: الزركلي _الأعلام (ج 5 / ص 177).

([7]) بغداذ: لغة ضعيفة من سبعة لغات في بغداد واستخدمها الحريري هكذا لتوافق السجع في المقامة. انظر: الزبيدي: محمد بن محمد _ تاج العروس من جواهر القاموس _ مادة: بغدذ.

([8]) قبره، ويريد هنا أن والده قد مات من زمن بعيد.

([9]) نوع من الحلوى شبه القطائف يؤدم بدهن اللوز. انظر: الزيات: أحمد حسن وآخرين _ المعجم الوسيط _ مادة: لوزينج.

([10]) يخلط ويمزج. ابن الأثير _ النهاية في غريب الحديث _ مادة: شعشع.

([11]) العطش. الزَّبيدي: محمد بن محمد _ تاج العروس من جواهر القاموس _ مادة: صرر.

([12]) يكسر حدة الحرارة. ابن الأثير _ النهاية في غريب الحديث _ مادة: فثأ.

([13]) العشرون هنا ثمن الطعام والحلوى من النقود.

([14]) أي: يحل كيس النقود بأسنانه.
([15]) هكذا يسميها أصحابها، وهي من باب تسمية الشيء بغير اسمه.([16]) هذه الكأس التي أسكرت أصحابها دون شراب.

([17]) جزء من بيت لأبي فراس الحمداني أولُهُ: ونحن أناس لا توسط عندنا

([18]) الأهداف الأولى يقصد بها “الجول” في لعبة الكرة، والأهداف الثانية يراد بها الغايات السامية.
([19]) قلة النوم.
([20]) الحاجة.
([21]) ينسب هذا البيت للشهاب السهروردي يحيى بن حبش المتوفى سنة (587 هـ).