الصفحة الرئيسية » مقالات » هداية السالك إلى بعض أسرار المناسك

هداية السالك إلى بعض أسرار المناسك

هداية السالك إلى بعض أسرار المناسك

الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، وصلى الله وسلم على عبده ورسوله محمد النبي الأمي، وعلى آله وصحبه، ومن والاه، وبعد:

فيا أخي الحاج:
إن أسرار الحج لا تعد ولا تحصى، ووقوفك عليها يرغبك في أداء المناسك على الوجه الأكمل، ويعينك على تحمل المشاق بكل صبر ورضي، ويحقق فيك ثمار الحج بعدما جعلتَ من نفسك أرضًا طيبة لبذرته، وبذلك يكون حجك مبرورًا، وسعيك مشكورًا بإذن الله تعالى.

والآن إليك _أخي الحاج_ بعضًا من تلك الأسرار:

أولاً _ خروجك من بيتك للحج يذكرك بالخروج الأكبر والسفر الأقصى من الدنيا إلى الآخرة، وأما تنقلك في أداء المناسك من موطن إلى آخر فينبهك إلى تقلبك بين عقبات أرض المحشر، وقناطر المحاسبة.

ثانيًا _ الإحرام: وهذه بعض حِكَمه وأسراره:

أ _ الإحرام يعني نيتك الدخول في مناسك الحج أو العمرة، أو بهما معًا، وهذه النية ينبغي أن تحملك على حصر ذهنك، وحضور قلبك، واستجماع نفسك حتى تؤدي حجك بخشوع لا يعتريه شرود، وإخلاصٍ لا يزاوله شك، وهذا أشبه ما يكون بحال المصلي الخاشع في صلاته.

ب _ الإحرام يزهدك في الدنيا، ويرغبك في الآخرة؛ فاغتسالك للإحرام يذكرك بغُسل الموت، والتفافك بثوبي الإحرام يذكرك بالكفن.

ج _ الإحرام بمنعه إياك من بعض المباحات _كالتطيب، وقص الشعر أو حلقه، وإتيان الزوجة_ يدربك على التعايش مع الظروف الصعبة بلا قلق ولا ضجر؛ كما يعينك على اجتناب المحرمات؛ لأن من صبر على ترك المباح كان على ترك الحرام أصبر.

د _ الإحرام يقوي فيك المكابح ضد نزوات النفس، وسقطات اللسان، وأذى الجوارح؛ فالمُحرِم منهي عن الرفَث _حتى مع الزوجة_ وعن الجدال بالباطل، وعن الفسوق أيضًا؛ إذ عليه أن يضبط انفعالاته؛ لئلا يؤذي أحدًا من إخوانه، وإذا كان المحرم منهيًّا عن أذى نبات الحرم، وحيوان البر، فكيف يصلح له أن يؤذي أخاه المسلم؟! وفي ذلك كله يقول الله جل جلاله: (الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ)(البقرة:197.)

هـ _ الإحرام يفرض على الأغنياء مدة إحرامهم لونًا من حياة الفقر والتقشف؛ حتى لا ينسوا من فضلهم أولئك الذين لا يتجاوز لباسهم في أحسن الأحوال لباس المُحرِمين، ولا يعرف التطيب أو التنعم إلى أجسادهم سبيلاً.

ثالثًا _ الطواف: ومن أسراره:

أ _ الطواف _أخي الحاج_ رمز للرجوع إلى الله _جل جلاله_ في الدنيا قبل الآخرة؛ فالطائف بطوافه حول البيت سبعة أشواط يشعر وكأنه يشارك الملائكة الأبرار طوافهم حول البيت المعمور، فتزكو بذلك نفسه، ويطمئن قلبه، ويوقن بأن الرب سبحانه سيرضى عنه كما رضي عن ملائكته، وسيعود _بإذن الله تعالى_ بذنب مغفور، وسعي مشكور، كيف لا، والرب _بكرمه وغناه_ حاشاه أن يرد سائلاً يطوف ببيته مرات متتاليات!.

ب _ الطواف بالكعبة فيه نصرة لمبدأ التوحيد الذي أرسى قواعده نبي الله إبراهيم عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة وأتم التسليم.

رابعًا _ تقبيل الحجر الأسود، أو استلامه، أو الإشارة إليه: ومن أسراره:

أ _ أنه بمثابة مبايعة الله _عز وجل_ على مواصلة الإيمان بالله ورسوله، والعمل بمقتضاه، والحجر الأسود يشهد لهذه البيعة، فهو حجة لكل من كان صادقًا في بيعته، وحجة دامغة على من لم يَصدق، أو يُخلص في بيعته؛ فقد صح عن النبي _صلى الله عليه وسلم_ أنه قال: “لَيَأْتِيَنَّ هَذَا الْحَجَرُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَلَهُ عَيْنَانِ يُبْصِرُ بِهِمَا، وَلِسَانٌ يَنْطِقُ بِهِ؛ يَشْهَدُ عَلَى مَنْ يَسْتَلِمُهُ بِحَقٍّ”.

خامسًا _ الصلاة في مقام نبي الله إبراهيم عليه الصلاة والسلام: ومن أسرارها:

إحياء لذكراه الطيب، وإكرام لجنابه الطاهر، وهذا الإكرام برفع الذكر والثناء العطر سينال _بإذن الله تعالى_ كلَّ من سينهض بدعوة التوحيد الخالص، ويُسهم في بناء صرحها.

سادسًا _ الشرب من ماء زمزم: ومن أسراره:

أنه يذكرك _أخي الحاج_ بأن الله سبحانه قد جعل لكل ضيق فرجًا ومخرجًا، كما ينبع الماء العذب من بطن الصخر الصَّلْد؛ فهذا نبي الله إسماعيل _عليه السلام_ يتلوى عطشًا؛ فتهرول أمه هاجر بين الصفا والمروة في ابتغاء الماء، ثم يأتي الفرج بعد شدة الكرب، فيتدفق ماء زمزم المبارك بلا انقطاع إن شاء الله تعالى.

سابعًا _ الوقوف بعرفة: ومما يتجلى من آثاره:

أ _ شعور الحجاج بأن جمعهم هذا هو أفضل ما يباهي به الله سبحانه ملائكته؛ فليحرص الحاج _بعد تلك المباهاة المباركة_ على ألا يفتقده ربه في مواضع أمره، وعلى ألا يراه في مواطن نهيه وسخطه.
ب _ شعور الحجاج بأنهم في تظاهرة عظمى دعاهم إليها ربهم لإعلان ولائهم لله ورسوله، فلبوا وأجابوا.

ج _ شعور الحجاج بأخوَّة الإسلام على الرغم من تباعد أوطانهم، وتعدد أجناسهم، فهم اليوم قد اجتمعوا على صعيد واحد، وهم يعبدون إلهًا واحدًا لا شريك له، ويهتفون باسمه هتافًا واحدًا قائلين: لبيكَ اللهمَّ لبيكَ، لبيكَ لا شريكَ لكَ لبيكَ…

د _ دعوة الحجاج إلى التعارف فيما بينهم، والنهوضِ معًا لحل أزماتهم، وتبادل خبراتهم.

ثامنًا _ رمي الجمرات: ومن أسراره:

أ _ الوقوف مع جند الله تعالى في نصرة الحق والثبات عليه؛ فالشيطان كان له مع أهل الحق والإيمان جولة في هذا الموطن؛ لكنه كان هو المدحور في نهاية الأمر، وذلك حينما فشل _عليه اللعنة_ في صرف إسماعيل عن طاعة أبيه إبراهيم _عليه السلام_ فيما عزم عليه من ذبحه استجابةً لأمر الله تبارك وتعالى.

ب _ تصور _أخي الحاج_ وأنت ترمي الجمرات بأنك قد أعلنت بكل وضوح وإصرار حربًا لا هوادة فيها على الشيطان ومن والاه، وكنت أنت البادئ فيها، وهذا ما يدعوك إلى التأهب من كَرَّة الشيطان، ليفسد عليك حجك، ويبطل ثوابك، ولعل الواقع يشهد لما أقول؛ فكم من حاج سخر منه الشيطان حينما نفخ فيه من ريح الغرور ما نفخ، واستقبله أهله على أصوات المعازف والمزامير!.

تاسعًا _ الذَّبح: ومن أسراره:

أ _ يبتهج الحاج وهو يذبح هديه بذكرى فداء إسماعيل _عليه السلام_ بالذِّبح العظيم من لدن رب العالمين جل في علاه.
ب _ يأمُل الحاج أن تكون ذبيحته فداءً له من كُرَب الدنيا والآخرة.

عاشرًا _ الحلق والتقصير: ومن أسراره:

أنه يذكِّرك _أخي الحاج_ بأن استجابتك لأمر الله _عز وجل_ ينبغي أن تكون كاملة في كل ما يحب ويكره؛ فالرب سبحانه يكلف الحاج بخشونة العيش فترة الإحرام فيلبي، ويستجيب بكامل الرضا، ثم يكلفه يوم النحر باستئناف الحياة من باب النعومة والرخاء فيستجيب أيضًا، ويجعل من أيام مِنى أيام ذكرٍ لله، وثناءٍ عليه جل جلاله، كما أرادها ربنا عز وجل، حيث يقول في كتابه العزيز: (وَاذْكُرُوا اللهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ)(البقرة:203.).

حادي عشر _ السعي:

ويذكِّرك بكِفَّتَيْ ميزان الحساب، فالصفا كِفَّة، والمروة كِفَّة، وأنت تتردد بين الكِفَّتين متلهفًا، لا تدري ما حسابك! فتبتهل في سعيك ضارعًا إلى مولاك أن يثقِّل ميزانك؛ كي تفوز برضوانه وجنانه.
أخي الحاج:
كانت تلك بعض أسرار الحج وحِكَمه التي يحسن بك تصورها، وأنت تؤدي المناسك، وإن كنت مكلَّفًا بأداء ما أوجبه عليك الشرع الحنيف؛ علمتَ الحكمة من ذلك، أو لم تعلمها.

وفي الختام أتمنى لك حجًّا مبرورًا، وسعيًا مشكورًا، وذنبًا مغفورًا، وتجارةً لن تبور، راجيًا أن لا تنسني من صالح دعائك، وأنت في تلك البقاع المقدسة، تغمرك النفحات الطاهرة، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، إمام الأنبياء والمرسلين، وسيد ولد أجمعين، وعلى آله وصحبه، ومن اتَّبع هداه إلى يوم الدين، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

الراجي رحمة الله تعالى
كمال الدين جمعة بكرو